آدابُ
الرّضا بالله تعالى
الحمد لله، وبعد؛ فإن فرق الآداب عن
الشروط؛ أن الرضا لا يصح إلا بشروطه، أما الآداب فهي لتكميله، ولا يكون الرضا
تامًّا إلا بها. فالرضا بالله بحرٌ جميل لا تُدرَكُ سواحله، وعلى قدر تحقيق الآداب
وامتثال الأصول ومراعاة حسن الأخلاق مع الخالق وخلقه يكون تحصيل أطرافه والتمكّن
من أهدابه، والآداب راجعة لحفظ القلب واللسان والجوارح وحراستها من حظ الشيطان،
وبالله التوفيق.
فمن آداب الرضا: حفظ اللسان عما لا
يليق بالراضين بالملك العلام وتدبيره حتى في أدقّ الأمور، فمن تمام الرضا ألّا
تقول عند الألم المفاجئ: حَسّ أو أحّ، فعند النسائي من حديث جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما: قال: "لما كان يومُ أحُد وولَّى الناسُ، كان رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم في ناحية في اثني عشر رجلًا من الأنصار، فيهم طلحةُ بنُ عبيد الله،
فأدركهم المشركون، فالتفتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مَن
للقوم؟" فقال طلحةُ: أنا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كما
أنتَ"، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسولَ الله، فقال: "أنتَ"،
فقاتل حتى قُتل، ثم التفتَ فإذا المشركون، فقال: "مَن للقوم؟"
فقال طلحةُ: أنا، قال: "كما أنت"، فقال رجل من الأنصار: أنا يا
رسولَ الله،(1) فقال: "أنتَ"، فقاتل حتى قُتل، ثم لم يزل يقول
ذلك، ويخرج إليهم رجل من الأنصار، فيقاتل قتال مَن قَبْله، حتى بقي رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم وطلحةُ بن عبيد الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن
للقوم؟" فقال طلحةُ: أنا، فقاتل طلحةُ قِتال الأحَدَ عَشر، (2) حتى
ضُرِبت يدُه، فقُطعت أصابعُه، فقال: حَسِّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو
قلتَ: بسم الله؛ لَرَفَعَتْكَ الملائكة والناسُ ينظرون"، ثم ردَّ الله
المشركين". (3)
وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قالها ذات مرّة حينما لَسَعَتِ البُرمة أو الخَزِيرة أصابعه حينما قدّمتها
خولة بنت قيس بين يديه، فعند أحمد والنسائي: أنّ حمزة بن عبد المطلب لما قدم
المدينة تزوّج خولة بنت قيس بن قهد الأنصارية من بني النجار (4) قال: وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يزور حمزة في بيتها، (5) وكانت تحدثه عنه صلى الله عليه وسلم
أحاديث، قالت: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقلت: يا رسول الله،
بلغني عنك أنك تُحدّث أن لك يوم القيامة حوضًا ما بين كذا إلى كذا، قال: "أجل،
وأحبّ الناس إليّ أن يروى منه قومُك".(6) قالت: فقدّمت إليه برمة فيها
خبزة - أو خزيرة (7) فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في البرمة ليأكل
فاحترقت أصابعه فقال: "حَسّ"، (8) ثم قال: "ابن آدم، إن
أصابه البرد قال: حَسّ، وإن أصابه الحرّ قال: حَسّ". (9)
وتوجيه ذلك: إما أنّ هذا قبل خبر طلحة، (10) وهذا
ظاهر لأن حمزة أصيب في أحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور حمزة في
بيتها، ثم جاء الندب إلى ترك هذا الكلمة بعد ذلك، (11) أو أنه قالها من باب
الإخبار الفعلي بالإباحة وأنّ ترك ذلك هو من ترك الأولى - وهو دون الكراهة -،
وإمّا أنّه قصد بها بيان ما بعدها، فمثّل بحاله صلى الله عليه وسلم حال ابن آدم
وضعفه في الجملة حينما يصيبه حرٌّ أو برد. والله أعلم.
والمقصود؛ حفظ اللسان من كل ما يخدش الرضا بأي
وجه كان، فحفظ اللسان من أصول حفظ الدين، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه؛
أضمن له الجنة". (12) وقد يتساهل
المرء في كليمات لا يحسب لها
حسابًا بينا هي تنزله من علياء الراضين السابقين لساحِ المُخلّطين، قال تعالى: {
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا )،
وقال تعالى: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }. قال النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنه ينبغي
لكل مكلّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى
الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه، لأنّه قد ينجرّ الكلام المباح إلى
حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء". (13) وعن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". (14) وتأمّل حديث معاذ وكيف ربط حفظ
الدين العظيم كله بحفظ جارحة اللسان، فعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول
الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدُني من النار. قال: "لقد سألت عن
عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئًا،
وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت"، ثم قال: "ألا
أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّةٌ، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ
النارَ، وصلاة الرجل من جوف الليل". ثم تلا: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع
يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
جزاء بما كانوا يعملون }. ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر، وعمودِه،
وذِرْوَةُ سنامه؟" (15) قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأس الأمر
الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". ثم قال: "ألا
أخبرك بِمِلَاكِ ذلك كله!" (16) قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه
وقال: "كُفَّ عليك هذا". قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما
نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك! وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا
حصائد (17) ألسنتهم؟". (18)
ومن حرس قلبه حرس لسانه، ومن رضي بربه
لم يقل عنه وعن تدبيره إلا خيرًا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الجاهل
يشكو الله الى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكوّ والمشكوّ اليه، فإنّه لو عرف ربه
لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلًا يشكو إلى رجل فاقته
وضرورته فقال: يا هذا؛ والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك! وفي ذلك قيل:
وإذا شكوتَ إلى
ابن آدم إنّما ... تشكو الرحيمَ إلى الّذي لا يرحمُ
والعارف إنّما يشكو إلى الله وحده، وأعرفُ
العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط
الناس عليه، فهو ناظرٌ إلى قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم)،
وقوله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وقوله: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم
مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم). فالمراتب ثلاثة: أخسّها أن تشكو الله
إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه". (19)
ومن ذلك سب الدّهر لأنه راجع لمدبّره،
وهذا في الغاية من سوء الأدب. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن ذلك أن تطلق
ألفاظ الذمّ على من ليس من أهلها، فمثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الدهر
وقال: "إنّ الله هو الدّهر". (20) وفي حديث آخر يقول الله عز
وجل: "يؤذيني ابن آدم، فيسبّ الدّهر، وأنا الدّهر، بيدي الأمر، أقلّب
الليل والنهار". (21) وفي حديث آخر: "لا يقولنّ أحدكم: يا خيبة
الدهر". (22) وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة:
إحداها: سبُّه من ليس بأهل أن يُسبّ،
فإنّ الدهر خلق مُسَخّر من خلق الله منقاد لأمره مذلّل لتسخيره، فسابُّه أولى
بالذمّ والسبّ منه.
الثانية: أن سبّه متضمّنٌ للشرك، فإنّه إنّما
سبّه لظنّه أنه يضرّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرّ من لا يستحق الضرر، وأعطى من
لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان. وهو (23) عند
شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبّه كثيرة جدًّا. وكثير من
الجهّال يصرّح بلعنه وتقبيحه.
الثالثة: أنّ السبّ منهم إنما يقع على من فعل
هذه الأفعال التي لو اتّبَعَ الحقّ فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وقعت
أهواؤهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه. وفي حقيقة الأمر فربّ الدهر تعالى هو المعطي
المانع الخافض الرافع المعزّ المذلّ، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبّتهم للدهر
مسبّة لله عز وجل، ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى (24) كما في الصحيحين من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "يؤذيني
ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر". (25)
فسابّ الدهر دائر بين أمرين لا بدّ له من
أحدهما: إمّا سبّه لله أو الشرك به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو
مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسبّ من فعله فقد سبّ الله. ومن
هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم: تعس الشيطان، فإنّه
يتعاظم حتى يكون مثل البيت، فيقول: بقوّتي صرعتُه. ولكن ليقل: بسم الله، فإنّه
يتصاغر حتى يكون مثل الذباب". (26) وفي الحديث: "إن العبد إذا
لعن الشيطان يقول: إنّك لتلعنُ مُلَعَّنًا". (27)
ومثل هذا قول القائل: أخزى الله
الشيطان، وقبّح الله الشيطان، فإن ذلك كله يُفرحه ويقول: علم ابن آدم أني قد نلته
بقوّتي، وذلك مما يعينه على إغوائه ولا يفيده شيئًا! فأرشد النبي صلى الله عليه
وسلم من مسّه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بالله منه؛
فإن ذلك أنفع له وأغيظ للشيطان.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن
يقول الرجل: "لا يقولنّ أحدكم: خَبُثَتْ نفسي، ولكن ليقل: لقِسَتْ
نفسي". (28) ومعناهما واحد أي غثت نفسي، وساء خلقها، فكره لهم لفظ الخبث
لما فيه من القبح والشناعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن وهجران القبيح وإبدال اللفظ
المكروه بأحسن منه.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن
قول القائل بعد فوات الأمر: "لو أني فعلت كذا وكذا، وقال إن لو تفتح عمل
الشيطان". (29) وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة وهو أن يقول: قدر
الله وما شاء فعل، وذلك لأن قوله: لو كنت فعلت كذا وكذا؛ لم يفتني ما فاتني، أو لم
أقع فيما وقعت فيه. كلام لا يُجدي عليه فائدة البتة، فإنه غير مستقبِلٍ لما استدبر
من أمره، وغير مستقيلٍ عثرته بـ"لو". وفي ضمن "لو" ادعاء أن
الأمر لو كان كما قدّره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدّره وشاءه، فإنّ ما وقع
ممّا يتمنّى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته، فإذا قال: لو أنّي فعلت كذا
لكان خلاف ما وقع فهو محال، إذ خلاف المُقَدَّر المَقضِيِّ مُحال، فقد تضمّن كلامه
كذبًا وجهلًا ومُحالًا، وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله: لو
أني فعلت كذا لدفعت ما قدّر الله علي.
فإن قيل: ليس في هذا ردّ للقدر ولا جحد
له، إذ تلك الأسباب التي تمنّاها أيضًا من القَدَر. فهو يقول: لو وقفت لهذا
القَدَر لاندفع به عني ذلك القَدَر، فإن القَدَر يُدفع بعضه ببعض، كما يدفع قدَر
المرض بالدواء، وقدَر الذنوب بالتوبة، وقدَر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر.
قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر
المكروه، وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه
بقدَر آخر فهو أولى به من قوله: لو كنت فعلته، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل
فعله الذي يدفع به أو يخفّف أثر ما وقع، ولا يتمنّى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز
محض، والله يلوم على العجز، ويحب الكَيْس ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرة الأسباب
التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير،
وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان، فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأماني
الباطلة بقوله: لو كان كذا وكذا، ولو فعلت كذا، يفتح عليه عمل الشيطان، فإنّ بابه
العجز والكسل، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاح كلّ شرّ،
ويصدر عنهما الهمّ، والحزن والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فمصدرها كلها عن
العجز والكسل، وعنوانها: "لو". فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنّ
لو تفتح عمل الشيطان". فالمتمنّي مِنْ أعجزِ الناس وأفلسِهم، فإنّ
التمنّي رأس أموال المفاليس، والعجز مفتاح كلّ شرّ.
وأصل المعاصي كلّها العجز، فإن العبد يعجز عن
أسباب أعمال الطاعات وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي، وتحول بينه وبينها، فيقع
في المعاصي، فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم من أصول الشرّ
وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثماني خصال كل خصلتين منها
قرينتان، فقال: "أعوذ بك من الهمّ والحزن". (30) وهما قرينان فإن
المكروه الوارد يكون سببه أمرًا ماضيًا فهو يُحدث الحُزن، وإما أن يكون توقّع أمرٍ
مستقبل فهو يُحدث الهمّ، وكلاهما من العجز، فإنّ ما مضى لا يُدفع بالحزن بل بالرضا
والحمد والصبر والإيمان بالقدر وقول العبد: قدر الله وما شاء فعل. وما يُستقبل لا
يُدفع أيضًا بالهمّ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه، وإما ألا تكون
له حيلة في دفعه فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه، ويأخذ له عدّته، ويتأهّب له أهبته
اللائقة به، ويستجنّ بجُنّة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب
تعالى، والاستسلام له والرضا به ربًّا في كل شيء، ولا يرضى به ربًّا فيما يُحب دون
ما يكره، فإذا كان هكذا لم يرض به ربًّا على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبدًا على
الإطلاق.
فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة، بل
مضرّتهما أكثر من منفعتهما، فإنهما يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين
العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريق السير، أو ينكسانه إلى وراء،
أو يعوقانه أو يحجبانه عن العَلَم الذي كلما رآه شمّر إليه وجدّ في سيره، فهما
حِمْلٌ ثقيلٌ على ظهر السائر.
بل إن عاقه الهمّ والحزن عن شهواته وإراداته
التي تضرّه في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن
سلّط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه الفارغة من محبته وأريد بها الخير؛ كان
هذا حظّها من سجن الجحيم في معادها، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء
التوحيد والإقبال على الله والأنس به وجعْلِ محبته في محل دبيب خواطر القلب
ووساوسه، بحيث يكون ذكره تعالى وحبّه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره هو
المستولي على القلب الغالب عليه الذي متى فقده فَقَدَ قُوْتَه الذي لا قوام له إلا
به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم
أمراضه وأفسدها له إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يُوصِلُ إليه إلا
هو، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، ولا يدلّ عليه إلا هو،
وإذا أراد عبدَه لأمر هيّأه له، فمنه الإيجاد ومنه الإعداد ومنه الإمداد، وإذا
أقامه في مقام أي مقام كان فبحمده أقامه فيه، وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به
غيره، ولا يصلح له سواه، ولا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا يمنع عبده
حقًّا هو للعبد فيكون بمنعه ظالمًا له، بل إنّما منعه ليتوسّل إليه بمحابّه ليعبده
وليتضرّع إليه ويتذلّل بين يديه ويتملّقه، ويعطي فقره إليه حقّه بحيث يشهد في كل
ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقةً تامّة إليه على تعاقب الأنفاس، وهذا هو
الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده العبد، فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه
بُخلًا منه ولا نقصًا من خزائنه ولا استئثارًا عليه بما هو حق للعبد، بل مَنَعَهُ
ليردّه إليه، وليعزّه بالتذلّل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجبره بالانكسار بين
يديه، وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ولذة الفقر إليه، وليلبسه خِلْعَة
العبودية، ويولّيه بعزله أشرف الولايات، وليُشهده حكمته في قدرته، ورحمته في عزته،
وبرّه ولطفه في قهره. وأن منعه عطاء، وعزله تولية، وعقوبته تأديب، وامتحانه محبة
وعطيّة، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه. (31)
وبالجملة؛ فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه،
وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه، ولا يحسن أن يتخطّاه، والله
أعلم حيث يجعل مواقع عطائه وفضله، و{ الله أعلم حيث يجعل رسالته }، { وكذلك فتنا
بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين }.
فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل ومحالِّ التخصيص ومحالِّ الحرمان، فبحمده وحكمته
أعطى، وبحمده وحكمته حرم، فمن ردّهُ المنع إلى الافتقار إليه والتذلّل له وتملّقِهِ
انقلب المنع في حقّه عطاء، ومن شغله عطاؤه وقطَعَه عنه انقلب العطاء في حقّه
منعًا.
فكلّ ما شغل العبدَ عن الله فهو مشؤوم عليه،
وكلّ ما ردّه إليه فهو رحمة به، والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل، ولا يقع الفعل
حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه، فهو سبحانه أراد منّا الاستقامة دائمًا،
واتّخاذ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا
عليها ومشيئته لنا، فهما إرادتان: إرادةٌ من عبده أن يفعل، وإرادةُ من نفسه أن
يعينه، ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة، ولا يملك منها شيئا، كما قال تعالى:
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين). فإن كان مع العبد روح أخرى،(32) نسبتها
إلى روحه كنسبة روحه إلى بدنه، يستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون
به العبد فاعلًا، وإلا فمحلُّه غير قابل للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء،
فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان، ولا يلومنّ إلا نفسه!
والمقصود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ
من الهمّ والحزن، وهما قرينان، ومن العجز والكسل، وهما قرينان، فإنَّ تخلُّفَ
كمالِ العبد وصلاحه عنه إمّا أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجز، أو يكون قادرًا
عليه لكن لا يريد فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين فواتُ كلِّ خير وحصولُ كلّ شر،
ومن ذلك الشرّ تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن، وعن النفع بماله وهو البخل، ثم
ينشأ له بذلك غلبتان: غلبةٌ بحقّ وهي غلبة الدَّين، وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال.
وكلّ هذه المفاسد ثمرةُ العجز والكسل،
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للرجل الذي قضى عليه فقال: حسبي الله ونعم الوكيل،
فقال: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإذا غلبك أمرٌ فقل:
حسبي الله ونعم الوكيل". (33) فهذا قال حسبي الله ونعم الوكيل بعد عجزه
عن الكَيْس الذي لو قام به لقُضيَ له على خصمه، فلو فعل الأسباب التي يكون بها
كيْسًا، ثم غُلب فقال: حسبي الله ونعم الوكيل؛ لكانت الكلمة قد وقعت موقعها، كما
أن إبراهيم الخليل لما فعل الأسباب المأمور بها ولم يعجز بتركها، ولا بترك شيء
منها، ثم غلبه عدوّه وألقوه في النار قال في تلك الحال: حسبي الله ونعم الوكيل،
فوقعت الكلمة موقعها، واستقرّت في مظانّها، فأثّرت أثرها، وترتّب عليها مقتضاها.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه يوم أحد لمّا قيل لهم بعد انصرافهم من أحد: (إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم) فتجهّزوا وخرجوا للقاء عدوّهم وأعطوهم الكَيْس من نفوسهم، ثم قالوا: {
حسبنا الله ونعم الوكيل } فأثّرت الكلمة أثرها، واقتضت موجبها، ولهذا قال تعالى: {
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه
}. فجعل التوكّل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على
الله فهو حسبه، وكما قال في موضع آخر: { واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
فالتوكل والحَسْب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجزٌ محض، فإن كان مشوبًا بنوعٍ
من التوكل فهو توكل عجز، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا يجعل عجزه
توكلًا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتم المقصود إلا بها
كلها. ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس:
إحداهما: زعمت أن التوكل وحده سبب مستقلّ كافٍ
في حصول المراد، فعطّلت له الأسباب التي اقتضتها حكمة الله الموصلة إلى مسبباتها،
فوقعوا في نوع تفريط وعجز بحسب ما عطّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكّلهم من حيث
ظنّوا قوّته بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمّ كلّه وصيّروه همًّا واحدًا، وهذا
وإن كان فيه قوّة من هذا الوجه ففيه ضعف من جهة أخرى، فكلّما قوي جانب التوكل
بإفراده أضعفه التفريط في السبب الذي هو محلّ التوكّل (34) فإنّ التوكل محلّه
الأسباب، وكماله بالتوكل على الله فيها، وهذا كتوكّل الحرّاث الذي شقّ الأرض وألقى
فيها البذر، فتوكّل على الله في زرعه وإنباته، فهذا قد أعطى التوكّل حقّه، ولم
يُضعف توكله بتعطيل الأرض وتخليتها بورًا، وكذلك توكّل المسافر في قطع المسافة مع
جِدِّه في السير، وتوكّل الأكياس من النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه مع
اجتهادهم في طاعته، فهذا هو التوكل الذي يترتب عليه أثره، ويكون الله حسْب من قام
به.
وأما توكل العجز والتفريط فلا يترتب عليه أثره،
وليس الله حسْبَ صاحبِه، فإن الله إنما يكون حسْب المتوكِّلِ عليه إذا اتّقاه،
وتقواه فعل الأسباب المأمور بها، لا إضاعتها.
والطائفة الثانية: هي التي قامت بالأسباب، ورأت ارتباط
المسببات بها شرعًا وقدَرًا، وأعرضت عن جانب التوكل. وهذه الطائفة وإن نالت بما
فعلته من الأسباب ما نالته؛ فليس لها قوّة أصحاب التوكل، ولا عون الله لهم وكفايته
إياهم ودفاعه عنهم، بل هي مخذولة عاجزة بحسَب ما فاتها من التوكل.
فالقوّة كلّ القوّة في التوكل على الله، كما قال
بعض السلف: "من سرّه أن يكون أقوى الناس؛ فليتوكّل على الله". فالقوّة
مضمونة للمتوكل، والكفاية والحسْب والدفع عنه، وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما
ينقص من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحقّقه بهما لا بدّ أن يجعل الله له مخرجًا من
كلّ ما ضاق على الناس، ويكون الله حسبه وكافيه.
والمقصود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم
أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله ونيل مطلوبه، أن يحرص على ما ينفعه ويبذل فيه
جهده، وحينئذ ينفعه التحسُّبُ وقول: حسبي الله ونعم الوكيل. بخلاف من عجز وفرّط
حتى فاتته مصلحته، ثم قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فإن الله يلومه، ولا يكون في
هذا الحال حسْبه، فإنما هو حسب من اتقاه وتوكّل عليه". (35)
وهل
ينفعُ الجيشَ الكثيفَ التفافُهُ ... على غير منصورٍ وغير مُعَانٍ
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "تفكّرت
في قول شيبان الراعي (36) لسفيان: "يا سفيان؛ عُدَّ منع الله إياك عطاءً منه
لك؛ فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا". فرأيته كلام من قد عرف الحقائق، فإنّ
الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزُه أصلحُ له؛ لأنه لو قدر
عليهن تشتّت قلبه، إما بحفظهن، أو بالكسب عليهن. فإن قوي عشقه لهن؛ ضاع عمره،
وانقلب هم الآخرة إلى الاهتمام بهن. فإن لم يردنه، فذاك الهلاك الأكبر. وإن طلبن
نفقة لم يطقها؛ كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه. وإن أردن الوطء وهو عاجز؛ فربما
أهلكنه أو فجَرْنَ. وإن مات معشوقُه؛ هلك هو أسفًا. فالذي يطلب الفائق يطلب سكّينًا
لذبحه، وما يعلم". (37) وقد أحسن أبو الطيب إذ قال:
مما أضرّ بأهل
العشق أنّهمُ ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهمُ
دمعًا وأنفسهمْ ... في إثر كل قبيحٍ وجههُ حسنُ
هذا وإن من آداب الرضا السماحة واليسر
في المال أخذًا أو خزنًا أو إعطاءً اطمئنانًا من القلب بربه، وثقة به، ورضا
بتدبيره، ومن بركات السماحة الدخول تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لمن هذا
وصفه، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم
الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". (38)
وإن من أسباب البركة في الرزق عدم
التدقيق في النفقة والصرف وحساب الصدقة اتكالًا على الله وحسن ظن به – مالم تكن
ريبة-، وهذا إنما يكون لمن عظُم توكّله على الله تعالى، أما من كان دون ذلك فلا
بأس من مراعاة ريع تجارته أو راتبه وتقسيمه مقدَّمًا بحسب حاجاته ونفقاته وصدقاته،
فتدبير المعيشة أمر مهم، حتى لا يقع في خلل من جهة قوت عياله ونحو ذلك، فلا حرج في
التدبير والتنظيم لماله، وقد قالوا: "الكَمَالُ فِي ثَلَاثَةٍ: العِفَّةُ فِي
الدِّينِ، والصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ، وحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَة".
وَقِيلَ لِحكيم: فُلَانٌ غَنِيٌّ. فقَال: "لا أَعرِفُ ذَلِكَ مَا لَم أَعرِف
تَدبِيرَهُ فِي مَالِهِ". (39)
إنما المقصود ترك زيادة الحرص وشدة
التدقيق في النفقات، فالعبد يأخذ بالأسباب بدون تشدّد فيها وتعلّق بها، مع
الاتّكال على مسبب الأسباب سبحانه، وقد روى البخاري ومسلم (40) عن عائشة رضي الله
عنها قالت: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي
رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ". قال
ابن الجوزي رحمه الله: "كالَت عائشة الطعام ناظرة إلى مقتضى العادة، غير متلمّحة
في تلك الحالة منحة البركة، فرُدّت إلى مقتضى العادة ، كما رُدّت زمزم إلى عادة
البئار حين جمعت هاجر ماءها". (41) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (42):
"وحديث عائشة محمول على أنها كالَته للاختبار، فلذلك دخله النقص، وهو شبيه
بقول أبي رافع لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: "ناوِلني
الذراع"، قال: وهل للشاة إلا ذراعان؟ فقال: "لو لم تقل هذا؛
لناولْتني ما دمتُ أطلب منك". فخرج من شؤم المعارضة انتزاع البركة.. ولا
تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة والاختبار،
والله أعلم". وقال أيضًا: "والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر، ووقع مثل ذلك في مزود
أبي هريرة قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن بالبركة، قال: "فقبض، ثم دعا،
ثم قال: خذهنّ، فاجعلهنّ في مِزْوَدٍ، فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ، ولا
تنثر بهن نثرًا"، فحملت من ذلك كذا وكذا وسقًا (43) في سبيل الله، وكنا
نأكل ونُطعِم، وكان المزود معلّقًا بحقوي لا يفارقه، فلما قتل عثمان انقطع. وفي
رواية: "فأدخل يدك فخذ ولا تكفئ فيكفأ عليك"، ونحوه ما وقع في عُكَّةِ
المرأة وهو ما أخرجه مسلم (44) أنّ أم مالك كانت تُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم
في عكّة لها سمنًا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، (45) فتعمد إلى العكّة فتجد فيها
سمنًا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"لو تركتِها ما زال قائمًا".
وقد استشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام
وترتيب البركة على ذلك كما تقدم في البيوع بلفظ: "كيلوا طعامكم يبارك لكم
فيه"، (46) وأجيب: بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من أجل تعلّق حقّ
المتبايعين، فلهذا القصد يُندب، وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشحُّ، فلذلك
كره. ويؤيده ما أخرجه مسلم (47) عن جابر أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم
يستطعمه، فأطعمه شطر وَسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه، ولَقَامَ لكُم".
(48) قال القرطبي: سبب رفع النماء من ذلك عند العصر والكيل - والله أعلم-
الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته وكثرة بركاته،
والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند
مشاهدة خرق العادة. ويستفاد منه أن من رُزق شيئًا أو أُكرم بكرامة أو لُطِف به في
أمر ما؛ فالمتعيّن عليه موالاة الشكر ورؤية المنّة لله تعالى، ولا يحدث في تلك
الحالة تغييرًا، والله أعلم". أهـ. (49)
وبالجملة؛ فالتدبير والاقتصاد حسن، من
غير زيادة تنطّع أو تشدّد أو تعلّق زائد للقلب بالأسباب، بل عليه أن يجعل مدار
الأمر على فضل الله وبركته التي قد تخالف حساباته وتوقعاته، وعليه أن يعلّق قلبه
بربه فهو رازقه ووليّه، وأن يكون بما عند الله أوثق ممّا في يده. فينبغي ألّا يشتدّ
حرص المرء على التدقيق فيما أعده للنفقة والصدقة ونحو ذلك، ولا يمنع ما أحبّ الله
إنفاقه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُوكي
فيُوكي عليك»، رواه البخاري (50) وفي رواية له: «لا تحصي فيحصي الله عليك»،
وفي رواية له أيضًا: «لا توعي فيوعي الله عليك، ارضخي ما استطعتِ»، وفي
رواية أخرى في البخاري (51) أنها قالت: يا رسول الله، ما لي مالٌ إلا ما أدخل عليَّ
الزبير فأتصدَّق؟ قال: «تصدقي، ولا توعي فيوعي الله عليك»، وفي رواية: «أنفقي،
ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك»، وفي رواية لمسلم (52): "انفَحي"،
أو "انضحي"، أو "أنفقي، ولا تحصي فيُحصي الله عليك، ولا
توعي فيوعي الله عليك". ويقال: أوعيت المتاع في الوعاء، إذا جعلته
فيه، ووعيت الشيء إذا حفظته. ومعناه أن الله يجازي العامل بمثل عمله، وفيه فضل
النفقة بلا حساب، قال سبحانه: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). ومعنى «تُوعِي»: تُمْسكي، والوعاء: الظرف
يخبأ فيه، يقال منه: أوعيت المتاع في الوعاء أوعيه، قالَ:
والشرُّ أخبثُ
ما أوعيتَ في زادٍ
وقوله: «ارْضخِي»: الرضخ هو
العطاء اليسير، أي بحسب قدرتك وبحسب ما آتاك الله، كما قال تبارك وتعالى: (لينفق
ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله سيجعل الله بعد عسر
يسرًا). قال الحافظ في الفتح: "والمعنى: لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازي بمثل ذلك. وفيه:
الحث على النفقة في العطاء، والنهي عن الإمساك والبخل، وعن ادخار المال في الوعاء،
وعن الإحصاء لمقدار الصدقة وعدِّها". (53) وقال أيضًا: "الإيكاء: شدّ رأس الوعاء
بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به. والإحصاء: معرفة قدر الشيء وزنًا، أو عدًّا،
وهو من باب المقابلة، والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النفاد؛ فإن ذلك أعظم
لأسباب قطع مادة البركة؛ لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب، ومن لا يحسب عند
الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب فحقه أن
يُعطي ولا يحسب، وقيل: المراد بالإحصاء عدّ الشيء؛ لأنه يدخر ولا ينفق منه، وأحصاه
الله: قطع البركة عنه، أو حبس مادة الرزق أو المحاسبة عليه في الآخرة". (54) وقال
الشيخ سعيد بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى: "سمعت شيخنا ابن باز رحمه الله
تعالى يقول: «الإحصاء هو عدّ ما أظهره من الصدقة». (55)
ومن جميل ما أنشده أبو حامد الغزالي
رحمه الله تعالى، وهي القصيدة الموسومة بالمُنفرجة وهي من بحر المتدارك، وقد ألصقت
بها بعض الأبيات ذات التوسلات البدعية والإشارت الباطنية التي لا أظنها لتصح
للإمام الغزالي، وقد ضربت عنها صفحًا:
الشدة أودت
بالمُهَجَ ... يا رب فعجل بالفرج
والأنفس أمست في
حرج ... وبيدك تفريج الحرج
هاجت لُدعاك
خواطِرُنا ... والويل لها إن لم تهج
يا من عودت
اللطف أعد .... عاداتك باللطف البَهِجِ
أغلق ذا الضيق
وشدته ... وافتح ما سُدَّ من الفرج
عُجْنَا لجنابك
نقصده ... والأنفس في أوج اللهج
وإلى أفضالك يا
أملي ... يا ضيعتنا أن لم نعج
من للملهوف سواك
يُغِثْ ... أو للمضطر سواك نجي
وأساءتنا أن
تقطعنا ... عن بابك حتى لم نلج
يا سيدنا يا
خالقنا ... قد ضاق الحبل على الودج
وعبادك أضحوا في
ألمٍ ... ما بين مُكيريب وشجي
والأحشاء صارت
في حُرَقِ ... والأعين غارت في لُجَجِ
والأعين صارت في
لجج ... غاصت في الموج مع المهج
والأزمة زادت
شدتها ... يا أزمة علّك تنفرجي
جئناك بقلب
منكسر ... ولسان بالشكوى لهج
وبخوف الزَّلة
في وجل ... لكن برجائك ممتزج
فكم استشفى
مزكوم الذنب ... بنشر الرحمة والأرج
وبعينك ما نلقاه
وما ...
فيه الأحوال من المرج
والفضل أعم ولكن
قد ...
قلت ادعوني فلنبتهِجِ
يا قاهر يا ذا
الشدة يا ... ذا البطش أغث ذا الفرج
يا رب ظلمنا
أنفسنا ... ومصيبتنا ما حيث نجى
يا رب خلقنا من
عجل ... فذلك ندعو باللَّجَجِ
يا رب وليس لنا
جَلَدٌ ... أنّى والقلبُ على وهج
يا رب عبيدك قد
وفدوا ... يدعون بقلب منزعج
يا رب ضعاف ليس
لهم ... أحد يرجون لدى الهرج
يا رب فِصَاحُ
الألسن قد ... أضحوا في الشدة كالهمج
السابق منا صار
إذا ...
يعدو يسبقه ذو العرج
وحكمةُ ربي
بالغةٌ ... جلت عن حيف أو عوج
والأمر إليك
تدبّره ... فأغثنا باللطف البهج
أدرج في العفو
أساءَتنا ... والخيبة إن لم تندرج
يا نفس وما لك
من أحد ... إلا مولاك له فعجِي
وبه عُوذي وبه
فلذِي ... ولِباب مكارمه فلِجي
كي تنصلحي كي
تنشرحي ... كي تنبسطي كي تبتهجي
ويطيب مقامُك من
نَفَرٍ ... أضحوا في الحِنْدِس كالسُّرُجِ
وَفَوا للَه بما
عَهَدُوا ... من بيع الأنفس والمهج
فهم الهادي
وصحابته ... ذو الرتبة والعطرِ الأَرِج
جاءوا للكون
وظلمتُه ... عمّت وظلام الشرك دجى
ما زال النصر
يحفهم ... والظلمة تُمحي بالبلج
حتى نصروا
الإسلام فعاد ... الدين عزيزًا في بهج
فَعَليهم صلى
الرب على ... مرّ الأيام معَ الحجج
الشدة أودت
بالمهج ... يا رب فعجل بالفرج
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
............................
1.
وتأمل فداء الأنصار لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وصدقهم الله ما عاهدوه، حتى استشهد منهم أحد عشر رجلًا، إذ قام كل
واحدٍ منهم بلا تردّد كأنما يرى موعود الله رأي عين فاستقبل المشركين بصدره حتى
صُرِّعُوا أبطالًا بين يدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، فلا كان
ولا يكون بعد النبيين كالمهاجرين والأنصار.
ونُسْلِمَه حتى
نُصرّعَ حولَه ... ونُذهلَ عن أبنائنا والحلائلِ
ولعلّ الله تعالى قد أطلع نبيّه صلى
الله عليه وسلم على مصارعهم وبقاء طلحة، فلم يحُل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهم وبين القدَر الرباني الجميل من وفائهم لِمَا عاهدوا الله تعالى عليه من
نصرةِ نبيه صلى الله عليه وسلم بتلك البطولة المختتمة بالشهادة الصادقة الهائلة
الجليلة.
2.
في عمدة القاري (25 / 366): "ذكر
الحاكم في ( الإكليل ) من طريق موسى بن طلحة: أن طلحة جرح يوم أحد تسعًا وثلاثين
أو خمسًا وثلاثين، وشُلّتْ أصبعه، أي السبابة والتي تليها". أهـ.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أبو بكر إذا ذكر أحد قال: ذاك يوم كله
لطلحة! وهو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن
كعب بن لؤي، القرشي أبو محمد التيمي. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد
الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين نصّ عليهم عمر،
وقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وأحد الخمسة الذين أسلموا
من سادات الصحابة على يدي أبي بكر رضي الله عنه، وهم: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف،
والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. كان يقال له ولأبي بكر: القرينان، لأن نوفل
بن خويلد بن العدوية أخذهما، فقرنهما في حبل واحد حين بلغه إسلامهما، ولم يمنعهما
بنو تيم، وكلاهما من بني تيم. وكان يقال له: طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة
الفياض. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرًا، فإنه كان
بالشام، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
وأبلى يوم أحد بلاء حسنًا، وأصيبت يده
يومئذ، ورقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جماعة من الصحابة يقولون عن يوم
أحد: ذاك يوم كله لطلحة، ولما طأطأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لينهض على تلك
الصخرة يوم أحد قال: "أوجب طلحة". قتل رضي الله عنه يوم وقعة
الجمل في العاشر من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وقد استكمل من العمر يومئذ
أربعًا وستين سنة". وانظر: سير أعلام النبلاء (1/23-40).
3.
النسائي (6/29) وحسنه الألباني في السلسلة
(2171)
4.
وهم أخوال عبد المطلب، فقد كان هاشم
يمكث في المدينة حين ذهابه في تجارة قريش لغزة – التي صارت غزة هاشم – ثم خطب
إليهم ابنتهم فزوجوه فولدت عبد المطلب بن هاشم، وولد لعبد المطلب عبد الله والد
رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فصار بنو النجار بذلك أخوال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لهذا فقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم حينما هاجر
للمدينة حفظًا لرحمهم وصلة له بتدبير الله تعالى لناقته حتى ساقها لمكان المسجد
فبركت فيه، ثم قامت ومشت، ثم عادت فبركت في ذات البقعة تأكيدًا لها من الله تعالى،
ثم أقبل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه - وهو من بني النجار - فحمل رحل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وذهب به لبيته، فنزل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
أكرم ضيف نزل على أحدٍ طرًّا.
5.
أي يزور حمزة بن عبد المطلب في بيت
زوجه خولة.
6.
أي الأنصار رضي الله عنهم، وقد وعدهم
بقوله: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". رواه البخاري (3792)
7.
وفي لفظ: أو حريرة. أما الخزيرة: فهي
لحم يقطع صغارًا ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّت عليه النخالة، أمّا إن ذرّ
عليه الدقيق فهي الحريرة، وهي أرقّ وأشهى، فإن لم يكن لحم فهي عصيدة. وانظر:
اللسان، مادة: (خزر).
حَسّ: وتروى أيضًا بكسر الحاء، وهي صوت
الإحساس بالألم مثل: أحّ، ومثل: أوه ونحو ذلك، وتقال عند الفجاءة بالألم أو الضعف
عن احتماله، وكلاهما ضعف صبر، إلّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها رحمة
بالأمة لأجل بيان الإباحة ورفع الحرج عنهم، ولبيان بشريّته صلى الله عليه وسلم
وأنه يصيبه ويؤلمه ما يصيبهم، وقد أشار لذلك في نهاية حديثه الشريف صلى الله عليه
وسلم في بيان ضعف تكوين بني آدم وضعف صبره، والله أعلم.
8.
قال ابن منظور في لسان العرب (6 / 49)
مادة: (حسس): "قال الأَصمعي: ضربه فما قال حَسِّ، قال وهذه كلمة كانت تُكره
في الجاهلية. وحَسِّ مثل أَوَّهْ". وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر
(1 / 958): "هي بكسر السين والتشديد: كلمة يقولُها الإنسان إذا أصابه ما
مَضَّه وأحْرَقَه غَفْلَة كالجَمْرة والضَّرْبة ونحوهما".
9.
أحمد (27357) وقال شعيب الأرناؤوط:
رجاله ثقات، رجال الصحيح، وأورده الهيثمي في المجمع (10 / 361) وقال: رواه أحمد
والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.
10.
والطلح: شجر ضخام من شجر البراري،
وكانت العرب تسمي أولادها ببيئتها كالنبات مثل طلحة وسمرة وسلمة ورمثة ومُرارة، أو
بأحوال مطرها كغيث ومطر ووابل وهتان وسحاب، أو حيوانها كذئب وثعلب وكلب وجرو وحمار
وجحش، أو بأسلحتها كسيف وسهم ورمح، أو بأوانيها.. وغير ذلك. وبعضهم كان يسمي
أبناءه بالأسماء الشرسة الشديدة كصخر وأسد ونحوها ويسمى مواليه بالأسماء الرقيقة
ويعللون ذلك بأن أسماء أبنائهم لحرب أعدائهم أما مواليهم فلهم.
11.
ولا يُصار إلى القول بالنسخ إلا عند
تعذّر الجمع، لأن فيه إلغاءً لمعنى أحد الحديثين.
12.
البخاري 8/125 (6474)
13.
رياض الصالحين (2 / 175)
14.
البخاري 8/125 (6475) ومسلم 1/49 (47)
(74)
15.
ذروة سنامه: سنام الناقة: معروف،
وذروته أعلاه، والمراد: أعلى موضع في الإسلام وأشرفه. ومنه: ذِروة الجبل: أي
أعلاه، والذروة بكسر الذال المعجمة وتأتي بضمّها أيضًا.
16.
بملاك ذلك: ملاك الأمر: قوامه، وما
يتمّ به، بفتح الميم وكسرها.
17.
الحصائد: جمع حصيدة، وهي ما يحصد من
الزرع، وهذا من التشبيه البليغ جدًّا، إذ شبّه صلى الله عليه وسلم اللسان وما
يَقتطِعُ به من القول بحدّ المِنجَل وما يقطع به من النبات، إن خيرًا فخير، أو
شرًّا فشرّ، (وما ربّك بظلام للعبيد).
18.
أحمد (22016) وقال محققوه: صحيح بطرقه
وشواهده، والترمذي (2616) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (3973) وصححه الألباني
في الجامع الصغير وزيادته (5136)
19.
الفوائد (1 / 88)
20.
البخاري (6182) قال الشيخ صالح آل
الشيخ حفظه الله في إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (9 / 1): "قوله في
الحديث القدسي: "وأنا الدهر" لا يُفهم منه أنَّ الدهر من أسماء
الله تعالى؛ بل يعني أنَّ الذي سبّ الدهر وقعت مسبّته على الله تعالى؛ لأنَّ الله
هو الذي يُصرِّف الدهر كيف يشاء.
إذا تبين ذلك وقد ذكرنا مرارًا أنّ وصف
الدهر بأوصافٍ ممّا يقع فيه من الأوصاف المشينة ليست مسبّةً للدهر، فقول القائل:
هذا يوم أسود، أو هذا الشهر شهر نحس، أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بمسبّةٍ للدهر، لأن
هذا وصفٌ لما يقع في الدهر، لما يقع في اليوم، أو لما وقع فيه، لما يقع في الشهر،
أو لما وقع فيه، وهذا كما قال تعالى: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) وقال
سبحانه: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا) فوصف الله تعالى الأيام التي عذّب بها الكفرة أنّها أيام نحيسة، فمثل
هذا ليس بسبّ للدهر؛ لأنه وصفٌ لما وقع فيه بالإضافة إلى المخلوق". أهـ.
قلت: والفرق بين وصف الدهر بما يقع فيه
وبين سبّ الدهر أن الوصف ذكرٌ لأمرٍ خلَقَه الله كالحرّ والبرد والجدب والشدّة
والوباء ونحو ذلك، أما السبّ فوصفه أو تهمته بقبيح ليس فيه كالظلم والكفر، أو
بلعنه ونحو ذلك، أما وصفه بالنحس والشؤم فالأظهر المنع، وذلك أن النحس والشؤم وصف
لأمر لا تُدرى عاقبته ولا يُعلم مآله، وفيه نوعُ تألٍّ على الله تبارك وتعالى، خلا
ما علمنا أنه عذاب بسبب الذنوب والكفر والفسوق كما قصّ الله علينا مِن أخبار من
غَبَر. فإن احتجَّ أحد بقول الله تعالى: (في يوم نحس مستمر) فلا يرد ذلك علينا
هنا، لأن الخلق مفتقرون لعلمِ حقائق ومآلات الأمور، أما الله تعالى فهو بكل شيء
عليم. وبالله التوفيق.
21.
البخاري (4826) مسلم (6000) قال ابن
تيمية: "فقوله في الحديث: "بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار"
يبيّن أنه ليس المراد به أنّه الزمان، فإنه قد أخبر أنه يقلّب الليل والنهار،
والزمان هو الليل والنهار؛ فدلّ نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرّفه، كما
دل عليه قوله تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما
فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء
ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . يقلب الله الليل والنهار إن في
ذلك لعبرة لأولي الأبصار }. وإزجاء السحاب: سَوقُه، والودق: المطر". الفتاوى (2
/ 491)
22.
الموطأ (609) وأحمد (2/394) (9105)
والأدب المفرد (769) وصححه الألباني في الجامع (7768) وللفائدة: اعلم أن كل ما في
الموطأ من المرفوعات صحيح. أما سوى ذلك من البلاغات والموقوفات ونحوها ففيها
الصحيح وما دونه.
23.
أي الدهر.
24.
والأذى غير الضرر، فالضرر منفيّ، وفي
الحديث القدسي: "إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني". مسلم (6737)
25.
البخاري (4826) مسلم (6000)
26.
أبو داود (4982) وصححه الألباني.
27.
لم أجده مرفوعًا، ولكن وجدته عند أبي
نعيم في حلية الأولياء (1/59) بسنده عن الأوزاعي قال حدثنا حسان قال: "إنّ
العبد..". وقد سئل عنه الدارقطني في العلل (١٩٣٨) ورجح وقفه على أبي هريرة.
قال الشيخ ابن باز: "لا حرج في
لعنه، ولكن التَّعوذ بالله أحسن، التَّعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفضل، وإن لعنه
فلا بأس، فقد لعنه النبيُّ ﷺ: جاء في الحديث الصحيح أنَّ الشيطان تفلَّتَ عليه وهو
يُصلي، فقال له: "ألعنُك بلعنة الله"، فإذا لعنه فلا بأس، وإن
استعاذ بالله من شرِّه فذلك أفضل، وكلاهما جائزٌ". أهـ. من موقعه جوابًا على
سؤال: ما حكم سب أو لعن إبليس؟
وفي مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (٣/
٩٣): سئل فضيلة الشيخ برقم (٤٩١): عن حكم لعن الشيطان؟ فأجاب بقوله: "الإنسان
لم يؤمر بلعن الشيطان، وإنما أمر بالاستعاذة منه كما قال الله تعالى: (وإما ينزغنك
من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم)، وقال تعالى في سورة فصلت: (وإما
ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)".
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله
تعالى في شرح العقيدة الطحاوية (١/ ٢١٤): "اختلف فيها أهل العلم على قولين:
القول الأول: منهم من أجاز لعنه بعينه لقول الله:
﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا
(١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ [النساء:١١٧-١١٨]، وما جاء في الآيات في لعن إبليس وطرده
عن رحمة الله.
القول الثاني: أنه لا يُلْعَنْ إبليس ولا الشيطان
لما صَحَّ في الحديث أنّ النبي ﷺ نهى عن لعن الشيطان أو عن لعن إبليس وقال: «لا
تلعنوه فإنه يتعاظم». المسند (٢٣١٤١) رواه تمّام في فوائده وغيره بإسناد جيد،
قالوا: فهذا يدل على النهي عن اللّعن، وهذا متّجه في أنّ اللعن عمومًا في القاعدة
الشرعية أنّ المسلم لا يلعن؛ لأنّ اللعن منهي عنه المؤمن بعامة، ومن أعظم ما يكون
أثرًا للعن أنّ اللَّعان لا يكون شفيعًا ولا شهيدًا يوم القيامة".
28.
البخاري 8/51 (6182) مسلم (2251) قال
النووي في رياض الصالحين (2 / 268): لقست نفسي من الشيء تلقس: إذا غثت، وإنّما كره
"خبثت" هربًا من لفظ الخبث. ونقله عن أبي عبيد والخطابي. كما نقل ذلك
ابن حجر في فتح الباري (10/692). وانظر: معالم السنن (4/121) وقال الطحاوي في شرح
مشكل الاثار (1 / 320): "منع من ذلك لأن وصف النفس بالخبث وصف لها بالفسق،
ومنه قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) فكان مكروهًا للرجل أن
يُفسّق نفسه إذا لم يكن منها ما يوجب ذلك عليها، وكان محبوبًا له أن يقول مكان
ذلك: لَقِسَتْ نفسي، وإن معناهما معنى واحد وهو الشراسة وشدّة الخلق، كذلك معناهما
عند أهل العربية، ومنه قول عمر رضي الله عنه في صفة الزبير: إنّه وعقة لقس، يعني
هذا المعنى".
29.
مسلم (8/56) عن الأعرج عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القويّ خيرٌ
وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله
ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما
شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". ويصحُّ: قَدَرُ الله، وقَدَّرَ الله.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "يصح أن يقال: "قَدَرُ الله"
وهو الأقرب والأولى، والمعنى: هذا قدرُ الله".
وقوّة القلوب هي المقصودة، أما الجوارح
فتبع لها، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان (17): "القلب إذا
كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا
عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته".
30.
البخاري (2893) ومسلم (1365) عن أنس بن
مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: "التمس
غلامًا من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر". فخرج بي أبو طلحة مردفي
وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت
أسمعه كثيرًا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل،
والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال". ويصح باللفظين: الحَزَن،
والحُزْن.
31.
وهذه حروف شريفة من نوادر الكلم، ودررٌ
نفيسة من جواهر العلم، ففيها برْدُ سكينة، ودفء طمأنينة، وطيب يقين، وسلام إيمان،
رحم الله الإمام ابن القيم، فها نحن نقطف من ثمار كتبه، ونستقي من
قليب علمه، ونشيمُ بارقةَ أدبه، ونَرِدُ ساحل بحره، ونستوكف قطر مُزنه، جمعنا الله
جميعًا ووالدينا به في دار كرامته.
32.
أي روح الإيمان واليقين.
33.
مسند أحمد (23983) قال محققوه: إسناده
ضعيف، لضعف بقية بن الوليد، وجهالة سيف، فقد تفرد بالرواية عنه خالد بن معدان،
وقال النسائي: لا أعرفه، وكذا قال الذهبي في الميزان: لا يعرف، وتساهل العجلي وابن
حبان فوثقاه. وأخرجه أبو داود (3627) وسكت عنه، والنسائي في عمل اليوم والليلة
(626). وضعفه الألباني في الجامع (1759) وصحح إسناده أحمد شاكر في عمدة التفسير
(1/441). وقوله: "حسبي الله ونعم الوكيل" أشار به إلى أن
المُدّعي أخذ ماله باطلًا. ومعنى "يلوم على العجز" أي: لا يرضى
العجز، والمراد به ضد الكَيْس وهو التيقّظ في الأمور والاهتداء إلى التدبير،
والمصلحة بالنظر إلى الأسباب، واستعمال الفكر في العاقبة، يعني كان ينبغي لك أن
تتيقّظ في معاملتك، فإذا غلبك الخصم قلت: حسبي الله، وأما ذكر "حسبي
الله" بلا تيقظ كما فعلت، فهو من الضعف فلا ينبغي، والله تعالى أعلم. وانظر:
عون المعبود (10 / 40)
34.
محلّ التوكّل أي الأسباب التي جعلها
الله كونًا أسبابًا مفضية لحصول المطلوب، أما قِبلةُ التوكّل فهو المُسبِّب
سبحانه، وهو القادر على خرق العادة بإحداث أمرٍ بدون أسبابه كرامة لوليّه الذي
أفرده بالتوكّل واضطرّ لدَرْكِ مطلوبه، ولم يترك السبب كسلًا؟ بل عجزًا عن تحصيل
السبب الظاهر أو لإقامة حجّة دينية أو غير ذلك. عِلمًا بأنّ التوكّل على الله وحده
هو أعظم الأسباب على الحقيقة.
35.
زاد المعاد (4/ 168 - 173) باختصار.
36.
شيبان الراعي: أبو محمد، عابد مشهور،
عاش في القرن الثاني الهجري، عاصر سفيان الثوري.
37.
صيد الخاطر (١/٣٢٨)
38.
البخاري 3/75 (2076)
39.
أدب الدنيا والدين، للماوردي (329)
40.
البخاري (3097) ومسلم (2973)
41.
كشف المشكل (1210)
42.
فتح الباري (4 / 346)
43.
الوَسق: بفتح الواو وكسرها، والفتح
أشهر. وهو مكيلة معلومة، وقيل: هو حمل بعير، وجمعه أوساق.
قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب
(١٠/ ٣٧٨): «الوسق ستون صاعًا بصاع النبي ﷺ، وهو- أي الصاع- خمسة أرطال وثلث». ومقدار
الوسق 130 كيلو ونصف.
توضيح ذلك: الصاع = ٢١٧٥ جرامًا،
والوسق =٦٠ صاعًا. وعليه فالعملية كالتالي: ٢١٧٥ ×٦٠=١٣٠٥٠٠ جرامًا ÷ 1000(لأن
الكيلو = 1000 جرام). والنتيجة: ١٣٠ كيلو جرام و٥٠٠ جرامًا.
فانظر لبركة دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم لتمر أبي هريرة رضي الله عنه.
44.
مسلم (2280)
45.
وهي جمع إدام.
46.
البخاري (3/88)
47.
مسلم (2281)
48.
أي: لكفاكم.
49.
الفتح
(11 / 280)
50.
البخاري (١٤٣٣)
51.
البخاري (٢٥٩٠)
52.
مسلم (١٠٢٩)
53.
الفتح (٥/ ٢١١)
54.
الفتح (٣/ ٣٠٠)
55.
الزكاة في الإسلام (١/٣٣٥)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق