درجاتُ الرِّضا بالله تعالى
الحمد لله، وبعد؛ فالرضا بحر واسع،
ودرجاته متفاوته باعتبارات عدّة، فمن حيث أنواعه؛ فأجلُّها: الرضا بالله ربًّا
وإلهًا لا شريك له، فهو راضٍ بربِّه لذاته المقدّسة وكماله المطلق وفضله الذي لا
يُحصر ولا يستحق العبادة سواه.
ومن أنواع الرضا: الرضا بدينه الذي شرعه وأنزله
ورضيه طريقة للتعبد به إليه، ويتبع ذلك الرضا بمشقّات الطاعات ومرارات اجتناب
المحرمات المشتهاة، حتى تترقّى النفس للرضا التام والتّلذّذ الوافر بذلك، لوصول
النفس حينها لدرجة النفس المطمئنة.
ومن أنواعه: الرضا بالمقادير الكونية
المؤلمة، فمنها السهل المتيسّر، ومنها الصعب الشديد المُمِضُّ.. وهكذا. وكلها
جارية على العبد لا محالة، ومن تائية ابن تيمية رحمه الله:
فما شاء مولانا
الإلهُ فإنِّه ... يكون، وما لا، لا يكون بحيلة
قال الشيخ المنجّد: "الرضا
مقاماتٌ؛ فمنها: الرضا بما قسم الله وأعطاه من الرزق، وهذا ممكنٌ يجيده بعض
العوامّ. والمرتبة الأعلى: الرضا بما قدّره الله وقضاه. ومرتبةٌ أعلى من هذه وهي
أن يرضى بالله بدلًا من كل ما سواه.
هذه منازل قد يأتي البعض بواحدةٍ ولا
يقدر على الأخرى، وقد يأتي البعض بجزءٍ من الدرجة ولا يحقق كل الدرجة. قد يرضى عن
الله فيما قسم له من الزوجة ولا يرضى بما قسم له في الراتب مثلاً، وقد يصبر على
سرقة المال ولا يصبر على فقد الولد، وأما أن الإنسان يرضى بالله عن كل ما سواه،
معنى ذلك أن يهجر كل شيءٍ لا يؤدِّي إلى الله ( ملاهٍ ــ ألعاب ــ أمورٌ مباحةٌ لا
تقود إلى الله ) فالمشتغل بها لا يعتبر أنه رضي بالله عن كل ما سواه. فهذه حالةٌ
خاصةٌ لشخصٍ مع الله دائمًا، كل شيءٍ أي عملٍ أي حركةٍ أي سكنةٍ كلها طريقٌ إلى
الله تؤدي إلى مرضاة الله.
وللرضا درجات: منها الرضا بالله ربًّا
وتسخُّطُ عبادةِ ما دون الله، وهذا قطب رحا الإسلام لا بد منه، أن ترضى بالله ولا
ترضى بأي إلهٍ آخر ( بوذا .. ما يعبده المشركون .. اليهود .. النصارى ) لم يتخذ
غير الله ربًّا يسكن إليه في تدبيره، وينزل به حوائجه. وهذا محرومٌ منه غلاة
الصوفية المشركون عبّاد القبور، فيُنزلون حوائجهم بالأولياء والأقطاب، ويسألونهم
ويستغيثون بهم ويتوكّلون عليهم ويرجون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله!
لو آمنوا بالله حقًّا لطلبوا المدد من
الله ولم يذهبوا إلى المخلوقين في قبورهم، يقولون: يا فلان المدد، يا فلان أغثنا!
ثم يأتي الصوفية ويقولون: نحن متخصّصون بالقلوب وقد ضيّعوا الأساس! ( قل أ غير
الله أبغي رباً و هو ربُّ كل شيءٍ )، قال ابن عباس: "يعني سيّدًا وإلهًا،
فكيف أطلب ربًّا غيره وهو ربُّ كل شيءٍ؟!". ( قل أ غير الله أتخذ ولياً فاطرِ
السماوات و الأرض )، وليًّا من الموالاة التي تتضمّن الحب والطاعة، يعني: أغير
الله أتخذ معبودًا وناصرًا ومُعينًا وملجأً؟! ( أ فغير الله أبتغي حكماً و هو الذي
أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً )، هل أرضى بحَكَمٍ آخر يحكم بيني وبينكم غير الله
بكتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! فلو قال أحدهم: أنا أرضى بالقانون الوضعيّ
يحكم بيننا. هذا لا يمكن أن ينطبق عليه أنه يؤمن بالله ربًّا. إذًا هناك أناسٌ
يدّعون الرضا بالله ثم يخالفون في تعاملاتهم قاعدةً وأساسًا من أعظم الأسس، فإذا
رضيت بالله ربًّا يجب أن ترضى به حَكَمًا، (إنِ الحُكْمُ إلا لله )، ومن خصائصه
سبحانه أن التحكيم والحُكْمَ له سبحانه وحده.
ثم إذا تأملتَ هذه الأمور عرفتَ أن
كثيرًا من الناس يدّعون الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ نبيًّا، ثم هنا
يخالفون حكم الله ويرضون بحكم غيره، ويخالفون السنّة، وهناك يميلون ويوالون أصحاب
دياناتٍ أخرى، فأين هم من هذه الثلاثة؟! والقرآن مليءٌ بوصف المشركين أنهم اتخذوا
من دون الله أولياء، فإنّ من تمام الإيمان صحة الموالاة. ومدار الإسلام على أن
يرضى العبد بعبادة الله وحده ويسخط عبادة غيره.
والفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله (1):
الرضا بالله بأنه الله وأنه المعبود فقط لا غيره، وأن الحكم له فقط لا لغيره، وأن
نرضى بما شرع. ولا يمكن أن يدخل فيه المؤمن والكافر معًا، لا يكون إلا للمؤمن. أما
الرضا عن الله: فهو أن ترضى بما قضى وقدّر. تكون راضيًا عن ربك فيما أحدث لك وخلَق
من المقادير. ويدخل فيه المؤمن والكافر.
فلا بد من اجتماع الأمرين معًا: الرضا
بالله والرضا عن الله، والرضا بالله أعلى شأنًا وأرفع قدرًا؛ لأنها مختصّةٌ بالمؤمنين.
والرضا عن الله مشتركةٌ بين المؤمن والكافر؛ لأن الرضا بالقضاء قد يصح من المؤمن
والكافر، فقد تجد تصرّف كافرٍ فتقول: هذا راضٍ بالقضاء ومسلّم ولا اعتراض عنده،
لكنه لم يرضَ بالله ربًّا.
فالرضا بالله ربًّا آكدُ الفروض باتفاق
الأمّة، فمن لا يرضى بالله ربًّا لا يصح له إسلامٌ ولا عملٌ". (2)
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
..........................
1. الأظهر
أن الرضا بالله يتضمّن الرضا عن الله، لأن من رضي بالله فقد استكمل أطراف الرضا
بالله دون غيره، فقد رضي به ربًّا خالقًا مالكًا مدبّرًا مقدِّرًا وإلهًا معبودًا،
وبدينه دون ما سواه، وبنبيه دون غيره، فمن رضي بالله حقًّا فقد وصل.
2. أعمال
القلوب، محمد المنجد (28) باختصار يسير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق