هل
الدعاء على الظالم فضيلة؟
الحمد لله، وبعد؛ فإن كانت النازلة
مظلمة فيشرع الدعاء برفعها من جهة أنها ابتلاء، أما الظالم فيُستحبّ الدعاء له
بالهداية والمغفرة مع قطع شرّه عن نفسه وعن الناس، وهذا أفضل من الدعاء عليه، وإن
كان ذلك جائزًا لأنّه من طلب الاقتصاص الذي هو من فروع العدل، أما العفو فمن فروع
الإحسان وهو أفضل وأكمل، وربنا جل وعز يقول: ( وأن تعفوا أقرب للتقوى)، ويقول:
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، ويقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن
الناس والله يحب المحسنين)، فليس من سيما المؤمنين شفاء صدورهم لأجل دنيا، بل لأجل
الدين، كما قال تعالى في نصره لدينه: (ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم).
والدعاء انتقام، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم
ما انتقم لنفسه قط، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ما انتقمَ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك محارمُ الله،
فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله". (1) وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا قد
كفرت وأَبَتْ فادع الله عليها! فقيل: هلكت دوس فقال: "اللهم اهد دوسًا
وائت بهم". (2) والإمام أحمد رحمه الله لما قيل له في الدعاء على ظالمه
أجاب: "وما ينفعك أن يُعذِّبَ الله أحدًا بسببك". فالمؤمن لا يتشفّى
للدنيا، بل ينصح لكل المؤمنين ويعفو عنهم إن كان في عفوه إصلاحًا، ويدعو بكف شرّ
الظالم عن نفسه وعن الناس. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والناس أربعة؛ منهم
من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي فيه دين وغضب لله، ومنهم من لا ينتصر لنفسه ولا
لربه، وهو الذي فيه جبن وضعفُ دين، ومنهم من ينتقم لنفسه لا لربه، وهو شر الأقسام،
وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحقّ الله ويعفو عن حق نفسه عند المقدرة". (3) وقال
في الصبر على أذى الناس وترك الانتقام منهم: "النوع الرابع: ما يحصل له بفعل
الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا، لأنّ
النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على
هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدّيقون.
وكان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذا أُوذِي يقول: "يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا
فصَبر". (4) وأَخبَر عن نبي من الأنبياء أنه ضربَه قومُه، فجعلَ يقول: "اللهم
اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون". (5) وقد رُوي عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جرى له مِثلُ هذا مع قومه، فجعل يقول مِثلَ ذلك. (6) فجمع
في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهذا النوع من الصبر عاقبتُه النصرُ
والهُدى والسُّرور والأمنُ، والقوةُ في ذاتِ الله، وزيادةُ محبةِ الله ومحبة الناس
له، وزيادةُ العلم. ولهذا قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24). فبالصبر
واليقين تُنال الإمامة في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصَّبرِ قوةُ اليقين
والإيمان تَرَقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و(ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21). ولهذا
قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35).
ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ
أشياءَ:
أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ
أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم
يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه،
فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ،
تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.
الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما
سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30). فإذا شهد العبدُ أن جميع ما
يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي
سلَّطهم عليه بسببها عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم.
وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا
يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب
واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه كلمةً من جواهرِ الكلام: "لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ
عبدٌ إلاّ ذنبَه". (7) ورُوِي عنه وعن غيرِه: "ما نزلَ بلاءٌ إلاّ
بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة". (8)
الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي
وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (40) ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق
حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة
في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: "إلاَ
لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله". (9) فلا يَقُوم إلاّ من عفا وأصلح.
وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ علمِه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه
ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ
الشرّ، (10) وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً، على
المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى: (والله
يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ
منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه
أعظمَ فرحًا يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه
إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر
به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ
عزًّا". (11) فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ
الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ،
والعفوُ ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا.
السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن
يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس
عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له. فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه
وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه
ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقل هذه
الفائدةُ.
السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه
بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من
مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من
جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من
الانتقام.
الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسه،
ورسولُ الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله
وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق
الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ،
وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا
لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي
نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها.
التاسع: إن أُوذِيَ على ما فعلَه لله، أو على
ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه، وجبَ عليه الصبرُ، ولم يكن له
الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله. (12) ولهذا لمّا كان المجاهدون
في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم
أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له
على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد
أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه، ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن
لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ
الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر
والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في
المتاجر. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بُدِّل من
الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.
العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه إذا
صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ
الأذى والمضرَّات مالا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(146)
الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان،
فلا يبدّل من إيمانه جَزاءً في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه،
وصانَه من النقص، والله يدافع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر: أن يشهد أنّ صبرَه حكمٌ منه على
نفسِه، وقَهرٌ لها، وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورةً معَه مغلوبةً، لم
تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا
منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ من ربِّه. فلو
لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه، فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ،
وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدوَّ عنه.
الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه
ولا بُدَّ، فاللهُ وكيلُ من صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومن انتصَر لنفسِه
وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها. فأينَ مَن ناصِرُه اللهُ خيرُ
الناصرين إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟
الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له
يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ
بعد إيذائِه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له. وهذا
معنى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35).
الخامس عشر: ربّما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا
لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، كما
هو المشاهَد. فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ
الضررين بدَفْعِ أدناهما. وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ من شرٍّ عَجَزَ صاحبُه
عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ له.
السادس عشر: أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ
لا بُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها،
لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ
يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ
النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ.
السابع عشر: أنّ هذه المَظْلَمةَ التي ظُلِمَها هي
سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ
مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه.
الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه من أكبر الجُنْدِ له
على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذُل عدوِّه وخوفِه
وخَشيتِه منه ومن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو، فإذا
انتقمَ زالَ ذلك كلُّه. ولهذا تَجِدُ كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيرَه أو آذاه
يُحِبُّ أن يَستوفيَ منه، فإذا قابله استراحَ وألقَى عنه ثِقلًا كان يجده.
التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ
خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلًا
وشرفًا للعفو.
العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً،
فتُوَلِّدُ له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا
تزال حسناتُه في مزيد، فإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنة، كما أنّ من عقاب السيئةِ
السيئة بعدها. وربَّما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم
وانتصرَ زال ذلك".(13)
ومن عجائب شيخ الإسلام ابن تيمية التي
تدل على سمو أخلاقه العالية وسلامة صدره ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله من أنّ
شيخ الإسلام لما ألف كتابه "الاستغاثة" وهو المعروف بالرد على البكري. (14)
ترصّد له ابن البكري الصوفي على الطريق ومعه جماعة من أصحابه، وضربوا شيخ الإسلام
ضربًا شديدًا حتى طرحوه على الأرض، ثم هربوا. فاجتمع كثير من محبيه بعدها ومعهم
الجند وطلبوا من شيخ الإسلام أن يأذن لهم بالانتقام من ابن البكري فرفض شيخ
الإسلام وقال لهم: "إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله؛ فإن كان لي فهو في
حلٍّ، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني وافعلوا ما شئتم، وإن كان لله
فالله يأخذ حقه كيف شاء متى شاء".
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال
لهم؟ قال: "هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه"! فقالوا:
فتكون أنت على الباطل وهم على الحق، فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم
ووافقهم على قولهم. فقال لهم: "ليس الأمر كما تزعمون، فإنهم قد يكونون
مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر". (15) لكنهم
لم يكترثوا لكلامه وسعوا في طلب ابن البكري في كل مكان، وضيّقوا عليه حتى لم يجد
مكانًا يختبئ فيه إلا بيت شيخ الإسلام، فآواه شيخ الإسلام وخبأه وشفع له عند
السلطان فعفا عنه السلطان! (16)
وقال رحمه الله تعالى في الفتنة التي
كانت بينه وبين ابن مخلوف (17): «وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر
فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير. وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير
إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي
وعزمي مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون
عونًا للشيطان على إخواني المسلمين، ولو كنت خارجًا لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن
هذه مسألة قد فعلوها زورًا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم،
ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء،
فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله». (18)
وقال (19): "إني قد أحللت السلطان
الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلدًا غيره معذورًا، ولم يفعله لحظ
نفسه، بل لما بلغه مما ظنه حقًّا من مُبلغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللت كل
واحد مما كان بيني وبينه إلا من كان عدوًّا لله، ورسوله". (20)
ولما استشاره الملك الناصر محمد بن قلاوون
في قتل القضاة الذين آذوه وكانوا قد أفتوا بقتله، وكان قد أخرج من جيبه فتاوى لبعضهم في قتله،
واستفتاه في قتل بعضهم، قال ابن تيمية: "ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقًا شديدًا
عليهم لمّا خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير. فشرعت في مدحهم
والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في
حلّ من حقي ومن جهتي، وسكّنت ما عنده عليهم". فكان القاضي ابن مخلوف قاضي
المالكية يقول بعد ذلك: "ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبق مُمكنًا في
السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا". (21)
ومن كلامه النفيس جدًّا فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه
رحمه الله: «فلا
أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا
أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا
وظلموا فهم في حلّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم
وإلا فحكم الله نافذ فيهم. فلو كان الرجل مشكورًا على سوء عمله لكنت أشكر كل من
كان سببًا في هذه القضية؛ لما ترتّب عليها من خير الدنيا والآخرة، (22) لكن الله
هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا
له، وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل
السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم». (23)
وقال ابن القيم رحمه الله: "كان
بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو
على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئتُ يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدّهم
عداوة وأذى له، فنهرني وتنكّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم،
وقال : إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا
وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسُرّوا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه،
فرحمه الله ورضي عنه". (24) والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
وأحسنُ الناسِ
مَنْ للناسِ أنفعُهم ... وأسوأ الناسِ
زهَّادٌ بذي رَحِمِ
وأصدقُ الصحبِ
من في العُسرِ تبصرُهُ ...وأكذبُ الصحبِ من في الضيقِ عنكَ عَمِ
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
...............................
1. البخاري
(6853) ومسلم (2327)
2. مسلم
(2524)
3. مختصر
الفتاوي المصرية لابن تيمية (1 / 325)
4. البخاري
(3150 ، 3405) ومسلم (1062)
5. البخاري
(3477 ، 6929) ومسلم (1792)
6. الطبراني
عن سهل بن سعد، كما في مجمع الزوائد (6/117). وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
7. انظر
شرحها في مجموع الفتاوى (8/161-180)
8. أخرجه
ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٢٦/ ٣٥٩) من دعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
حينما استسقوا به في عام الرمادة، بلفظ: «اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولم
يُكشَف إلا بتوبة….». وإسناده ضعيف جدًّا.
9. ابن
أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس وأنس. انظر: الدر المنثور (7/359) عن:
محقق جامع المسائل.
10.
ذكر أبو يعلى في طبقات الحنابلة (١ /
١٩٦) أنّ رجلًا جاء إلى الإمام أحمد فقال له: نكتبُ عن فلان؟ فقال: إذا لم تكتب
عنه فعمّن يكون ذلك؟! قالها مرارًا. فقال له الرجل: إنه يتكلّم فيك. فقال الإمام
أحمد: رجلٌ صالح، ابتُلي فينا، فماذا نعمل!
11.
مسلم (2588)
12.
وهذا ملحظٌ عظيم جدًّا، حريٌّ بكل داعٍ
إلى سبيل ربه أن يتأمله ويحويه في صدره، فسبيل الأنبياء وأتباعهم مليء بأذى الناس
الذين يعادون ويصاولون عن شهواتهم المحرمة من أراد حجزهم عنها لمرضاة الله تعالى،
كما قال جل وعز: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض
زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وقال سبحانه: (وكذلك
جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا)، والمقصود أن من أوقف
نفسه لله فلا يُشرع له الانتقام لنفسه إن أوذي من أجل الله، فهو لله وبالله وإلى
الله، وفي سبيل الله، وضامن على الله، وأجره على الله.
13.
جامع المسائل لابن تيمية، تحقيق عزير
شمس (1/ 168- 174) بتصرف يسير.
14.
وهو كتاب غزير الفوائد عظيم النفع،
وبخاصة في زماننا، لأنه في رد شبه القبورية عن توحيد العبادة لله تعالى. وقد لخصه
ابن كثير في كتاب "تلخيص كتاب الاستغاثة".
15.
وهذا معنى بديع وقصد شريف ونباهة نادرة
لهذا الإمام، وبخاصة في هذا المقام، ذلك أن النفوس تضعف عند فوران قِدْر الغضب،
والحكمة تعزب حين عصفِ سوء الظن بالناس.
ومن نماذج حسن
الظن الجميل في الناس ما نقله الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدنيا والدين
(١/١٨٠) عن بِنتِ عبد اللَّه بنِ مُطِيعٍ أنَّها قالَت لِزوجِها طَلحَةَ بنِ
عَبدِ الرحمنِ بنِ عَوف الزُّهْرِيَّ، وكانَ أجوَدَ قرَيش في زمانِهِ: ما رَأيت
قَومًا ألْأمَ مِن إخوانِك! قالَ: مَهْ، ولِمَ ذَلِكَ؟ قالَت: أراهُم إذا أيسَرت
لزِمُوك، وإذا أعسَرت تَرَكُوك. قالَ: هَذا واَللَّه مِن كَرمِهِم، يَأْتُونَنا
فِي حالِ القُوَّةِ بِنا عَلَيهِم، ويَتركونَنا فِي حالِ الضَّعفِ بِنا عنهُم.
فانظر كيف تأوَّل بكرمه هذا التَّأْويل حتّى جَعل قبيحَ فعلهم حَسنًا، وظاهِرَ
غدرهم وفاءً. وهَذا مَحضُ الكَرَمِ ولُبابُ الفَضل، وبمثل هذا يَلزمُ ذَوِي الفضل
أن يتأولوا الهفواتِ من إخوانهِم.
وإنّ الذي حانَتْ بفلْجٍ دماؤهم ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أم خالدِ
16.
انظر: البداية والنهاية (١٤/٧٦)، وذيل
طبقات الحنابلة (٢/٤٠٠)، والعقود الدرية (ص٢٨٦)، والكواكب الدرية (ص١٣٩) وفي ذكره
لخبر إصلاحه بين الحنابلة والأشعرية مجموع الفتاوى (٣/ ٢٢٧)
17.
والسبب وراء هذه المحنة أن السلطان
بيبرس الجاشنكير طلب ابن تيمية إلى مصر يوم الخامس من رمضان عام 705 فتوجه إليها
ابن تيمية فدخلها يوم 22 رمضان، فعُقد له مجلس بالقلعة، وقد اجتمع فيها القضاة
وأكابر الدولة، وفي المجلس أراد ابن تيمية الكلام إلّا أنه لم يُسمح له، وادَّعى
عليه ابن مخلوف المالكي (قاضي المالكية وكان من أشد خصوم ابن تيمية) ومعه نصر
المَنْبِجي (الصوفي الضال الحلولي الاتحادي، وكان صاحب حظوة ووجاهة عند أمير مصر
بيبرس الجاشنكير)؛ حيث ادّعى ابن مخلوف على ابن تيمية أنه يقول: "إن الله فوق
العرش حقيقة، وإن الله يتكلم بحرف وصوت"، فسأله القاضي عن ذلك، فأخذ ابن
تيمية يبدأ حديثه في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: "أجب، ما جئنا بك
لتخطب"، فعلم أنها المحاكمة لا المجادلة، فقال: "ومن الحاكم فيَّ؟"
قيل له: "القاضي المالكي"، فقال له الشيخ: "كيف تحكم فيَّ وأنت
خصمي؟"، فغضِب غضبًا شديدًا وانزعج، فأصدر حكمه عليه، وحُبس ابن تيمية في برج
أيامًا، ثم نُقل مع أخويه: شرف الدين عبدالله، وزين الدين عبدالرحمن إلى الحبس
المعروف باسم "الجُبِّ" في ليلة عيد الفطر. ثم استطاع الملك الناصر محمد
بن قلوون أن يستعيد ملكه ثانية، ويخرج ابن تيمية من محبسه ويستشيره في قتل ابن
مخلوف والمنبجي وغيرهم، فرفض ابن تيمية ورده عما هم به من البطش بهم. ومرت الأيام
ثم حبسه الناصر الحبسة السابعة حتى مات في حبسه رحمه الله تعالى. وانظر: البداية
والنهاية، لابن كثير (14/ 43)
18.
مجموع الفتاوى (٣ / ٢٧١)
19.
في سجنه الأخير.
20.
الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص:
82)
21.
العقود الدرية (ص: ٢٩٨)
22.
أي من كونهم سببًا في خلوته بالله
تعالى وأنسه به، والتفكر في الآلاء، والتدبر في الآيات، والتأمل في الحياة وبعد
الممات، بعيدًا عن الصوارف والمشغلات.
23.
العقود الدرية (ص: ٢٨١)
24.
مدارج السالكين (2/ 345)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق