من
السلامةِ تركُ التعمّق في بحث تفاصيل القدر
الحمد لله، وبعد؛ فمسائل القدر العميقة
شديدة الوعورة، كثيرة الاشتباه، خطيرة الفهم على غير هدى من الله، أما ابتدائياته
وأصوله ومحكماته فيسيرة واضحة، وهي كافية شافية لكل مؤمن، فيكفي المؤمن حسن
التصوّر لمراتب القدر الأربع: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأن الله تعالى
يخلق كل شيء لحكمة بديعة تتقاصر وتعجز عن إدراكها عقول البشر مهما بلغت حدّتها وصفت
قريحتها، وأن الله تعالى قد وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأن رحمة الله قد سبقت غضبه،
وأنه يحب أولياءه ويثيبهم، ويبغض أعداءه ومعاصيهم ويتوعدهم، وأنه على كل شيء قدير،
ونحو ذلك من الأصول المعروفة التي اهتم بتفصيلها أئمة أهل السنة.
وأما ما زاد عن ذلك من مسائل لم يرد في
الشرع بيانُها، إنما وقع في التعمّق فيها بعض المُتهوِّكة والحيارى والجهلة - مهما
أوتوا من ظاهر علم - من المبتدعة القدرية والجبرية ومن تأثر بهم؛ فضربوا كتاب الله
بعضه ببعض، وأساءوا الأدب معه تبارك وتعالى، وانتهى بعضهم للشك وبعضهم للإلحاد
المطلق! فعلى المؤمن الإمساك عنها حفظًا لإيمانه ويقينه، فلم يشرع الله تعالى سلوك
ذلك الطريق والتعمّق في بحثه على غير هدى من الله.
ويُدعى خصومُ
اللَه يوم معادِهم ... إلى النار طُرًّا معشرَ القدريةِ
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لمن
نازعه في القَدَرْ: "القدر سرُّ الله فلا تكشفه". (1) أي لا تبحث عنه
ولا تحاول كشفه، فلا يعلمه غير الله. فالقدر مبني على علم الله وحكمته ومشيئته
وربوبيته، والعبد – مهما كان حاله – عاجز عن إدراك ذلك، وتأمل قصة موسى والخضر
عليهما السلام ففيها ثلاث مسارات للقدر في قصة واحدة، وكلها خير ورحمة، فقَدَرٌ قد
يُظَنُّ لأول وهلة أنه شرّ، ثم لا تلبث خيريّته أن تنكشف في ثاني الحال، كما في
قصة أصحاب السفينة، وقَدَرٌ تبقى طوال عمرك لا تعلم حقيقة تفاصيلِ خيريّته وهو خير
ورحمة من الله، وينجلي هذا في خبر قتل الغلام، فأفراطُ المسلمين في الجنة، ولو بقي
الغلام إلى سنّ التكليف لأرهق حياة والديه بطغيانه وكفره، ثم صار في المآل من
أصحاب الجحيم، لذا كان قتله خيرًا له أوّلًا ليكون فَرَطًا، وخيرًا لوالديه ليشفع
لهما، وليكون سببًا لأجرهما، وليُبدلهما ربهما خيرًا منه إيمانًا وأوصل رحمًا، مع
هذا كله فلعلهما قضيا عمرهما حزنًا على الفقيد الذي كان فقده خيرًا للجميع! فهذا
المسار الثاني العجيب لقدر الله الحكيم العليم البر الرحيم، أما الثالث وهو العجب
العجاب فهو مسار قدر الخير الذي لا ولن تعلم عنه شيئًا ما حييت، ولم ولن تنتبه
لوجوده أصلًا، وهو محيط بك من جميع جوانبك عن طريق صرف الأمور السيئة عنك وسوق
الأشياء الجميلة إليك سوقًا رقيقًا رفيقًا لطيفًا جميلًا خفيًّا بدون علمك، وهذا
من معاني اسم الله اللطيف، ويُمثل هذا القدر المدهش خبر جدار اليتيمين، فلم يعلما
تدبير اللطيف سبحانه بذلك الجدار، ولله الحكمة البالغة وهو اللطيف الخبير.
فقدَرُ الله تعالى صادر عن علمه وحكمته وقدرته
سبحانه، وحكمته صفة من صفات جلاله وجماله، فكيف للعبد أن يدرك إلا ما أذن الله
تعالى له به. وعليه أن يتدبر قول الحكيم العليم الرحيم: (وعسى أن تكرهوا شيئُا وهو
خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
والله يعلم وانتم لا تعلمون). فعلى المؤمن – الناصح لنفسه - أن ينكمش على علمه
الذي أذن الله له بمعرفته، وأن يقنع به ولا يحاول تجاوزه حتى لا يكله الله تعالى
إلى نفسه العاجزة الجاهلة القاصرة، فيضل ويعطب ويهلك.
ولقد نصحنا ورفق بنا ورحمنا من نهانا
عن ذلك صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنّما فُقئ
في وجنتيه الرّمان، فقال: "أبهذا أُمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك
من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه". (2)
فللعقل حدُّه ومنتهاه الذي لا يسمح له
شرعًا ولا قدرًا بتعديه مهما كابر وظن أنه كذلك. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
"من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، والتصديق بالأحاديث فيه،
والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. ومن لم
يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كُفي ذلك، وأُحكم له، فعليه الإيمان به،
والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، (3) وما كان مثله في القدر". (4)
وقال أبو المُظَفَّر السمْعَاني:
"سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس
والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين،
ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير
به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم
يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب". (5) وقال الآجُرِّيُّ رحمه الله في كتابه
العظيم "الشريعة": "لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر،
لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر
واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمَن العبد أن يبحث عن القدر فيكذّب بمقادير
الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق".(6)
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في
عقيدته المشهورة: "وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يُطلع على ذلك ملك
مقرب، ولا نبيّ مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة
الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن
أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: ( لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون ) [
الأنبياء : 23 ]". (7) ولقد تناول العلماء عقيدة الطحاوي رحمه الله بالشرح
والتعليق والتعقّب، لما فيها من مهمات المعتقد ومحكماته.
قال الشيخ صالح آل الشيخ على كلام
الطحاوي رحمه الله: "وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي
خَلقِهِ..": "هذه الجمل من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله فيها إشارة إلى
القَدَرْ مع عدم ذِكرِ معتقد أهل السنة والجماعة على وجه التفصيل فيه.
ويعني بقوله: "أَصلُ الْقَدَرِ
سِرُّ" أنَّ القَدَرْ من الأسرار في كمال درجاته ومراتبه، فإنّ الله سبحانه
وتعالى لم يكشف قَدَرَهُ على وجه التفصيل لأحَد؛ بل هذا عِلمُهُ عند الله عز وجل.
لهذا قال بعدها "لَم يَطَّلِع عَلى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ
مُرسَلٌ" وإذا كان ملائكة الله المُقَرَّبُون لم يطَّلعوا على القَدَر على
وجه التفصيل، وكذلك الأنبياء المرسلون الذين هم صفوة عباد الله لم يطَّلعوا على
ذلك على وجه التفصيل؛ فإنّ التعمّق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان.
وذريعة الخذلان يعني وسيلة من وسائل
سلب التوفيق؛ لأنَّ الله منع العباد عن ذلك ولم يأمرهم بالبحث في هذا ولا بالتعمّق
فيه. وإذا كان الصفوة لم يُطْلَعُوا على ذلك ولم يَطَّلِعُوا عليه فإذًا
الباب مغلق، وإذًا لا تحاول كشفًا للقدر. ومعنى كشف القدر ما ذكره في جُمَلِهِ
بأن يحذر المسلم من التفكير في تقدير الله عز وجل للأشياء نَظَرًا في العلل
وفِكْرًا في الحِكَمْ ووسوسةً في لم فعل ذلك؟ ولم حصل؟ ولم قُدِّرَ كذا؟ ولم وفّق
هذا، ولم خذل ذلك؟ ولم حصل كيت وكيت؟ فإنَّ الله سبحانه طوى علم القدر عن أنامه،
ولذلك نهاهم عن تطلُّبه قال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23].
فإذا إذا تبين ذلك؛ فإيماننا بقدر الله
عز وجل إيمانٌ بما جاء في النصوص من تفصيل ما يجب علينا أن نؤمن به. ثُمَّ إيمان إجمالي وهو ركن الإيمان؛
لأنّ كل شيء فإنه بتقدير الله عز وجل، لأنَّ من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر
خيره وشره. يعني أن نؤمن بأنَّ ما حصل من الخير والشر بالنسبة إلينا فإنه بتقدير
الله عز وجل.
يعني لَم تَحْصُل الأشياء ابتداءً دون
تقدير من الله وعِلمٍ وكِتَابَةٍ ومَشِيئَةٍ وخَلْقٍ لله عز وجل، بل الله الذي
عَلِمَهَا وكَتَبَهَا وقَدَّرَهَا وشَاءَهَا، فلم يحصل شيء ولا يحصل شيء إلا
بتقدير الله عز وجل وإذنه الكوني.
إذا تبين ذلك؛ فإنَّ الإيمان الإجمالي
لما ذكرت هذا ركن الإيمان، ما يصح إيمان أحد حتى يؤمن بهذا القَدْرْ، وهو أنَّ كل
شيء بِقَدَرْ، وأَنَّ الأشياء يُقَدِّرُهَا الله عز وجل فيما سبق.
ثُمَّ الإيمان التفصيلي بما علِمَ
تَفصِيلًا من نصوص الكتاب والسّنة بما يدخل في بحث القَدَرْ. فإذا جاءه الدليل أنَّ مِنَ القدر
عِلْمُ الله السابق فإنه يؤمن بذلك، وإذا جاءه الدليل أنَّ الله خالق كل شيء فيؤمن
بهذا العموم؛ عموم خَلْقِ الله عز وجل للأشياء بما في ذلك طاعة المطيع ومعصية
العاصي، إذا عَلِمَ عموم مشيئة الله عز وجل وأنَّ مشيئة العبد لا تستقل بإحداث
الأشياء، بل لا بد من مشيئة الله عز وجل آمن بذلك على وجه التفصيل، فيكون ذلك من
الإيمان الواجب لأنه عَلِمَ الدليل الذي يجب عليه الإيقان به". (8)
قال د. الحوالي: "المطلوب من
العبد أن يؤمن بالغيب، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأن يسلِّم، وأن يقوِّي ذلك
الإيمان بكل ما يستطيع أن يقويه به من الأدلة وبالحجج القرآنية وآثارها، ونعني بها
الحجج الكونية العقلية النفسيّة، وأن ينظر بتدبّر في ملكوت السماوات والأرض،
ويتفكر في أحوال النَّاس، وفي تدبير الله سبحانه له وتصريفه لهذا الكون وتدبيره
للخلق، فيزداد إيمانًا ويقينًا، ويدفع عن نفسه الشبهات إذا وردت، لأن دفع الشبهات
يكون بالاعتصام بالله والاستعاذة من الشيطان الرجيم، والإعراض عن الشبهة، فإن
تمكنت في قلبه فليدفعها بسؤال أهل العلم لتُكشف عنه تلك الشبهة ويندفع عنه البلاء.
وأمر هذا الدين مبني عَلَى الاستسلام، وإنما
يثبت الإسلام عَلَى قدم الاستسلام لما أخبر به الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، لكن من قُدِّر له أن أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العلم، ومكّنه
من الرسوخ فيه، ومقاومة الشبهات، والذب عن هذا الدين، فهذا كطبيب يتعمق في معرفة
الأمراض لا حرصًا منه عَلَى معرفه المرض، ولكن لكي يعالج النَّاس، أو يتعمّق في
معرفة الأدويّة ليداوي نفسه ويداوي غيره.
وكل إنسانٍ يأخذ من هذا الدين ومن أمر
اليقين بقدر ما يوفقه الله ويؤهّله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو أراد أحد أن
يتجاوز قدره لسقط ولهلك، فالتعمق والنظر في أمور القدر الخفيّة الدقيقة من إنسان
لا يعرف الأدلة، ولا يعرف كلام أهل العلم ولا يستطيع أن يفقه في المسألة هذا ذريعة
الخذلان.
وينبغي علينا أن نكفّ العوام عن الخوض
في القدر، فإن كَانَ ولا بد إذا وجدنا من أحدهم شبهة راسخة كشفناها بالدليل، ولكن
لا يعني ذلك أن نَعرض تعاريف القدر عَلَى العامة، أو نرضى أن يخوض العامة في
تفصيلات القدر وغير ذلك من أمور الإيمان؛ لأن الخوض في ذلك مَزلة الأقدام، فهو بحر
لا يستطيعون أن يبحروا فيه، لكن من كَانَ لديه استعداد للفهم من الكتاب والسنة
وكلام العلماء فينبغي له أن يزداد علمًا، لأنه بذلك يزداد إيمانًا ويزداد فهمًا،
وعندما ترد عليه شبهة سرعان ما يدفعها لما لديه من علم؛ وينبغي أن يقيد بهذا كلام
الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ، وأن نعرف المقصود من كلامه، ولهذا قَالَ المُصْنِّفُ
رَحِمَهُ اللَّهُ: "والمعنى أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه
ذريعة الخذلان". فهذا هو الذي يجب أن يُفهم.
وفي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، قال: جَاءَ ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه: "إنّا نجد في أنفسنا ما
يتعاظم أحدنا أن يتكلم به". فشكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شكوى مجملة، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أو قد
وجدتموه؟" وجواب النبي هذا يدل عَلَى أنه كان منتظرًا منهم هذا السؤال،
وهذه بشرى لحديثي العهد بالتمسّك، (9) وفي رواية أخرى قالوا: "لأن يصبح أحدنا
حُمَمَة محترقة"، كيف يكون حال هذا الإِنسَان الذي يود لو أصبح فحمة محترقة
ولم يتكلم بهذه الشكوك والخواطر، هذا قوي الإيمان، فلهذا يقول صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذلك صريح الإيمان". (10) وفي رواية ابن
مسعود: "ذلك محض الإيمان(11)". (12) ومعنى حديث أَبِي
هريرة وسوسة النفس أو مدافعتها، أي أن الحديثين هما في الحقيقة وردا في موضع واحد
أنه سئل عن الوسوسة. فيقول المصنف: "فإنّ وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها
بمنزلة المحادثة الكائنة بين الاثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح
الإيمان ومحض الإيمان"، ويمكن أن يحمل الحديث عَلَى أحد الأمرين:
الأمر الأول: أن يكون المشار إليه بأنه الموصوف "محض
الإيمان" هو المدافعة، أي أنكم ما دمتم تدافعونها فهذا دليل عَلَى قوة
إيمانكم، فلا تيأسوا. وهذه بشرى وخير لكم وليس شرًّا كما تظنون، والمدافعة
والمجاهدة هذه هي محض الإيمان لأنها مترتبة عليه وناشئة عنه.
الأمر الثاني: أن يكون محض الإيمان هو وجود الوسوسة،
لأنك في حالةٍ قبل الاهتداء لم تكن تجد شيئًا فلما اهتديت وجدت، فوجودها دليل
عَلَى وجود الإيمان، وإذا وجد الإيمان أرد الشيطان أن يبارزه في الشكوك، إذًا أنت
في هذه الحالة والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خير، وهذا يدل عَلَى أن الإيمان قد نما في
قلبك عندما تجد تلك الوساوس، ولذلك يقول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ذلك محض الإيمان" أو "ذلك صريح
الإيمان" ". (13)
ومن فروع ذلك؛ ألا يذيع علمًا عند من
لا يفقهه كي لا يحمله على غير وجهه، فلربّما افتتن الناس بعلم لم يفهموه وبكلام لم
يتبينوه وبمعنى لم يُقصد إليه، لذا فمن المتحتّم اللازم عدم إلقاء جوهر العلم الدقيق
إلا لمطيقيه من أهل جودة الأفهام وقوّة القرائح وزكاء الأنفس، ومن ذلك بعض مسائل
القدر المحيّرة لبعض الأذهان التي لم تستوعب كامل معانيه، ولم تتبين حدود مراميه
ونهايات مسموحات معلوماته، ولم تتضح لها تفاصيله، ولا يعني هذا أن من الناس من
تكشف له أمور من علوم الشرع على غير هدي من الوحي المنزل كخرافات بعض المتصوفة
والباطنية الذين يتوهمون أن لهم أسرارًا وعلومًا استقوها من غير مشكاة النبوة لا
يطّلع عليها غيرهم، فجرّهم الشيطان بوساوسه إلى مباءات ضلال ومراقد فتن حتى دفنهم
في أتون جهلها ووحول خيبتها. إنما المقصود أنّ من العلوم غوامض لا يفقهها كل أحد،
ولا يحسن عرضها لكل أحد حتى لا يحملها على غير وجهها، فهي من باب: "حدّثوا
الناس بما يعرفون.."، وقد مر التنبيه لذلك، وقد قال الغزالي في ذلك -وهي
تحتمل المعنيين، وقد أشار في إحيائه إلى معانٍ لها باطلة، ولكن نحسن في الشيخ أبي
حامد الظن-:
تَرَكتُ هَوَى سُعدى
وَلَيلى بِمَعزلٍ ... وَعُدتُ إلَى مَصحُوبِ أَوَّل مَنزِلِ
غَزَلتُ لَهُم
غَزلًا رَقِيقًا فَلَم أَجِد ... لِغَزلِيَ نَسَّاجًا فَكَسَّرتُ مِغزِلي
قال الشيخ صالح آل الشيخ: "العلم
لا يوضع إلاَّ في مواضعه، فإذا خيف من إلقاء المسائل على بعض الناس محذور أكبر،
فإنهم تُكتم عنهم بعض المسائل من أجل الشفقة بهم، ورحمتهم من الوقوع في المحذور،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتمان هذا النوع من العلم عن عامة الناس، وأخبر
به معاذًا، (14) لأن معاذًا من الجهابذة، ومن خواص العلماء، فدلَّ على أنه يجوز
كتمان العلم للمصلحة، إذا كان يترتب على إيضاح بعض المسائل للناس محذور: بأن
يفهموا خطأً، أو يَتَّكِلوا على ما سمعوا، فإنهم لا يُخبَرون بذلك، وإنما تلقى هذه
المسائل على خواص العلماء الذين لا يُخشى منهم الوقوع في المحذور، (15) فأخذ
العلماء من هذا الحديث جواز كتمان العلم للمصلحة.
وإنما أخبر معاذ رضي الله عنه بهذا
الحديث عند وفاته، خشية أن يموت وعنده شيء من الأحاديث لم يبلِّغه للناس، كما في
حديث علي رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله
ورسوله"، يعني: لا يُلقى على كل الناس بعض المسائل التي فيها أمور يَخفى
عليهم معناها، أو تشوِّش عليهم، وإنما يُلقى على الناس ما يفهمونه، ويستفيدون منه،
أما نوادر المسائل، وخواص المسائل، فهذه تلقى على طلبة العلم، والمتفقهين
المتمكِّنين، وهذا من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، لمّا تكون أمام عُصاة يشربون
الخمور، ويزنون، ويسرقون، وتقول: الله غفور رحيم، الله قريب مجيب، الله سبحانه
وتعالى يغفر ويسمح، فيزيدون في الشرور، لكن حين تقول لهم: اتقوا الله، الله سبحانه
وتعالى توعّد الزناة بالعذاب وتوعّد على السرقة وعلى المعاصي بالعذاب الشديد،
فتذكر لهم نصوص الوعيد، من أجل التوبة، ولو أتيت عند متمسِّكين وطيبين فذكرت لهم
آيات الوعيد، فهذا ربما يزيدهم وسواسًا، أو تشدّدًا، فأنت تذكر لهم آيات التيسير،
وأحاديث التيسير، والتسهيل، والرحمة، الفرج، إلى غير ذلك، من أجل أن لا يزيدوا
ويشتدوا ويغلوا، فكل مقام له مقال، وتوضع الأمور في مواضعها، هذا هو الميزان الصحيح. والناس ليسوا على حد سواء، كل
يخاطب بما يستفيد منه ولا يتضرر به، فلا تأتي بآيات الوعد والرجاء عند المتساهلين،
ولا تأتي بآيات الوعيد عند المتشددّين، بل تكون كالطبيب تضع الدواء في موضعه
المناسب، هكذا يكون طالب العلم.
إذا كانت هناك أمور غامضة، لا يعرفها العوام،
ولا تتسع لها عقولهم، من المسائل العلمية، فلا تُلقى على العوام، وإنما تُلقى على
طلبة العلم، وعلى الناس الذين يستوعبونها، ولهذا يقول ابن مسعود: "ما أنت
بمحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة" وقال علي رضي الله
عنه: "حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله".
فالحاصل؛ أن طالب العلم والواعظ
والمعلم يجب عليه أن يراعي أحوال الحاضرين وأحوال الناس، ويعطيهم ما يحتاجون إليه
من المسائل، ولا يُلقى عليهم المسائل الغريبة التي لم يتوصلوا إليها، فلو أتيت عند
طلبة علم مبتدئين، فلا تلق عليهم غرائب المسائل التي لا يعرفها إلاَّ الراسخون في
العلم، بل تعلمهم مبادئ مبسطة سهلة يتدرّجون بها شيئًا فشيئًا، لا تطلب من طالب
مبتدئ أن يقرأ في صحيح البخاري، لأنه لم يصل إلى هذا الحد لكن لَقِّنه الأربعين
النووية، والأحاديث القريبة، وشروط الصلاة، وأحكام الطهارة، إلى آخره، وإنسان
مبتدئ بعلم العربية، لا تأمره بقراءة كتاب سيبويه، لكن تأمره بقراءة الآجرُّوميَّة،
ومسائل مبسطة، يدخل بها على اللغة العربية والنحو، شيئًا فشيئًا، ولذلك ألف
العلماء المختصرات والمتوسطات والمطوّلات، من أجل إن طالب العلم يمشي مراحل، شيئًا
فشيئًا، الحاصل: أن كل شيء له شيء، وكل مقام له مقال". (16)
فَالعَيشُ نَومٌ
وَالمَنِيَّةُ يَقِظَةٌ ... وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالِ ساري
وَالنَفسُ إِن
رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت ... مُنقادة بِأَزمَّة الأَقدارِ
فاِقضوا مآرِبكم
عُجَالًا إِنَّما ... أَعمارُكُم سِفرٌ مِنَ الأَسفارِ
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
.......................
- الطحاوية (93)
- الترمذي (2133) وصححه الألباني في
صحيح الترمذي (2/223)
- يعني حديث ابن مسعود رضي الله عنه
قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن
أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم
يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب
رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل
الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل
النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا
ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". رواه
البخاري 9/165 ( 7454 ) ومسلم 8/44 ( 2643 ) قال النووي رحمه الله تعالى في
المنهاج (١٦/١٩٢) معلقًا على هذا الحديث الجليل بكلام مبشّر مفرح: "هذا
قد يقع في نادر من الناس، لا أنه غالب فيهم، وذلك من لطف الله وسعة رحمته،
فإن انقلاب الناس من الشرّ إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرّ
ففي غاية الندور، ولله الحمد والمنة على ذلك". أهـ. فالله شكور سميع
الدعاء ورحمته سبقت غضبه، والعفو أحب إليه من العقوبة تبارك وتعالى.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة
للالكائي (157)
- نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح
الباري (11/ 477)
- الشريعة للآجري ( 149 )
- الطحاوية (92)
- شرح العقيدة الطحاوية، صالح آل
الشيخ (1 / 237)
- لأن الغالب أن أكثر تسلّط الوساوس
إنما هي على حديث العهد بالاستقامة والجدية في التديّن، أو حديث العهد
بالإسلام. وتزول مع الوقت مع الاستعاذة بالله من الشيطان وحسن الظن بالرحمن
وعدم الالتفات لها.
- مسلم (132) (210) أحمد (9145)
- أي أن صريح الإيمان ومحضه هو الذي
يَمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم من الوساوس، فلا تتمكن في
قلوبكم. وليس معناه: أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، لأنها من فعل الشيطان
ونفثه.
- مسلم (1/83) وأحمد (9694)
- شرح العقيدة الطحاوية للحوالي (1
/1562- 1564) باختصار.
- يعني حديث معاذ بن جبل رضي الله
عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: "يا
معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟" قلت:
الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا
يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا"
فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتّكلوا".
رواه البخاري 4/35 ( 2856 ) ومسلم 1/43 ( 30 ) ( 49 )
- ومن هؤلاء المبشرون بالجنة، فقد
أخبرهم لعظيم إيمانهم الذي لن تزيده هذه البشارة إلى إيمانًا بالله تعالى
وإقبالًا على طاعته وزهدًا في الدنيا، والله أعلم.
- إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
(50 – 53)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق