علاماتُ ومظاهرُ الراضين بالله
تعالى
الحمد لله، وبعد؛ ففرق ما بين العلامات
والثمرات: أنّ الثمرات حقائق وغايات ينتهي إليها الراضي بربه تعالى، فهي كالمكافآت
الربّانية لمن رضي بإلهه تبارك وتعالى، أما العلامات والمظاهر فهي كالرداء الذي
يلبسه الراضي عن ربه، فيراها الناس عليه في وجهه وأطرافه وخلجاته ولحَظاته وكلماته
وأفعاله وأحواله.. فهو مظهرٌ دالٌّ على ما تحته من معاني البر وذخائر القُرْب
وحشايا السعادة، نسأل الله الكريم من فضله العميم.
وبين الثمرات والعلامات الصادقة – لا
الخدّاعة - علاقة تلازم، فالله شكور حميد سبحانه، فإذا صدق العبد معه باطنًا
وظاهرًا في رضاه به وعنه ولَهُ؛ فإن الله يكافئه بإلباسه من نور الراحة وهالة
الأمن لمن رآه، وضياء السرور لمن عامله، وبهاء الهيبة لمن عرفه، وهذه علامات
وثمرات، ثم يأخذ بيد توفيقه لمزيدٍ من كرائم منحه وجسائم عطاياه الدينية، فالحسنة
تجلب أختها برحمة الله، ولا يزال العبد يترقى في دَرَج الرضا ومعارج القبول حتى يرحل
عن الدنيا للرفيق الأعلى راضيًا مرضيًّا.
فمن العلامات:
1- السكينة:
وكيف لا تسكنُ نفسٌ سبحت في بحار الرضا
عن ربها، فخضعت له ربًّا وخشعت له إلهًا ورضيت به معبودًا وفرحت به مألوهًا لها،
فهي تجري في فضاء حُبّه، وتسبح في الثقة به واليقين به والتعلق به. قد وقف بها حبُّه
عن حب ما سواه، ووثقت بوعده فاكتفت به عن غيره، وفوّضت أمرها بين يديه إحسانًا
لظنها به، واستسلمت لقضائه ليقينها بحسن تدبيره ولطفه ورفقه وحكمته ورحمته وعلمه
وبرّه. (1)
ومن رجز الصحابة المرضيين يوم الخندق
وفيهم رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يرفع صوته بكلمة "أبينا،
أبينا".(2):
اللهم لولا أنت
ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلنْ سكينةً
علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إنّ الأُلَى قد
بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
قال ابن القيم رحمه الله في معنى
السكينة: "السكينة فعيلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في
القلب، ويظهر أثرها على الجوارح. وهي عامة وخاصة". (3)
ومن أمتع وأعظم جوالب السكينة قراءة
القرآن، وهي من مدارج السكينة ومُتَنَزّلاتها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله
ويتدارسونه بينهم؛ إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلتْ عليهم السكينةُ، وحَفتْهم
الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده". (4) قال شيخ الإسلام: "لا يشترط
لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر في جماعة، فيحصل ذلك للشخص الواحد،
روى البخاري ومسلم حديث أُسَيْد بن حُضَيْر الذي كان يقرأ القرآن في مِرْبده (5) وبجواره
ولده وفرسه، (6) وجاء فيه: فإذا مثل الظُّلّة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرَج عرجت
في الجو حتى ما أراها! فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تلك
الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأصبَحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم". (7)
(8) وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "قرأ رجل الكهف، وفي الدار الدابة،
فجعلت تنفر، فسلّم، فإذا ضبابة أو سحابة غشيته؛ فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم،
فقال: "اقرأ فلان، فإنها السكينة، نزلت للقرآن أو تنزلت للقرآن".
(9) قال العيني في العمدة: "الرجل هو أسيد بن حضير.. والضبابة المذكورة هي
السكينة، واختلفوا في معناها فقيل: هي الملائكة وعليهم السكينة، والمختار: أنها
شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة، ومعه ملائكة يستمعون القرآن".
(10) وقال الحافظ رحمه الله تعالى في حديث أسيد وذكر رواياته: "قوله:
"وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا بن حضير"، أي
كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمرًا له بالقراءة في حالة التحديث، وكأنه
استحضر صورة الحال فصار كأنه حاضر عنده لمّا رأى ما رأى، فكأنه يقول: استمر على
قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك. وفهم أسيد ذلك فأجاب
بعذره في قطع القراءة وهو قوله: "خفت أن تطأ يحيى" أي خشيت إن استمريت
على القراءة أن تطأ الفرس ولدي. ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في
صلاته لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكأنه كان بلغه حديث النهي
عن رفع المصلى رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب. ويحتمل أن يكون رفع
رأسه بعد انقضاء صلاته فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات. وفي رواية قال صلى الله
عليه وسلم: "دنت لصوتك تستمع لك"، وفي رواية: "وكان أسيد
حسن الصوت" وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "اقرأ أسيد فقد أوتيت
من مزامير آل داود". قال النووي: "في هذا الحديث جواز رؤية آحاد
الأمة للملائكة". كذا أطلق وهو صحيح، لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلًا
والحسن الصوت. قال: "وفيه فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة وحضور
الملائكة". وفي آخر الحديث "ما يتوارى منهم". إشارة إلى
الملائكة لاستغراقهم في الاستماع، كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم.
وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في
الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير،
فكيف لو كان بغير الأمر المباح". (11) والنبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة
أن تميط عنه القرام وعلّل أمره بأنه أذكَره الدنيا!
واعلم أن من أعظم جوالب السكينة للمؤمن
تدبر كتاب الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فكتاب الله تعالى زاد لا ينقص،
وسقاء لا ينضب، وبحر لا يغيض، بل يفيض على القلب والروح حتى تحلّق وتسمو في سماء
ليست بسماء دنيا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وفي القرآن أمرٌ عجيب؛ وهو أنّ كل من تلاه
بتدبّر وجد فيه حلًّا لمشكلاته، وزوالًا لجهالاته، وبلسمًا لجراحاته، وبصيرة
لمنهاجه. فكلُّ مشكلةٍ في العالم فحلُّها في الكتاب العزيز، وكلُّ تساؤل في
الخليقة فجوابه فيه إجمالًا أو تفصيلًا أو دلالة، وصدق الله تعالى: (ولو كان من
عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
فتجد النفرَ يتلون آيات واحدة، أو يستمعونها بتدبّر، فتصنع في صدورهم الأعاجيب،
فهذا يجد فهمًا لجانبٍ من حياته نبّهته إليه الآية، وذاك يجد عزاءً لفقدٍ، أو لحرمانِ
نفسه من بعض مشتهياتها، أو لما تجرّعته من غُصص آلامها، وآخر يجد برهانًا لفكرة
تحيط به ولمّا يتوثّق منها، وغيره يرى إنذارًا لتفريط وقع فيه، وتلك تستمع لآية آنَسَتها
فأنْسَتها همًّا ألمّ بها، وشوّقتها لله تعالى والدار الآخرة، بل أعجب من ذلك أنّ
الشخص الواحد يقرأ الآية مرارًا ويجد في كل تدبّرٍ معنًى جديدًا يثري علمه بربه
تعالى، ذلك أن القرآن العظيم هو علمُ العلوم، فهو كتاب لا تشبع منه العلماء، ولا
يخلَقُ من كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. فلا إله إلا الله، ما أعظمَ الله، وأعظمَ
كلامه، وأكبرَ نعمته علينا به!
وههنا سؤال لطيف في هذا الباب، وهو: لماذا
يحبّ أكثر الناس تلاوة القرآن العظيم وسماعه بالحدر أكثر من الترتيل والترسّل؟
والجواب ذو مطالب:
الأول: أن كلاهما مشروع بحمد الله تعالى، فمن
رتّل فقد أحسن ومن حَدَر فقد أحسن. والترتيل أفضل. وتدبر قوله تعالى : (وقرآنا
فرقناه لتقرأه على الناس على مكث)، والمكث هو الترسّل والبطء والترتيل. وقال
سبحانه: ( ورتلناه ترتيلا)، وقال عز وجل: (ورتل القرآن ترتيلا). وكان صلى الله
عليه وسلم يتأوّلُ ذلك فيرتل القرآن كما أمره ربه. وكان يمدّ قراءته حرفًا حرفًا،
ويقف على رؤوس الآي، ويقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها. بمعنى أن قراءته
أبطأ من القراءة المعتادة لغيره من الناس. وكلُّ هذا لتحصيل المقصود الأعظم وهو تدبّر
التلاوة التي من معانيها العمل بالقرآن، وهو ما فُسر به قوله تعالى:(يتلونه حق
تلاوته)، أي يصدّقون بما فيه من أخبار، ويعملون بما فيه من أحكام.
ولا يتأتّى العمل بالقرآن إلا بعد العلم بمعانيه،
ووسيلته الكبرى - بعون الله تعالى - هي التدبر. لهذا قال صلى الله عليه وسلم لعبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "اقرأ في ثلاث، فإنّه لا يفقه من
قرأه في أقل من ثلاث". (12) أي لا يستطيع تدبره كما ينبغي له. وإلا
فالتلاوة المجردة مع نوع تدبر مقدورة، وقد أتوا بها في ركعة كما ثبت عن عثمان وتميم
الداري رضي الله عنهما وكذا سعيد ابن جبير وابن باز رحمهما الله في كثير من
العُبّاد.
لذا زجر السلف عن هذِّ القرآن، قال ابن
إمّ عبدٍ رضي الله عنه: "لا تهُذُّوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل،
وقفوا عند محكمه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ احدكم آخر السورة". والهذّ
الذي زجر عنه ابن مسعود وغيره هو الإسراع الذي يفوق الحدر فيكون كالهذرمة، أما
الإسراع الذي لا يحرّف القراءة فلا بأس به ما دام مقيمًا لإحسان القراءة، وقد جاء
عنه صلى الله عليه وسلم في بشارته لأهل القرآن: ".. وإنّ القرآن يلقى
صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبره كالرجل الشاحب. فيقول له: هل تعرفني ؟
فيقول: ما أعرفك! فيقول: أنا صاحبُك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك،
وإنّ كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطى الملك
بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم
لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال له:
اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان، أو ترتيلًا".
(13) ولقد كانت قراءة الفضيل كما وصفوها: بطيئة حزينة شهية، رحمنا الله وإياه.
الثاني: أنّ جمال الصوت وجودة نغماته تتأتّى
بشكل أسهل عند الحدر لتنوّع صعود ونزول مستوى أصوات الحروف. ولكن ذلك يشقّ – نوعًا
ما - عند الترتيل إلا مع الدُّرْبة. ولكن هذا كله يزول بل ينقلب لضده إذا كان
السامع يسعى بقلبه لتدبر المعاني من غير الوقوف الطويل مع جماليات التغني بالصوت
الجميل. فالصوت وسيلة لا غاية، وتزيين الصوت من سنن القراءة فعن أبو هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أَذِنَ الله لشيء ما أذن
لنبيٍّ أن يتغنَّى بالقرآن".(14) وفي رواية: "لِنبيٍّ حسن الصوت
بالقرآن يجهر به". وفي رواية: "لِنبيٍّ يتغنّى بالقرآن يجهر به".
(15) وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا". قال عبد الله بن أبي يزيد
رحمه الله لابن أبي مليكة: يا أبا محمد؛ أرأيت إن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسّنه
ما استطاع. (16) وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زيّنوا
القرآن بأصواتكم". (17) فتزيين الصوت مطلب شرعي ومرضاة للرحمن، وتدبرُ
القرآن مقصود التلاوة والسماع، وواهًا لمن جمعهما.
الثالث: أن في نفوس الناس نزعةٌ إلى العجلة
والإسراع وقلة الصبر، (خلق الإنسان من عجل)، ولو جاهدناها لأضحت بإذن الله تعالى
مطمئنّة للترتيل لا تكاد تسكن إلا إليه. وذلك أن المقصود الأعظم للتلاوة وسماعها
هو التدبر، (أفلا يتدبرون القرآن)، ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته).
ووسيلة التدبر الترتيل والترسّل والبطء والتأمل في التلاوة. وتأمَّلْ حالك حتى وأنت
تنظر للمصحف بلا قراءة ابتغاء تحصيل معنى تقصده وتفتش عنه، فستجد نفسك بلا جهد ولا
قصد تترسّل وتبطء وتتدبر.
ولا يعني ذلك أن الحدر ليس فيه تدبّر،
بل فيه بحمد الله نزرٌ نافعٌ صالحٌ مبارك، ولكنه ليس كغيث التدبّر حينما تنهمر
المعاني بتفجّر ينابيع الآيات مع كرّ النظر تلو النظر، وتدبر العقل بمعول الفكر،
وتأمّل النظر ببصيرة العقل، وكل هذا مفتقر لبطء لا عجلة.
والمقصود؛ أنّ الحدر والترتيل مشروعان،
ولكن الأصل هو الترتيل بغرض التدبر والعمل. ومن العلماء وغيرهم من كانت له أكثر من
ختمة واحدة للترتيل المتدبّر جدّا جدًّا، حتى إنه ربما بقي في الختمة الواحدة بضع
سنين يرتل ويتدبر، ويُرجِّع ويَرجِع، ويردد الآية ويدعو ويبتهل، ويجعل لهذه الختمة
وردًا خاصًّا يقتطع له أصفى حالات نفسه وأنقى ساعات يومه وأجود أويقات عمره، كما
أن له ختمة أخرى يرتلها كعادة الناس، حتى لا يغيب عن تمام القرآن بهجر بعضه. وقد
مثل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى متدبر القرآن المترسل كمُهدي الجوهرة
الجميلة الكبيرة، ومثل الحادر بالقرآن بمهدي عدة جواهر صغار، فالترتيل المتدبر
كيف، والحدر كم.
ومتى جاهد المرء نفسه على التدبر تدفقت في قلبه
معاني القرآن التي يدهش لبّه من عظمتها وجلالها، فهو كتاب الله تعالى الذي لا يشبع
منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وبالله التوفيق.
وثمّ سكينة عند المنام، قال صلى الله
عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من اللهِ
حافظ، لا يقربه شيطان حتى يُصبِح". (18) فكيف يكون حال وسكينة المتقلب
نائمًا في فراشه وعين الرحمن ترعاه!
هذا؛ والسكينة -فاعلم - من خصال
المؤمنين، قال ابن تيمية رحمه الله: "وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا
يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى، قال قيس بن عبادة وهو من كبار
التابعين: "كانوا (19) يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند
الجنائز". وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن،
مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه، كما أن حالهم في الصلاة كذلك. وكان
رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتلى بها كثير
من هذه الأمة". (20)
والمخالطة مجانسة، فالبيئة والناس بل
والبهائم لها أثر في سكينة ورزانة وهدوء المرء ورعونته وعجلته وطيشه، "ففي
الجنس الخاص (21) كان التفاعل فيه أشد، ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس
المتوسط، (22) فلا بد من نوع تفاعل بقدْرِه، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس
البعيد مثلًا، (23) فلا بد من نوعٍ ما من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني
آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعًا
من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل وصارت
السكينة في أهل الغنم، وصار الجمّالون والبغّالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق
الجمال والبغال، وكذلك الكلّابون، وصار الحيوان الإنسي (24) فيه بعض أخلاق الإنس
من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب
مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا
المسلمين هم أقل كفرًا من غيرهم، (25) كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة
اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرّد الإسلام. (26) والمشاركة في الهَدي
الظاهر توجب أيضًا مناسبة وائتلافًا وإن بَعُد المكان والزمان، فهذا أيضا أمر
محسوس". (27)
فأهل السكينة أهل ذكر، والملائكة تحبهم
وتدعو لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا
قومًا يذكرون الله عز وجل، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفّونهم بأجنحتهم (28)
إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم - وهو أعلم -: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك،
ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك.
فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدّ لك عبادة، وأشدّ لك
تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة.
قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو
رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدّ عليها حرصًا ، وأشدّ لها طلبًا،
وأعظم فيها رغبة. قال : فممّ يتعوذون؟ قال: يقولون: يتعوذون من النار. قال: فيقول:
وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول : كيف لو رأوها؟! قال: يقولون:
لو رأوها كانوا أشدّ منها فرارًا، وأشدّ لها مخافة.
قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول
ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى
بهم جليسهم". (29)
أما ضدهم من أهل الغفلة والمعصية
فتحضرهم الشياطين، قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا السماع المُحدَث (30) تحضره
الشياطين، كما رأى ذلك من كشف له، وكما توجد آثار الشياطين في أهله، حتى إن كثيرًا
منهم يغلب عليه الوجد فيُصعق كما يصعق المصروع ويصيح كصياحه، ويجري على لسانه من
الكلام ما لا يُفهم معناه ولا يكون بلغته كما يجري على لسان المصروع، وربما كان
ذلك من شياطين قوم من الكفار الذي يكون أهل ذلك السماع مشابهين لقلوبهم". (31)
وأهل السكينة أهل استقامة وتقوى، ومن
كان من أهل الاستقامة فإن الله تعالى يسدّده ويحفظه ويحوطه بالتوفيق والإصابة،
ويسدّده حتى بالسكينة الملائكية، "وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه
ولسانه، وما كان يقول لشيء: إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول. وكانت السكينة
تنطق على لسانه". (32) "قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا نتحدث أن
السكينة تنطق على لسان عمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله ضرب
الحق على لسان عمر وقلبه". (33) (34)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس
مُحَدَّثُون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر". قال ابن وهب: "محدّثون"،
(35) أي: ملهمون. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وسمعت شيخ الإسلام تقي
الدين ابن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلّق وجودهم
في هذه الأمة بـ «إن» الشرطية مع أنها أفضل الأمم؛ لاحتياج الأمم قبلنا
إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده
إلى محدَّث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها
لا لنقصها. والمحدّث هو الذي يُحَدَّثُ في سرِّه وقلبِه بالشيء فيكون كما يُحَدَّث
به.
قال شيخنا: والصِّدِّيق أكمل من
المحدث؛ لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه سلّم
قلبه وسرّه وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عمَّا منه. (36) قال: وكان هذا المحدَّث
يعرض ما يُحدَّث به على ما جاء به الرسول؛ فإن وافقه قبله وإلا رده. فعلم أن مرتبة
الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب
الخيالات والجهالات: «حدثني قلبي، عن ربي» فصحيح أن قلبه حدثه، ولكن عن من؟ عن
شيطانه أو عن ربه؟ فإذا قال: حدثني قلبي عن ربي، كان مسند الحديث إلى من لم يعلم
أنه حدثه به، وذلك كذب.
قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا
تفوه به يومًا من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك؛ بل كتب كاتبه يومًا: «هذا
ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» فقال: «لا امحه، واكتب هذا ما رأى عمر
بن الخطاب، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر والله ورسوله منه بريئان»،
وقال في الكلالة: «أقول فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن
الشيطان»". (37)
وقد أنزل الله تعالى آيات السكينة في
كتابه، والقرآن كله يبعث السكينة في القلب والروح، قال ابن القيم رحمه الله:
"وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأول: قوله: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ }.
الثاني: قوله: { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }.
الثالث: قوله تعالى: { إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ).
الرابع: قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا }.
الخامس: قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا
).
السادس: قوله تعالى: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الآية.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة. وسمعته يقول في وقعة عظيمة جرت له في
مرضه تعجز العقول عن حملها -من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف
القوة- قال: فلما اشتد عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة
قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبة (38) وقد جربتُ أنا أيضا قراءة
هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه؛ فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه
وطمأنينته.
وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي
ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد
عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات. ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها
على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب؛ كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في
الغار والعدو فوق رؤوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين
ولّوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحديبية حين
اضطربت قلوبهم من تحكّم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس،
وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق رضي الله
عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل سكينة في
القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة". وفي الصحيحين عن البراء بن
عازب رضي الله عنهما قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب
الخندق حتى وارى التراب جِلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة رضي الله
عنه:
"لاهُمَّ
لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلنْ سكينةً
علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد
بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا"
قال: ثم يمدّ صوته بآخرها". (39)
(40)
ومن سكن قلبه سكنت جوارحه في صلاته،
قال شيخ الإسلام: "فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة، فإنه
لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى، إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا
على من خشع خارجها ولم يخشع فيها كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها،
وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة. و
يدل على وجوب الخشوع فيها أيضًا قوله تعالى: (قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ
يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم
الذين يرثون فردوس الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم.
وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها
ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون
المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب. وإذا كان الخشوع في الصلاة
واجبًا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعًا. ومنه حديث عمر رضي الله عنه حيث
رأى رجلًا يعبث في صلاته فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، أي لسكنت
وخضعت". (41) "فإذا كان منهيًّا عن السرعة والعجلة في المشي مأمورًا
بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلّي قاضيًا له؛ فأولى أن يكون
مأمورًا بالسكينة فيها. ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد
في الحركة والمشي مطلقًا فقال: { واقصد في مشيك واغضض من صوتك } وقال تعالى: {
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }. قال
الحسن وغيره: "بسكينة ووقار". فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء.
فإذا كان مأمورًا بالسكينة والوقار في
الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة؛ فكيف الأفعال العبادية؟ ثم كيف بما هو
فيها من جنس السكون كالركوع والسجود؟ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال؛
كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط. وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال
كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما - وهذه هي من نفسها سكون - فمن
لم يسكن فيها لم يأت بها، وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به، كمن مد
يده إلى الطعام ولم يأكل منه، أو وضعه على فيه ولم يطعمه". (42)
والسكينة للمؤمن حاضرة حتى في مواطن
الزحام والضيق والتدافع وإسراع الناس كالحج، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه دفع
مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وراءه
زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: "يا أيها
الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع". (43)
والسكينة ظاهرة على المسلمين حيثما
كانوا، و"كان الميت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال
يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة، لا نساء معهم، ولا
يرفعون أصواتهم، لا بقراءة ولا غيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين". (44)
والسكينة في القلب هي محض فضل المولى
تبارك وتعالى، "فليس كل ما فَضُلَ به الفاضل يكون مقدورًا لمن دونه، فكذلك من
حقائق الإيمان ما لا يقدر عليه كثير من الناس، بل ولا أكثرهم. فهؤلاء يدخلون الجنة
وإن لم يكونوا ممن تحققوا بحقائق الإيمان التي فضّل الله بها غيرهم، ولا تركوا
واجبًا عليهم وإن كان واجبًا على غيرهم.
ولهذا كان من الإيمان ما هو من المواهب والفضل
من الله، فإنه من جنس العلم والإسلام الظاهر من جنس العمل؛ وقد قال تعالى: {
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }
وقال: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم }.
ومثل هذه السكينة قد لا تكون مقدورة؛ ولكن الله يجعل ذلك في قلبه فضلًا منه وجزاء
على عمل سابق، كما قال: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد
تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما
ولهديناهم صراطا مستقيما}، كما قال: { اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به } وكما قال: { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم
بروح منه } ولهذا قيل: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وهذا الجنس غير
مقدور للعباد؛ وإن كان ما يقدرون عليه من الأعمال الظاهرة والباطنة هو أيضًا بفضل
الله وإعانته وإقداره لهم؛ لكن الأمور قسمان: منه ما جنسه مقدور لهم لإعانة الله
لهم كالقيام والقعود، ومنه ما جنسه غير مقدور لهم". (45)
والسكينة التي يجدها المؤمن في قلبه هي
من ثمرات التوحيد، والناس كلهم لا تسكن نفوسهم إلا به، و"لا يجوز أن يصلح حالهم
إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته
وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته
المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا
يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو
أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره
محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره!
وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع
والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه
مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضًا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن
العبد يحس من قلبه فقرًا ذاتيًّا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه
سُؤلَه، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر
في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد
الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويُوجّهَ قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة
والسكينة، فلا يبقى عنده منازعة إلى شيء آخر. (46)
فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء
حاجته إذا توجّه إلى الله بصدقٍ اطمأنَّ طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب
والحاجات، فكذلك المريد المحب السائل لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله بصدقٍ؛
اطمأنَّ طمأنينة من حصَّل بُغْيَته ووجد محبوبَه ومألوهَه وطلبَتَه، وهذا الأصل
إنما يستقر لأهل المِلَلِ أتباع ملة إبراهيم، أهلِ الحنيفية، فأما غيرهم
فلا". (47)
والمؤمن أمّار بالسكينة داعٍ لها،
يحبها للناس كيما تسعد أرواحهم وتطيب نفوسهم في دنيا الكَبَد، قال صلى الله عليه
وسلم: "يسّروا ولا تعسّروا، وسَكّنوا ولا تنفّروا". (48)
وَاهًا على ذاكَ
الزَّمانِ وطِيبِهِ ... أيّامَ كُنتُ من اللُّغوبِ مُراحًا
وللإمام ابن القيم كلامًا نفيسًا عن
تلك السكينة للمؤمنين في إعلام الموقعين، فمن ذلك:
"سكينة
الأنبياء
فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم أخص مراتب السكينة وأعلى أقسامها، كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد ألقي
في المنجنيق مسافرًا إلى ما أضرم له اعداء الله من اللَّه من النار، فلله تلك
السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر!
وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون
وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل يا موسى إلى أين تذهب
بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا، وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم
اللَّه له نداءً وإيحاءً كلامًا حقيقة سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت
له وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا، وكذلك السكينة التي نزلت عليه، وقد رأى حبال
القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة.
وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا ﷺ وقد أشرف عليه
وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما، وكذلك
السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة وأعداء اللَّه قد أحاطوا به كيوم بدر
ويوم حنين ويوم الخندق وغيره.
فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم
معجزاته عند أرباب البصائر، فإن الكذب -ولا سيما على اللَّه تعالى- أقلق ما يكون
وأخوف ما يكون وأشده اضطرابًا في مثل هذه المواطن، فلو لم يكن للرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم من الآيات
إلا هذه وحدها لكفتهم.
السكينة الخاصة
وأما السكينة الخاصة فتكون لأتباع
الرسل بحسب متابعتهم، وهي سكينة الإيمان، وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك،
ولهذا أنزلها اللَّه تعالى على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها
﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إيمانًا
مَعَ إيمانِهِمْ ولِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ والأرْضِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا﴾، فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي
السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب، وذلك يوم الحديبية قال اللَّه سبحانه وتعالى
يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ
فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ لمّا علم اللَّه
سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لمّا منعهم كفار قريش من دخول بيت
اللَّه، وحبسوا الهدي عن محلّه، واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة،
فاضطربت قلوبهم وقلقت، ولم تطق الصبر؛ فعلم تعالى ما فيها فثبتها بالسكينة رحمةً
منه ورأفة ولطفًا، وهو اللطيف الخبير.
وتحتمل الآية وجهًا آخر، وهو أنه سبحانه علم ما
في قلوبهم من الإيمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها
واضطرابها، والظاهر أن الآية تعم الأمرين، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون
معه إلى إنزال السكينة، وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب إنزالها، ثم قال تعالى
بعد ذلك : ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الجاهِلِيَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ
وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وكانُوا أحَقَّ بِها وأهْلَها وكانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، لمّا كانت حمية الجاهلية توجب من الأقوال والأعمال ما يناسبها؛ جعل
اللَّه في قلوب أوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية، وفي ألسنتهم كلمة التقوى
مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور، فكان حظُّ المؤمنين السكينةَ في
قلوبهم وكلمة التَّقوى على ألسنتهم، وحظُّ أعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم، وكلمة
الفجور والعدوان على ألسنتهم، فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندًا من جند اللَّه
أيَّد بها اللَّه رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه
وألسنتهم.
وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخبر تصديقًا
وإيقانًا، وللأمر تسليمًا وإذعانًا، فلا تدع شبهة تعارض الخبر، ولا إرادة تعارض
الأمر، فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية
التي يُبتلي بها العبد ليقوى إيمانه ويعلو عند اللَّه ميزانه بمدافعتها وردّها
وعدم السكون إليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند اللَّه تعالى.
السكينة عند
القيام بوظائف العبودية
ومنها السكينة عند القيام بوظائف
العبودية، وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على اللَّه تعالى،
بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها، وخشوع الجوارح
نتيجة خشوع القلب.
أسباب السكينة
سببها استيلاء مراقبة العبد لربه ﷻ حتى
كأنه يراه، وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع
والخشوع والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها، فالمراقبةُ أساسُ الأعمال القلبية كلها
وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي ﷺ أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة
واحدة، وهي قوله في الإحسان: «أن تعبد اللَّه كأنك تراه». (49) فتأمل كل
مقام من مقامات الدين وكل عمل من أعمال القلوب كيف تجد هذا أصله ومنبعه؟
والمقصود؛ أن العبد محتاج إلى السكينة
عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه ولا يَزيغ، وعند الوساوس
والخَطَرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير همومًا وغمومًا وإرادات ينقص
بها إيمانه، وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه، وعند أسباب
الفرح لئلا يطمح به مركبُه، فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحًا وحزنًا، وكم
ممن أنعم اللَّه عليه بما يُفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد، فانقلب ترحًا
عاجلًا، ولو أُعِين بسكينة تُعَدِّل فرحَه لأُريد به الخيرِ، وعند هجوم الأسباب
المؤلمة على اختلافها الظاهرة والباطنة، فما أحوجه إلى السكينة حينئذ، وما أنفعها
له وأجداها عليه وأحسن عاقبتها. والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر وحصول
المحبوب، واندفاع المكروه، وفقدها علامة على ضد ذلك، لا يخطئ هذا، ولا هذا،
واللَّه المستعان". (50) وقال رحمه الله: "السكينة إذا نزلت على القلب
اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب
والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو والهُجر وكل باطل.
وكثيرًا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن
فكرة منه، ويستغربه هو من نفسه كما يستغرب السامع له، وربما لا يعلم بعد انقضائه
بما صدر منه. وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة وصدق الرغبة من السائل والمجالس، وصدق
الرغبة منه هو إلى الله، والإسراع بقلبه إلى بين يديه وحضرته، مع تجرده من
الأهواء، وتجريده النصيحة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين. ومن جرب هذا عرف قدر
منفعته وعظمها، وساء ظنه بما يُحسن به الغافلون ظنونهم من كثير من كلام
الناس". (51)
واعلم -رحمني الله وإياك- أن السكينة
هي من السمت الحسن الذي جاء وصفه بأنه جزء من النبوّة، فقد روى الترمذي رحمه الله
في سننه (52) عن عبد الله بن سرجس المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "السَّمْتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا
من النبوة". قال المباركفوري في تحفته: "قوله: "السمت
الحسن" أي السيرة المرضية والطريقة المستحسنة، قيل: السمت الطريق،
ويستعار لهيئة أهل الخير. وفي الفائق: السمت: أخذ المنهج ولزوم المحجة. والتُّؤَدَة:
التأني في جميع الأمور. والاقتصاد: التوسط في الأحوال، والتحرز عن طرفي الإفراط
والتفريط.
وقوله: "جزء" أي كلها، أو كل
منها "من أربعة وعشرين جزءًا". والمراد بالعدد المذكور التكثير
لا التحديد، ففي حديث بن عباس عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءًا من النبوة".
(53) على أنه يمكن الاختلاف بحسب اختلاف الكمية والكيفية الحاصلة في المتصف به.
وقوله: "من النبوة": أي من أجزائها. قال الخطابي: الهدي والسمت
حالة الرجل ومذهبه، والاقتصاد سلوك القصد في الأمور والدخول فيها برفق على سبيل
تمكن الدوام عليها. يريد أن هذه الخصال من شمائل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معناها أن
النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخصال كان نبيًّا، فإن النبوة غير مكتسبة، وإنما
هي كرامة يخص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ويحتمل أن
يكون معناه أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعا إليها الأنبياء". (54)
2- الطمأنينة:
الراضي عن ربه مطمئنُّ النفس هادئ
البال رخيُّ الفؤاد حنيف الوجه لربه عما يقلقل قلوب عبّاد الدنيا، قال الله تعالى:
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وقال تعالى:
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي
جنتي). قال ابن القيم رحمه الله: "الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم
اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة".
(55) أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكونًا إليه، والكذب يوجب له
اضطرابًا وارتيابًا. ومنه قوله: "البرّ ما اطمأن إليه القلب". (56)
أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه". (57)
3- السهولة
وعدم التكلّف:
إن من مظاهر الرضا بالقضاء عدم التكلف
لأنه يعلم أن ما أصابه لم ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الحادثات المقدّرة
مرغوبة كانت أو مرهوبة فالتكلّف -إن لم يضر - فهو لا ينفع. والمستريح هو الوسط
البسيط غير المتكلف الشطيط.
والتكلف هو أن تتكلف حالًا ليس لك، كأن
تتزيّا بمال غيرك، أو تدعي علمًا أنت تجهله، أو فهمًا أكبر من عقلك، أو تطلب ما
ليس لك، أو تتعدى المباح للإسراف. قال النووي رحمه الله في تعريفه: "هو فعل
وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة". (58)
قال الله تعالى ناهيًا عن التكلّف: {
قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وعن عمر رضي الله عنه قال:
"نُهينا عن التكلّف". (59) وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه فقال: "يا أيها الناس، من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم،
فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }. (60)
وما عاش مرتاحًا ولا صادقًا المتكلف.
والراضي بالله تعالى ليس من أهل
التكلّف والتصنّع، وقد ذُكِر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "العلم نقطة
كثّرها الجاهلون". (61)
أي أنّ أصل
العلم الذي فقههُ الصحابة رضي الله عنهم كان نزرًا نافعًا، وهو أصول قيّمة ومحكمات
جامعة تُرجع إليها المسائل وتُعرض عليها الدلائل، ويفيءُ طالبُ العلم بها لبركة
الوحي الصافي، ويَرِدُ بها الحقَّ الوافي، وهو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى
الله عليه وسلّم وأعماله، وهو ليس بهذه الكثرة المُشَتِّتة، إنما شقّق الناس بعدها
وتشدّقوا وأوغلوا وغالوا. فبركة العلم في صفائه من كدر التكلّف، ونقائه من دَغَلِ
المخالفة.
والرضا بالمكتوب لا ينفي صُنْعَ
مستقبلٍ أجمل لك وللأجيال القادمة، فكن متوكّلًا لا متواكلًا، وعازمًا لا
متوانيًا، فقد أهبطك الله للأرض لتعمرها بالعبادة وتعبرها بالصالحات وتتزوّد منها
بُلغتَكَ لدارك في الآخرة: (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا
من رزقه وإليه النشور).
وسرُّ جمالِ الحياةِ البساطةُ، فالحياة سهلة
وعيشها يسير إن رأيتها كذلك، لكنّها شديدة التعقيد إن تعاملت معها بتعقيد،
والإكسير موجود لكنه السهل الممتنع: إنه القناعة.
إن كان لا
يُغنيك ما يكفيكا ... فكلُّ ما في الأرض لا يُغنيكا
والتكلّف مُنغِّصٍ لطيب اللقيا،
والمثاليّة قتّالةٌ للإبداع. وكم من بيتٍ عامرٍ إلا من أهله، وآخر مُقِلٌّ إلا من
أُنْسِ سكانه ودفء أرواحهم وقرب قلوبهم لقلوبهم. وإنّ العبرة ليست في مظاهر الدنيا
وأقنعتها الجميلة، بل في حقائق القلوب ورغائبها الأصيلة، وبما أنها تنتهي غدًا برضا
رب العالمين أو سخطه؛ فعلام الغفلة عن الأمر الكبير. والكثير من المظاهر الجميلة
التي نراها في الناس تخفي تحتها بؤسًا لا يطاق، ولكن الناس يخفون الأسى ويظهرون
السعادة، فاحمد الله كثيرًا على العافية.
ولا عارَ إن
زالتْ عن الحُرِّ نعمةٌ ... ولكنَّ عارًا أن يزول التجمُّلُ
ومن نعيمك غير المنظور: أنّ الله قد
عزّ ماء وجهك فلم يُهرق للئيم، فما قطع عنق كريم كحاجته عند من لا يكرم وفادة سُؤْلِهِ.
وعلى سبيل الراحة؛ تجرّعِ القناعة.
لا تَحرَصَنْ
فالحِرْصُ ليسَ بِزَائدٍ ... في الرزق بل يُشقي الحريصَ ويُتعِبُ
ولقد اختصّ الله عز وجل بعض عبادة
بخصلة جميلة نفيسة نادرة، وهي أنّهم يرون أفضل ما في الناس، ويعاملونهم بحسَب ذلك.
فكن لطيفًا بشوشًا دمثًا، ولا بأس ببعض مزاح يزيل ثِقَلَ التكلّف وزَمَانَةَ
الجِديّة، لكن لا يكن ديدنًا ولا مؤذيًا، والفكاهةُ في غير أوانها ضربٌ من
الحماقة.
إذا لم يكن صفوُ
الوِدَادِ طبيعةً ... فلا خيرَ في ودٍّ
يجيء تكلُّفَا
والأخلاقُ – فاعلمن- جزءٌ كبير من
المنهج النبوي، ومن قصّرَ فيها؛ ففيه نقص من تلك الجهة بقدر نقصه، فليستعن بالله
في هدايته لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو. فكن – وفقك الله –دمثَ الأخلاق،
رقيقَ الحاشية، سهلَ العريكة، بهيَّ الابتسام، طلْقَ المُحيَّا، ليِّن الخطاب، وقد
قالت العرْبَاء: من لانت كلمتُه وجبت محبتُه، وما تَشاتمَ اثنانِ إلا غَلَبَ
ألأَمَهُما.
وكُن كما أنت على سجيّتك وطبيعتك
وعفويتك بلا تكلّف، وعش سهلًا حنونًا فهي سنّة نبينا ﷺ، أمّا تصنّعُ الرزانة في
العلاقة بالناس الأقربين؛ فحقيقتُه وضعُ جدران عالية بين المُترَزِّنِ وبينهم بقدر
ذلك التصنّع النّكِد، وليس المقصود إخلال المروءة بل دفع التعالي، وخيرُ الأمور
أوساطُها. ولا تدّعي زيادة علمٍ أو تقى أو ذكاء أو مال، وإيّاك وتصنّع المثالية.
وروّح عن نفسك حينًا، وقد قال معاوية لعمرو بن
العاص رضي الله عنهما: ما اللذة؟ قال: "طرحُ المروءة". وقال المأمون:
"ما بقيت لي لذّةٌ إلا وجودُ أخٍ أضعُ بيني وبينه مؤنة التحفّظ". وقال
مالك بن دينار: "أثقلُ إخواني عليّ من يتكلّف لي وأتحفّظ منه، وأخفّهم على
قلبي من أكون معه كما أكون لوحدي". وقال الشافعي: "ليس بأخيك من احتجت
إلى مداراته". وﺳُﺌِﻞَ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﻫﻞ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﻳﻀﺤﻜﻮﻥ؟ ﻗﺎﻝ:
"ﻧﻌﻢ، ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥُ في ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﺜﻞ الجبال". وقال بكر بن عبد الله: "كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون، حتى يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت
الحقائق؛ كانوا هم الرجال".
جماع ذلك؛ كن كما أنت بلا تكلّف ولا
تصنّع، أرسل نفسك على سجيّتها وكن بطبيعتك، ولا تدّعي لنفسك إيمانًا أزكى، ولا
صدرًا أصفى، ولا ذكاءً أحدّ، ولا علمًا أغزر، ولا مالًا أكثر، ولا مقامًا ليس لك.
فأول درجةٍ في سلم الراحة أن تكشف نفسك
كما هي، فلا تُعليها ولا تُدنيها إلا تواضعًا، وليس الإزراء بأشدّ من الاستعلاء،
ومن تواضع لله رفعه. وليس معنى ذلك أن تسوطها بسياط الكبت والهضم لما لها فيه سبب
فلاح ولطيفةُ فرحٍ، فنفسك أسيرتُك فارحمها رحمك الرحمن، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
4- الصدق:
الراضي بربه تعالى يهفو لبلوغ مرتبة
الصدّيقية التي تلي النبوة وتعلو الشهادة، يقول الصدق ولو قتله الصدق، يطابق باطنه
ما ظهر من قوله وعمله، مؤمن بربه تعالى مصدّق لرسوله صلى الله عليه وسلم.
هو غير محتاج لكذب يذبُّ به عن نفسه أو يهجم به
على ما ليس له، فهو يدور مع قدر الله مسلّمًا قياد فؤاده لمن بيده مقاليد الأمور،
يدافع القدر بالقدر مع التسليم في الأمرين للقادر سبحانه، يحرث عمره بإخلاص ويبني
حياته بصدق ويقبل على آخرته بيقين، يقول الصدق وبه يعمل، ليس من الكَذَبَة في شيء
لا ظاهرًا ولا باطنًا، ممتثلًا أمر ربه الأكرم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين).
5- الخلق
الحسن:
حسن أخلاق المؤمن نابع من رضاه بمولاه،
قد باع نفسه لربه، فهو لله وإلى الله ولا يرجو إلا الله. طابت سريرته فحسنت علانيته،
يترقى درَج حَسَنِي الأخلاق ليفوز بقرب مجلسه يوم القيامة من حبيبه وقرة عينه رسول
الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أحبِّكم إليّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم
القيامة أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إلي وأبعدَكم مني يوم القيامة الثرثارون
والمتشدّقون والمتفيهقون". قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون
والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون". (62)
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله في
تفسير حسن الخلق: "هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى".
أبُنيّ إن البرّ
أمرٌ هيّنٌ ... وجهٌ طليقٌ ولسانٌ ليّنٌ
إن من صفات الرضيِّ حسن الخطاب ولين
الكلم، فمن حسن الخطاب أنهم لما قالوا لنوح عليه السلام: (انؤمن لك واتبعك
الارذلون) ووصفوا أتباعه بذلك وبالغوا في الاستهجان؛ لم يسكت عليه السلام على
الباطل، بل وصف المستضعفين بأحسن وصف فقال بلطف: (وما أنا بطارد المؤمنين)، أما
سابّيهم فلم يسبّهم، بل أبطل الباطل بهدوء وقوة حجة وحكمة. ولما اتهموه بالضلال لم
يتهمهم بمثله تلطّفًا في الخطاب لعله أن يصل لقلوبهم فيهتدوا فيفلحوا، (قال الملا
من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال ياقوم ليس بى ضلالة ولكني رسول من رب العالمين
أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون). وقال هود عليه السلام
لمّا سفّهوه: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين). وتدبّر الشبه الكبير
في بيان عظمة قصة هود عليه السلام وقصص أولي العزم الخمسة – على القول بتحديدهم-
وقد ذكرت آية: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) في سورة الأحقاف التي ورد
فيها قول الله تعالى: (واذكر أخا عاد ) وهو هود عليه السلام.
ومن التلطف في الخطاب قوله تعالى في
سياق محاججة الرسل لمخالفيهم: (وإنا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين . قل لا
تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون). وقد أمر الله موسى وهارون عليهما السلام
بلطف الخطاب لأعتى الكفرة فرعون فقال: (فقولا له قولا لينا)، فلما حقت علية
الضلالة وانقطع أمل الهدى صاح به الكليم: (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا).
وأمرنا الله بالجدال الحسن إلا من عتى وظلم وبغى
وكابر وأصرّ (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم).
ويكفينا على الإطلاق وصية ربنا الأعز الأكرم: (وقولوا للناس حسنا). وإياك وجدال
ثلاثة: الأحمق والمستكبر والجاهل، كما
قيل: "المجادلة مع الأغبياء تُشبه قتْل بَعوضة وقفتْ على خدّك، قد تقتلها،
وقد لا تقتلها، لكن في كلتا الحالتين سينتهي بك الأمر لأنْ تصفع نفسك"!
وبالجملة؛ فالراضي بربه يجلله الخلق
الحسن والصدر الطاهر واللسان العاطر والقلب المخموم، ومن رضي عن ربه وبربه ولربه
أرضاه ربه، (ورضوان من الله أكبر)، نسأل الله الكريم من فضله العميم.
6- القناعة:
الراضي بالله قانع بما آتاه الله،
فالقناعة تدخل دخولًا أوّليًا في معاني الرضا، والمسلم القنوع مفلح حقًّا وسعيد
صدقًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه». (64) وعن
فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبى
لمن هُدي للإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع».(65)
ومهما تراكمت أموال المترفين فإنهم في
الحقيقة فقراء مالم يدركهم فضل الله بالقناعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى
غنى النفس". (66) والعَرَض هو المال.
إذا ما كنتَ ذا
قلبٍ قنوعٍ ... فأنت ومالكُ الدنيا سواءُ
وقد وعد الله المؤمنين الصالحين بأن
يملأ قلوبهم قناعة فقال سبحانه: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه
حياة طيبة) وقد فسر جمع من السلف الحياة الطيبة بالقناعة، كعلي بن أبي طالب وابن
عباس رضي الله عنهم والحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه رحمهم الله. (67)
ومن رضي بالله وقنع برزقه له واشرَأَبّ
بجدٍّ إلى معالي درجات الجنة أقرّ الله عينه في الدنيا وأسعده في الأخرى، فعن زيد
بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من
كانت الدنيا همّهُ؛ فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا
إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيّته؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه،
وأتته الدنيا وهي راغمة". (68) ومما نسب للشافعي رحمه الله:
ألا يا نفس أن
ترضي بقوتٍ ... فأنتِ عزيزة أبدًا غنية
دعي عنك المطامع
والأماني ... فكم أمنية جلبت منيّة
القناعة مال لا تضيعه النفقة، ولا
يُفقد مع مضي الزمان، ولا تناله السُّرّاق، كما قيل – ولا يصح حديثًا -:
"القناعة كنز لا يفنى ومال لا ينفد". وكما أنّ الحرص والشّره سجنٌ للقلب
وغلٌّ في اليد والعنق وقيد في الرِّجل فالقناعة حريّة من ذلك كله، فلا آسِرَ له سوى
مولاه، قال إبراهيم بن شيبان رحمه الله: "الشرف في التواضع، والعز في التقوى،
والحرية في القناعة". وقال وهب رحمه الله: "خرج الغنى والعز يجولان
فلقيا القناعة فاستقرّا".
أفادتني
القناعةُ كلَّ عزٍّ ... وهل عزٌّ أعزّ من القناعة
فصيِّرْها لنفسك
رأس مالٍ ... وصيِّرها مع التقوى بضاعة
وإن القناعة – فاعلم – هي أولى درجات
الرضا، فلا رضا بدون قناعة بما يُرضى به، قال أبو سليمان الداراني رحمه الله:
"الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا". وقال ابن عطاء رحمه الله:
"القناعة في الرزق والرضا بالقضاء". وقال سهل (69): "حرث الدنيا
القناعة، وحرث الآخرة الرضا". وروي (70) أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه:
"لأنتم أغنى من الملوك". قالوا: كيف يا روح الله ولسنا نملك شيئًا؟ قال:
"أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم".
إن كان لا
يُغنيك ما يكفيكا ... فكلُّ ما في الأرض لا يُغنيكا
والقناعة لا بد لها من كَيْس حتى لا
تنحرف بصاحبها ذات اليمين بتفريط أو الشمال بإفراط، قال ابن القيم رحمه الله:
"إذا انحرفتَ عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكَلَبٍ، وإما إلى خسة ومهانة
وإضاعة". (71)
والعاقل بين الناس هو القنوع، قال الرازي
رحمه الله: "النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته على كل أحد كثيرة، فإن الخلق
والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل، غاية ما في الباب أن حال
الناس في الإتراف متقارب، فيقال في حق البعض بالنسبة إلى بعض: إنه في ضر، ولو حمل
نفسه على القناعة لكان أغنى الأغنياء. وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها
مفتقرة إلى مسكن تأوي إليه، ولباس الحرّ والبرد، وما يسد جوعه من المأكول
والمشروب، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شحُّ النفس.
ثم إن أحدًا لا يُغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو
اكتراء، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات، لا تفقد مُدَّخَلًا أو مغارة. وأما
اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد، كلما تمزق منه
موضع يرقعه من أي شيء كان.
بقي أمر المأكول والمشروب، فإذا نظر
الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء، غير أن طلب
الغنى يورث الفقر؛ فيريد الإنسان بيتًا مزخرفًا، ولباسًا فاخرًا، ومأكولًا طيبًا،
وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق. وطلب الغنى يورث
فقره، وارتياد الارتفاع يحط قدره، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره.
على أننا نقول في قوله تعالى: {إنهم كَانُوا
قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} لا شك أن أهل القبور لمّا فقدوا الأيدي الباطشة،
والأعين الباصرة، وبانت لهم الحقائق؛ علموا: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ
مُتْرَفِينَ} بالنسبة إلى تلك الحالة". (72) والترف المذموم هو ما ألهى عن الآخرة.
والقناعة راحة من نصب الغنى ومكابدة
المال وحراسة الغلات، قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرضا يثمر سرور القلب
بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل
مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة، واغتباط العبد بقسمه من ربه، وفرحه بقيام
مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسليمه له
الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره وكمال حكمته.
ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره، وتبرمه بأقضيته.
ولهذا سمى بعض العارفين الرضا: حسن الخلق مع الله. فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في
ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه، فلا يقول: ما أحوج الناس إلى مطر،
ولا يقول: هذا يوم شديد الحر أو شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء، والعيال همّ
وغمّ، ولا يسمّي شيئًا قضاه الله وقدره باسم مذموم إذا لم يذمه الله سبحانه
وتعالى، فإن هذا كله ينافي رضاه.
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "أصبحت
ومالي سرور إلا في مواقع القدر" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الفقر
والغنى مطيتان، ما أبالي أيهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى
فإن فيه البذل". (73)
ومن البحر المديد: "اعلم أن
الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد؛ فإن ذلك العبد يُعظِّم قدر من أقبلت عليه
الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظّم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة
عبيد الدنيا وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من
قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} الآية. فكل
محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تمنوا زينة قارون.
واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب
واستوطنت؛ ظهر ذلك على جوارح العبد بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله
تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين؛ فإن القلب إذا
لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع.
وقال بعض الحكماء: "القناعة هي
الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين". ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون
من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا:
إن كُنْتَ
تَسّمُو إِلى الدُّنْيا وزِينَتِهَا
... فَانْظُر إِلى مَالِك
الأَموالِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ
فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا ... وَسَخَّرَ النَّاسَ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا
ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه ... وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيهِ
المَنَايَا رَوحَةً تَرَكَت ... ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ
وَالطِّينِ" (74)
وميزان المؤمن دقيق في تدبير أمر
الدارين، فالكفة الراجحة هي دار أبد الأبد لا دار الفناء والخراب، بل إنه ليجعل
الدنيا مطيةً صالحة يرحل بها لدار الكرامة في جوار الرب الكريم سبحانه، قال تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، "أي، أطلب فيما أعطاك
الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة؛ فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما
ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي. وقوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا} اختلف فيه؛ فقال ابن عباس والجمهور: "لا تضيع عمرك في ألا تعمل
عملًا صالحًا في دنياك؛ إذ الآخرة إنما يُعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله
الصالح فيها"، فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة. وقال الحسن وقتادة:
معناه: "لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة
دنياك". فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه،
وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النَّبْوَةِ من الشدة، قاله ابن عطية.
قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن
عمر في قوله: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت
غدًا". وعن الحسن: "قدِّم الفضل، وأمسك ما يبلغ". وقال مالك:
"هو الأكل والشرب بلا سرف" وقيل: "أراد بنصيبه الكفن". فهذا
وعظ متصل، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن.
ونحو هذا قول الشاعر:
نصيبُك ممّا تجمعُ
الدهر كلّه ... رداءان تُلْوَى فيهما وحنوطُ
وقال آخر:
وهي القناعة لا
تبغي بها بدلًا ... فيها النعيمُ وفيها راحةُ البدنِ
انظر لمن ملك
الدنيا بأجمعِها ... هل راح منها بغير القطنِ والكفنِ
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول
قتادة: "ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا". ويا ما أحسن هذا!
(وأحسن كما أحسن الله إليك)، أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك". (75)
وإنّ نابتك نائبة فاذكر فضل الله عليك
ثلاثًا؛ إذ لم تكن في دينك، وكانت أهون من أختها، ورُزقت احتسابها عند الله، كما
قال عمر. وإنّ من شُكرِ النعمة؛ أن تحمدَ الله عليها وإن قلّت، مستشعرًا حرمان
غيرك منها، فإن شكوت زوجك؛ فغيرك لا زوج له، وإن أتعبك ابنُك؛ فغيرك لا ابن له،
وإن شكوت قلة مالك ودنوّ مرتبة عملك؛ فغيرك لا عمل له وقد كسرت ظهره الديون، وإن
شكوت ضَعة نسبك؛ فغيرك لا نسب له ولا يعرف حتى والديه، وإن شكوت ظلم أحد؛ فاذكر من
تقصفهم الطائرات والمدافع وهم بين قتيل وسجين ومشرد ومفقود ومفتون في دينه، وإن
شكوت كلام الناس في عرضك؛ فتذكر من تُغتصب كريمته بين يديه قهرًا، وإن شكوت ضعف
صحتك؛ فتذكر من هم على الأسرة البيضاء ممن لا يُحرّك أيّ عضوٍ، أو يتجرع الكيماوي
لدفع السرطان، أو يغسل كليتيه كل يومين، أو لا ينام لشدة الآلام، بل تذكّر من تحت
الأرض قد اخترمتهم المنون، ولقطتهم المنايا، وحيل بينهم وبين العمل للآخرة، وتذكر
ستر الله عليك وقد هُتك سترُ غيرك، وحرّيَتك في أرض الله وغيرك قد حُكم عليه بدفنِ
عمره خلف الزنازين أو تحت الأقبية. فاحمد الله الذي لا يأتي الخير إلا منه، ولا
يدفع الشر إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه نرجع ونؤوب، سبحانه
وبحمده.
واعلم أنّ الدنيا إن أقبلتْ فتنت، وإن أدبرت
وعظت، وقد قال خالقُها: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا).
وقلّما تآخى اثنان فدخلت بينهما دنيا؛ إلا فرّقت بينهما شيئًا. وتأمل كيف تمكّن
الرجيم من أبوينا بعد أن أسلما قيادهما للحرص: (فدلاهما بغرور) فكن معتدلًا
قنوعًا، لا هلعًا جزوعًا، ولتكن الدنيا في يدك لا قلبك.
تعالى الله يا
سَلْمَ بن عمروٍ ... أّذلَّ الحرصُ أعناقَ
الرجالِ
هَبِ الدنيا
تُساق إليكَ عفوًا ... أليسَ مصيرُ ذلك
للزوالِ
ولما سئل الإمام أحمد: هل يكون مع
الرجل مئة ألف دينار وهو من الزاهدين؟ فقال: "نعم، إذا كانت في يده لا في
قلبه". وإذا أردت أن تعرفَ هل الدنيا في قلبك أم لا؛ فانظر حالك مع المشتبهات
وقوعًا أو تورّعًا.
وهل بالإمكانِ اجتماعُ الطموحِ
بالقناعة؟ نعم، إن كان الطموحُ موصولًا بالدار الآخرة. وقد ذكروا أنّ النابغة
الجعدي أنشد:
بلغنا السماءَ مَجدُنا
وجُدُودُنا ... وإنّا لنَبْغِي فوقَ ذلك مَظْهَرَا
فقيل: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: الجنة،
إن شاء الله.
هذا والقناعة من أعظم روافد العفاف،
وإنّ العفاف خلق يسمو بالنفس جدًّا، ويرفعها وينزهها عن الإهانة والمذلة حتى مع
ضيق ذات اليد، ولا بدّ للعفيف من قناعةٍ تُبرِدُ لواعجَ حاجته، وتُشبع نهمة فاقته.
فصُن وجهك عن التّأكّل به فماؤه عزيز، فإن كانت لك حاجة ملحّةٌ لدى صاحبك؛ فألمحْ
إليها في الأولى، ثم صرّح في الثانية، ثم كرّر التصريح في الثالثة، فإن كانت؛ وإلا
أغلِقِ الباب للأبد، فماءُ الوجه ماءُ الروح، فسِرُّ العفاف إذن هو القناعة! ولله
أبي الحسن النعيمي إذ يقول:
إذا أظمَأَتكَ
أكُفُّ اللئامِ ... كَفتكَ القناعَةُ شِبْعًا ورِيَّا
فكُنْ رَجُلًا
رِجْلُهُ في الثَّرَى ... وهَامَةُ هِمَّتِهِ في الثُّرَيَّا
أبِيًّا
لنَائِلِ ذي ثروةٍ ... ترَاهُ بما في يَدَيه أبِيَّا
فإنّ إرَاقَةَ ماءِ الحَيَاة ... دُونَ إراقَةِ ماءِ المُحَيَّا
وقال الحسن البصري: "لا يزالُ
الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك؛ استخفوا به، وكرهوا
حديثه، وأبغضوه". قلت: تصديقُ ذلك في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي
الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دُلّني
على عملٍ إذا عملته؛ أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا
يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". (76) ذلك أنّ المال عزيزٌ
بأيدي أصحابه، ولا يهون عليهم أخذه من أيديهم، بل إنهم ليصولون دونه صيال السباع
الضواري، (وتحبون المال حبًّا جما) فكما أنّه يهمّهم ويسوقهم تحصيله، فكذلك
يؤرّقهم ويرُوقهم حفظه، فالشّح مغروز في نفوس البشر، فمن أراد مزاحمتهم عليه؛
قَلَوه وأبغضوه، إلا من سَخَتْ نفسه منهم لأمرٍ خارجٍ عن ذلك؛ كزهد أو غياثٍ أو
تحبّبٍ أو صدقة ونحو تلك الرغائب. فأقلُّ الناس أهلُ القناعة، وأقلُّ قليلِهم أهلُ
الزَّهادة.
واعلم – حفظ الله قلبك -أنّ فتنة
النساء أشدُّ من فتنة المال عند بعضهم، والعكس صحيح لدى آخرين، وكلّ امرئ قد
رُكِّبَ فيه ضعفٌ وميل بحُكم بشريّته، فيستحكمُ في جهةٍ دون الأخرى، وقد حذّر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمّته من الفتنتين، فقال في شأن النساء: «ما تركتُ
بعدي فتنةً هي أضرّ على الرجال من النساء». (77) وقال في فتنةِ المال: «لكلِّ
أمة فتنة، وفتنةُ أمتي المال». (78)
فلدى بعض الناس ميل غريزي للنساء أكثر
بكثير من ميله لجمع المال، ولدى آخرين طمعٌ وجشع وشُحٌّ وهلع للمال مع زهده في أمر
النساء، والشيطانُ يشمُّ قلبَ عدوّه وابنِ عدوه آدم، فحيثما وجد ضعفًا ولج منه،
سواء من هذين البابين أو من سواهما كحب الرئاسة أو محبة الظلم أو غير لك. وقد
جمعهما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ
الدنيا حلوةٌ خَضِرةٌ (79) وإنّ الله مستخلفُكُم فيها، فناظرٌ كيف تعملون،
فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء، فإنّ أول فتنة بني إسرائيل في النساء». (80)
ففتنةُ المال من أوّليات فتنة الدنيا للعالمين.
وإنّ لك – يا صاحبي- ثوب إيمانٍ ناصع
البياض فلا تلوّثه بسواد الخطايا، والعفافُ نَزْهٌ ناصع شديد الصفاء، فنقطة فجور
تفسد أرطالًا من الفضيلة، وخطوُةُ خيانة تلوّثُ أميالًا من العفاف. فأسأل ربك
العفاف في أمرك كله، ومن الأدعية المأثورة: "اللهم إني أسألك الهدى،
والتقى، والعفاف، والغنى". (81) ومنها: "اللهم اكفني بحلالك عن
حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك". (82) فألحّ على ربك أن يحفظك بالعفاف في
شأنك كله. ووطن نفسك القناعة تكن - بإذن الله - من المفلحين. (83)
7- الصبر:
طبع الراضي الصبر لأنه مستسلم للقضاء
حلوه ومرّه، فلا جزع ولا اعتراض بل صبر وتسليم، فإن ضعف الصبر في صدرك فراجع مساقي
الرضا في قلبك، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. والإنسان ضعيف بطبعه، قليلُ الحيلة، واهنُ الصبر إلا من صبّره الله، فإن
ساعد على ذلك لا مبالاة بعاقبة التساهل بكبح النفس الغضوب أو الشهوانية أو
العابثة؛ أفضى به ذلك إلى التلف.. أو كاد.
فواعجبًا لذلك المخلوق الصغير، ينكسر لأدنى سبب،
ويضعف لأول امتحان، ويفرح ويغضب ويروح ويجيء لأتفه شيء.. ألا ما أضعفك يا أيها
الإنسان.
سأصبرُ حتّى
يعجزَ الصبرُ عن صبري ... وأصبرُ حتى يحكم
اللهُ في أمري
سأصبرُ حتى يعلم
الصبرُ أنّني ... صبرتُ على شيء أمرّ من
الجمرِ
أي أُخيّ؛ اصبر وارض واحمد واشكر،
وافعل الصواب ولو كنت لوحدك، واجتنب الباطل ولو رأيت عليه الأكابر. فالأُمّةُ هو
من كان على الحقِّ ولو كان لوحده كما كان خليل الرحمن، وخذ الأمر بتفاؤل لا بقنوط،
وبقوّة لا بلعب، وبجدٍّ لا بهزل، ولا تكن من (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) ولا
تتعلق ولا ترجُ ولا تخف إلا الله جل جلاله. واعلم أن تكرار لا حول ولا قوة إلا
بالله له الأثر النافع جدّا في قوة الروح والنفس والبدن والإيمان.
قد هيأوك لأمرٍ
لو فطنتَ له ... فاربَأ بنفسك أنْ ترعى مع
الهَمَلِ
واعلم أنهم يُجيعون ويُطعم الله،
ويحبسون ويفرّج الله، ويَنسون ويذكُرُ الله، ويخذلون ويكفي الله، ويعادُون وينصر
الله، إنه الله وكفى بالله وكيلًا. فلا تحنِ رأسك لغير خالقك، ولا تذلّ رقبتك لغير
مولاك، فهو الكفاية والهدى والغنى والحفظ والنصر، والله تعالى لا يخلف ميعاده: (ثم
صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين . لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه
ذكركم أفلا تعقلون).
والمؤمن الصالح مهما كِيدَ من مخلوق؛
فهو موقن بأن هناك من يستطيع حمايته وهو متعلّق بكلّيّته عليه، مستعين به، قريبٌ
منه، وعلى قدر القرب يكون الأمن، وعلى قدر إحسان العبادة يكون تحقيق معية الحفظ
والتمكين، فالقريب من الله قريب من عونه ونصره وهداه: (أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون).
وكُلُّ
الحادِثاتِ وإنْ تَناهَتْ … فَمَقْرُونٌ بها الفَرَجُ القَرِيبُ
ويا صاحبي: أَطِبْ معدنَك بالذكر والإيمان،
وليكن قلبك ذاك الراضي بربه الشاكر لنعمه الصابر على ابتلائه المستغفر لذنبه. كن
كذلك دومًا فلا ضَيْعَة لمن كان مع الله.
وتأمل حال يوسف عليه السلام، فقد بركت
على كاهله خمسُ محنٍ شداد فاجتازهن عليه السلام بيقين وثبات وإحسان: الجُبُّ،
والمراودة، والسجن، ونعيم السلطة، ولذّة الانتقام. لقد مرّت كلّ عواصفها الشديدة
الهائلة بجبل إيمانه؛ فثبت ورسخ. فخلّد الله تعالى ثباته في سورته، فسورةُ يوسف هي
سورة الثبات. والمؤمن مأمور بأخذ أسباب الثبات على
دين الله تعالى، فيشدُّ ما وهى من أعمدة بنيانه، ويبنى ما انهدّ من متين جدرانه،
ويحرس أرجاء بيضةِ دينه رأسِ ماله.
وقد يبتلي الله عبده ليرفَعه وليرحم به
غيرَه في قابل أيّامه. فانظر كيف قدّر الله تعالى أن يُباع يوسف وتتوالى ماجريات
بلاءاته ليكون -بإذن الله ربه -سببًا في دفع مجاعةٍ عامّة مميتة، تتابعت سبعةُ
أعوام في مصر وما حولها. وحقًّا: إذا أراد الله أمرًا هيّأ له أسبابه.
والقدر سرّ الله تعالى في خلقه،
ومسالكه في غاية الدقة والإحكام والغموض والخفاء، وبعضها مرتبط برقاب بعض بشكل
مدهش هائل عجيب، وأنّى لبشر أن يدرك ذلك، لأنها غيوب كتبها وقدّرها العليم الحكيم.
فلولا أن الله تعالى قدّر على يوسف عليه السلام أن يُلقى في البئر؛ ما دخل بيت
العزيز في مصر، ولولا أنه قدّر له أن يدخل السجن؛ ما قابل ساقي الملك، ولولا أنّه
قدّر للملك أن يرى الرؤيا العجيبة ما انتهى يوسف عليه السلام لأعظم وزارات مصر
فيكون هو عزيز مصر، ثم رحيل آله لمصر وسكناهم إياها. إنها القصة المذهلة التي
ابتدأت بحُلْم وانتهت بتحقيقه بعد معاناة أربعين سنة، (84) فهي سورة الفرج بعد
الشدة لمن أحسن بالله ظنًّا وسورة الثبات على دين الله عند أعتى الملمّات. فتأمل
ما في تلك القصة العجيبة من أمور بدت لأول وهلةً مصيبة لكنها قد استبطنت فواتح
الفرج ونعيم السرور.
ولمّا وصل الكربُ بيعقوب منتهاه؛
عَلِمَ أن الفرج قريب. وتأمّلْ حاله حينما فقد ابنه الثاني فابتهل إلى الله وشكا
إليه حاله وأحسَنَ به الظن ثم قال: (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا
تيأسوا من روح الله). فابتدأ بالأمل في رجوع يوسف الغائب منذ أربعين سنة حتى
ذَكَرَهُ قبل أخيه الغائب منذ أيام. وتأمل كيف تنسّم روح الفرج فقال: (عسى الله أن
يأتيني بهم جميعًا) ألا ما أجمل قلوبهم. لذلك: فالمصائب إذا توالت تولّت. وإذا
أظلم ليل الابتلاء فقد اقترب فجر الفرج، فمن نار الألم يشرق الأمل، ومن ليل الهموم
ينشق ضياء الفرح، فيا مثقًلا بأحزانه.. أفِقْ فحزن الدنيا لا يستحق!
ثم تدبّر قوله الأعز الأجل في خبر
كليمه وما دبّره الحكيم سبحانه بأقداره المترابطة المتتابعة: (ثم جئت على قدر يا
موسى).
إذا اشتملتْ على
اليأس القلوبُ ... وضاقَ لما بِهِ الصَّدرُ الرحيبُ
وأوطأتِ
المكارهُ واطمأنّت ... وأرْسَتْ في أماكنها الخطوبُ
ولم تَرَ
لانكشاف الضُّرِّ وجهًا ... ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ
منك غوثٌ ... يَمُنُّ به اللطيفُ المستجيبُ
ولك أن تعلم أن ثابت البُناني رحمه
الله تعالى قد احتاج لمجاهدةِ نفسه على قيام الليل عشرين سنة حتى وصل بها لشاطئ
النفس المطمئنة، قال: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، ثم تلذذتُ به
عشرين أخرى". فالطريق طويل لكنه مفضٍ برحمة الله إلى نعيمٍ في الدنيا ونعيمٍ
في الآخرة، لذا فلا عجب أن ذكر الله الصبرَ في القرآن أكثر من تسعين مرة، فلا خير
في الدنيا والأخرى إلا بصبر، وقال الحبيب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: "ومن
يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله. وما أُعطي أحدٌ
عطاء خيرًا وأوسع من الصبر".(85)
ولا يمنع جميلُ الصبر من إسبال عبراتِ
الرحمة ونفثِ زفرات الوفاء، لكنه يعلم أنّ في الله خَلَفٌ عن كل مفقود، وأن الجنة
ميعاد المحبين المؤمنين.
وَهَوَّنَ ما
أَلقَى من الوَجدِ أنَّنِي ... أُسَاكِنُه في داره اليومَ أوغَدًا
فحينها تهشُّ نفسُه، ويهدأُ جأشُه، ويعظم
رضاه وحمده وشكره، فنِعمَت السلوى جزاء الصابرين الراضين الحامدين الشاكرين، ولَنِعمَ
العزاءُ الجنة، (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب أنه كان وعده مأتيا. لا
يسمعون فيها لغوا الا سلاما ولهم وزقهم فيها بكرة وعشيا. تلك الجنة التي نورث من
عبادنا من كان تقيا).
أكرِمْ بجنّات
النعيم وأهلِها ... إخوانُ صدقٍ أيّما إخوانِ
جيرانُ ربِّ
العالمين وحزبُهُ ... أكرِمْ بهم في صفوةِ الجيرانِ
هم يسمعون
كلامَهُ ويرونَهُ ... والمُقلتان إليه ناظرتانِ
وعلى كثرة مفرادات الألم والبؤس والشدة
إلا كلمة "الوداع" لها وقعٌ مُمِيتٌ للفؤاد، ولا يُحيِيهِ سوى معاني:
الحمد لله على كل حال.
ودّعتُهُ وبودّي
لو يُودّعُني ... طيبُ الحياة وأني لا
أودّعُهُ
ولولا انتظار موعودِ رب العالمين بلقيا الأحباب
في دار الكرامة؛ لتقطّعت نفوسُ المُحبين من حسرات الفراق!
عزائي نبيُّ
اللهِ من كل ميِّتٍ ... وحسبي ثوابُ الله
من كلِّ هالك
إذا ما لقيتُ
اللهَ عنّي راضيًا ... فإنّ سرورَ النفسِ
فيما هنالك
واهِمٌ مَنْ ظَنَّ أنّ الموت هو
الفراق، فالفراق ليس هنا بل هناك: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال قتادة:
"فُرقة لا اجتماع بعدها". اللهم رضاك والجنة ولقيا الأحبة محمدًا وحزبه.
وفي وداع البارودي لأمه رحمهما الله وقد جاءه خبرها وهو في منفاه في سرنديب
(سيرلانكا):
فوالله لا
أنساكِ ما ذرّ شارقٌ ... وما حنّ طيرٌ بالأراكِ مُهينِمَا
عليكِ سلامٌ لا
لقاءَةَ بعده ... إلى الحشر إذْ يلقى الأخيرُ المُقدَّمَا
وليس كلّ من ظنّ بنفسه الصبر والرضا
وقت السعة والرخاء يكون كذلك وقت الضيق والشدة، فالنيّة قُلّبٌ، والعزائم تنفسخ،
والعقل يعزُب، والعزيمة تخور، والنفس تضعف، إن لم يكن الله تعالى معه بلطفه وحفظه.
فاستودِعْ نفسَك ومن تحبّ من لا تضيع لديه الودائع، وذلك الله وحده.
والعلم أنّ الله تعالى لمّا بثّ
الخلائق اختار لك هذا الزمان وهذا المكان ليكونا محل الابتلاء الإلهي لك، فكن خيرَ
ذاكرِ صابر حامد شاكر تائب مستغفر. واعلم أنّ للمؤمن بحرٌ لا تكدره مصائب الزمان،
إنه بحر الرضا بالله تعالى، فاغمِسْ كلَّ همّ لك في بحر الرضا بالله، حينها تنطفئ
نيران المصيبة ببرد السلام. فليس مرادُهُ أن يُعذِّب، ولكن يَبتلي ليُهَذّب.
دعِ المقاديرَ
تجري في أعَنّتِها ... ولا تبيتنّ إلا خالي البالِ
ما بين غمضةِ
عينٍ وانتباهتها ... يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
واعلم أنّ قدرَك إنْ لم تذهب إليه؛ جاء إليك.
فكن لله، وبالله، ومع الله، وإلى الله؛ فهو الغاية وما سواه هباء، وهو الباقي وما
سواه فناء، وهو الحقُّ وما سواهُ باطل، قال سبحانه: (وأن إلى ربك المنتهى) وقال:
(وأن إلى ربك الرجعى) فمهما سلكتَ من دروب الحياة خيرًا أو شرًّا، سرورًا أو حزنًا،
صحة أو سقمًا، شوقًا أو خوفًا؛ فإليه وحدهُ المنتهى. قال بعض
الحكماء: "الدنيا بحر، والمركب التقوى، والآخرة الساحل".
واحمد الله تعالى واشكره كثيرًا على أن
فضّلك على غيرك تفضيلًا بالعلم به والفرح به والأنس به في وقتٍ ترى فيه من يفرّ من
الله حال شدته وكربته، فلا يفزع للصلاة والدعاء، بل لسفر أو لهو أو مسكر، أما أنت
فاختصك بسفرك إليه بذكره ودعائه فهو مفزع الهاربين، ومأوى الشاردين، ومهوى
المشمرين، وقبلة القاصدين، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ولا تقل ليس معي أحد إذا
كان معك الأحد الفرد الصمد، ومن لذائذ النفوس الاكتفاء برب البرايا والنفوس.
وأنفعُ طعام للقلب هو جرعةٌ من الاكتفاء بالله تعالى.
أصبرْ على مضضِ
الإدلاجِ بالسَّحرِ ... وبالرَّواحِ على الحاجات والبُكَرِ
إنّي رأيتُ وفي
الأيامِ تجربة ... للصبرِ عاقبةٌ محمودةُ الأثرِ
وقَلّ مَنْ جَدّ
في أمرٍ يُطالبه ... واستصحب الصبرَ إلا فازَ بالظّفَرِ
قال الجنيد رحمه الله: "ما طلب
أحدٌ شيئًا بجدّ وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كلّه نال بعضه". وقيل للبخاري:
بم أدركت العلم؟ فقال: "بالمصباحِ، والجلوسِ إلى الصباح". وللموصلي:
عِندَ
الصَّبَاحِ يَحمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ... وتَنجَلِي عَنهُم غَيَابَاتُ الْكَرَى
قال شيخ الإسلام: "الناس عند
مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالمٌ يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدر حقّه، ومحسنٌ
يعفو ويترك حقّه". وصدق الفضل بن يحيى حينما قال: "الصبرُ على أخٍ تعتب
عليه، خيرٌ من صديقٍ تستأنفُ مودّته". وفي قول تعالى في وصف أهل الإيمان:
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون) دليلٌ على أن الانتقام يقبحُ من الكرام. ورُبَّ عفوٍ
أشدُّ من انتقامٍ. وقال النخعي في قول الله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم
ينتصرون): "كانوا يكرهون أن يُستذلّوا، فإذا قدروا عفوا".
ودومًا؛ تذكّر الأجمل، واستعدّ للأسوأ،
وتفاءل بالأفضل. واعلم أنّ الذكاء نعمةٌ إذا أوصل صاحبه لمسالك حسن الظن، والعكس
صحيح، إذ مسارب العقل لا نهاية لها، فهي ساشعة مدهشة، وهنيئُا لمن هداه الله
سبيله.. ويالك من مستودعٍ للعجائب أيها الإنسان.
يميلون في شقِّ
الوفاءِ مع الرَّدى ... إذا كان محبوب البقاء مع الغدرِ
واجعل بينك وبين المحرمات حاجزًا مِنْ
ترك المكروهات حِمىً لورعك وحفظًا لأمانتك، قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى:
"أعمالُ البِرِّ يُطيقها البرُّ والفاجرُ، ولكن لا يصبر عن المعاصي إلا
صدِّيق". وقال الحجاج بن يوسف: "الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على
عذابه". والقاعدة المضطردة التي لم ولن تنخرم: من ترك شيئًا لله عوضه الله
خيرًا منه. وتأمل عَقْرَ سليمان عليه السلام خيله غضبًا لله إذ ألهته عن صلاة
العصر؛ فعوّضه الشكور الحميد عنها بالريح: (تجري بأمره رخاء حيث أصاب).
والراضي عن ربه ساخط للمعصية محتسب
عليها، فكُن آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فجمالُ العلم والعبادة الأمرُ بتقوى
الله تعالى. وكن مبتدئًا بنفسك، مستنًّا بنبيك صلى الله عليه وسلم، وعليك بالعلم
قبل الإنكار، وبالحلم والرفق أثناءه، وبالصبر بعده، فمن أنكرَ فإنه سيؤذَى في
الله، فهي سبيل المرسلين وأتباعهم الصادقين، لهذا أمر بالله بالصبر في هذا الموطن:
(وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) فكن
–رعاك الله –من البقيّة السابقين البررة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا
بقية ينهون ع الفساد في الأرض).
وقد كانوا إذا
عُدُّوا قليلًا ... فقد صاروا أقلّ من القليلِ
وتزدادُ أهمية الدعوة إلى سبيل الله
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم عند انتشار الفساد وتفشي الغفلات
وغلبة المنكرات. وإنّ الناهي عن المنكر دافعه أمران: براءةُ ذمته، ورحمتُه بالناس،
(قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون). قال العثيمين رحمه الله: "كلّما أضيعت
السنّة؛ كان فعلها ونشرها بين الناس أوكد؛ لئلّا تُترك وتموت". وقال ابن
القيم رحمه الله: "وأيُّ دينٍ وأيّ خيرٍ فيمن يرى محارمَ الله تُنتهك،
وحدودُه تُضاع، ودينُه يُترك، وسنُّة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها،
وهو باردُ القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أنّ المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم؛ فلا مبالاة
بما جرى على الدين، وخيارُهم المتحزِّنُ المتلمِّظُ، ولو نُوزع في بعض ما فيه
غضاضة عليه في جاهه أو ماله؛ بَذَلَ وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار
الثلاثة بحسْب وسعه! وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في
الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون؛ وهي موت القلوب، فإنّ القلب كلّما كانت
حياته أتمّ؛ كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل". (86) وقال ابن
الجوزي رحمه الله: "يا من هو من عسكرِ الرسول، أيحسنُ بك كلَّ يوم هزيمة! فيا
أقدام الصبر احملي، فقد بقي القليل". وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: أين
تجد الراحة؟ فقال: "في سجدة بعد غفلة، وتوبة بعد ذنب"، وصدق رحمه الله
تعالى، فمن سَجَدَ وَجَدَ.
واعلم أنّ جزاءَ الصبرِ الخالصِ الجنةُ
الخالصةُ: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) وكما قيل: العملُ للدين قرينُ
الانتماء إليه. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أغبط أحدًا لم يصبه في
هذا الأمر بلاء". (87) أي أمرِ العمل في سبيل رضوان الله تعالى.
يهونُ علينا أن
تُصابَ جُسُومنا ... وتسلم أعراضٌ لنا وعقولُ
وكن عند اشتداد
الخصومات واجتماع أسباب الشرور كالنبهاني إذ يقول:
فَما ليَّنَتْ
مِنَّا قَناةً صَليبَةً ... ولا ذَلَّلتنا للتي ليسَ تَجْمُلُ
ولكن
رَحَلْناهَا نُفُوسًا كَرِيمَةً ... تُحَمَّلُ مالا يُستَطاعُ فتَحمِلُ
وقَينا بِحُسنِ
الصبر منا نُفُوسَنَا ... فَصَحَّتْ لنا الأعرَاضُ والنّاسُ هُزَّل
فعليك – أخا الإيمان - بالصبر
والمصابرة والمرابطة في ذات الله، فاصبر وتصبّر وصبِّر، واهتف لنفسك وإخوتك بقول
ربكم: (واصبر وما صبرك إلا بالله) وقوله: (وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا)
وقوله: (وبشر الصابرين) وتدبر سورة العصر، فالإسلام دين الصابرين. وأرِ اللهَ
تعالى منك ما يُرضيه؛ حتى يعطيك ما يرضيك. فأيُّ دينٍ كهذا الكمال والجمال، وأيّ
مستودعٍ للصبر والأمل كهذا سعة وعظمة وسموًّا.
وأسعدُ الناسِ
مَنْ يحيا على أملٍ ... وأتعسُ الناسِ مَيَّالٌ إلى الألمِ
وليس كلّ صبرٍ مستحقٌّ للثواب، فالصبر على
الطاعة وعن العصيان وعلى البلوى مفتقرٌ إلى إخلاصه لوجه الله تعالى، قال سبحانه:
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم).
وخلِّ
الهُويَنَى للضعيفِ ولا تكنْ ... نؤومًا فإِنّ الحُرَّ ليس بنائمِ
8- التوازن:
الراضي بربه متّزن العقل، متوازن
النظر، لا يعطي أمرًا فوق حجمه ولا ينقصه عن قدره، قدر رفع الآخرة إذ رفعها الله تعالى،
ووضع الدنيا حيث وضعها الله. قد فتح الله بصيرته فرأى بعيني قلبه حقيقة الدنيا
فزهد فيها زهادة أهل القبور، فجعلها معبرًا وممرّا وزادًا لرحلته للدار الآخرة
ومستمتعًا بالخير إلى حين.
والراضي بربه يعلم أنّ من أجلّ المهمات لبصيرته
وعمله وحكمته ومصيره: الحاجةُ الملحّة للتوازن في النظر للأمور وتقدير أحجامها
المعنويّة بلا وكسٍ ولا شطط. وسيّدة قواعد التوازن هي أن الذي يستحق أن تقلق لأجله
هو الآخرة؛ درجاتها ودركاتها، أما الدنيا فمفروغ منها، رزقك وعمرك.
فالعابد الناسك لا يترهّب ولا يتبتل،
كما أنه لا ينشغل بالدنيا عن الدين ولا يغفل عن زاد التقوى، بل يحرث الأرض
بالإحسان كما أمره ربه، فيعمل لآخرته ولا ينسى نصيبه من الدنيا. قال ابن الجوزي
رحمه الله: "رأيت سبب الهموم والغموم؛ الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على
الدنيا. وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.
فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح؛
لأنه يستغني بالرضا بالقضاء، فمهما قدّر له رضي. وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم
يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبَّر فتكون همته في عبادة الخالق.
ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق
ولا الالتذاذ بالشهوات. لأنه إما أن يكون مقصرًا في المعرفة فهو مقبل على التعبد
المحض، يزهد في الفاني لينال الباقي. وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول
عن الكل بصاحب الكل. (88)
فتراه متأدبًا في الخلوة به، مستأنسًا
بمناجاته، مستوحشًا من مخالطة خلقه، راضيًا بما يقدّر له. فعيشه معه كعيش محب قد
خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره. فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا
يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبدًا
في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له
فإنه لا حول ولا قوة إلا به". (89)
ومن مسائل التوازن لطالب العلم: تقديرُ
العالم وإجلالُه، فقد جفا عن حقّه وجلاله أقوام -وبخاصة حدثاء الأسنان – وجعلوا
كلمته ورأيه وفتواه كفتوى آحادهم التي تلقفوها من الكتب مباشرة أو من فهومهم
القاصرة أو من شبكاتٍ مجهولة سائرة، وغفلوا عن كبار أمورٍ لا تُدرَكُ إلا بعد
النضج العلمي الطويل، وسهَوا عن مرتبة إجلال حَمَلَةِ الشريعة وتعظيم العلم الذي
في صدورهم. فإن المعلومة التي يتأمّلها الإنسان أربعين سنة ويسقيها عصارة
تجاربه ويُمِرّ عليها دلائل الوحي ليست كالتي تنطبع في ذهن غيره في ساعات، فيضمحل
صفوُها لكَدَرِ ثاني الحال.
ومن مهمات مسائل التوازن العقلي
للمؤمن: الانتباه لتلبيسات إبليس في الأوامر والمناهي الإلهية، فإن الشيطان الغادر
قد يَلْبَسُ جُبّة الشيخ الناصح، وما بالك بمن عُمُرُه أطول من عمر البشرية كلها،
وتجاربه مع بني آدم لا تُحصى، فهو خبيرٌ نفسي، وعدوٌّ ماكر، ومُخالطٌ غادر، نافثٌ
خَطَرات، ومُزيّنٌ شهوات.
والموفق من عصمه الله من كيده وإغوائه، وكان
بمعزل في التقوى عن خطواته، فإنه يبدأ بالخطوة ليمشي بالمرء أميالًا، ويهوّن عليه
الأمر لينكسر حاجز المناعة ضد الخطيئة، ويوسوس للمرء بالأمر حرصًا على بلوغ غيره
وهكذا، وتأمل خَبَرَهُ مع برصيصا العابد.
وحدّثني من كان يضع صورة القائد خّطاب
رحمه الله في محفظته، حتى إذا فَتَر نظر إليها. والآخرُ علّق صورة والده المتوفّى،
فكان يُحيِّي الصورة كلما دخل المنزل، وبعد مدّة زاد مع التحية ركوعٌ. فيا سبحان
الله، حذو القذة بالقذة، وهل هلك قوم نوح ومن بعدهم إلا بذرائع الشرك في لبوس
الصلاح، فاللهم غُفْرًا. فالتصوير والنحت هو ذريعة التعظيم والعبادة، (وقالوا لا
تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثير)
فيحرُم تعليق صور ذوات الأرواح مطلقًا، ويغلظ التحريم إن كانت لذي سلطانٍ على
القلوب سواء لمحبته كالوالد، أو لعلمه كالعلماء، أو لعبادته كالصالحين، أو
لمُلْكِه كالسلاطين والملوك.
طاوَعْتُمُ
فِيهِ العَدُوَّ وكُنْتُمُ ... لو شئتمُ في معزلٍ وقرارِ
ولكنّ الشيطان بحمد الله ضعيف صغير حقير أمام
مَنْ حَفِظَ أمرَ ربِّه وتعلق به واستعاذ واعتصم، فهو مجرد أزّازٍ، يوسوس في الصدر
فيؤُز (90) الإنسان لمعصية الرحمن ولكن لا سلطان له على قلبه وعقله وإرادته
وجوارحه، إنما هو مشير سوء ومسعّر فتنة لا حول له ولا طول ولا قوة إلا بالوسوسة،
ويخنس حال ذكر الله تبارك وتعالى، فهو كما قال أبو حازم رحمه الله: "الشيطانُ
وما الشيطان! أُطيعَ فلم ينفع، وعُصيَ فلم يضرّ". وربنا جل وعلا يقول: (إن
كيد الشيطان كان ضعيفًا) وقال تعالى: (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم
وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى
فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون
من قبل إن الظالمين لهم عذاب). فهو مجرد وسواس يخنس عند ذكر الله العظيم جلّ وعزّ.
فالمؤمن يخشى الله وحده ويحذر كيد عدوّه وقد أجلى العليم عداوة الخبيث فقال
سبحانه: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فالاعتصام بحبل الله نجاة وحسن الرجاء
بفضله فلاح.
من يتـق الله يُحمـد في عواقبه ...
ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا
والراضي بربه إذا آتاه الله حظًّا من
علم وأثارة من سبيل النبي صلى الله عليه وسلم شديد العناية بفقه الأولويات
والتوازنات وقواعد المصالح والمفاسد من التقديم والتأخير والتحصيل والاحتمال
والدفع والرفع على ضوء المُحكمات الشرعيّة، فلا يمنع الرضا بالله من إعمال العقل
وإتعاب الفكر في جلب مصالح الدنيا والآخرة ودفع مضارّهما، ذلك أن الذي أمرك بالرضا
هو من أمرك بتحصيل مصالح الزَّمَانين ومدافعة بلايا الدارين، (فامشوا في مناكبها
وكلوا من رزقه)، وبالله التوفيق والعصمة والهدى والسداد.
9- القنوت:
الراضي بربه دائم العبادة بكل أنواعها
وأحوالها المستطاعة له، فهو بين عبادة مقصودة لذاتها كالذكر والتفكر والدعاء
والتلاوة والصلاة والصيام والصدقة، وبين عبادة مقصودة لغيرها كالنوم والطعام
وإجمام النفس لتنشيطها لعبادات الغايات، ودوام العبادة هو قنوت محبوب لله تعالى،
فالقنوت هو دوام القيام بوظائف العمر.
عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في
قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة} قال: "يحذر
عذاب الآخرة". (91) وقال ابن كثير رحمه الله: "قال تعالى: { أم من هو
قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه}، أي: أمّن هو هكذا كمن
ليس كذلك؟ ولهذا قال: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر
أولو الألباب }. (92) "والقانت: المطيع. وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما.
والقنوت في الكلام يقع على القراءة، وعلى طول القيام في الصلاة، وبهذا فسره ابن
عمر رضي الله عنهما. قال الفخر: قيل: إن المراد بقوله: (أمن هو قانت آناء الليل)
عثمان بن عفان لأنه كان يحي الليل، والصحيح أنها عامة في كل من اتصف بهذه الصفة،
وفي هذه الآية تنبيه على فضل قيام الليل. انتهى. وروي عن ابن عباس أنه قال: من أحبّ
أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة؛ فليره الله في سواد الليل ساجدًا وقائمًا".
(93)
قَدِّم
لِنَفسِكَ تَوبَةً مَرجُوَّةً ... قَبلَ المَماتِ وَقَبلَ حَبسِ الأَلسُنِ
بادِر بِها
عُلَقَ النُفوسِ فَإِنَّها ... ذُخرٌ
وَغُنمٌ لِلمُنيبِ المُحسِنِ
وللمؤمن وظائف في اليوم والليلة حري به
مداومتها حتى يرحل لربه تعالى راضيًا مرضيًا. فللموفق الصالح كلّ يوم وليلة أعمالٌ
صالحة ترفع للسماء، بعضها واجب وبعضها مستحب، هي درجاتٌ في مراتب الجنات، فمستقلٌّ
ومستكثر من فضل رب البريات، قد جعلها الله وظائفَ لعمر المؤمن، يزيد بها أجره
ويُقربُه بها من مرضاته وجنته.
يُدَفّنُ بعضُنا
بعضًا وتمشي ... أوائلُنا على هامِ الأوالي
وكمْ عينٍ
مقَبّلةِ النّواحي ... كحيلٍ بالجنادل والرمالِ
والمومن الموفّق يبدأ يومه بصلاة الفجر
جماعة مع المسلمين في بيت الله تعالى، فحينما تسمع الأذان انهض مباشرة واحذر من نزغات
الشيطان التي تدعوك للكسل عن الصلاة. فمن صفات المنافقين: (وإذا قاموا إلى الصلاة
قاموا كسالى). فإن بادرت للمسجد قبل الأذان فأنت من خيرِ مَن أنتَ منهم.
اذكر ربك من حين انتباهِكَ من نومك
وأسبغ وضوءك وامش إلى المسجد بسكينة ووقار، ولك بكل خطوةٍ درجةٌ وتكفيرُ خطيئة،
كما في الصحيحين.(94)
وعند دخولك المسجد قدّم رجلك اليمنى وقل:
"أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم،
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك". (95)
وهناك سنّةٌ راتبة بين الأذان والإقامة،
وهي ركعتان خفيفتان، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر
خير من الدنيا وما فيها". (96) وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعها حضرًا ولا سفرًا، وهي الرغيبة، وإذا كان هذا فضل سنة الفجر، فما بالكم بصلاة
الفجر؟! ومن السنة أن تقرأ في الركعة الأولى سورةَ الكافرون وفي الثانية قل هو الله
أحد، أو في الأولى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا..) الآية. وفي الثانية: (قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء..) الآية. ومن فاتته سنة الفجر قبل الصلاة فيشرع
أن تُقضى بعد ارتفاع الشمس وإن بعد صلاة الفجر فلا بأس.
واعلم أخي المسلم: إن لصلاة الفجر شأنًا
عظيمًا كما قال تعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودَاً)،
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى البردين دخل الجنة". (97) والبردان
هما الفجر والعصر. ومنها أن "من صلى
الفجر فهو في ذمة الله". (98)
ومن أدلة أهمية صلاة الفجر أن الصحابة كانوا
يرون أن التخلف عنها من علامات النفاق، كما قال ابن مسعود: "ولقد رأيتُنا وما
يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق". هذا؛ "ولصلاةِ
الفَجر على وجه الخصوص تأثيرٌ عجيب في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر
الصلوات.. فإن كل من له ذوق سليم وأدَّى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من
قلبه فُسحة ونورًا وراحة".(99)
أخي في الله: يشرعُ لك بعد الفجر أن تبدأ
صباحك بأذكار الصباح الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم التي تجعل قلبك يعيش في رياض
الإيمان، (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فالذكر للروح كالماء
للسمك، وقال صلى الله عليه وسلم: "مثلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل
الحي والميت". (100)
وإذا صليت الفجر فاذكر أذكار الصلاة ثم
أتبعها بأذكار الصباح ولا تقم حتى ترتفع الشمس ففيها أجر عظيم، فعن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الفجر في جماعة،
ثم قَعَدَ يذكرُ الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حَجّةٍ وعمرة تامّة
تامّة تامّة». (101)
ويا عبد الله: لا بد أن يكون لك ورد يومي
من القرآن لا يقل عن جزءٍ قدر استطاعتك، فلا تهجر كلام ربك فتدخل في شِكاية الرسول
صلى الله عليه وسلم: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا).
فليكن لك ورد لا يقطعه إلا الموت، فالأبل ترد الماء لتحيا، وكذلك القلب يردُ
القرآن ليحيا، فأحيه بالقرآن ولا تُقسّه بهجره، فأبعدُ القلوب عن الله القلبُ
القاسي.
والموفق يعتني بصلاة الضحى، وروى البخاري ومسلم عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أوصانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ
لا أدعُهُنَّ حَتَّى أَموتَ: صيامِ ثلاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُل شَهرٍ، وصَلاةِ الضُّحى،
وأن أوتر قبل أن أنام". (102) ويبدأ وقتها بعد طلوع الشمس بنحو ربع ساعة حتى
قبيل الظهر بعشر دقائق، وأقلها ركعتان، ولا حدّ لأكثرها.
فإذا أُذّن لصلاة الظهر فيستحب لك صلاة
أربع ركعات بسلامينِ قبلها لأنه وقتٌ تُفتح فيه أبواب السماء، فعن عبد الله بن
السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول
الشمس قبل الظهر، وقال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحبّ أن يصعد لي
فيها عمل صالح". (103) ثم صل الفريضة واذكر أورادها، ثم صل ركعتين بعدها، كما
جاء في الحديث: "من صلى ثنتي عشرة ركعة بنى له الله بيتاً في الجنة".
(104) وهي أربعٌ قبل الظهر، واثنتان بعده. وإن صلى بعدها أربعًا فحسن، فعن أم حبيبة رضي الله عنها، قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع
بعدها، حرّمه الله على النار". (105) ولاحظ عبارة "حافظ"
المشعرة بالديمومة قدر المستطاع. واثنتان بعد المغرب في البيت واثنتان بعد العشاء
في البيت، واثنتان قبل صلاة الفجر.
يا عبد الله، بادر وبكّر للصلاة فإنك
لا تزال في صلاة ما كنت في انتظارها، فإذا صليت فإن الملائكة تستغفر لك ما دمت في
مصلاك مالم تنصرف أو تُحدِث، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم. فلا تستعجل الخروج من
المسجد بعد الصلوات، واعمر وقتك بالذكر فأنت في رياض الجنة.
فإذا دخل وقت العصر استُحِبَّ لك صلاةُ أربع ركعات
بسلامين قبل الفريضة، قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأً صلى قبل العصر
أربعًا". (106)
وصلاة العصر جِدُ عظيمة، قال تعالى: (حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) والمراد بالوسطى هي العصر. وقال صلى
الله عليه وسلم: "مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". (107)
فإذا صليت العصر وذكرت أذكارها فلا تقم
حتى تذكر أذكار المساء، فإنك أن قمت أَنْسَتْك مشاغلُ الدنيا غنائمَ الآخرة!
والمؤمن حازمٌ فطن، (والآخرة خير وأبقى).
وتحرمُ الصلاة بعد العصر حتى غروب الشمس
مما ليس له سبب، وأما الصلوات التي لها سبب فتجوز في أوقات النهي على الراجح،
كصلاةِ الجنازة والاستخارة والطواف والوضوء وتحيةِ المسجد ونحو ذلك، فيجوز فعلُ كلِّ
ذلك حتى في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب. ولكن إذا اقترب وقت الغروب أو
الشروق أو الزوال فلا تُصلّى حتى ذواتِ الأسبابِ، وذلك لورود التشديد في النهي عن
الصلاة فيها، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "ثلاثُ ساعاتٍ نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نصلّي فيهن أو ندفن فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى
ترتفع، وحين يقومُ قائمُ الظهيرة حتى تميلَ، وحين تَضَيَّفُ الشمسُ للغروب حتى تغرب".
(108)
فإذا غربت الشمس استُحبّت ركعتان قبل
صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا قبل المغرب، صلُّوا قبل المغرب"
وقال في الثالثة: "لمن شاء". (109) وعن أنس رضي الله عنه قال:
"لقد رأيتُ كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواريَ عند المغرب".
(110) فإذا صليت المغرب فصل ركعتين والأفضلُ أن تصليَها في بيتك، قال صلى الله
عليه وسلم فيها: "هذه صلاة البيوت". (111)
وصلاة العشاء معظّمة في الإسلام، قال صلى
الله عليه وسلم: "مَن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر
في جماعة فكأنما قام الليل كله". (112) وقال صلى الله عليه وسلم: "أثقل
الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيمها لأتوهما ولو حبوًا".
(113) وبعد الفراغ من الصلاة يستحب لك صلاة ركعتين، وهي من السنن الرواتب.
واعلم أن السنن التي تسقط عن المسافر هي راتبة
الظهر والمغرب والعشاء فقط، أما ما سوى ذلك كراتبة الفجر أوالنوافل المطلقة أو
ذوات الأسباب أو صلاة الضحى أو الوضوء أو قيام الليل ونحو ذلك فهي باقية في حق
المسافر كالمقيم.
وإن من أحب الأعمال إلى الله – فاعلم -
الصلاةُ في جوف الليل، فصلاة الليل هي أفضل الصلواتِ بعد الفريضة، وصلاة الليل هي زاد
المؤمن وراحته وجَنته وجُنَته، ومن أسباب الأمن يوم القيامةِ قيامُ الليل، قال
تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ
لَيْلاً طَوِيلا . إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يومًا ثقيلًا)، وتدبر
رحمك الله قولَ اللهِ عز وجل عن المؤمنين: (تَتَجافى جُنُوبُهُم عن المضاجع يدعون ربَّهم
خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم يُنفقون (فلا تعلم نفسٌ مآ أُخفِيَ لهم من قُرَّة أَعْيُنٍ
جزآءً بما كانوا يعملون).
يا صاحبي؛ إنّ في الجنة نعيمًا ليس من
جنس نعيم الدنيا، بل هو جديدٌ بكل تفاصيله وأسمائه، وليس في الدنيا ما يعبَّرُ عنه
به حتى ولو على سبيل التقريب والتشبيه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يقول الله عز وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا
خطر على قلب بشر. اقرءوا إن شئتم: (فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفِي لهم من قُرَّةِ أعيُنٍ
جزاءً بما كانوا يعملون)". (114) فلم يخطُر ذلك النعيمُ على قلبٍ أصلًا، نسأل
الله الكريم من فضله. قال بعض السلف: "أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء،
فلو قَدِموا عليه لأقرّ تلك الأعين عنده".
وقال الله عن أهل الجنة: (كَانُوا قَلِيلَاً
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل؛
فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،
ومطردة للداء عن الجسد". (115) وتأمّل كلمة "دأب" أي
أنها من سماتهم وصفاتهم وأفعالهم المستمرة التي يدأبون عليها حتى يرحلون إلى الله
تعالى بخيرها، وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ فقال: يا محمد، عش ما
شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف
المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس". (116)
ولا تنس لا تنس لا تنس أن تذكر الله وتدعوه
في الثلث الأخير من الليل، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل
ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ
له من يسألُني فأعطيَه من يستغفرُنِي فأغفرَ له"، وفي رواية: "حتى
ينفجر الصبحُ". (117) فالغنائم أيها النائم.
ومن أراد الخير فليعمل بأسبابه ورأسها الاستعانة
بالله تعالى وتقواه، وذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا نام ليلَهُ حتى
أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أُذنيه". (118) متفق عليه،
وهذا فيمن فاته قيامُ الليل؛ فكيف بمن فاتته فريضة الفجر؟! اللهم لا تجعل مصيبتنا
في ديننا. ولما اشتكوا للحسن ضعفهم عن التهجد قال: "قيّدتكم خطاياكم".
وللسلف مع قيام الليل أخبار شريفة.
أخي في الله: إن من توفيق الله لعبده أن
يهديَه لعملٍ صالحٍ لا ينقطع بموته، فلا يزال يصعد درجات الجنة حتى بعد رحيله عن دنيا
العمل، بكلمةٍ علّمها، أو نفس أسعدها، أو جَوعة أشبعها، أو علّة داواها، أو بئرٍ حفرها،
أو جِلدٍ أدفأه، أو ظلامٍ بدّده، أو طريق عبّده، أو نفعٍ سبّله، أو مسجد بناه، ونحو
ذلك من مراضي رب العالمين، إنما المقصود مراعاة رأس المال قبل تحصيل الربح، فإن ذهبت
العبادة الخاصة فما تلاها أولى بِذَهابٍ.
وعليك ببناء علمك بالطلب فهو بداية الوصول، والتلاوةِ
فهي عطر الروح، والتدبّرِ فهو مفتاح العقل، والحفظِ فهو كنز العلم، والمراجعةِ فهي
تأكيدُ وإنماءُ الفائدة، والمُدارسةِ فهي لِقاحُ المعرفة، والعلم الذي لا يُدرس يَندرس.
وقال إبراهيم بن عبد الواحد موصيًا الضياء المقدسي لمّا أراد الرحلة للعلم: "أكثِر
مِن قراءة القرآن ولا تتركه؛ فإنه يتيسّر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ". قال
الضياء: فرأيت ذلك وجرّبته كثيرًا، فكنتُ إذا قرأتُ كثيرًا تيسّر لي من سماع الحديث
وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي.
وعليك بالدعاء فهو زاد المؤمن وقُوْتُه
وقُوَّتُه وسلاحه، وما خاب من دعا، وما ندم من ابتهل، وما خسر من تضرّع. ومِن أعظم
أسباب إجابة الدعاء: اليقين بربك، وحسن ظنك به، والثقة بلطفه، والطمأنينة لوجوده وإحاطته
وعلمه وقُربُه ورحمته. ومن وصايا طاووس بن كيسان: "إيّاك أن تطلب حوائجك ممن أغلق
دونك أبوابه، وجعل دونك حجَّابه، وعليك بمن أمرك أن تسأله، ووعدك الإجابة"،
ويكفينا قول الكريم الوهاب: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
وتدبر هذا الخبر: فعن ابن عباس، أنه قيل لعمر رضي الله عنهم: حدثنا
من شأن العسرة. فقال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا أصابنا فيه
عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل، فلا يرجع
حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل
ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا،
فادع الله لنا. قال: "أتحبُّ ذلك"؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم
يرجعهما حتى قالت السماء فأظلّت ثم سكبت، فملأوا ما معهم. ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها
جازت العسكر". (119)
ولتكن مستمتعًا دومًا بتطهير روحك برياض العبادة
وبساتين الذكر، وغسلِ قلبك بالسجود والخضوعِ والضراعة، وعينِك بالتفكر والرقائق والدموع،
وصدرِك بمحبة الخير للناس والشفقة عليهم والإحسان إليهم، وبطنِك بكثرة الصيام والصدقة
وأكلِ الحلال. وواهًا لمن جمعها.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيِّنْهُ في
قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم ارزقنا حسنَ
عبادتك آناء الليل وأطراف النهار. اللهم صل على محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
............................
1. وللسكينة
والطمأنينة كتابان مستقلّان بإذن الله تعالى.
2. بألفاظ
عند البخاري (2870) وغيره.
3. إعلام
الموقعين (4 / 201)
4. مسلم
(2699) وقد ذكر لي الشيخ محمد بن سعود الحمد فائدة شريفة استنبطها بتوفيق الله من
هذا الحديث الرباني الجليل: قال: "وأرجو أن يكون من ألّف كتابًا فيه ذكرٌ لله
تعالى أن يكون ممن وُعدوا بذكر الله تعالى لهم في الملأ الأعلى، لأن الملأ الذي
ذكر العبد ربه عندهم قد يكونون حضورًا شهودًا لديه في مجلسه فيسمعونه، وقد يكونون
متفرقين في الأمصار يشهدون ذكره لربه في كتابه". وقد أصاب في هذا الاستنباط
الشريف بإذن الله تعالى، فإن القلم أحد اللسانين، ويتبع ذلك كل مكتوب برسالة ورقية
أو إلكترونية أو في وسائل التواصل الاجتماعي وكل ما كان بهذه المثابة، والله تعالى
أعلم.
5. المرْبدَ
والبيدر: الموضع الذي يوُضع فيه التمر حين يُصْرَم ليجف، وهو من رَبَدَه: إذا
حبسه، ومنه مِرْبد الأبل، وقيل مِرْبدَ البصرة لأنهم كانوا يحبسون فيه الإبل. ومنه
حديث أنس في الصحيحين لمّا ذهب بأخ له ليحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده
في مربده يسِمُ شاة في أذنها. وقيل: المربد للتمر والبيدر للحنطة. وانظر: الفائق
في غريب الحديث و الأثر (1 / 166) وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (3 / 354) وحسن
سنده ابن كثير في تاريخه (6/ 95)عن ابن المسيب عن أبى لبابة بن عبد المنذر
الأنصارى قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: «اللهم
اسقنا اللهم اسقنا». فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد،
قال: وما في السماء سحاب نراه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم
اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانًا يسد ثعلب مربده بإزاره». قال: فاستهلت
السماء فأمطرت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم طافت الأنصار بأبي
لبابة يقولون له: يا أبا لبابة، إن السماء والله لن تقلع أبدًا حتى تقوم عريانًا
فتسدّ ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فقام أبو
لبابة عريانًا فسد ثعلب مربده بإزاره، قال فأقلعت السماء". قال أبو عبيد
القاسم بن سلام في غريب الحديث: (3 / 96) المربد: هو الذي يجعل فيه التمر عند
الجذاذ قبل أن يدخل إلى المدينة ويصير في الأوعية. وثعلبه: هو جحره الذي يسيل منه
ماء المطر، أي أصاب التمر.
6. وقال
الحافظ في فتح الباري (9 / 64): "وفي رواية أبي بن كعب المذكورة أنه كان يقرأ
على ظهر بيته وهذا مغاير للقصة التي فيها أنه كان في مربده، وفي حديث الباب أن
ابنه كان إلى جانبه وفرسه مربوطة فخشي أن تطأه، وهذا كله مخالف لكونه كان حينئذ
على ظهر البيت إلا أن يراد بظهر البيت خارجه لا أعلاه فتتحد القصتان".
7. مسلم
(796) وللفظ له، وعلقه البخاري (5018) بصيغة الجزم.
8. أسباب
رفع العقوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 / 47)
9. البخاري
(3614) ومسلم (795)
10.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24 /
182) باختصار.
11.
فتح الباري (9 / 64) باختصار.
12.
البخاري (3/51) ومسلم (3/ 163)
13.
مسند أحمد (22950) وقال محققوه: إسناده
حسن في المتابعات والشواهد من أجل بشير بن المهاجر الغنوي، وباقي رجاله ثقات رجال
الشيخين، وحسنه الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/62) ولبعضه شواهد يصح بها. وأخرجه
والدارمي (3391) وحسنه محققه الشيخ حسين سليم أسد.
14.
يقال: أذن إلى الشيء وللشيء، يأذن أذَنًا،
أي استمع له. والتغنّي: تزيين الصوت بالقراءة والتحبير.
15.
البخاري (6/235 ، 9/173) ومسلم (
2/2192)
16.
أبو داود (1471) وجوّد سنده النووي في
الرياض (1 / 498)
17.
النسائي (1015) وصححه الألباني.
18.
البخاري (5010،3275،2311) تعليقًا بصيغة
الجزم.
19.
أي الصحابة رضي الله عنهم.
20.
اقتضاء الصراط (1 / 119)
21.
أي الإنسان مع الإنسان، فإن الصاحب
ساحب، والأخلاق نزّاعة.
22.
بجامع الحياة والطعام والنوم والمشاعر
والرغبة والرهبة ونحو ذلك.
23.
وهي مؤثّرة شيئًا ولو من بعيد، فزارع
الورد على سبيل المثال الذي يصبح ويمسي على رعاية الياسمين والفل والأزاهير
العطرية الجميلة ليس كمن يزرع النباتات الشديدة المراس كريهة الرائحة ونحو ذلك.
والمؤثّر بصورة أكبر من النباتات هو البيئة التضاريسية، فساكن الجبل قد تكون في
أخلاقة شدة وانقباض أكثر من ساكن السهل، وأشد منه ساكن المدينة؛ فأخلاقه تضيق أكثر
من القروي – مع استبعاد عامل الثقافة والتعليم، ويتضح ذلك فيما لو تعلم القروي
وتثقف – ونحو ذلك.
24.
أي المستأنس سواء كان في أصله ضاريًا
كالفهد والقط ونحوهما، أو كان مستأنسًا مأكولًا كبهيمة الأنعام والدجاج والحمام
ونحوها.
25.
وقد ذكر أسامة بن منقذ في الاعتبار
أمثلة كثيرة من ذلك في تأثر نصارى الشأم بالمسلمين في أخلاقهم وغيرتهم على أعراضهم
ونحو ذلك.
26.
أي لم يخالط المشركين.
27.
اقتضاء الصراط (1 / 220) ثم قال بعد
ذلك: "فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم
التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علّق الحكم به ودار التحريم
عليه.
فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة
لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات. وتأثير ذلك لا
يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر
أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له. وكل ما كان سببًا إلى مثل هذا الفساد فإن
الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة".
28.
جاء في فضل أهل العلم أن الملائكة تضع
أجنحتها تواضعًا لهم وإجلالًا، وتحفّهم حراسة لهم وحفظًا بأمر الله تعالى.
29.
البخاري 8/107 (6408)، ومسلم 8/68
(2689) (25)
30.
كالذي يفعله المتصوفة من طقوس التراقص
والتصفيق والترنّم بنيّة ذكر الله تعالى! وهذا بعينه مأخوذ من أمم الأوثان ومن
السحرة والكهان، كما هو واضح للعيان لمن تتبع ذلك أو شاهده، والله المستعان.
31.
الاستقامة (1 / 313)
32.
الجواب الصحيح (2 / 402)
33.
أحمد (2/53 ، 95) والترمذي (3683)
وإسناده صحيح، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/401)
34.
الفتاوى الكبرى (3 / 451) وانظر: إذا
ذُكر الصالحون فحيهلًا بعمر. للمؤلف.
35.
البخاري 4/211 (3469)
36.
أي استغنى بتصديق معدن النبوة عما يرد
من التحديث.
37.
المدارج (1/39، 40) المستدرك على مجموع
الفتاوى (1 / 111)
38.
القَلَبة: المرض. وأصله داء يكون
بالإبل فاستعمل في كل داء. وفي حديث اللديغ: "فَانْطَلق يتفُل عَلَيْهِ
وَيقْرَأ: { الْحَمد لله رب الْعَالمين } فَكَأَنَّمَا نشط من عقال، فَانْطَلق
يمشي وَمَا بِهِ قَلبَة". وانظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2 / 184)
39.
البخاري (4106) واللفظ له، ومسلم
(5/187)
40.
مدارج السالكين (2/502، 503) وانظر: المستدرك
على مجموع الفتاوى (1 / 183)
41.
القواعد النورانية الفقهية (1 / 42)
42.
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه
(22 / 565)
43.
البخاري 2/201 ( 1671 ) ، ومسلم 4/70 (
1282 ) ( 268 ) والبر: الطاعة. والإيضاع: الإسراع.
44.
المستدرك على مجموع الفتاوى (3 / 146)
45.
مجموع الفتاوى (7 / 338)
46.
وأنت حين يضيق صدرك تجد نفسك تبادر
بالإهلال بالتوحيد فتجأر بصوتك: لا إله إلا الله. فتسكن نفسك وتأمن وتطمئن.
47.
جامع المسائل لابن تيمية (6 / 122)
48.
البخاري (6125) ومسلم (1734) وفي رواية
عند مسلم (1732): "بشروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسروا".
49.
البخاري (٥٥)، ومسلم (٨)
50.
إعلام الموقعين (٦ /
107/ 111) باختصار.
51.
مدارج السالكين (2 / 506)
52.
الترمذي (2010) وصححه الألباني.
53.
سنن أبى داود (4778) وحسنه الألباني.
54.
تحفة الأحوذي (6 / 127)
55.
الترمذي ( 2518 ) وقال: حديث حسن صحيح.
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال : حفظت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك؛ فإن الصدق طمأنينة،
والكذب ريبة". وصححه الألباني.
56.
أحمد (18001) وضعفه محققوه.
57.
مدارج السالكين (2 / 512)
58.
رياض الصالحين (86)
59.
البخاري (7293)
60.
البخاري (4809)
61.
رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم
وفضله) وانظر: مجموع مؤلفات عقائد الرافضة والرد عليها (24 / 59)
62.
الترمذي (2018) وقال: حديث حسن. وابن
حبان (5557) وصححه الأرناؤؤط.
63.
الثرثار: هو كثير الكلام تكلّفًا.
والمتشدّق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصُحًا وتعظيمًا لكلامه.
والمتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه،
ويُغرب به تكبرًا وارتفاعًا على الناس.
64.
مسلم (3/102)
65.
أحمد (6/19) بسند حسن.
66.
البخاري ( 6446 ) ومسلم ( 1051 ) ( 120
)
67.
وانظر: تفسير الطبري (17 / 290)
والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10 / 174) والدر المنثور للسيوطي (9 / 109)
68.
ابن ماجه (4095) وصححه الألباني،
وانظر: الصحيحة (950)
69.
تفسير السلمي (2 / 227)
70.
تفسير الثعلبي (3 / 45)
71.
مدارج السالكين (2 / 22)
72.
تفسير الرازي (29/ 415)
73.
مدارج السالكين (2 / 220)
74.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
لابن عجيبة (ت:1224) (5 / 289)
75.
الجامع لأحكام القرآن (13 / 314)
76.
ابن ماجه (4102) والحاكم (4/313) وحسنه
النووي في الرياض.
77.
البخاري 7/11 (5096) ومسلم 8/89 (2740)
78.
الترمذي (2336) وقال: حديث حسن صحيح
غريب.
79.
خَضِرَة: غضَّة ناعِمَة طريَّة نضِرة
كالثمرة الطيبة.
80.
مسلم (7124)
81.
مسلم 8/81 (2721)
82.
الترمذي (3563) وحسنه.
83.
(ولا تفرقوا) (344-346) للمؤلف.
84.
نقل ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ
الملوك والأمم (١/٣١٩) عن سلمان رضي الله عنه قال: "كانَ بَيْنَ الرؤيا
وتأويلها أربعون سَنَة". وعن الحسن: "ثمانون سنة".
85.
65. البخاري
2/151 ( 1469 ) ومسلم 3/102 ( 1053 ) ( 124)
86.
إعلام الموقعين (2 / 177) وقال ابن
عقيل في الفنون: "مِن أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف
والنهي والتناصح؛ فهذا أشقّ ما يحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على
الطّباع، وتنفر منه نفوس أهل اللّذّات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن
وإماتة البدع". نقله السفاريني في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (١/٢١٣)
87.
كتاب المحن، لأبي العرب التميمي (283)
88.
فينشغل بمحبة الله تعالى والشوق إليه
والأنس به وتلمّح إحسانه ولطفه ورفقه وبرِّه والحياء منه ومخافته وذكره ودعائه
وإحسان التعبّد له، فينتظم له الزهد في الدنيا وأهلها تبعًا.
89.
صيد الخاطر (1 / 111) بتصرف يسير.
90.
أي يهيّج ويغري ويزيّن.
91.
مصنف ابن أبي شيبة (14 / 37)
92.
تفسير ابن كثير (6 / 202)
93.
تفسير الثعالبي (4 / 49)
94.
البخاري ( 1887 ) ومسلم ( 664 ) ( 279 )
95.
أبو داود (466) وصححه الألباني. وقال
الذهبي رحمه الله تعالى في تاريخ الإسلام (٨/٥٣٢): "قال الحسين بن أحْمَد
الصّفار الشيرازي: لما مات أحْمَد بن منصور الحافظ، جاء إلى أبي رجلٌ فقال: رأيته
في النّوم، وهو في المحراب واقف، في جامع شيراز، وعليه حُلَّة، وعلى رأسه تاج
مكلَّل بالجوهر، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قالَ: غفر لي وأكرمني، وأدخلني الجنة،
فقلت: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي عَلى رَسُولِ اللَّه ﷺ". اللهم صل وسلم وبارك
على محمد وآله عدد ما خلقت من الخلائق.
96.
مسلم ( 725 ) ( 96 )
97.
البخاري ( 574 ) ومسلم ( 635 )
98.
مسلم (1467)
99.
تفسير الرازي (21/ 385)
100.
البخاري 8/107 (6407)، ومسلم 2/188
(779) (211)
101.
الترمذي (586) وحسّنه، ووافقه ابن باز،
وكذلك الألباني في السلسلة الصحيحة (14 / 15)
102.
البخاري (1178) ومسلم (2/158)
103.
أحمد 5/418 (23947) وقال محققوه: صحيح
لغيره. الترمذي ( 478 ) والنسائي في الكبرى ( 331 )، وقال: "حديث حسن غريب".
104.
أحمد (26774) والنسائي (1799) وصححه
الألباني.
105.
أبو داود ( 1269 )، وابن ماجه ( 1160
)، والترمذي ( 427 ) وقال: حديث حسن غريب". وصححه الألباني.
106.
أبو داود ( 1271 )، والترمذي ( 430 )
وقال: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني.
107.
البخاري 1/145 ( 553 )
108.
مسلم (831). و"قائم
الظهيرة": أي قيام الشمس وقت الزوال، وذلك عند بلوغها وسط السماء.
109.
البخاري 2/74 ( 1183 )
110.
البخاري 1/134 ( 503 ) قال ابن حجر في
فتح الباري (2/141): "يبتدرون: أي يستبقون، والسواري جمع سارية، كأن غرضهم
بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى".
111.
أبو داود (1302) وقال الألباني: قلت:
حديث حسن، واستحسنه أحمد، وصححه ابن خزيمة.
112.
مسلم 2/125 ( 656 ) ( 260 )
113.
البخاري 1/159 - 160 ( 615 ) ، ومسلم
2/31 ( 437 )
114.
البخاري 4/143 (3244) ومسلم 8/143
(2824) (2)
115.
الترمذي (2814) وحسنه الألباني، وقال
الحافظ العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (2 / 195): ورواه الطبراني والبيهقي من
حديث أبي أمامة بسند حسن، وقال الترمذي: إنه أصح.
116.
الطبراني في الأوسط ( 1 / 61 / 2 ) والحاكم
( 4 / 324 - 325 ) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2 / 330)
117.
البخاري (1145) ومسلم (758) (170)
118.
البخاري 2/66 ( 1144 ) ومسلم 2/187 (
774 ) ( 205 )
119.
المستدرك (1/ 263) وقال الحافظ الذهبي:
حديث حسن قوي. وصححه الوادعي في الصحيح المسند (2/76)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق