(وما أدراك ما عِليّون)
الحمد لله، وبعد؛ فعليّون وصفُ مبالغة
للعلوّ والارتفاع، فهو أعلى الأمكنة وأشرف المراتب وأقربها من الله تعالى، فالله
تعالى في أعلى العلوِّ كما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: "وأنت
الظاهر فليس فوقك شيء". رواه مسلم (2713). وتحته مخلوقاته، فأقربها منه
أشرفها، فلفظ عليّين يدل على المبالغة في العلوّ. فأعلى عليّين هي منزلة الوسيلة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما
يقول، ثم صلّوا عليّ؛ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا
الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن
أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة". رواه مسلم ( 384 ).
فإن كانت الوسيلة من الفردوس الأعلى فهي أعلاه، وإن كانت منفصلة عنه فهي فوقه،
والمُتبادر إلى الفهم أنها منزلة في أعلى الفردوس الأعلى من جنّة الرحمن، وفي معنى
الوسيلة القرب، وهي هنا القرب من الرحمن جل جلاله مكانًا ومكانَةً.
والفردوس الأعلى في المرتبة الأعلى من
علّيّين، -وقد يكون عليّون مختصّ بالفردوس في بعض إطلاقاته-، فعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله وبرسوله
وأقام الصلاة وصام رمضان؛ كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله
أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نبشّر الناس؟
قال: "إن في الجنة مئة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين
الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط
الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفجّر أنهار الجنة". رواه
البخاري (2790). فالجنة مُقبَّبةٌ، وأوسطُ القبّة أعلاها كرأس الكُرَة، وعن أنس
رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سراقة-، أتت النبي صلى
الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر -
فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: "يا
أم حارثة، إنها جنانٌ في الجنة، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى". رواه البخاري
(2809).
ومراتبُ الجنة العُلى – كأهل الغُرَف-
عليّون بالنسبة لمن دونهم من أهل الجنة، فمراتب أهل الغرف عالية، وقد يكونون هم
أهل الفردوس، وقد يكونون أدنى منهم لأن مراتب الجنة كثيرة جدًّا وساشعة المسافات.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ
أهلَ الجنة ليتراءون أهلَ الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدرّي الغابر في
الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله؛ تلك
منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا
بالله وصدّقوا المرسلين". رواه البخاري (3256) ومسلم (2831).
والجنة كلها عليّون بالنسبة لما تحتها،
كما في الحديث الطويل للبراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيقول
الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض". أخرجه أحمد
(18733) وأبو داود (3212 و4753) وصححه الألباني. فالجنة كلها عليون بالنسبة لأهل
الأرض، والأبرار المقتصدون هم من المؤمنين الذين يُكتب كتابهم في عليين، كما قال
سبحانه: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين)، وإن كان السابقون المُقرّبون أعلى منهم
منازل.
وقد جاء عن السلف في معنى "علّيين"
أقوال، منها: السماءُ السابعة، وقائمةُ العرشِ اليُمنى، والجنة، وعند سِدْرَةِ
المنتهى، وقيل: في السماء عند الله تعالى. وقيل : هو اسمٌ لدِيوَان الملائكة
الحَفَظَة، تُرْفَع إليه أعمالُ الصالحين من العباد، وقيل: أراد أعْلَى الأمْكِنَة
وأشْرَفَ المرَاتِب من اللّه في الدار الآخرة. قال الطبري رحمه الله في تفسيره (24
/ 293): "فبيَّن أن قوله: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ معناه: في عُلُوٍّ وارتفاع، في
سماءٍ فوق سماء، وعُلُوٍّ فوق عُلُوٍّ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك إلى السماء السابعة،
وإلى سدرة المنتهى، وإلى قائمةِ العرش اليُمنى، ولا خبرَ يقطعُ العُذْرَ بأنه معنيٌّ
به بعضٌ دون بعض. والصوابَ أن يقال في ذلك كما قال الله جل ثناؤه: إن كتابَ أعمالِ
الأبرار لفي ارتفاعٍ إلى حدٍّ قد عَلِمَ الله جلَّ وعزَّ منتهاه، ولا علمَ عندنا
بغايته، غير أن ذلك لا يقصرُ عن السماء السابعة؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على
ذلك". أهـ. هذا وقد وردَ في بعض طرقِ حديثِ البراء بن عازب: "اكتبوا
كتابَ عبدي في علِّيِّين في السماء السابعة". وانظر: زاد المسير (9/57)،
وتفسير ابن كثير (8/374) وغريب الحديث لابن الجوزي (2 / 124) وقال ابن الأثير في
النهاية (3/294): "ويعرب بالحروف والحركات كقنّسرين وأشباهها على أنه جمع أو
واحد".
وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع
الفتاوى (5 / 183): "قال أبو مطيع البلخي في كتاب "الفقه الأكبر"
المشهور: سألت أبا حنيفة عمّن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد
كفر؛ لأن الله عز وجل يقول: { الرحمن على العرش استوى }، وعرشه فوق سبع سماواته.
فقلت: إنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال:
إذا أنكر أنه في السماء كفر؛ لأنه تعالى في أعلى عليين؛ وأنه يُدعى من أعلى لا من
أسفل". وقال في فتاويه (6 / 12): "والمقرّبون هم فوق أصحاب اليمين الأبرار
الذين كتابهم في عليين، { وما أدراك ما عليون . كتاب مرقوم . يشهده المقربون . إن
الأبرار لفي نعيم . على الأرائك ينظرون . تعرف في وجوههم نضرة النعيم . يسقون من
رحيق مختوم . ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عينا
يشرب بها المقربون}. قال ابن عباس: يشرب بها المُقَرّبون صِرْفًا، وتُمزج لأصحاب
اليمين مزجًا".
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في
شرح مسلم (15 / 208): "قوله صلى الله عليه وسلم (2444): "اللهم اغفر
لي وارحمني وألحقني بالرّفيق"، وفي رواية: "الرفيق الأعلى"،
الصحيح الذي عليه الجمهور أن المراد بالرفيق الأعلى الأنبياء الساكنون أعلى عليين،
ولفظةُ رفيق تطلق على الواحد والجمع، قال الله تعالى: (وحسن أولئك رفيقا). وقيل:
هو الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعيل بمعنى فاعل،
وأنكر الأزهري هذا القول. وقيل: أراد مُرتفقَ الجنة". وقال ابن القيم في الروح
(1 / 45): "هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى، في أعلى عليين،
مع أرواح الأنبياء". والله أعلى وأحكم.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق