القَدَرُ
والشَّرْعُ
الحمد لله، وبعد؛ فالقدر هو تقدير الله
تعالى للأشياء، والشرع هو دينه الذي ارتضاه. فمن أطاع الله تعالى وعبده فقد اجتمع
في حقه الأمران القدر والشرع، وهو مستحق للأجر والمثوبة. ومن عصاه فقد تحقّق فيه
القدر دون الشرع، وهو مستحق للسخط والعقوبة. وقد ضل بعض الناس في هذا الباب إذ ظنوا
أن القدر ملازم للشرع على الدوام، وهذا باطل، فإن الكفر داخل في جملة مقادير الله
تعالى، وقد قال في كتابه: (ولا يرضى لعباده الكفر)، وسرُّ المسألة؛ أن لله تعالى حِكَمًا
عظيمة جليلة في الابتلاء الذي لا يكون إلا بوجود الصراع والدفع بين الخير والشر،
والحق والباطل، والهدى والضلال، فلو لم يوجد شرّ في المخلوقات لم تظهر خيريّة
الخير، وتعطّلت كثير من الأمور التي يحبها الله تعالى كالتناهي عن المنكر والجهاد
في سبيل الله والقيام لله تعالى في شديدات الأمور ونحو ذلك، فالضدّ يظهر حسنه
الضد، قال سبحانه: (ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ﴾.
والشرّ ليس إلى الله تعالى، بل هو راجع إلى نقص
المخلوق وخذلان الله له من جهةِ قطعِ إمدادِ الخير عنه. قال صلى الله عليه وسلم: "والشرُّ
ليس إليك".(1) فأفعال الله تعالى لا توصف أبدًا بالشرّ؛ لأنها عدل أو إحسانٌ،
وكلاهما خير، وأفعال الله كلّ غاياتها طيبة محمودة؛ أما ما يُضَافُ للعبد فإنه قد يكون
شرًّا بالنسبة له؛ أما بالنسبة لقدر الله فهو خير. قال شيخ الإسلام رحمه الله
تعالى: "عنوان التوحيد لا إله إلا الله، والإله: الذي يألهه القلب بكمال الحب
والإجلال. وهذه العبادة متعلقة بإلهيته تعالى، ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله ألا
الله، بخلاف من يقرّ بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر. فالإله الذي يألهه
القلب بكمال الحب والتعظيم والاجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك. وهذه العبادة
هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطَفين من عباده، وبها بعث رسله. وأما العبد
بمعنى المُعَبَّد سواء أقرّ بذلك أو أنكره؛ فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر.
وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق
الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها
ويكرمهم بحسبها، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبرّ والفاجر،
فالذي اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب
العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض أو في مقام أو حال نقص في إيمانه وولايته
لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر
فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المنتسبين إلى التحقيق والتوحيد
والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السرّ والإعلان. وإلى هذا أشار الشيخ عبد
القادر رحمه الله فيما ذكر عنه: "بأن كثيرًا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر
أمسكوا، إلّا أنا فإني انفتحت لي فيه رَوْزَنة (2) فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ".
(3) والرجل من يكون منازعًا (4) لا من يكون موافقًا للقدر.
والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به
ورسوله، لكن كثيرًا من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدّر على أحدهم من المعاصي
والذنوب، أو ما يقدّر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله
وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون أن الاستسلام لذلك وموافقته
والرضا به ونحو ذلك دينًا وطريقًا وعباده، فيضاهون المشركين الذين قالوا: { لو شاء
الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء }، وقالوا: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه
}، وقالوا: { لو شاء الرحمن ما عبدناهم }. ولو هُدُوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى
به، ونصبر على موجبه إنما هو في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف، قال
تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }، قال بعض السلف:
هو الرجل تصيبه فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال تعالى: { ما أصاب من مصيبة
في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا
تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم }.
وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب
فعليه أن يستغفر الله ويتوب من صنوف المعايب، ويصبر على المصائب، قال تعالى: { فاصبر
إن وعد الله حق واستغفر لذنبك }، وقال: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }،
وقال تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } وقال يوسف: { إنه من يتق
ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }.
وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر بحسب قدرته، ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء
الله ويعادى أعداء الله، ويحب في الله ويبغض في الله، تعالى كما قال تعالى: { يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم
من الحق يخرجون الرسول وإياكم } إلى قوله : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين
معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم
العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }، وقال تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون
بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم
أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }، وقال تعالى: { أم نجعل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }، وقال تعالى:
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين }، وقال تعالى: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم
كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }، وقال تعالى: {
وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي
الأحياء ولا الأموات }، وقال تعالى: { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة
هم الفائزون }". (5) والله تعالى له الخلق والأمر، قال سبحانه: (ألا له الخلق
والأمر) "ومن المعلوم أنه يجب الايمان بخلق الله وأمره، بقضائه وشرعه.
وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث
فرق: مجوسية، ومشركيّة وإبليسية.
فالمجوسية: هم الذين كذّبوا بقدر الله وإن
آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتابة، (6) ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته
وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم.
والفرقة الثانية: المُشرِكِيَّة: وهم الذين أقرّوا
بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله
ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو
من هؤلاء. وهذا قد كثر فيمن يدّعي الحقيقة من المتصوفة.
والفرقة الثالثة: الابليسية: وهم الذين أقرّوا بالأمرين،
لكن جعلوا هذا متناقضًا من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يذكر ذلك
عن إبليس مُقدّمهم، كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب. (7)
والمقصود؛ أن هذا مما يقوله أهل الضلال،
وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربّه ومليكه،
وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء
أحصاه في إمام مبين. ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانتيه
وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربُّه ومليكُه ما هو من أصول الإيمان.
ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي
يخلق بها المُسبَّبات، كما قال تعالى: (حتى اذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا
به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات)، وقال تعالى: (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام)، وقال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا)، فأخبر أنه يفعل بالأسباب.
والمقصود؛ أنه لا بد من الإيمان بالقدر،
فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس: "هو نظام التوحيد"،
فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض توحيده.
ولا بد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان
بالأمر والنهي والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه. والإنسان مضطر إلى
شرع في حياته الدنيا، فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته،
والشرع هو الذي يميّز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره، وهو عدلُ الله في
خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميّزون به بين ما يفعلونه
ويتركونه.
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم،
بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل وترك، فإن الإنسان همّام حارث، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارثٌ وهمام". (8) وهو معنى قولهم:
متحرِّك بالإرادات. فإذا كان له إرادة فهو متحرّك بها، ولا بد أن يعرف ما يريده هل
هو نافع له أو ضار، وهل يصلحه أو يفسده. وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون
انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضهم
يعرفونه بالاستدلال الذى يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم
لهم وهدايتهم لهم. (9)
وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يُعرف
حسنها وقبحها بالعقل؟ أم ليس لها حسن ولا قبح يعرف بالعقل؟ وقد اتفقوا على أن كون الفعل
يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببًا لما يحبه الفاعل ويلتذّ
به، وسببًا لما يبغضه ويؤذيه. وهذا القدْر يُعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما
جميعًا أخرى. لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال
من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع. فما أخبرت به الرسل من تفاصيل
اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به
الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم
جمل ذلك. (10) وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب، وهو ما دل عليه قوله
تعالى: (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه
نورا نهدى به من نشاء من عبادنا)، وقوله تعالى: (قل ان ضللت فإنما أضل على نفسى وان
أهتديت فبما يوحى الى ربى انه سميع قريب)، وقوله تعالى: (قل انما أنذركم بالوحى)".
(11)
هذا، والعبد الموفق هو من آمن بالشرع
والقدر، وعقد قلبه عليهما، ولم يُلغِ شرعًا ولم يُبطلْ قدَرًا، ويدفع ما يخافه من
الأقدار بما يلائمه منها على وفق شرع الله رب العالمين، ويفوّض كل أمره إلى الله
عز وجل، قال ابن القيم رحمنا الله وإياه: "إذا وقف العبد على حسن تدبير الله
تعالى، واستغنى القلب به؛ لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف إن لم ينضم إليه المسالمة
للحكم، وهو الانقياد له، فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار،
وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيرًا إلى شيء لم
يرده الله؛ لم يطلق عليه اسم الغني بتدبير الله، فلا يتم الغِنى بتدبير الله سبحانه
لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره.
ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق
بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه، فإن منازعة الخلق دليل على فقره إلى الأمر الذي
وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ يسخط لفوته
ويخاصم الخلق عليه؛ لا يطلق عليه اسم الغنيّ حتى يَسلمَ الخلق من خصومته بكمال تفويضه
إلى وليّه وقيّومه ومتولّي تدبيره.
فمتى سلم العبد من علّة فقره إلى السبب، ومن علّة
منازعته لأحكام الله سبحانه، ومن علّة مخاصمته للخلق على حظوظه؛ استحق أن يكون غنيًّا
بتدبير مولاه، مفوّضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا
يخاصم عباده إلا في حقوق ربه. فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إلى الله، كما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: "اللهم لك أسلمت، وبك
آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت". (12) فتكون مخاصمة
هذا العبد لله لا لهواه وحظه، ومحاكمته خصمه إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه،
(13) فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة رضي الله
عنها: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط". (14) فهذا صبر
الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله، وهذا لتكميل
عبوديته.
ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله فقد حاكم إلى
الطاغوت، وقد أُمر أن يكفر به. ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما
هو كذلك في نفس الأمر. والحكم نوعان: حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني، بل الأحكام ثلاثة
(15): حكم شرعي ديني، فهذا حقّه أن يُتلقّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد
المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا
تقليد، ولا يَرى إلى خلافه سبيلًا البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان
والقبول.
فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا
بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له، إرادةً وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوة تنازع
مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب
السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر، فلا استمتع بخَلَاقِه (16)
كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات،
بل اندرج خَلاقُه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق، فاطمأنّ إلى الله معرفةً
به ومحبة له وعلمًا بأمره وإرادة لمرضاته، فهذا حق الحكم الديني.
الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه
كسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذمّ عليه، فهذا حقه أن يُنازَع
ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضًا، فينازع حكم الحق
بالحق للحق، فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجِيلي (17):
"الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي رَوْزَنَة، فنازعت
أقدار الحق بالحق للحق. والعارف من يكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر".
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه؛ فتأمل قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراره من
الطاعون فقيل له: أتفرّ من قدر الله؟ فقال" "نفرّ من قدر الله إلى قدره".
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم
إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه، فإنه إذا جاءه قدَر من الجوع والعطش أو البرد
نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفعه بقدَر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع
قدر الله بقدره، وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له
ويسالمه ويتلقاه بالإذعان، بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله
بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله، وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر
ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض.
فحقُّ هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على
مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب
التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم. وبهذا أُمِرَ،
بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل
للقدر أو الشرع شاء أو أبى، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه
ومصالحه الدنيوية؛ ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟! وهل هذا إلا خروج
عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه.
ولو أن عدوًّا للإسلام قصده لكان هذا بقدَر
الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدَر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال
أو القلب دفعًا لقدر الله بقدره. فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية، اللهم
إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة وخرج الأمر عن يده؛ فحينئذ يبقى من أهل
الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة
له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته. فهذا حقُّه أن يُتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك
المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لُجَّةِ البحر،
وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه
في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّة الحاكم في حكمه،
وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم
يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جفّ القلم بما يلقاه كل
عبد، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها
اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي
له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدلُ الله وحكمتُه وعزّتُه وعلمُه وملكُه العادل، فهو
مُوجَبُ أسمائه الحسنى وصفاته العلى، (18) فله عليه أكملُ حمد وأتمُّه، كما له الحمد
على جميع أفعاله وأوامره.
وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم؛ فحق الرب تعالى
منه الحمد والمدح؛ (19) لأنه موجَب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو مُوجَب
نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه، فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر، وكان للرب
سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن، والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق
العقوبة.
استأثر اللهُ بالمحامد
والفضل ... وولَّى الملامةَ الرّجُلا
ويتبين هذا المقام في أربع آيات: إحداها: قوله تعالى:
(ما أصابك من حسنة فمن الله ومن أصابك من سيئة فمن نفسك)، والثانية: قوله: (أولما أصابتكم
مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)،
والثالثة: قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، والرابعة:
قوله تعالى: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم
فإن الإنسان كفور).
فمن نزّل هذه الآيات على هذا الحكم علمًا ومعرفة،
وقام بموجبها إرادة وعزمًا وتوبة واستغفارًا؛ فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم، وهذا
قدْرٌ زائد على مجرد التسليم والمسالمة. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا
قوة إلا بالله". (20) وقال رحمه الله: "إنّ ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم
لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحِكَم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا
مع ذلك بالأمر والنهي، وصدّقوا بالوعد والوعيد.
فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر
والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب
والعقاب. فصدّقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما، كما فعلت القدرية المجوسية
والقدرية المعارضة للأمر بالقدر. وكانوا أسعد الناس وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا
يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولُبِّ العالَم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسمّيات
وجحد حقائقها، كما يفعل كثير من طوائف الضلال.
والمقصود؛ أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر
والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم. والقضاء والقدر منشؤه
عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "القدَرُ قُدْرَةُ الله".
واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان، وقال: "إنه شفى بهذه الكلمة،
وأفصح بها عن حقيقة القدر".
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود
عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدّمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضي
وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه،
وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره، ولهذا كان الحكيم من أسمائه
الحسنى، والحكمة من صفاته العُلى.
والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول
المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة: هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهي تتضمّن العلم بالحق والعلم به والخبر عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة. وفي الأثر:
"الحكمة ضالَّةُ المؤمن". (21) وفي الحديث: "إن
من الشعر حكمة". (22) فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته؛ فهكذا
لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشرٍّ حمدًا استحقه
لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده في
الحقيقة. والله أعلم". (23) "فإن قيل: فكيف تصنعون بما يُشاهَدُ من أنواع
الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات، ومَن هو خارج عن التكليف، ومَن لا
ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماء الدالة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض
ونحوها؟
قيل: قد علمت أن جميع أسماء الرب سبحانه حسنى، وصفاته
كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة، وله كل ثناء وكل حمد ومِدحة. وكل خير فمنه وله وبيده، والشرّ
ليس إليه بوجه من الوجوه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، وإن
كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه، وشرّ بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسّك
بهذا الأصل ولا تفارقه في كل دقيق وجليل، وحكّمْهُ على كل ما يَرِد عليك، وحاكم إليه،
واجعله آخيتك (24) التي ترجع إليها، وتعتمد عليها.
واعلم أن لله خصائص في خلقه ورحمة وفضلًا يختص به
من يشاء، وذلك مُوجَبُ ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثم إياك أن تصغي إلى وسوسة
شياطين الإنس والجن والنفس الجاهلة الظالمة: إنّه هلّا سوى بين عباده في تلك الخصائص،
وقسمها بينهم على السواء؟ فإنّ هذا عين الجهل والسفه من المعترض به، وقد بيّنا فيما
تقدم أن حكمته تأبى ذلك وتمنع منه. ولكن اعلم أن الأمر قسمةٌ بين فضله وعدله، فيختص
برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا.
فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون
مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستَعملٌ فيما
هو له مُهيّأٌ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات
فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم
من مشيئته وقسمته؛ فكذلك لا تضرهم الأدواء ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم
بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفه تذكّروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي
ثم لا يقصرون.
وإذا وقعوا في معصية صغيرة أو كبيرة عاد
ذلك عليهم رحمةً، (25) وانقلب في حقهم دواء، وبُدِّل حَسنةً بالتوبة النصوح والحسنات
الماحية ،لأنه سبحانه عرّفهم بنفسه وبفضله، وبأن قلوبهم بيده، وعصمتهم إليه، حيث نقض
عزماتهم وقد عزموا ألّا يعصوه، وأراهم عزّته في قضائه، وبرّه وإحسانه في عفوه ومغفرته،
وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم،
وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا، فإنهم لمّا أَعطوا
من أنفسهم العزم ألّا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبهم، ثم عصوه بمشيئته وقدرته؛ عرفوا بذلك
عظيم اقتداره، وجميل ستره إياهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبَرْد عفوه وحنانه
وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة
وجدوه غفورًا رحيمًا حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويقيلهم العثرات، ويودّهم بعد
التوبة ويحبهم. فتضرّعوا إليه حينئذ بالدعاء، وتوسّلوا إليه بحسن إجابته وجميل عطفه
وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءه، ويسّرهم للتوبة والإنابة، وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد
إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبرّه لهم وإحسانه إليهم،
فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه؛ تعرّف إليهم
تعرّفا آخر فعرّفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبرّه وامتنانه
وكرمه وشرعه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع
(26) في طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم وكرمه في أن خلّى بينهم
وبين المعصية فنالوها بنِعَمِه (27) وإعانته، ثم لم يُخلِّ بينهم وبين ما توجبه من
الهلاك والفساد الذي لا يرجى معه فلاح، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي، فاستخرج
منهم داءً لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك.
ثم تداركهم برَوْح الرجاء فقذفه في قلوبهم، وأخبر
أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط؛
لأورثهم ذلك المرض القاتل والداء العضال من اليأس من رَوْحه والقنوط من رحمته، وكان
ذلك عين هلاكهم، ولكن رحمهم قبل البلاء، وجعل تلك الآثار التي تُوجِبُها المعصية من
المحن والبلاء والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده.
فأشهدهم بالجناية عزّة الربوبية وذلّ العبودية، ورقّاهم
بآثارها إلى منازل قُربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه، ويتقلّبون في كرمه
وإحسانه. وكل قضاء يقضيه للمؤمن فهو خير، به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه
الدنيوية نِعَمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة،
كما قيل: "إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا
الآخرة".
والرب سبحانه قد تجلّى لقلوب المؤمنين العارفين،
وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضيِّ مشيئته وعظيم سلطانه وعلوِّ شأنه وكرمه وبرّه
وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث
احتملته القوى البشرية، ووراءه مما لم تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل في خَلَدٍ
(28) مما لا نسبةَ لما عرفوه إليه!
فاعلم أن الذين كان قِسمُهم أنواع المعاصي والفجور
وفنون الكفر والشرك والتقلّب في غضبه وسخطه، وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصي
والكفر، مقرّة بأن له الحجة عليهم، وأنّ حقّه قبلهم، ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو
شاهد بذلك مقرّ به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد، فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة
أوليائه عليهم، والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها
وباؤوا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أنهم عبيده وملكه، وأنه أوجدهم
ليُظهر بهم مجده، ويُنفذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم عدله، ويُحقّ عليهم كلمته، ويُصدِقُ
فيهم وعيده، ويُبيّن فيهم سابق علمه، ويُعمر بهم ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله
وحكمته.
وشهد أولياؤه عظيم ملكه، وعزّ سلطانه، وصدق
رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدْرَ ما اختصهم به، ومن أيّ شيء حماهم وصانهم،
وأيّ شيء صرف عنهم، وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه ألّا يجعلهم
من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين، وشهدوا له سبحانه بأنّ ما كان منه إليهم
وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته من الصدق والعدل والقول وتحقّقِ مقتضى أسمائه فهو محض
حقّه، وكلُّ ذلك منه حسن جميل، له عليه أتمّ حمد وأكمله وأفضله، وهو حُكْمٌ عدل وقضاءٌ
فصل، وأنه المحمود على ذلك كله، فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة
ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقّه، وعزٌّ أبداه، ومُلك أعلنه، ومراد له أنفذه، كما
فعل بالبُدْنِ وضروب الأنعام أتمّ بها مناسك أوليائه وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة
إلى الأنعام هلاكًا وإتلافًا، فأعداؤه الكفار المشركون به الجاحدون أولى أن تكون دماؤهم
قرابين أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله،(29) كما قال حسان بن ثابت:
يتطهّرون يرونه قربانُهم(30)
...
بدماء من علقوا من الكفارِ
وكذلك لما ضحى خالد بن عبدالله القَسْرِي (31) بشيخ
المُعطّلة الفرعونية جعد بن درهم، فإنه خطبهم في يوم أضحى، فلما أكمل خطبته قال: "أيها
الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، (32) إنه زعم أن الله لم يكلّم
موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا".
ثم نزل فذبحه، فكان ضَحِيّته.
وذكر ذلك البخاري في كتاب "خلق الأفعال".
فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائه، ولكن أعداءه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يُقرّون
به. ولو شهدوه وأقرّوا به لأدركهم حنانه ورحمته، ولكن لما حُجبوا عن معرفته ومحبته
وتوحيده وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ووصفه بما يليق به وتنزيهه عما لا يليق
به؛ صاروا أسوأ حالًا من الأنعام، وضُربوا بالحجاب، وأبعدوا عنه بأقصى البعد، وأخرجوا
من نوره إلى الظلمات، وغُيّبت قلوبهم في الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غيابات،
ليتمّ عليهم أمره، وينفذ فيهم حكمه، والله عليم حكيم". (33)
ومن لطف الله تعال بعباده أنه يزعجهم
عن رغبة القرار في الدنيا ليرغبوا إلى الآخرة ويعملون لها عملها، فجعل الدنيا
مستمتعَ مسافر، وزادَ راكب، وميدان امتحان، وتكليفَ تشريف، فلم يكتب لها الخلد ولم
يجعل لها السلامة من الآفات، فحلالها منغّص فكيف بحرامها، فإن غفل وليّه بحلالها
وقسى قلبه بالانغماس فيها لسعَ الحكيمُ قلبَه بحرمان أو آفة أو مرض أو خوف أو
مصيبة تقرع قلبه الغافل لينتبه من غفلته لعقله، ويَثبَ من سقطته لصَهْوَةِ عزمه، ويقوم
من رقدته لفلاح آخرته، فيسعى للدرجات العلى من الجنة والرضوان المقيم. هذا في شأن
المنغمس في المباح، أما العاصي فيُزعجُ قلبه بسوط أشدّ، فيفسد عليه ما عصى به ربَّه،
لعلّه يفهم الرسالة، ويتدارك الفوات، ويلحق بركب التوابين، فإن لم يفعل فسد قلبه
وعلاه الرّان، ولا إله إلا الله، والله المستعان. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله قاعدة
مطردة في ذلك فقال: «وهذه القاعدة مطّردة في كل شيء عُصي الربُّ به، فإنه يُفسده
على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه
بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه وإن لم يشعر بفساده.
فأيّ فساد أعظم من فساد قلب خرب من
محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأنس به
والفرح بالإقبال عليه، وهل هذا القلب إلا قلبٌ قد استحكم فساده والمصاب لا يشعر،
وأيّ فساد أعظم من فساد لسان تعطّل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه ونصيحة عباده
وإرشادهم ودعوتهم إلى الله، وأيّ فساد أعظم من فساد جوارح عطّلت عن عبودية فاطرها
وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته. وبالجملة؛ فما عُصيَ اللهُ بشيء إلا أفسده
على صاحبه.
ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه
الذي هدى به رسوله وأتباعه والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأيّ فساد أعظم من فساد
هذا العقل؟! وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى
أسباب زيادة إيمانهم بالرسول وبما جاء به، وموجِبًا لشدة تمسّكهم به". (34)
والمؤمن يعلم أنّ لعقله مدًى ينتهي
إليه فلا يزيغ بعُجب، ولا يطغى بكبر. وقد أحسن المعلمي رحمه الله في توصيفه عجز
العقل، وأن له حافّة ينتهي إليها مهما بلغت حدّته ونبوغه: "وليعلم العاقل أن
عقله قوَّةٌ من قواه المخلوقة له، كالسمع والبصر والشمَّ والذوق وغيرها. فكما أن
كلَّ قوَّةٍ من هذه لها حدٌّ لا تتجاوزه، فكذلك العقل. وكما أن للحواسِّ أغلاطًا
معروفةً كرؤية الواحد اثنين والصغير كبيرًا وعكسه، وتَوَهُّمِ بعض الناس أنه يسمع
كلامًا في حال أن الذين بجنبه لا يسمعون شيئًا، واستطابة الروائح الكريهة في بعض
الأمراض، وطعم الماء العذب مرًّا في بعضها وطعمه كأنما مُزِجَ بالسكر بعد تناول
بعض الأدوية المُرَّة؛ فكذلك للعقل أغلاطٌ أدقُّ وأخفى. وقد روي عن الإمام
الشافعيِّ رحمه الله تعالى أنه قال: إنّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر
حدًّا ينتهي إليه". (35) (36)
وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه
الله يقول: "العقل مع نصف العلم، خير من نصف العقل مع العلم". وهذا فقه
عظيم من هذا الإمام، لأن آلة الإدراك هي العقل، فقليل العلم ينتفع به العقل لأنه يُحسن
الاغتذاء به، لمعرفته حدود العلم والفهم، ومهارته في استخراج كنوز المعارف من
جواهر العلوم، واقتباس أنوار الهدى من مشكاة العلم الصحيح، فهو يميّز ويقارن ويقيس
ويمزج ويحلّل، فيأخذ زبدة العلم بصفائه وحِدّته. ولكن إنْ ضعُفَ العقل فقد تكون
علومه ضارّة، لأنه سيضعها في غير محلّها، ويفهمها على غير وجهها، فينقلب العلم
جهلًا، وخير له لو لم يعلم، فإذا انضاف لذلك عُجب وكبر فهي الفاقرة! والله الحافظ
العاصم الموفِّق. ويشهد لذلك ما ذكره أبو حيّان التوحيدي
(37) قال: "قال أبو العباس: الناس في العلم على ثلاث درجات، فواحد يُلهَمُ فيُعلّم
فيصير مبدأ، والآخر يتعلّم ولا يلهم فهو يؤدّي ما قد حفظ، والآخر يُجمع له بين أن
يُلهم وأن يتعلم. فيكون بقليل ما يتعلّم مُكثرًا بقوّة ما يُلهم.. وقال سولون (38): العلم صغير في
الكمّيّة، كبير في الكيفيّة. قال أبو سليمان: يعني أن القليل منه إذا استعملته على
وجهه كان له إتاءٌ ونفعٌ فائض، ودرّ سائح، وغاية محمودة، وأثرٌ باق. وهذه كلّها
كيفيّات من تلك الكمّيّة".
ولشيخ الإسلام رحمه
الله تعالى
وصية نافعة في التعامل مع الشبهات فقال: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل
السِّفِنْجة فيتشرّبها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمتة، تمرّ
الشبهات بظاهرها ولا تستقرّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته. وإلا فإذا
أشربت قلبك كل شبهة تمرّ عليك؛ صار مقرًّا للشبهات" وقال ابن القيم رحمه الله
تعالى معلّقًا على ذلك: "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي
بذلك". (39)
وقال الغزالي رحمه الله تعالى مبيّنًا
أن الرضا بالله تعالى إنما هو الرضا بمحابّه سبحانه دون مكروهاته، وأنه لا يجوز
الرضا بالمعاصي، وأن الدعاء وإنكار المنكرات غير مناقض للرضا: "اعلم أن الرضا
ثمرة من ثمار المحبة، وهو من أعلى مقامات المقرّبين، وحقيقته غامضة على الأكثرين، وما
يدخل عليه من التشابه والإبهام غير منكشف إلا لمن علّمه الله تعالى التأويل وفهّمه
وفقهه في الدين، فقد أنكر منكرون تصوّر الرضا بما يخالف الهوى، ثم قالوا: إن أمكن الرضا
بكل شيء لأنه فِعْلُ الله فينبغي أن يرضى بالكفر والمعاصي! وانخدع بذلك قوم فرأوا الرضا
بالفجور والفسوق وترك الاعتراض والإنكار من باب التسليم لقضاء الله تعالى.
واعلم أن من قال: ليس فيما يخالف الهوى
وأنواع البلاء إلا الصبر، فأما الرضا فلا يتصور؟ فإنما أُتي من ناحية إنكار المحبة.
فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهمّ به؛ فلا يخفى أن الحب يورث الرضا
بأفعال الحبيب، ويكون ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه
المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها، ومثاله: الرجل المحارب فإنه حال
غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه. بل الذي يَحجِمُ
رأسه بحديدة كآلة يتألم به، فإن كان مشغول القلب بمهمٍّ من مهماته فرغ الحجام وهو لا
يشعر به. وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقًا بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما
عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهمّ بمشاهدة معشوقه أو بحبّه قد يصيبه ما كان يتألم
به أو يغتم له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمّه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا
أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!
وشُغْلُ القلب بالحب من أعظم الشواغل، وإذا تصور
هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف؛ تُصوِّرَ في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضًا
يُتصوَّرُ تضاعفه في القوة كما يتصوّر تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة
بحاسّة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة.
وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به
جمال ولا جلال، فمن ينكشف له شيء منه؛ فقد يبهره بحيث يدهش فلا يحس بما يجري عليه.
وكان سهل رحمه الله تعالى به عِلَّةٌ يعالج غيره منها ولا يعالج نفسه، فقيل له في ذلك
فقال: يا دوست، (40) ضَرْبُ الحبيب لا يُوجع.
وأما الوجه الثاني: فهو أن يحسّ به ويدرك ألمه، ولكن يكون
راضيًا به، بل راغبًا فيه، مريدًا له - أعني بعقله - وإن كان كارهًا بطبعه، كالذي يلتمس
من الفصاد الفصد والحجامة، فإنه يدرك ألم ذلك إلا أنه راض به، وراغب فيه، ومتقلّد من
الفَصَّاد به مِنَّةً بفعله، فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم. وكذلك المسافر
في طلب الربح؛ يدرك مشقّة السفر، ولكن حبه لثمرة سفره طَيَّبَ عنده مشقة السفر، وجعله
راضيًا بها. ومهما أصابته بليّة من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له
فوق ما فاته؛ رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه. (41) هذا إن كان يلاحظ الثواب
والإحسان الذي يجازى به عليه، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه
ورضاه لا لمعنى آخر وراءه، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبًا عنده ومطلوبًا.
وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق، وقد تَواصَفَها
المُتواصفون في نظمهم ونثرهم، ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر،
فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث، بدايته من نطفة
مذرة، ونهايته جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وإن نظر إلى المُدرِكِ للجمال
فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كثيرًا، فترى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا،
والبعيد قريبًا والقبيح جميلًا! فإذا تصور استيلاء هذا الحب؛ فمن أين يستحيل ذلك في
حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله، المدرَكِ بعين البصيرة التي لا يعتريها
الغلط، (42) ولا يدور بها الموت، بل تبقى بعد الموت؟ حيّة عند الله، فرحة برزق الله
تعالى، مستفيدة بالموت.
فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار، ويشهد
لذلك الوجود وحكايات أحوال المحبين وأقوالهم.
وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى:
"إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله
تعالى لا ترجع إليهم، فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله؟ إذا لاحظت جلاله هابت،
وإذا لاحظت جماله تاهت"!
وقال مسروق: كان رجل بالبادية له كلب وحمار
وديك، فالديك يوقظهم للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم، والكلب يحرسهم،
قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحًا فقال: عسى أن يكون خيرًا،
ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله، فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيرًا، ثم
أصيب الكلب بعد ذلك فقال: عسى أن يكون خيرًا، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سُبي
من حولهم وبقوا هم. قال: وإنما أخذوا أولئك لِمَا كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير
والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدّره الله تعالى. (43) فإذن
من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال.
وقطع عروة بن الزبير رحمه الله رجله من
ركبته، من آكلةٍ خرجت بها، ثم قال: "الحمد لله الذي أخذ مني واحدة. وايْمُكَ (44)
لئن كنتَ أخذتَ لقد أبقيت، ولئن كنتَ ابتليتَ فقد عافيت"، ثم لم يدع ورده تلك
الليلة.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "الفقر
والغنى مطيّتان ما أبالي أيتهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن
فيه البذل".
وقد كان عمران بن الحصين رضي الله
عنهما قد استسقى بطنه، فبقي ملقًى على ظهره ثلاثين سنة، لا يقوم ولا يقعد - قد نُقب
له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته - فدخل عليه مطرّف وأخوه العلاء فجعل
يبكي لما يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة! قال:
"لا تبك فإن أحبّه إلى الله تعالى أحبّه إلي".
ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة - وقد
كان كُفَّ بصرُه - جاءه الناس يُهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعوا لهذا
ولهذا - وكان مجاب الدعوة - قاله عبد الله بن السائب: فأتيته وأن غلام فتعرّفتُ عليه
فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عمّ
أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك. فتبسم وقال: "يا بني، قضاء
الله سبحانه عندي أحسن من بصري". وقال بعض السلف: "لو قُرِّضَ جسمي بالمقاريض
لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه: ليته لم يقضه".
فإذا تأملت هذه الحكايات عرفت – قطعًا-
أن الرضا بما يخالف الهوى ليس مستحيلًا، بل هو مقام عظيم من مقامات أهل الدين. ومهما
كان ذلك ممكنًا في حب الخلق وحظوظهم؛ كان ممكنًا في حق حب الله تعالى وحظوظ الآخرة
قطعًا.
وإمكانه من وجهين: أحدهما: الرضا
بالألم لما يتوقع من الثواب الموجود، كالرضا بالفصد والحجامة وشرب الدواء انتظارًا
للشفاء. والثاني: الرضا به لا لحظٍّ وراءَه، بل لكونه مراد المحبوب ورضًا له،
فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد الحب في مراد المحبوب، فيكون ألذّ الأشياء عنده رضا
محبوبه ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه. كما قيل: فما لِجُرحٍ إذا أرضاكمُ ألم.
وهذا ممكن مع الإحساس بالألم، وقد يستولي
الحب بحيث يُدهَشُ عن إدراك الألم، فالقياس والتجربة والمشاهدة دالة على وجوده، فلا
ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه، لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه، ومن لم يذق
طعم الحب لم يعرف عجائبه، فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه. وحُكي عن محمد بن عبد الله
البغدادي قال: رأيت بالبصرة شابًّا على سطح مرتفع، وقد أشرف على الناس وهو يقول:
من مات عشقًا فليمت
هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
ثم رمى بنفسه الأرض، فحملوه ميتًا. (45)
فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق، والتصديق به في حب الخالق أولى، لأن البصيرة
الباطنة أصدق من البصر الظاهر، وجمال الحضرة الربانية أوفى من كل جمال، بل كل جمال
في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال. نعم، الذي فقد البصر ينكر جمال الصور، والذي
فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة، فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضًا
هذه اللذات التي لا مظنّة لها سوى القلب! (46)
واعلم أن الدعاء غيرُ مناقض للرضا، ولا
يخرج صاحبه عن مقام الرضا، وكذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها ومقت أسبابها والسعي في
إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يناقضه أيضًا. وقد غلط في ذلك بعض البطّالين
المغترّين، وزعم أن المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله وقدره عز وجل فيجب الرضا به،
وهذا جهل بالتأويل وغفلة عن أسرار الشرع.
فأما الدعاء؛ فقد تعبّدنا به، وكثرت دعوات
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام - على ما نقلناه في كتاب
الدعوات - تدل عليه. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات من الرضا.
وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله: (ويدعوننا رغباً ورهباً).
وأما إنكار المعاصي وكراهتها وعدم الرضا بها؛ فقد
تعبّد الله به عباده وذمّهم على الرضا به فقال: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)،
وقال تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم). وعن ابن مسعود رضي
الله عنه: "إن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه! قيل: وكيف ذلك؟
قال: يبلغه فيرضى به".
وقد أمر الله تعالى بالمنافسة في الخيرات
وتوقّي الشرور فقال تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). وقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل
والنهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل،
ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه في حقّه، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي
فلان، فعملت مثل ما يعمل». (47)
وأما بغض الكفار والإنكار عليهم ومقتهم
فما ورد فيه من شواهد القرآن والأخبار لا يحصى مثل قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين)، وقال تعالى: (يا أيها الذي آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء)، وقال تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً). وقال صلى الله عليه وسلم: "المرءُ
مع من أحبَّ". (48)
فإن قلت: فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا
بقضاء الله تعالى، فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو مُحالٌ وهو قادح في التوحيد،
وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى، وكيف السبيل إلى
الجمع وهو متناقض على هذا الوجه، وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد؟
فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين
عن الوقوف على أسرار العلوم، وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكر مقامًا من
مقامات الرضا، وسمّوه حُسْنَ الخُلُق، وهو جهل محض.
بل نقول: الرضا والكراهة يتضادّان إذا تواردا على
شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد، فليس من التضاد في شيء واحد أن يكرهه من وجه ويرضى
به من وجه؛ إذ قد يموت عدوّك الذي هو أيضًا عدوّ بعض أعدائك وساعٍ في إهلاكه، فتكره
موته من حيث إنه مات عدوّ عدوّك، وترضاه من حيث إنه مات عدوك. وكذلك المعصية لها وجهان:
وجهٌ إلى الله تعالى من حيث إنه اختياره وإرادته، فيرضى به من هذا الوجه تسليمًا لذلك
المُلك إلى مالك الملك، ورضا بما يفعله فيه، ووجهٌ إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه،
وعلامة كونه ممقوتًا عند الله وبغيضًا عنده حيث سلّط عليه أسباب البعد والمقت، فهو
من هذا الوجه منكر ومذموم. ولا ينكشف هذا لك إلا بمثال:
فلنفرض محبوبًا من الخلق قال بين يدي محبيه:
إني أريد أن أميّز بين من يحبني ويبغضني، وأنصب فيه معيارًا صادقًا وميزانًا ناطقًا،
وهو أني أقصد إلى فلان فأؤذيه وأضربه ضربًا يضطره ذلك إلى الشتم لي. حتى إذا شتمني
أبغضته واتخذته عدوًّا لي، فكل من أحبَّه أعلمُ أيضًا أنه عدوي، وكل من أبغَضَه أعلم
أنه صديقي ومحبي. ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض، وحصل البغض الذي
هو سبب العداوة. فحقٌّ على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول: أما
تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة - فأنا محب له
وراض به فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك، وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته إذ كان
حقّه أن يصبر ولا يشتم، ولكنه كان مرادك منه؛ فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب
للمقت، فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبّرته فأنا راض به، ولو لم
يحصل لكان ذلك نقصانًا في تدبيرك وتعويقًا في مرادك، وأنا كاره لفوات مرادك، ولكنه
من حيث إنه وَصفٌ لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجّم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك
- إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ولا يقابل بالشتم - فأنا كاره له من حيث نسبته
إليه، ومن حيث هو وصف له، لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك.
وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له لأنه
مرادك، وأنا على موافقتك أيضًا مبغض له، لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيبًا
ولعدوه عدوًّا.
وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك
إذ أبعدته عن نفسك وسلّطت عليه دواعي البغض، ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض
وكسبه وفعله وأمقته لذلك، فهو ممقوت عندي لمقته إياك، وبغضه ومقته لك أيضًا عندي مكروه
من حيث إنه وصفه، وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرْضيّ.
وإنما التناقض أن يقول: هو من حيث إنه مرادك
مرضي، ومن حيث إنه مرادك مكروه، وأما إذا كان مكروهًا لا من حيث إنه فعله ومراده، بل
من حيث إنه وصف غيره وكسبه؛ فهذا لا تناقض فيه، ويشهد لذلك كل ما يُكره من وجه ويُرضى
به من وجه، ونظائر ذلك لا تحصى، (ولله المثل الأعلى).
فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه
الله، ويمقت من مقته الله، ويعادي من أبعده الله عن حضرته، فإنه بعيد مطرود ملعون عن
الحضرة.
وبهذا يُعرف أيضًا أن الدعاء بالمغفرة والعصمة
من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى، فإن
الله تعبّد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقّة التضرع،
ويكون ذلك جلاء للقلب وسببًا لتواتر مزايا اللطف". (49) ومن جميل كلام ابن
الجوزي رحمه الله تعالى: "إذا رَأيْت سِربال الدُّنْيا قد تقلّص عنك؛ فاعْلَم
أنه قد لُطِفَ بك؛ لِأن المُنعِم لم يقلّصه عليك بخلًا أن يتمزّق، لَكِن رفقًا
بالماشي أن يتعثّر، أحرم عَن الحَرام بِنَزْع مخيط الهوى لَعَلَّ جذب التوفيق
يقارن ضعف كسبك". (50)
وبما أن الدعاء الخالص هو أعظم الأسباب
في تحصيل الخير ودفع الشرّ فينبغي على الداعي أن يراعي جهة العبوديّة بدعائه،
وأنّه يتقرّب إلى ربه بعبادة يحبها الله تعالى، قال السعدي رحمه الله تعالى: "وينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب، أو
دفع مرهوب، أن لا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله، بل يقصد
بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات، فيكون على يقين من
نفع دعائه، وأن الدعاء مخّ العبادة وخُلاصتها، فإنه يجذب القلب إلى الله، وتلجئه
حاجته للخضوع والتضرع لله الذي هو المقصود الأعظم في العبادة، ومن كان قصده في
دعائه التقرب إلى الله بالدعاء، وحصول مطلوبه، فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا
حصول مطلوبه فقط، كحال أكثر الناس، فإن هذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم، ولمثل
هذا فليتنافس المتنافسون. وهذا من ثمرات العلم النافع، فإن الجهل منع الخلق الكثير
من مقاصد جليلة ووسائل جميلة لو عرفوها لقصدوها، ولو شعروا بها لتوسّلوا إليها،
والله الموفق". (51)
من يسألِ الناسَ
يَحرِمُوهُ … وسائلُ اللهِ لا يخيبُ
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
...........................
1. أحمد
في المسند ( 803 ) ومسلم (1 / 215 )
2. الرَّوْزَنَة:
الكُوّة والنافذة، سواء كانت في الجدار أو في السقف، والثاني أكثر استعمالًا.
3. الحق:
هو الله تعالى. بالحق: أي بالصواب المبني على دلائل الوحي. للحق: أي مخلصا في ذلك لله
تعالى. ومنه قول ابن القيم في نونيته:
فَلِواحدٍ كُن
واحدًا في واحدٍ ... أعني طريقَ الحقِّ والإيمانِ
فلواحدٍ: أي أخلص عملك للواحد وهو الله
تعالى. واحدًا: أي لا يضررك قلة السالكين لسبيل الرسل ولو كنت وحدك كما قال
تعالى" (إن إبراهيم كان أمة). في واحد: هو الصراط المستقيم خلافًا لطرائق
الضلال وسبل الزيغ.
4. ولا
يقصد بالنزاع اللفظ الموحش بالمحاربة، بل قصد رحمه الله مدافعة القدر الذي لا
يوافق الشرع بقدرٍ موافق للشرع، كما قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، فيدفع الله تعالى بأهل الصلاح
والاستقامة أهلَ الفساد والزيغ والاعوجاج. ومثاله في النفس: لو أن معصية عرضت له
واشتهتها نفسه؛ فهذا قَدَرٌ مقبل عليه – وإن كان لا يعلم غايته، فقد يكون أو لا
يكون – فيدفع هذا القدر المظنون بالقدر الذي يُرضي الله تعالى، فيردع نفسه عن الحرام،
فإن وفّق لذلك فقد وافق قدرُه شرعَ ربه، وإن خُذل عن بلوغه فقد تخلّفت نفسه عن
وارد الشرع فعصت واستحقت عقوبة المذنبين، والله المستعان، (إنا كل شيء خلقناه
بقدر).
وقد قصد الشيخ عبد القادر بهذا الرد
على الذين قالوا: لا نردّ القدر بل نماشيه ونركب ما اتفق لنا منه طاعة كانت أو
معصية جريانًا معه وشهودًا له! فردّهم إلى وجوب التفريق بينهما، وأن كلٌّ بقدر
الله، وأن المعصية إذا لم يفعلها الإنسان فهي غير مقدّرة عليه أصلًا لأنها لم تقع،
فكيف يحتجون بأمر لم يقع بعد، فإن وقع الذنب فلا حجة في القدر معه؛ لأن العبد قد علم
من نفسه القُدرة التي حباه الله تعالى بها لمدافعته ابتداء لو أراد، فوقوعه في
الذنب دليل على تخلّف الإرادة منه لأنه مكلّف، والله لا يكلفه سوى طاقته ووسعه،
قال سبحانه: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها).
5. العبودية
(8 -13) باختصار.
6. وهُم
القدرية الأولى الذين تبرأ منهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
7. كما
ذكروا عن أبي العلاء المعرّي أنه قال مُتأبْلِسًا مُعترضًا على قطع يد السارق مع
كون ديتها نصف دية إنسان:
يدٌ بخمس مئينٍ
عسجدٍ وُدِيتْ ... ما بالُها قُطعت في ربع دينار
تناقضٌ ما لنا
إلا السكوت له ... ونستعيذُ بمولانا من النار
وما التناقض إلا في عقله وقلبه، وقد
ردّ عليه الشيخ عبد الوهاب المالكي رحمه الله تعالى بقوله:
قل للمَعرِّي
عارٌ أيُّمَا عارٍ ... جهلُ الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
عِزُّ الأمانةِ
أغلاها، وأرخصَها ... ذُلِّ الخيانة فافهم
حكمة الباري
لا تقدحنَّ بنودَ
الشرعِ عن شُبَهٍ ... شرائعُ الدين لم تُقدح بأشعارِ
8. أبو داود (1054) وصححه الألباني.
9. فمصادر
العلوم ثلاثة: فطريّ غريزيّ، وتجريبيٌّ كسبي، وموقوفٌ على الوحي الإلهي.
10.
أي يعرفون بفِطَرِهم وعقولهم أن للكون
ربًّا خالقًا مالكًا مدبرًا قديرًا مألوهًا مستحقًّا للعبادة دون سواه. أما تفاصيل
أسمائه وصفاته وأفعاله فموقوفة على السمع.
11.
مجموع الفتاوى (3/ 111-115) مختصرًا.
12.
البخاري 2/60 (1120) ، ومسلم 2/184
(769) (199)وتمامه: ".. فاغفر لي ما قدّمت، وما أخّرت، وما أسررت، وما أعلنت،
أنت المُقَدِّم، وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت".
13.
كما ذُكر عن عليٍّ رضي الله عنه أنه
صرع رجلًا من المشركين وطرحه وبرك عليه ليقتله، فبصق الرجل عليه فقام عنه وتركه،
ولمَّا سئل عن ذلك قال: "إنّه لما بصق في وجهي اغتظت منه فخفت إن قتلته أن
يكون للغضب والغيظ نصيب في قتله، وما كنت أن أقتله إلّا خالصًا لوجه الله تعالى".
وانظر: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية لابن الطقطقي (١/٤٩).
14.
البخاري (6853) ومسلم (2327) بلفظ: "ما
انتقمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك
محارمُ الله، فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله".
15.
قصد بذلك تقسيم الحكم القدري الكوني
إلى قسمين: الأول: ما كان باختيار العبد، والثاني ما كان بغير اختياره، فهما
راجعان إلى القسم الأول.
16.
الخَلاق: النصيب. ومراده: أنه لم يصرف
نعم الله في معاصيه. قال تعالى: (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم
بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا).
17.
ويقال كذلك: الجيلاني، والكيلاني،
وكلها صحيحة.
18.
أي أن كمال أسماء الله تعالى وصفاته
يقتضي حدوث آثارها، ومن ذلك اسم الحكيم وصفته الحكمة، فمن آثار الحكمة تقدير ذلك
الأمر المُعيّن على عبده، فهذا المقدور هو مُوجَبُ حكمة الله تعالى التي نزلت
منزلتها اللائقة بها فيه.
19.
بين المدح والحمد قدْرٌ مشترك، فيجمعها
الثناء. وقد يكونان بمعنى واحد على الدوام، وأن الفرق مجرد تقديم حرف على حرف، ومن
أمثال ذلك قولهم: صاعقة وصاقعة، وأطيب وأيطب ونحو ذلك. والله تعالى أهل أن يُمدح
ويُحمد، وعند مسلم (٦٠٧٤) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس أحد أحبَّ إليه المدحُ من
الله، من أجل ذلك مدح نفسه".
ولبعض أهل العلم رأي آخر في التفريق
بينهما، فمن ذلك ما نقله الطيبي في حاشيته على الكشاف (١/٧١٧) قال: "المدح
أعمّ من الحمد؛ لأن المدح يحصل للعاقل وغيره، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار
على ما يصدر منه من الإحسان والفضائل". وقال الراغب في المفردات (١٣١): "كل شكر حمد،
وليس كل حمد شكرًا، وكل حمد مدح، وليس كل مدح حمدًا". أهـ. وعليه؛ فالحمد:
أخصّ من المدح وأعمّ من الشّكر؛ فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره،
وممّا يكون منه وفيه بالتّسخير. فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه: كما يُمدح
ببذل ماله وسخائه وعلمه، والمدح يكون في الثّاني دون الأوّل، والشّكر لا يقال إلّا
في مقابلة نعمة: فكلّ شكر حمد وليس كلّ حمد شكرا، وكلّ حمد مدح وليس كلّ مدح حمدًا.
وانظر: نضرة النعيم (٥/١٧٥٤). وزاد ابن القيم اشتراط محبة المُثنى عليه ليكون
حمدًا فقال في بدائع الفوائد (٢/٩٣): «الفرق بين الحمد والمدح أن يُقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارًا مجرّدًا من حبٍّ
وإرادة أو مقرونًا بحبّه وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو
الحمد، فالحمد إخبارٌ عن محاسن الممدوح مع حبِّه وإجلاله وتعظيمه». والله أعلم.
20.
طريق الهجرتين (1/63 – 70) مختصرًا.
21.
روي مرفوعًا ولا يصح. فهو عند الترمذي
(5 / 51) (2687) وضعفه الألباني.
22.
البخاري (8 / 34) (6145)
23.
طريق الهجرتين (1/ 88- 93) مختصرًا.
24.
الآخية: عمود ينصب وتربط فيه الدابة،
فمهما اتَّجَهتْ فعَوْدُها إليه ودورانها عليه. ولشيخ الإسلام عبارة مشهورة في ذلك
وهي قوله: "التورّق آخيّة الربا". وهي من المسائل التي خالفه فيها
تلميذه ابن القيم عليهما رحمة الله.
25.
وهذا الكلام التالي للإمام ابن القيم
معدود من أنفس ما سطّره أهل العلم بإطلاق، وحقيق أن يَسجُدَ لله شكرًا من وفّقه
الله للوقوف عليه وفهمه وصبّ سلسبيله على نياط قلبه القريح من خوف العاقبة، ففيه
من مفاتيح أبواب الرجاء للتائبين ما لا يُحاط به، فرحمة الله وسلامه ورضوانه على
ابن القيم ووالديه وأحبابه وشيوخه والمسلمين جزاءَ ما قام لله تعالى بتلك المقامات
العلمية السنية الشريفة.
26.
الإيضاع: الإسراع.
27.
فالجوارح من نِعَمِه، وكذلك القدرة،
والإرادة، وهجوم الخواطر الصالحة والمحابّ المُستحسنة، وتهيئة الأسباب، وردّ
الموانع ونحو ذلك، فهي بحدّ ذاتها نِعَم، ولكن العبد الجاهل يعصي ربَّه بنِعم ربه!
فما أوسع حلم الله، وما أرحمه وأبرّه وألطفه وأجمله!
28.
خَلَد مفرد، ومعناه: بال ونفس وقلب.
وجمعه أخلاد. أما الخُلْد فهو طول الإقامة. وانظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، لأحمد
مختار عمر (١/٦٧٦)
29.
كما قيل:
لئن قَرَّبَ
العُبّادُ لله أنعُمًا ... وضحّوا لمولاهم بعيرًا فما ليا
فيا ربِّ
فاقبلها قرابين راحتي ... فئامًا من الكفار أضحت بواليًا
30.
وفي رواية مشهورة: يتطهّرون كأنه
نُسُكٌ لهم.
31.
الأمير الصالح خالد بن عبدالله القسري،
والي الكوفة، ونائب الخليفة هشام بن عبدالملك فيها. وكان يُلقّب: قصّاب الزنادقة.
والزندقة: هي النفاق. وما أكثر زنادقة اليوم المحتاجة رقابهم لقَصْب، نسأل الله
تعالى أن يعزّ دينه وأن يُعلي كلمته وأن ينصر عباده المؤمنين، وأن يبرم لهذه الأمة
أمرًا رشدًا.
32.
الجعد بن درهم، قال ابن كثير في البداية
والنهاية (١٣/ ١٤٨): "هو أول من قال بخلق القرآن، سكن دمشق، وكان من أهل
خرسان من ترمذ، وكان صاحب خصومات. ضال مبتدع.. وكان يتردّد على وهب بن منبه رحمه
الله تعالى.. وكان يكثر المسائل في الصفات، فنهاه وهب وقال له: «ويلك يا جعد أقصر المسألة، إنِّي لأضنك من الهالكين. لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدًا ما قلنا ذلك، وأن له عينًا ما قلنا ذلك».. تطلّبه بنو أميّة، فهرب منهم فسكن الكوفة،
فلقيه الجهم بن صفون، فتقلّد هذا القول. – قلت يعني القول بخلق القرآن -، ثمَّ
قتله خالد بن عبدالله القسري يوم عيد الأضحى، بالكوفة، وذلك أن خالدًا خطب الناس
فقال في خطبته تلك: "أيها الناس، ضحّوا تقبَّل الله ضحاياكم فإنِّي مضحٍّ
بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكِّلم موسى
تكليما، تعالى الله عمّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا". ثمَّ نزل فذبحه في أصل
المنبر بيده. أثابه الله تعالى، وذلك في أيام هشام بن عبدالملك، وقد كان هشام طلبه
بدمشق حين أظهر ما أظهر، ثم إنه هرب بعد ذلك، فكتب إلى نائبه خالد بن عبدالله
القسري أن يقتله فقتله». أهـ. وقد شكره ابن القيم في نونيته بقوله:
شَكرَ
الضَّحيَّةَ كلُّ صاحبِ سنّةٍ ... لله درّك من أخي قربانِ
وقال ابن
القيم رحمه الله تعالى في الصواعق المرسلة (٣/ ١٠٧١): «إنّما نفق أمره عند الناس بعض الشيء لأنه كان مُعلّم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا كان يسمى مروان الجعدي».
أهـ. ومروان بن محمد هذا آخر خلفاء بني أمية، ويلقّب بمروان الحمار لقوّة جَلَده
وصبره في حروبه. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وما
هو إلا الوحي أو حدُّ مُرهفٍ ... تُزيلُ ضُباهُ أخدَعي كلَّ مائلِ
فهذا شفاءٌ
للقلوب من العمى ... وهذا شفاءُ العِيِّ من كل جاهلِ
33.
طريق الهجرتين (1/ 135- 140) باختصار.
34.
الصواعق المرسلة (٥٢٥/١)
35.
توالي التأسيس في معالي ابن إدريس ص: (٧٢)
وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي (٢/ ١٨٧)
36.
آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي
المعلمي اليماني (٢/٣٠٧) وقال رحمه الله تعالى في رسالة في حقيقة التأويل (١/٧٤-76):
"وقد جرّبنا أنّ من كُلِّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يُخيّل إليه أنه
يدرك ذلك، فكم مرة تراءى الناس الهلال فتراءيتُه معهم، فإذا حدّقت وأمعنت في النظر
يخيّل إلي أني قد رأيته، ولكنها خطفة لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع، فأنظر إلى
موضع آخر، فيخيل إلي مثل ذلك؛ فعلمت أن تلك الخطفة هي صورة خيالية لِما أتخيله
تبرز إلى العيان؛ لقوة التخيل وكدّ البصر.
فكثيرًا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كُلّف
إدراك ما لا يدرك، والفرق أنّ خطأ البصر ينتبه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ
نفسه.
لو بغير الماء
حلقي شَرِق … كنت كالغَصَّان بالماء اعتصاري
وكثيرًا ما يدرك العقل خطأ ما تصوره
ولكنه لا ييأس، فلا يزال في أخذٍ وردٍّ إلى أن يكلّ ويملّ؛ يسمع بذهاب تعبه سدى
فيقنع بالشبهة التي وقف عندها، ومثله مثل مسافر يأبى أن ينزل ليستريح إلا في موضع
حسن جميل، وليس أمامه موضع كذلك، فلا يزال كلما أتى على موضع لم يره على الشرط حتى
يعقله التعب والإعياء؛ فينزل ويسلّي نفسه ويغالطها، يزعم أن ذلك الموضع حسن وجميل.
وأنت إذا كنت قد وقفت على بعض الكتب
المطولة في الفلسفة وتدبرتها تحققت هذا المعنى، ولا تكاد تجد شبهة عقلية قد قررها
أحدهم على أنها برهان قاطع إلا وجدت غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالث فيدفع هذا النقض،
فيجيء رابع فيرد ذلك الدفع، وهكذا.
حججٌ تهافتْ كالزجاج تخالها … حقًّا
وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
37.
الإمتاع والمؤانسة، للتوحيدي (١/١٨٦)
38.
سولون أو صولون ( (Solon(640 - 560 ق.م. تقريبًا)،
مفكّر وسياسي ومشرّع وشاعر ورجل قانون يوناني، له حِكَمٌ ذائعة. قام بسنّ مجموعة
من القوانين الإصلاحية التي تعارضت مع نظام الدولة المتّبع آنذاك. وقد عُرف سولون
بلقب مؤسس الديمقراطية. وقد انتُخب رئيسًا للقضاة في أثينا، ثم حاكمًا على أثينا.
وقد قام بعد تولّيه الحكم بوضع أحكام عرفت باسم "قانون صولون"، وكان
الهدف منها أن تكون دستورًا يحكم به البلاد.
39.
مفتاح دار السعادة (١/ ٤٤٣)
40.
الدوست: الحبيب، بلسان فارس.
41.
شُكْرُ الله تعالى وحمدُه على المصائب
غايةُ المقرّبين السابقين، وهي فوق الصبر والرضا، ولا تُنال إلا بعدهما.
42.
لأنها بصيرة العلم المعتصمة بالوحي
الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
43.
ويشبه هذا ما حكي لنا من أن نفرًا
مسافرين، وكان بصحبتهم رجل صالح لا يترك قول: "لعل في الأمر خيرًا"،
كلما نابه أمر فيه كراهة له أو لهم. ثم إنهم اتّفقوا على أن يُخفوا راحلته في شعب
من الشعاب لمّا كانوا يستريحون من عناء الطريق. فلما فعلوا أتاه بعضهم ليوهمه
بفقدها لوحدها عن سائر رواحل أصحابه؛ فقال بثقة المؤمن بربه: "لعل في الأمر
خيرًا من الله". فكان كما قال؛ إذ هجم عليهم قوم فاجتاحوا رواحلهم ولم يتركوا
لهم سوى بعض زاد يحملونه فوق ظهورهم، فعرّفوا صاحبهم بفعلهم وأنه كان اختبارًا
منهم له، فعاد تأديبًا من الله لهم وإظهارًا لكرامة من توكّل عليه ووثق به،
وهالتهم خيرة الله لصاحبهم، فحملوا متاعهم على راحلة ذلك الواثق بربه، والله
المستعان.
44.
أي قَسَمًا بك يا الله.
45.
نعوذ بالله تعالى من مصارع السوء،
وسيئات الخواتيم. والحب الحقيقي النافع هو حبُّ الله تعالى وحبُّ دينه ورسله
وأوليائه، وركنا العبادة هما الحب والتذلّل، قال ابن القيم رحمه الله في نونيته
العظيمة:
وعبادةُ الرحمن
غايةُ حبِّه ... مع ذلِّ عابِدِه هما قطبانِ
وعليهما فَلَكُ
العبادة دائرٌ ... ما دار حتى دارت القطبانِ
ومداره بالأمر
أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطانِ
46.
وهذه حروف عزيزة وجليلة جدًّا.
47.
البخاري (6/236)
48.
البخاري (8/48) ومسلم (8/43)
49.
إحياء علوم الدين (3/ 435- 445) بانتقاء واختصار وتصرف.
50.
المدهش (١/٤٥٣) بتصرف يسير.
51.
مجموعُ الفوائِد واقتناص الأوابِد، عبد
الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى (ص:٧٤).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق