علاقةُ
الرِّضا بأعمال القلوب
الحمد لله وبعد؛ فأعمال القلوب بينها
ترابط شديد وتناسق بديع وتشابك مدهش، فيغذّي ويقوّي وينمّي بعضها بعضًا بحسب
مرتبتها في الدين وقوّتها في القلب، وقد نستطيع تشبيهها بعروق الدم، فمنها الودجان
والوتين والأخدع والنّياط والأبهر والأكحل، ومنها أصغر من ذلك، ومنها شعب دموية
رقيقة جدًّا لا تُرى إلا بالمجهر، ومجمعها جميعًا وعاء القلب، فمنه تصدر وإليه ترِدُ،
ومنها ما يتلف البدن بتلفه، ومنها ما ليس كذلك. وكذلك الحال لأعمال القلوب، فمنها
ما يزول الإيمان بزوالها، ومنها ما ينقص تقصًا شديدًا، ومنها دون ذلك. وإن كان لا
يتصوّر زوال شيء منها بالكلية لأنها متصلة بقاعدة واحدة وأصل واحد هو الإيمان،
ولكنها قد تضعف حتى لا تكاد تُرى.
وإنّ من رحمة الله تعالى وكرمه وجوده
وإحسانه ولطفه وبِرّه أن جعل أعمال القلوب ملازمةً لصاحبها على الدوام، فالتاجر
الصالح مثلًا تراه في البيعة الواحدة يصعد له عدّة أعمال لقلبه حتى وإن لم يستشعر
كيفية ذلك، كالصدق والورع والخشية والإخلاص والتوكل والتعلق والزهد والرغبة في
الآخرة ونصح الناس ومحبة الخير لهم ورحمتهم وترك الغش والظلم والحرام ديانة، كذلك
الفلاح تجري على قلبه ينابيع أعمال القلب الطيّبة كالتوكل والتفكر واليقين والصبر
والرضا والشكر والحمد وغيرها كثير، وكذا الوالدان مع ذريتهما، وتأمل كمّية أعمال
القلوب المصاحبة لحسن تربية الأطفال، وكيف تثور في قلبيهما صالحات الأعمال كالرحمة
بهم والشفقة عليهم وحب خالقهم المنعم بهم وشكره وحمده والاستعانة به على إصلاحهم والخوف
عليهم من عذاب أرحم الراحمين، (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) فمن عذبه
أرحم الراحمين فليس بمستحق لأدنى رحمة! وكذلك حسن الظن بالله تعالى والثقة به
والتوكل عليه في حسن رعايتهم وجلب رزقهم ونحو ذلك. واعتبر ذلك مع المعلم وطالب
العلم والأجير والمجاهد وسائر الناس، حتى للمرء مع نفسه، فثَمّ أعمال بر قلبية
غزيرة دائمة.
وبالجملة؛ فأعمال القلب لا تكاد تتوقف
عن القلب إلا في حال النوم أو الغفلة أو ركوب المعصية، بل حتى حال المعصية قد لا
تغيب بالكلية فترتفع عنه مع إيمانه كالظلة بقدر العصيان، لكن يبقى لها ظلٌّ وجذور
في أصل الفؤاد، فثمّ وازعُ الخشية والقلق والمحبة والخوف واليقين بالبعث والحياء
من الله والشفقة من لقائه بمعصية وغير ذلك. أما مع ممارسة الحياة المعتادة، بلْه
العبادات المحضة؛ فإن كنوز البرّ من سحائب أعمال القلوب لا تزال تسحّ الخير والبرّ
دِيمًا وهُطّلًا على صحيفة المؤمن الصالح! فيالَه من دين ويالَها من نعمة، ويالَه
من ربٍّ عظيم لم نعبده حقّ عبادته، ولم نشكره حقّ شكره، سبحانه وبحمده.
الرِّضا والصّبر
الصبر
أساس الرضا ومنبعه، والرضا من ثماره مع غيره، وبينهما فروق. قال ابن رجب رحمه
الله: "والفرق
بين الرضا والصبر: أنَّ الصَّبر: كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخّط مع وجود الألم،
وتمنِّي زوال ذلك، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر
وسعته بالقضاء، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر
القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة (1) وإذا قوي الرِّضا، فقد يزيل الإحساس بالألم
بالكلية كما سبق". (2)
الرِّضا واليقينُ والثقةُ
لا رضا
إلا بيقين، ولا يقين إلا بعد الثقة، فالراضي إنما استشعر حلاوة الرضا لمّا أيقن
بالخير، إما بذات المرضيِّ أو بحسن الخلف عنه. وكل ذلك ثقة وإيمانًا بربه تعالى.
الرضا والغِنَى
الرضا بحدّ ذاته استغناء، فغنى الراضي إنما جاءه
من جهة غناه بمن افتقر إليه وهو الغني الكريم سبحانه وبحمده. ومن استغنى عن شيء
غني عنه. قال الشافعي رحمه الله تعالى:
غنيٌّ بلا مالٍ
عن الناس كلّهم
... وليس الغنى إلا عن الشيء لا به
الرضا والعلم
العلم
قول القلب لا عمله، وهو القول المؤثر مباشرة في جميع أعماله، فلا يُتصوّر عمل قلب
بلا علم، ومن هنا فالرضا بكل مراتبه مفتقر إلى علم، ومن هنا أيضًا تتضح أهمية صفاء
العلم ونقاء المعلومات، فأكثر الانحرافات منبعها علمٌ مدخول، وهذا المنبع كدر مشوب
بأخلاط رديئة وبعضها سمّ ناقع!
أما
العلم الصافي النقي فهو مضمون المحتوى من قبل العليم سبحانه، لأن مصدره الوحي
بشقيه الكتاب والسنة، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
الرضا والتعلّق
بما أن
الرضا اكتفاء، فهذا المُكتَفَى به وهو الله تعالى قد صمد إليه وجه وقلب الراضي
وتعلّق به، فلمّا تعلق به رضي به دون ما سواه، فكفاه ربه وهو الشكور الحميد
سبحانه. والراضي دائم التعلّق بمن رضي به تبارك وتعالى.
الرضا والإيمان بالقَدَر
بينهما
علاقة واضحة حتى ربما اشتبها ببعضهما لشدة لصوق أحدهما بالآخر، بيد أن العلاقة
بينهما هي علاقة الكل بالجزء، فالرضا بالقدر يأتي بعد الإيمان به، ومن بعد ذلك
فالرضا بالقضاء والقدر هو جزء من منظومة الرضا بالله تعالى وبدينه. فالرضا بالله
ينظم أطراف شجرة الرضا ومنها الرضا بالإسلام والرضا بالرسول صلى الله عليه وسلم
والرضا بالقضاء والقدر.. وهكذا.
الرضا والحمد والشكر
الحمد والشكر أرفع مرتبة من الرضا، وكلها
مقامات شريفة سنيّة، ذلك أن الصبر يورث الرضا، والرضا يورث الحمد والشكر، فهما
الغاية وهو الوسيلة إليها، وإن كان في نفسه غاية فاضلة في الغاية من السموّ
والرفعة، كما تقدم في بيان فضله.
فالرضا كالدرج العالي المنيف الموصل
إلى مرتبة الحمد والشكر، والشكر ينتظم الرضا تمامًا، ذلك أنه لا يكون القلب حامدًا
شاكرًا إلا بعد امتلائه بالرضا. (3)
قال صاحب البصائر: "واعلم أَنَّ
الشكر أَعلى منازل السّالكين، وفوق منزلة الرّضا، فإِنَّه يتضمّن الرّضا وزيادةً،
والرّضا مندرِج في الشكر؛ إِذ يستحيل وجود الشكر بدونه. وهو نصف الإِيمان. وقد
أَمر الله به، ونَهَى عن ضدّه، وأَثنى على أَهله، ووصف به خواصّ خَلْقه، وجعله
غاية خَلْقه وأَمره، ووعَد أَهله بأَحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله،
وحارسًا وحافظًا لنعمته". (4)
الرضا والمحبة
لا رضى إلا بمحبة، والرضا من ثمار
المحبة، فالحبة مَيلٌ وتوجّه، والرضا اكتفاء بما مال إليه وأحبَّه. قيل: هما نظيران، وإنما يظهر الفرق
بضديهما، فالمحبة ضدها البغض، والرضا: ضده السخط. (5)
الرضا والفرحُ
بالله تعالى
أجملُ أعمال القلوب وأحلاها وأبهجها
هما محبة الله تعالى والفرح به، وهما الغاية - على التحقيق - التي ليس وراءها
غاية، فالرضا بالله سبحانه وتعالى سبب للفرح به، والفرح بالله جل جلاله معراج
لتمام الرضا وغيثٌ لكماله، فالفرح أعلى رتبة من الرضا وموصل للمزيد والمزيد منه،
والرضا داخل في الفرح. فمن فرح بالله – وقد صح معتقده وحسن عمله - فقد وصل. وتدبر:
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ }.
الرضا والزهد
والقناعة
القناعة هي العتبة الموصلة للرضا بإذن
الله تعالى، فلا رضًا بدون قناعة. فالقناعة غنًى للقلب يثمر الرضا بالله تعالى.
فالقناعة تثمر أوَّلَ الرضا، والرضا يثمر كمال القناعة، فبينهما تعاون وتداخل
وبركة اجتماع واستمرار.
كما أن الزهد والقناعة من ثمار أعمال
القلوب، والرضا بعد الصبر هو الموصل لهما بإذن الله، فالصبر ابتداء لأن لهما مشقة
شديدة في فطم النفس عن غريزتها ومشتهياتها، والرضا انتهاء بعد التفكر في الحال
واجتياز تجربة الصبر معهما. وحين يصل الزاهد للرضا فقد استراح. ومما أثِر عن
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في القناعة:
رَأَيتُ
القَناعَةَ رَأسُ الغِنى ... فَصِرتُ بِأَذيالِها مُتَمَسِّكْ
فَلا ذا يَراني
عَلى بابِهِ .... وَلا ذا يَراني بِهِ مُنهَمِكْ
فَصِرتُ غَنيّاً
بِلا دِرهَمٍ ... أَمُرُّ عَلى الناسِ شِبهَ المَلِكْ
والسعيد هو من لم تطغه الدنيا ولم
تشغله عن الآخرة التي هي الحيوان لو كنا نعقل، ومن جميل وصايا الصالحين: ستمكثون
تحت الأرض زمنًا لا يعلم مداه إلا الله! لن تتمكنوا فيه من أي عمل تنتفعون به ولو
تسبيحه، فخذو من حياتكم لموتكم. واعلموا أنّ بينكم عباد لله بسطاء يعيشون معكم على
الأرض، لا مال ولا جاه ولا منصب في هذه الدنيا الفانية. ولكن أملاكهم في السماء
عظيمة، قصورهم تبنى وبساتينهم تزرع. فأكثروا من خبايا العمل الصالح، فكل خبيئة
صالحة من وراء صاحبها يوم القيامة.
تقنّعْ بِمَا
يكفيك واستعمل الرِّضا ... فإنك لا تدري
أتصبح أم تمسي
الرضا والتوكل
بما أن التوكل تفويض فأعلى درجات
التفويض الرضا بما يقضيه المُفوَّضُ الأمر إليه تبارك وتعالى، قال ابن القيم رحمه
الله تعالى: "الرضا أعلى درجات التوكل، بل هو باب الله الأعظم، كما قيل، وجنة
الدنيا، ومستراح العابدين ونعيمهم، وحياة المخبتين، وقرة عيون المشتاقين". (6)
"فالرضا
ثمرة التوكل، والتوكل نصف الإيمان، وهما من أعلى مقامات الإحسان التي هي أعلى
المندوبات.
وقد قيل: إن حقيقة التوكل: الرضا؛ لأنه
لما كان ثمرته ومُوجِبُه، استُدِلّ له عليه استدلالًا بالأثر على المؤثِّر،
وبالمعلول على العلّة، لا أن التوكل هو الرضا، أو الرضا التوكل". (7)
وتدبر قول الله تعالى: { وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
}. وكيف قرن الرضا بالتوكل، فبينهما تضمّن ولزوم. وقال ابن تيمية رحمه الله:
"والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد
وقوعه". (8)
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
..............................
1- المعرفة
عندهم هي العلم بالله تعالى، وظهور آثار العلم على صاحبه من المحبة والرجاء
والخشية والحياء ونحو ذلك.
2- جامع
العلوم والحكم (21/ 35)
3- وللحمد
والشكر باب فيما يستقبل إن شاء الله تعالى.
4- بصائر
ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، مجد الدين الفيروز آبادى (1 / 955)
5- انظر:
المفردات: الرضا (٢٨٦) والمحبة (١٥١)، التعريفات: الرضا: (١١٦).
6- المدارج
(2/172)
7- طريق
الهجرتين (1 / 500)
8- مجموع
الفتاوى (10 / 37)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق