مراعاةُ
أحوال وأفهام المُخاطبين
الحمد لله، وبعد؛ فإنّ مما يميّز منهج السلف
الصالح للأمة حسن تقديرهم لأمور التربية والتعليم وتأتّيهم للحكمة في عرض المسائل،
فما كل ما يُعلم يقال، وما كل ما يقال حضَرَ أهلُه، فمن العلم ما يكون فتنة لمن لم
يحمله على ما وضع له. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا
حديثًا لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة". رواه مسلم في مقدمته (٥). قال
ابن وهب رحمه الله على ذلك: "وذلك أن يتأولوه غير تأويله، ويحملوه على غير وجهه". ذكره الشاطبي في الاعتصام (١ / ٤٨٩). وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب من خصّ بالعلم
قومًا دون قوم كراهية ألّا يفهموا. وقال علي رضي الله عنه: "حدّثوا الناس بما
يعرفون، أتحبّون أن يُكذّبَ الله ورسولُه". وفي رواية: "ودعوا ما يُنكِرون".
أي: من المشتبهات التي لا يفهمونها على وجهها أو لا تحتملها علومهم أو فهومهم.
ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". رواه مسلم ( 1 / 9 ). قال الحافظ في الفتح (1 /
199): "وممن كره التحديث ببعضٍ دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج
على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، و أبو يوسف في الغرائب. ومن قبلهم أبو هريرة
كما تقدم عنه في الجِرابين، وأن المراد: ما يقع من الفتن. ونحوه عن حذيفة. وعن
الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان
يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث
يقوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد. فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ
بظاهره مطلوب.
والمقصود أن المعلم والمربّي والمفتي
والواعظ يجب عليهم أن يراعوا أحوال الناس واختلاف أفهامهم، ، فلا يلقي عليهم غرائب
المسائل التي لا يعرفها إلّا الراسخون في العلم، كما جاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أنّي لو أخبرتُك بتفسيرها
كفرتَ به؟ أي جَحَدته، وأنكرته، وكَفَرت به. ذكره ابن كثير في تفسيره (٤/ ٣٨٦)
وابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 43) وروى
البخاري (6830 ) أن عمر رضي الله عنه قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما
بعد؛ فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن
عَقَلَها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل
لأحد أن يكذب عليّ.." الحديث. وذكر ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان
العلم وفضله (١/٥٣٩) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ما حدثتَ أحدًا بشيء من
العلم قط لم يبلغه علمه؛ إلا كان ضلالًا عليه".
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع
الفتاوى (6 / 59): " لمّا دعت الحاجة إلى تفريع الأعمال
وكثرة فروعها، وذلك مستلزم لوقوع النزاع .. اطمأنت القلوب فيها إلى النزاع؛ بخلاف
الأمور الخبرية؛ فإن الاتفاق قد وقع فيها على الجُمل؛ فإذا فُصلت بلا نزاع فحسن؛
وإن وقع التنازع في تفصيلها فهو مفسدة من غير حاجة داعية إلى ذلك.. ومما يتصل
بذلك: أن المسائل الخبرية العلميّة قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون
حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال
كالأعمال سواء. وقد تكون معرفتها مُضِرَّة لبعض الناس؛ فلا يجوز تعريفهم بها".
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/500) عند قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى):
"ذكّر حيث تنفع التذكرة، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله".
وقد استنبط الإمام المجدد في كتاب التوحيد على حديث معاذ: "أفلا أبشر
الناس.." جواز كتمان العلم للمصلحة. وبالله التوفيق.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
جزاك الله خيرا بارك الله فيك وحفظك أنت وذريتك وأهل بيتك أبو ثابت الغالي والعزيز
ردحذف