إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

لِبَاس الجوع


لِبَاس الجوع
الحمد لله حمدًا يليق بجميل فضله وعميم جوده وسابغ إحسانه، والصلاة والسلام والبركة على خيرته من خلقه ومصطفاه من عباده وخليله وكليمه نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد:
فقد سمعت وقرأت أخبارًا كثيرة في الجوع والبأساء والضراء، في اجتماع الفقر والمخمصة والوباء، ولم يطرق قلبي ويهزُّ شعوري كقصة الشيخ إبراهيم بن عبدان البكري الشهري وقد رواها ناصحًا الناس أن يشكروا نعمة الله عليهم وأن يتذكروا قول الله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). فما من نعمة إلا من الله (وما بكم من نعمة فمن الله) والله تعالى قد وعد الشاكرين بالمزيد: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وقد حذّرنا سبحانه من مصارع الأمم وأنذرنا المثُلات: (وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب)  ومن رحمته تعالى أن مسّ عباده بألمٍ كي  يزعجهم عن الركون للفانية ويستيقظوا من رقدات الغفلات فقال  تبارك وتعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) وقال سبحانه: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون)  والبأساء الفقر الشديد، والضراء المرض.
ولقد حدثني الشيخ عبد الله بن محمد الرشيد حفظه الله تعالى عن أخبار الجوع المشهور الذي ربض على نجد قبل عقود، وذكر أنهم كانوا يموتون في الطرقات والفَلَوات وعلى عتبات البيوت، فنسأل الله أن يوزعنا شكر نعمته وأن يعصمنا كفرها، إنه سميع قريب مجيب.
وإلى الخبر الحزين المروّع بلسان الشيخ إبراهيم الشهري، قال حفظه الله ورعاه:
"كنت طفلًا صغيرًا حين نشب خلاف بين أمي وأبي، فغادرت أمي بيتنا مصطحبة معها أخويّ الصغيرين، وتركتني باعتباري أكبر منهما مع والدي، وتزوج أبي زوجة أخرى وأنجب منها طفلتين.
وفي نحو سنة 1357 أجدبت ديارنا، وشحّت أرضنا، وانتشر الجوع والفاقة، وضاقت الأرض بما رحبت على أهلها، حتى أكلوا أوراق الشجر وجلود الحيوانات، حتى كان الرجل يبيع أرضه التي كانت أغلى من روحه من أجل وجبة عشاء يمنح بها نفسه وأهله فرصة أخرى قصيرة للحياة.
حينها شعر والدي بأنه يمثل عبئًا على والده "جدّي" وأنه لن يتمكن من الوفاء بحاجته وحاجة أطفاله، قرر الرحيل بنا، وخرجنا حتى وصلنا إلى الشعف ( شعف زهران ).
فالتفت إلي والدي وطلب مني الرجوع لأبقى مع جدي وجدتي، فاستجبت له ورحل ثم التفت يقول لي قبل الوداع: لعلنا لا نلتقى بعد هذه اللقاء أبدًا يا بني. 
إنها رحلة إلى المجهول، سفر بلا وجهة ولا هدف سوى البحث عن لقمة تسد رمق الطفلتين وأمهما.
وعدت مع جدي، وازدادت الأمور سوءًا، والجوع يخيم على المكان والزمان، والناس تفر من البلد، ولم يبق إلا كبار السن وبعض الصغار.
وحين خاف جدي علي أن أموت جوعًا، أشار علي أن ألحق بأمي وأخويّ الصغيرين عند أهلها.
فذهبت أمشي وأنا في حدود الثانية عشرة إلى أمي على بعد ثلاثين كيلا إلى الشمال من المندق (في منطقة الباحة السعودية) وبقيت أمشي من الصباح حتى جاء المساء، ووصلت إليها ففرحت بي فرحًا عظيمًا واستقبلتني، ورأيتها تبيع الحطب من أجل أن تسد رمق أخويّ الصغيرين، فأضفت إليها عبئًا جديدًا، ولم يمرّ وقت طويل حتى شعرت بأنها عاجزة عن إطعامنا، وخافت أن يقتلنا الجوع، فقالت: انزل يا بني إلى تهامة، لعلك تجد والدك أو تجد شيئًا تأكله. وأرسلت معي أخي الذي يصغرني، وتركت أصغرنا معها، وصحبنا ابن خالتي الصغير أيضًا.
 ونزلنا إلى تهامة أقود رحلة الأطفال البؤساء - حيث كنت أكبرهم - فوصلنا إلى تهامة، حيث تنتشر الملاريا والوباء، والناس يموتون فرادى وجماعات من فتك المرض، ولكن لا خيار لنا؛ الموت جوعًا أو وباء! إنها خيارات متقاربة، لابد من الركض إلى النهاية.
 مضينا حيث لا نعرف طريقًا ولا وجهة، نقترب في المساء من البيوت لنؤنس وحشتنا، ونأكل ما نجد في الطريق من الشجر، حتى وصلنا سوق الثلاثاء في قلوة اليوم، والناس يتبايعون الحبوب والتمر والزبيب، فنستبق إلى حبة سقطت هنا أو هناك، والناس لا يكترثون بمنظر الأطفال الجياع يبحثون عن الحبوب كالطير، وذلك لأن الفاقة تضرب الجميع والجوعى كثر.
تفرقنا في السوق، فلما جاء المساء لم أجد أخي ولا ابن خالتي.
بحثت عنهما طوال الليل فلم أجد أخي الصغير وعمره ثمان سنوات إلا في الصباح، فضربته بعنف لشدة خوفي عليه وألمي من فراقه ليلة كاملة، ثم ندمت ندمًا شديدًا على ضربي إياه وهو الصغير الشريد الجائع! فكنت أحتضنه طوال الليل وأبكي ندمًا ورحمة به، ولم أجد ابن خالتي إلا في اليوم الثالث، وجدته قد مات - جوعًا أو مرضًا-.
حينها قررت العودة إلى أمي في الحجاز، وقد خسرنا في الرحلة ابن خالتي، وصعدت بأخي الصغير إلى أمي، وأعلمتها بوفاة صاحبنا، فحزنوا إن كان بقي في قلوبهم حزن حينها، وبكوا إن بقيت لهم عيون يبكون بها.
وما إن وصلت حتى ارتفعت حرارة أخي الذي كان رفيقي في الرحلة، لقد أصابته الملاريا هو الآخر، وظلت أمي وأنا نسهر معه طوال الليل، وكنت أضمّه إلى صدري وأبكي، وحين بزغ الفجر أرادت أمي أن تذهب لتأتي بقربة ماء فناداها أخي المحموم بصوت خافت: لا تذهبي؛ إنني سأموت الآن قبل أن تعودي بالقربة، وبالفعل مات! شعرتُ أن أمي المسكينة لم يعد في قدرتها القيام بإطعامي مع أخي؛ فعدت إلى جدي في المندق لعل الأوضاع قد تحسنت، فإذا هي قد ازدادت سوءًا، والجوع قد كلح بوجهه في كل الزوايا!
 فاقترح عليَّ جدّي أن أنزل من جديد إلى تهامة إلى والدي في القرية الفلانية، فذهبت أمشي أربعة أيام في طريق المجهول، أقترب من المزارع آكل منها وأمضي، وفي ذات مرة اقتربت من بستان أقتات ما أستطيع منه، فإذا بي أرى أبي!
 فاحتضنني وبكيت بحرقة وأعلمته بوفاة أخي، وأخبرني بوفاة زوجته، وجعل يخفض من حزني ويقول: سوف أعود فآخذ أمك وأخوك ونعود إلى المندق ويلتئم شملنا من جديد.
فاجتاحني فرح أنساني كل أحزاني، وبشّرت أختيَّ الصغيرتين، وضممتها إليّ، وحدثتهما عن أحلامي وعودة أمي، وكانوا في حجرة صغيرة تحت صخرة في وادي تهامة، وقلت: سأذهب أجتني لكم النبق (وهو ثمر شجر السدر).
 وحين عدت بعد المغرب إذ أبي ينتفض من الحرارة، فجعلت أرشُّ عليه الماء وأضع النبق في فمه لعله يأكل، لكنَّ الأجل كان أسرع، ومات أبي وحبات النبق في فمه لم يتمكن من بلعها!
 وماتت الفرحة بسرعة، وجاء الناس حولنا حين سمعوا صراخي مع الصغيرتين فدفنوا أبي، ثم ذهبوا وتركونا في الغار وحدنا أنا مع أختيّ، إحداهما في الثانية من عمرها والثانية في الرابعة.
وانضمّت أجسادنا واجتمعت علينا الأحزان، وتجاوبنا الدموع تلك الليلة الموحشة، لنستيقظ في الصباح على موت أختي ذات الأربع سنوات ولحاقها بأبي!
فدفنتها بجوار قبره، ورحلت بالطفلة ذات العامين أسير في حرّ الشمس حتى وصلت إلى قرية في وادي ثمران، حينها رأتني عجوز ورأت اختي على ظهري تصهرها الشمس فقالت: يا ولدي؛ اترك هذه الضعيفة معي فقد قتلتها الشمس، واذهب لعلها تتعافى ثم تعود إليها، أو تموت فتستريح فتركتها!
 وذهبت إلى جدي في المندق وأعلمته بوفاة والدي وزوجته وأختي الصغيرة؛ فبكاه بحرقة وظلّ يبكيه طويلًا حتى فقد بصره، ثم عدت بعد أيام ألتمس أختي عند العجوز فأخبرتني أنها ماتت بسرعة بمجرد فراقي لها!
واستمر الجوع فترة، ثم فرجها الله سبحانه، ونزلت الأمطار على البلد، وأغاث الله الخلق وكشف ما بهم". أهـ.
قال الراوي عن الشيخ إبراهيم: "هذا ليس فصلًا من رواية البؤساء، ولا مقطعًا من فيلم في الخيال.. إنها قصة إنسان في هذه الأرض قبل سبعة عقود فقط، قصة بقايا الآلام في وجوه الأحبة الذين ترونهم الآن في الثمانين والتسعين من أعمارهم.
اقرؤوا تلك القصص في وجوههم، دعوهم يحدثونكم عن ندوب التاريخ في وجوههم وأكفهم وقلوبهم.
حدثوا أطفالكم عن معنى المأساة والألم والأحزان والفاقة .
كافحوا أيها الأحبة من أجل الحفاظ على النعم بالعبادة والطاعة وترك المعاصي
والتعاون على البر والتقوى.
أكثروا من الدعاء، ودَعوا الإسراف والتبذير واالتفاخر والكبر، فإن الأيام دول.
تراحموا وارحموا الضعفاء والبائسين والمساكين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك".
وإلى وقفات وعبر في هذا الشأن:
قال الله تعالى واصفًا كيفية إحاطة الجوع بالناس كاللباس: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانت آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا من كل مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ...} قال الشنقيطي رحمه الله: "في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، هو أن يقال: كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ...) وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمامِ اللغة والأدب: هل يُذاق اللباس؟! يريد الطعن في الآية، فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس! هب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيًّا! أما كان عربيًّا؟
قال مقيده عفا الله عنه: والجواب عن هذا السؤال ظاهر، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف؛ لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم، وتحيط بها كاللباس. ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبرَّ به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه الإذاقة، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة". (1)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ): "أخبر تعالى أنه يبتلي عباده المؤمنين أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) فتارة بالسرّاء، وتارة بالضرّاء من خوف وجوع، كما قال تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف.
وقال هاهنا: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي: بقليل من ذلك (وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ) أي: ذهاب بعضها (وَالأنْفُسِ) كموت الأصحاب والأقارب والأحباب (وَالثَّمَرَاتِ) أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة.
وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه الله ومن قنط أحل الله به عقابه. ولهذا قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم، قال: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيده". (2)
وقال في قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ): "هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها، ومن دخلها آمن لا يخاف، كما قال تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدنّا)، وهكذا قال هاهنا: (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) أي: هنيئًا سهلًا (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) أي: جحدت آلاء الله عليها وأعظم ذلك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ).
 ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلّا خلافه، فدعا عليهم بسبعٍ كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم.
وقوله: (وَالْخَوْفِ) وذلك بأنهم بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة، من سطوة سراياه وجُيوشه، وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار، حتى فتحها الله عليهم، وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم.
وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم، فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بَدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العَيْلَة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم، وسادتهم وقادتهم وأئمتهم". (3)
والنعيم محلُّ السؤال غدًا بين يدي الله تعالى، قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا فمرّ بي فدعاني فخرجت إليه، ثم مرّ بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى أتى حائطًا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: "أطعمنا". فجاء بِعذْق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، وقال: "لتسألُنَّ عن هذا يوم القيامة". قال: فأخذ عُمَرُ العذْقَ فضرب به الأرض، حتى تناثر البُسرُ قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئول عن هذا يوم القيامة؟ قال: "نعم، إلا من ثلاثة: خرقة لفّ بها الرجل عورته، أو كسرة سَدَّ بها جوعته، أو جحر تَدخَّل فيه من الحرّ والقرّ". (4)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟" قالا: الجوع يا رسول الله! قال: "وأنا، والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما" فقاما معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبًا وأهلًا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين فلان؟" (5) قالت: ذهب يستعذِبُ لنا الماء.(6) إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منّي، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بُسْرٌ وتمر ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المُدْيَة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والحلوب" فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا.
 فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده، لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم". رواه مسلم. (7)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نُصِحّ لك جسمك، ونُرْويكَ من الماء البارد؟". (8)
وعلى مرارة الفقر إلا أنّ الغنى أخطر على المؤمن منه، لأنه سبيل اتّباع شهوات النفوس والأجساد وطيش الأخلاق، فعن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف، فتعرّضوا له، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: "أظنّكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟" فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: "أبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم". متفق عليه. (9)
وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر الكفاف فكان غنيًّا شاكرًا وفقيرًا صابرًا، قد جمع الله له معاقد أخلاق البر وأزِمّة معالي الأمور، فقد عرض الله عليه كنوز الدنيا لو شاءها لكنّه رضيَ الكفاف، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبزِ شعير يومين متتابعين حتى قُبض". متفق عليه. وفي رواية: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعًا حتى قُبض". (10) وقالت لعروة: "والله، يا ابن أختي، إن كنّا ننظر إلى الهلال، ثم الهلال: ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلّا أنّه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح (11) وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا". متفق عليه.(12)
وعن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه مرّ بقوم بين أيديهم شاة مَصليّة (13) فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير". رواه البخاري. (14)
وعن أنس رضي الله عنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خِوَانٍ (15) حتى مات، وما أكل خبزًا مُرَقَّقًا حتى مات". رواه البخاري. وفي رواية له: "ولا رأى شاة سميطًا (16) بعينه قط". (17)
وذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقْلِ (18) ما يملأ به بطنه". رواه مسلم. (19)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: "ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ (20) من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى. فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْخلًا من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه (21)". رواه البخاري. (22)
وعن خالد بن عمير العدوي، قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميرًا على البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذَنَت (23) بصُرْمٍ، (24) وولت حَذَّاء، (25) ولم يبق منها إلا صُبابة (26) كصبابة الإناء يتصابّها (27) صاحبُها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يُدرك لها قعرًا، والله لتُملأنّ، أفعجبتم؟!
 ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتينّ عليها يوم وهو كَظِيظٌ (28) من الزحام.
 ولقد رأيتُني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعامٌ إلا ورق الشجر، حتى قرحت (29) أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتّزرت بنصفها، واتّزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله صغيرًا". رواه مسلم. (30)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزارًا غليظًا، قالت: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين. متفق عليه. (31)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: "إنّي لأوّل العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحَبْلَة، وهذا السَّمر، حتى إن كان أحدنا ليضعُ كما تضعُ الشاة ما له خُلْط"ٌ. متفق عليه. (32)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قُوتًا (33)". متفق عليه. (34)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير". متفق عليه. (35)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهلُه لا يجدون عشاء، وكان أكثرُ خبزهم خبزُ الشعير". (36)
وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير، ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة (37)، ولقد سمعته يقول: "ما أصبح لآل محمد صاع (38) ولا أمسى". وإنهم لتسعة أبيات. رواه البخاري. (39)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أَدَمٍ (40) حشوه ليف". رواه البخاري. (41)
وهكذا صبر أصحابُه على المرارة واللأواء لعلمهم أن الدنيا متاعُ المسافر وزادُ الراكب وبُلْغَةُ الطريق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورتُه". رواه البخاري.(42)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: "أبا هرّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق" ومضى فاتّبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت، فوجد لبنًا في قدح، فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان - أو فلانة - قال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي" قال: وأهلُ الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها. فساءني ذلك، فقلت: - أي في نفسي - وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنتُ أحقُّ أن أصيب من هذا اللبن شربةً أتقوّى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم؛ وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن. ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا، فأَذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "يا أبا هرّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم" قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يردُّ علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي القوم كلُّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: "أبا هرّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت، فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا! قال: "فأرِني" فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى، وسمّى وشرب الفضلة. رواه البخاري. (43)
وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "لقد رأيتُني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشيًّا عليّ، فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع!". رواه البخاري. (44)
صُفْرُ الوجوهِ كأنَّ السُّلَّ خَامَرَهُمْ ... وما بهم غيرَ جَهْدِ الجوعِ من باسِ
إن السعيدَ من ولد آدم هو من كان عظيمَ الإيمان راسخَ اليقين رخيَّ البال بالقناعة، وهي الحياة الطيبة، فعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه، (45) معافى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها". رواه الترمذي وحسّنه. (46)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه". رواه مسلم. (47)
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس، يخرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخَصاصة -أي من الجوع، وهم أصحاب الصفة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين. فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: "لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة". رواه الترمذي وصححه. (48)
والله تبارك وتعالى يبتلي أولياءه حتى إذا ضاقت أمورهم فرّجها برحمته، وإن تعسّرت أحوالهم يسّرها بفضله، وإن أظلمت نفوسهم نوّرها بهُداه، وإن انقطعت سُبُلهم وصلها بإحسانه، فهو طبيب عباده يبتليهم ليرفع درجتهم ويطهّرهم، وفرجه لهم عند حاجتهم أقرب إليهم من رمش عيونهم، فليس مع الله ضيعة. وغمسةٌ في الجنة تُنسي شقاء الدنيا كله!
يا صاحب الهم إن الهم منفرج... أبشر بخير فإن الفارج الله
وإذا بُليت فثق بالله وارض به.... إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة... لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد... فحسبك الله في كل لك الله
فالبلاء إن نزل معه الصبر والرضا فهو رحمة ونعمة، فإن قابله بجزع وتسخّطٍ فهو عذاب إلى عذاب. فكلُّ مصيبة ليست في الدين فهي نعمة في الحقيقة.
 وأولياء الله مهما اشتدت بهم البلايا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال ربنا تبارك وتعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وقال سبحانه في الحديث الإلهي: "مَنْ عادى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ (49) وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ، فَإذَا أَحبَبتُهُ كُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا، وَإنْ سَأَلَني أعْطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ". رواه البخاري. (50)
فاشدُد يديك بحبل الله معتصمًا  ...  فإنّه الركن إن خانتك أركانُ
وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّر علينا أبا عبيدة رضي الله عنه، نتلقى عيرًا لقريش، وزوّدنا جِرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصُّها كما يمصُّ الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخَبَط، ثم نبلُّه بالماء فنأكله. قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر(51) فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرًا، ونحن ثلاثمئة حتى سمنّا، ولقد رأيتُنا نغترف من وَقْبِ عينه بالقِلال الدهنَ، ونقطع منه الفِدَرَ كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأقعدهم في وقْبِ عينه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها ثم رحَّلَ أعظم بعير معنا فمرّ من تحتها، وتزوّدنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟" فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. رواه مسلم. (52)
لقد كان احتمال الفاقة بسخاوة النفوس من كريم سجايا العرب، فإنْ صاحبها إيثارٌ ومواساة فهي من الأخلاق بالمحل الأرفع ومن الشيمِ بالمكان السامي، فالمؤمنون يصبرون ويرضون ويؤثرون، (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وقال تعالى في وصف الأنصار: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي مجهودٌ (53) فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء!
 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يضيِّفُ هذا الليلة؟" فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رَحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. – وفي رواية - هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلِّليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوّميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين.
 فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة" متفق عليه. (54)
والعرب تمجِّد الكريم المُؤثِرَ على نفسه، قال عروة بن الورد – وهو من شعراء الصعاليك-:
أَتَهْزَأُ مِنِّي أَنْ سَمِنْتَ وَأَنْ تَرَى ... بِجِسْمِي مَسَّ الْحَقِ وَالْحَقُّ جَاهِدُ
أُقَسِّمُ جِسْمِي فِي جُسُومٍ كَثِيرَةٍ ... وَأَحْسُو قِرَاحَ الْمَاءِ وَالَمَاءُ بَارِدُ
يريد: أنه يقسم قوته على أضيافه؛ فشبّه قسم قوته على أضيافه بقسم جسمه؛ لأنّ اللحم الذي كان ينبته ذلك الطعام صيّره لغيره، ويحسو ماء القراح في الشتاء ووقت الجدب والضيق؛ لأنه يؤثر باللبن أضيافه ويجوّع نفسه حتى نحل جسمه، وهذا شعر شريف المعاني والألفاظ. (55)
وقد حمدوا لحاتم الطائيِّ كرمه وإيثاره، ومن حديثه أن ماويَّةَ امرأةَ حاتم حدَّثت: أن الناس أصابتهم سَنَة فأذهبت الخُفَّ والظلف، فبتنا ذاتَ لَيلةٍ بأشدِّ الجوع، فأخذ حاتم عديًّا وأخذْتُ سفَّانة فعلَّلْنَاهما حتى ناما، ثم أخذ يُعَللني بالحديث لأنام، فرققت له لما به من الجَهْد، فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة. فقال لي: أنِمْتِ؟ - مرارًا - فلم أجبه، فسكت.
 ونظر من وراء الخِباء فإذا شيء قد أقبل، فرفَع رأسَه فإذا امرأة تقول: يا أبا سَفَّانة؛ أتيتُكَ من عند صِبْية جِياع، فقال: أحضريني صبيانَكِ، فواللّه لأشْبِعَنَّهم، قالت: فقمتُ مُسْرِعة فقلت: بماذا يا حاتم؟ فوالله ما نام صِبْيَانك من الجوع إلا بالتعليل!
 فقام إلى فَرَسه فذبَحه، ثم أجَّجَ نارا ودفع إليها شَفْرة وقال: اشْتَوِي وكُلِي وأطْعِمِي ولدك، وقال لي: أيْقِظِي صبيتَكَ فأيقظتهما.
 ثم قال: واللّه إن هذا للؤم أنْ تأكُلُوا وأهلُ الصِّرْمِ (56) حالُهم كحالكم، فجعل يأتي الصِّرْمِ بيتًا بيتًا ويقول: عليكم النار، فاجتمعوا وأكلوا وتَقَنَّع بكسائه وقَعَد ناحيةً حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير، ولم يَذُقْ منه شيئًا.
 وزعم الطائيون أن حاتمًا أخذ الجودَ عن أمِّهِ غنية بنت عفيف الطائية وكانت لا تليق شيئاً سَخَاء وجودًا". (57)
والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم الدميجي
19/1/1441

................................................
1.    أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2 / 460)
2.    تفسير ابن كثير (1 / 467)
3.    تفسير ابن كثير (4 / 608) باختصار.
4.    المسند (5/81) وحسنه الألباني في المشكاة (4182) والأرناؤوط في المشكل (496)
5.    هو أبو الهيثم بن التيهان كما جاء مبيّنًا في رواية الترمذي في جامعه ( 2369)
6.    أي: يطلب الماء العذب.
7.    مسلم 6/116 ( 2038 ) ( 140 )
8.    الترمذي (3358) وصححه، ووافقه الألباني في صحيح الترمذي (3358) والأرناؤوط في الزاد (4/ 197)
9.    البخاري 4/117 ( 3158 ) ، ومسلم 8/212 ( 2961 ) ( 6 )
10.                      البخاري 7/97 ( 5416 ) ، ومسلم 8/217 ( 2970 ) ( 20 )
11.                      المنحة والمنيحة: أن يعطيه ناقة أو شاة أو بقرة، ينتفع بلبنها ويعيدها. النهاية (4/364).
12.                      البخاري 3/201 ( 2567 ) ، ومسلم 8/218 ( 2972 ) ( 28 )
13.                      أي مشويّة.
14.                      البخاري 7/97 ( 5414 )
15.                      الخوان: ما يوضع عليه الطعام عند الأكل. النهاية (2/89).
16.                      أي مشوية. وفعيل بمعنى مفعول، وأصل السمط أن ينزع صوف الشاة المذبوحة بالماء الحار، وإنما يفعل بها ذلك في الغالب لتشوى.
17.                      البخاري 7/98 ( 5421 ) و8/119 ( 6450 )
18.                      الدقل: تمر رديء.
19.                      مسلم 8/220 ( 2978 ) ( 36 )
20.                      أي الذي ليس فيه نخالة.
21.                      ثريناه: أي: بلّلناه وعجنّاه.
22.                      البخاري 7/96 ( 5413 )
23.                      أي: أعلَمَتْ.
24.                      أي: بانقطاع وفناء.
25.                      أي: سريعة.
26.                      الصُبابة: هي: البقية اليسيرة.
27.                      أي: يجمعها.
28.                      الكظيظ: الكثير الممتلئ.
29.                      قرحت: أي صارت فيها قروح.
30.                      مسلم 8/215 ( 2967 ) ( 14 )
31.                      البخاري 7/190 ( 5818 ) ، ومسلم 6/145 ( 2080 ) ( 35 )
32.                      البخاري 8/121 ( 6453 ) ، ومسلم 8/215 ( 2966 ) ( 12 )
33.                      أي: ما يسد الرمق.
34.                      البخاري 8/122 ( 6460 ) ، ومسلم 3/102 ( 1055 ) ( 126 )
35.                      البخاري 4/49 ( 2916 )، ومسلم 5/55 ( 1603 ) ( 125 )
36.                      ابن ماجه ( 3347 ) ، والترمذي ( 2360 )
37.                      أي الشحم الذائب المتغير الرائحة.
38.                      الصاع: مكيال يسع أربعة أمداد. النهاية (3/60)
39.                      البخاري 3/186 ( 2508 )
40.                      الجلد المدبوغ.
41.                      البخاري 8/121 ( 6456 )
42.                      البخاري 1/120 ( 442 )
43.                      البخاري 8/119 ( 6452 )
44.                      البخاري 9/128 ( 7324 )
45.                      أي في نفسه وقومه.
46.                      الترمذي ( 2346 ) وقال: حديث حسن غريب.
47.                      مسلم 3/102 ( 1054 ) ( 125 )
48.                      الترمذي ( 2368 ) وقال: حديث حسن صحيح.
49.                      أي: أعلمته بأنّي محارِب لَه.
50.                      البخاري 8/131 ( 6502 )
51.                      وهو حوت عظيم.
52.                      مسلم 6/61 ( 1935 ) ( 17 )
53.                      أي: مهزولٌ جائع.
54.                      البخاري 5/42 - 43 ( 3798 )، ومسلم 6/127 ( 2054 )
55.                      المجالسة وجواهر العلم (5 / 376) بتصرف.
56.                      أي: جماعة البيوت.
57.                      مجمع الأمثال (1 / 182)