إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الثلاثاء، 26 فبراير 2019

مرضُ الجسد، نِعْمَ الصاحب للآخرة

مرضُ الجسد، نِعْمَ الصاحب للآخرة
الحمد لله وبعد، فالمؤمن يرى الأمراض نعمًا لا عذابًا، هو لا يطلبها بل يسأل ربّه العافية، لكن إن نزلت به صبر ورضي وشكر. فأسقامُ الجسد على ثلاثة أنحاء: فمنها العارض وأعظمه الحُمّى -أمُّ مِلْدَمٍ -فهي تدخل كل عضو وتفورُ في كل مفصل، فهي كفارة طيّبة للخطيئات.
 الثاني: أمراضٌ ملازمة تحل معه وترتحل، لا تفارقه في فراشه ولا طعامه ولا لذته ولا عبادته كالسكر والضغط والعاهة ونحو ذلك من الأسقام التي يسمُّونها: الدائمة، فهي نِعْمَ الصَّاحبُ والرفيقُ في الطريق للآخرة، فالجسدُ يتأقلمُ ويتعايش معها على طول السنين، فلا يتأذى بها كشِدَة العارض النازل، مع ذلك فهي تنظّفُ صحيفته وتُنقّيها على مرّ الأيام من الذنوب، حتى إذا وافى العبدُ ربَّه إذْ كثير من خطاياه قد زالت بسبب تلك الأسقام في دنياه.
والثالث: الأسقام المُفضيةُ للوفاة بإذن الله تعالى، فمنها ما هو شهادةٌ لصاحبها، ومنها دون ذلك، وكلها خير ونعمة لمن احتسب الأجر ورضي بالله ربًّا مدبِرًا، وحمدَهُ على كل حال، وشكره على كل فضل. وبالجملة: فالمؤمن يعلم أنّ المصيبة كفارة للسيئات ورفعة للدرجات، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وقال إبراهيم المقري وقد رفسته بغلته فكسرت رجله: "لولا مصائب الدنيا؛ قدمنا على الله مفاليس".
والمرضُ لا يُقرّبُ الأجلَ، ولا الصحةُ تدفعُهُ، إنما هي أسبابٌ مجرّدة، أما المُسَبِّبُ الخَلّاقُ الذي يُنزل الداء ويرفعُهُ ويُحيي ويُميت فهو الله وحده، فالمؤمن يبذل السبب وقلبه معلّق بالله تعالى. حتى من أصيب بمرض خطير كالسرطان فهو بين إحدى الحسنيين؛ شفاء أو شهادة بإذن الله، لأنّه إن لم يدخل فيه بالنص كالطاعون والمبطون ومريض ذات الجنب؛ فهو داخل بالمعنى للعلل التي ذكرها العلماء في توصيفهم لأمراض الشهادة.
ومن رحمة الله بعبده أن تأتيه رسلُ ربه كالأمراض الخطيرة، فتلمح له بقرب رحيله إليه، فيستعد للقاء الله ويشتاق بتوبة وعمل، ويتخفّف من كدر الدنيا لراحة الآخرة، وينفض عن ظهره أوزار الخطايا ومظالم العباد، إنما الفاجعة بموت الفجأة، والله المستعان.
إبراهيم الدميجي

السبت، 9 فبراير 2019

الحَسَدُ آكلُ الحسنات


الحَسَدُ آكلُ الحسنات
الحمد لله وبعد، فإن المؤمن حريصٌ على تنقيةِ قلبِه وتصفيةِ صدره وغسْلِ روحِه من سيئات الأخلاق ودنيا النفوس. ولقد تأملت سيءَ الأخلاق فما رأيت أشأمَ من خَصلتي الكبر والحسد، ثم تدبرتُها في القرآن فوجدتُهما سبب إبلاسِ إبليسَ في الشرِّ، وارتكاسِهِ في الخذلان، ووقوعِه في اللعنة والرجم.
لقد حسد آدمَ وتكبّر عليه، فأخلِق بمن تشبّه به في سواد قلبه أن يَمتنعَ الخيرُ عن قلبه ومِن قلبه، فحُبُّ الخيرِ للناس مفتقرٌ لقلبٍ واسع طاهر، ونيّةٍ طيبة حسنة، وقبل ذلك لمحضِ توفيقٍ من الرحمن.
 والشيطانُ حريص على تلويث قلوبِ العباد بسواد خبثه وقتار شؤمه، ولم يجد من رواحله كالحسد والكبر. فعند أحمدَ بسند حسنٍ عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "دَبَّ إليكم دَاءُ الأُممِ قَبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، وَهي الْحَالِقةُ أمَا إنَّي لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، ولكن تَحْلِقُ الدَّينَ، والَّذي نَفْسي بِيدِه لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنُون حتى تَحابُّوا، أَلا أدُّلكم على مَا تَتَحَابُّونَ بِهِ؟ افْشُوا السلامَ بينَكم".
فالمؤمن الناصح لنفسه يحرسُها من آكِلِ الحسناتِ الحسد، ولا يسكنُ الحسدُ إلا قلبَ وضيعٍ، ولا يتمكنُ إلا من نفسِ خسيس، أما المؤمن فيردُّه إيمانه ويحجُزُه ورعه، وأما العاقل فيُثنِيهِ عقلُهُ، وأمّا الشريف فيستحي لشرفِهِ. وقيل لبعضهم: ما بالُ فلانٍ يُبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة، فذكر جميع دواعي الحسد.
أخي المؤمن: إياك والحسد! فإنه آكل الحسنات، فيأكلها كما تأكل النار الحطب، وموبِقُ إبليسَ في أسحقِ الدركات، وهو أوَّلُ ذنبٍ عُصيَ اللهُ به، واعلم أنه لا يجتمع في قلبٍ حسدٌ مع حبِّ الخيرِ للناس، فلا بدَّ لأحدهما أن يُزيحَ مكانَهُ أو بعضَهُ للآخر. فاغسِلْ قلبك من حوبات الذنوب، وطهّر صدرك من نجاسات الأحقاد والشحناء ولوْثات الحسد والبغضاء. ومن توكل على ربه وفوض إليه أمره أوشك أن يصل لتوفيقه ورضوانه بإذنه تعالى ورحمته، فليس مع الرحمن يأسٌ.
واعلم أنّ كثيرًا من نعرات الشقاق بين الناس فسببُها الخفيُّ حسدٌ كامنٌ في الضمائر، مستترٌ عن الظواهر، ولكن تشمّه الأرواح، وتستوحشه النفوس، ويُظهره الخذلان، ويُختم بسوء العاقبة والحرمان.
 والحاسد معترض على قدر الله تعالى بحاله: قال الله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ألا لا تعادُوا نِعَمَ الله، قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
أيا حاسدًا لي على نعمتي ... أتدري على من أساتَ الأدب
أسأت على الله في حُكْمِهِ ... لأنّك لم ترضَ لي ما وهب
والحاسد سقيم غَمِّهِ وقتيل هَمِّهِ، وذكروا عن الإمام الشافعي قوله: إن سمعتَ بسفينة تمشي على الرمل فصدّق، لكن إياك أن تصدّق أن حاسدًا يبيتُ قرير العين! وقال عمر رضي الله عنه: يكفيكَ من الحاسد أنه يغتمّ وقتَ سرورك. وقال الفقيه أبو الليثِ السَّمَرْقَندي رحمة الله تعالى علينا وعليه: تَصِلُ إلى الحاسد خمسُ عقوبات قبل أن يصل حسدُهُ إلى المحسود: غَمٌّ لا ينقطع، ومصيبةٌ لا يُؤجرُ عليها، ومذمّةٌ لا يُحمدُ عليها، وسَخَطُ الربِّ، ويُغلق عنه باب التوفيق. فالحاسد شقيٌّ مكلوم مهموم، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لم أرَ ظالمًا أشبه بالمظلوم من حاسد.
 وقال الأصمعي: رأيتُ أعرابيًّا قد بلغ عمرُه مئةً وعشرين سنة، فقلت له: ما أطولَ عُمُرَك، فقال: تركتُ الحسدَ فبقِيتُ. كما قيل: قاتلَ اللهُ الحسدَ ما أعدلَهَ، بدأَ بصاحبه فقتلَه، فالنارُ تأكلُ بعضَها إن لم تجد ما تأكلُه.
ولقد تأملت في الناس فرأيت أن الحسد يستتر خلف كثير مما يسمّونه أسباب كراهية، فَجُزْ ناديهم بطهارة قلبك وسلامة صدرك وحسن ظنك. وإن البرَّ يا صاحبي أسلافٌ.
والحسد والكبر خصلتا إبليس، ومطيّتاه لغزو قلوب العباد، ولو رُفع الحسدُ من الأرض؛ لأغلقت المحاكمُ أبوابَها. ومن الخطأ أن تطلب ألّا تُحسد فلكل نعمةٍ حاسد.
وقال ابن تيمية: "قد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم". وأرى العداوةَ لا أَرَى أسبابَها! لذلك فعند كلامك على الأقران - مهما كان حالهم وعلمهم ومقامهم - حاذر أن تلامس المقارنة بينهم، لأن هذا من شأنه أن يثير الحسد الكامن في قلوبهم. قال ابن تيمية: الحسد مرض غالب، لا يخلص منه إلا القليل من الناس!
ولقد صدق أبو الأسود الدؤلي إذ قال: "إذا أردت أن تعظم فمُت". فالميِّتُ تكبُرُ محاسنُه، وتُنسى معايبه، وتَدفِنُ الرحمةُ به الحسدَ عليه. وبالتغافل عن الحُساد يستريح الفؤاد.
فاحرص - رعاك الله – على سلامة صدرك وليكُنْ  قلبُك طاهرًا من كل ما يُشينُهُ، فلا تحمِلْ على الناس لأجل دنيا.
وسلامة الصدر هي الطريق لحسن النصح للمسلمين، فمن أراد بلوغ مرتبة أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه فليبدأ بتفقّد سلامة صدره لهم. فالمؤمن قلبُه سليمٌ، وصدرُهُ سليمٌ، ونصحُه للناس صافٍ مُتدفِّقٌ، يُحب لهم ما يُحب لنفسه من خيري الآخرة والدنيا.
وصدره سالم من سواد الحسد، وقَتَرَةِ الحِقد، ودخانِ الضغينة، فهو سليمٌ كقلب الطيرِ البريء، طهَّر قلبَه من نتنِ معصية، وقُبح خطيئةٍ وضِرَامِ بغضاءٍ لمسلم، ومثلُ هذا موعودٌ برحمة ربه وجزيل هباته. (جزاؤهم عند ربهم جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه).
وهل تعلم سرَّ استنارةِ الوجوه وانفساحِ الصدور: إنه القلب السليم! فتفقّد – رحمك الله - طهارةَ قلبك، وسلامةَ صدرك، فإنها من نفيسِ رأس مالك في الدار الآخرة، فنِعَمّا طهارةُ القلبِ ذخيرةٌ بين يديك غدًا، وأكرِمْ بها قربانًا وزُلفى إلى مولاك أبدًا، أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم: (من أتى الله بقلب سليم).
فإن السعيد من ولد آدم هو من اتقى الله تعالى حق التقوى، وتحلى بسلامة الصدر وطهارة القلب، فالفائز عند الله غذًا هو من سَلِمَ صدره اليومَ. والمؤمنُ طاهرُ القلب كأبيه آدم عليه السلام، فإن خُدِعَ يومًا لطيبته فلهُ سلَفٌ صالحٌ بأبيه، الذي لم يكن يتصوّر أن هناك من سيقسم بالله كاذبًا (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين).
إنّ سلامةَ الصدرِ خلق شريف، يتحلّى به أهلُ المروءاتِ العظيمةِ، والنفوسِ الساميةِ والرغائبِ الكبرى في فلاح الدار الآخرة. وكان السلف رحمهم الله يحفظون لسالمِ الصدر هذه الخَصلةَ ويحمدونه عليها. قال اياسُ بنُ معاوية: كان أفضلُهُم عندَهم أسلَمُهُم صدورًا وأقلُّهُم غِيبة.
ومن كان قلبه سليمًا الحسدِ وصدرُهُ خاليًا من الحقدِ فقد تنعّم بشيء من نعيم الجنة، فمِنْ نفيسِ نعيمِهَا سلامةُ صدورِ سكانِها وراحتُهم، قال ربنا تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين).
وسلامة الصدر منحةٌ من الله تعالى ومحض فضل من لدنه، يختص به من أراد توفيقه من خواصِّ عباده. وسئل الإمام أحمد: ما التوفيق؟ فقال: ألّا يكلك الله إلى نفسك. فالقلبُ قُلَّبٌ مالم يعصمه مولاه، والصدر ضيّق ما لم يفسحه الله، والهم ملازم ما لم يرفعه الله. (إن في ذلك لآيات لأُولي النهى).
إنّ سالمَ الصدرِ على عباد الله يعيشُ بين الناسِ وجنتُهُ في صدره، وبستانُه في قلبه، وسعادته وسكينته في روحه، ينظرُ إليهم بعيني قلبِه السليمِ، وصدرِهِ الناصحِ الناصعِ الواسعِ، فلا يرى شيئًا من نَكَدِهِم عليه يستحقُّ ذلك المقابلَ، فينقلبُ إليهم سليمَ الصدرِ، حسَنَ الظنِّ، مُحبًّا لهم كل خيرٍ يُطيقه، مُسديًا لهم كل فائدة يسطِيعها، لعِلمِه أنه لم يُخلق لحملِ همومِ دنيا وغمومِ فانية.
إنه فقط يحمل هم آخرته، ويسعى لتحصيل رضى مولاه، فإن صادَفَهُ ظلمٌ له أو أذىً؛ لم يتكدّرْ تَكَدُّرَ الهلوعين، ولم تَضِقْ نفسُهُ بأمرٍ هو عند الناسِ عظيمٌ وعندَ الأتقياءِ تافه.
 فَمَا كُلُّ ما راجتْ عند الناس عظمَتُهُ عظيمًا، وما كلُّ ما تهالك الناس على تحصيله يستحق، ولا كلّ ما حَمَلَ الناسُ همَّ إزاحتِه واجتنابِه حقيقٌ بذلك، فالميزانُ هو ميزانُ الآخرة، وإنما المعوّلُ على رضى الرحمن. ومن كان معيارُهُ الآخرة؛ نَفَذَتْ بصيرتُه، واستقام عمله، ومن كان ميزانُهُ العاجلة؛ عمي قلبه وانتكس عمله. (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار).
والدنيا كَدرٌ وكَبَدٌ وعناء فلا تفرح بها ولا تحزن لها ولا تعطها فوق قدرها، ولن يُنالُ منها نعيمٌ إلا وفي طَرَفِهِ بؤسٌ، وما تحت الخضراءِ وفوقَ الغبراءِ بمستريحٍ (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
إذا أنتَ لم تشربْ مِرَارًا على القَذَى  ...   ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مَشَارِبُه
إبراهيم الدميجي

الأحد، 3 فبراير 2019

الاستهزاء بالدين ردّةٌ عنه، وغيبة المؤمنين نقصٌ فيه.


الاستهزاء بالدين ردّةٌ عنه، وغيبة المؤمنين نقصٌ فيه
الحمد لله، وبعد: فإن من أصول الإسلام تعظيم رب العالمين وإجلاله وهيبته وخشيته، ومن لوازم ذلك تعظيم شعائره وذلك شرط التقوى، قال سبحانه: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وقال: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
وما من عضو بعد القلب أشدّ خطرًا من هذا اللسان، وما من جارحة أحقُّ بطول حبس منه، وإنه لعجيبة من عجائب خلق الله تعالى، ونعمة جليلة من أكبر آلائه، فبِهِ يكون البيان الذي نبّه ربُّ العزة لجلال شأنه بقوله: (علمه البيان).
فبه لسانًا وبَنانًا يُعرب عن مكنون ضميره ورغائب نفسه، وبه يطلب حاجته، وبه يعبد ربه ويدعوه ويلهج بذكره وشكره. فهو من أعظم وسائل رضى الله عن عبده لمن أحسن استعماله في طاعته.
وبالمقابل فهو هاوية لا قرار لها إلا في دركات الجحيم لمن أطلق عنانه بالكفر والشرك ومساقط غضب الجبار جل جلاله، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم". وتأمّل: "لا يلقي لها بالًا"! إنه اللسانُ، ذلك البَنَّاءُ العجيبُ للحسنات، والهادمُ لها!
 من هنا يتبيّن للمؤمن خطر هذه الجارحة التي تسمّى اللسان، وفي زماننا – زمان الكتابة – أصبح القلم أحد اللسانين، فاحفظ لسانَيك لعلّك تنجو. ولا يكن لسانُك: كحسامِ السيف ما مسَّ قطع!
وإن كان بغيُ السِّنان مُعطِبٌ فإن مبدأه اللسانُ، وكم في المقابر من قتيلِ لسانه، ومَن سلّ سيف بغيِ لسانه قُتل به، وعقلُ المرءِ مدفون بلسانه، فاللسان غطاء العقل، فمتى نطق انكشف الغطاء، ولكل عملِ جارحةٍ غدًا من الله طالبٌ وسائلٌ، فهل أعددت جوابًا صوابًا؟!
ولا بد للمؤمن أن يعرف حدود ربه حتى لا يتجاوزَها عن جهل أو جهالة، ولقد أَوْلَى أهل العلم مناهي الشرعِ في الألفاظ عناية تامّة، لأن اللسان مؤاخذ بنطقه ومسؤول عن كلامه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
ولا بد للمؤمن أن يعرف حدود ربه حتى لا يتجاوزَها عن جهل أو جهالة، ولقد أَوْلَى أهل العلم مناهي الشرعِ في الألفاظ عناية تامّة، لأن اللسان مؤاخذ بنطقه ومسؤول عن كلامه.
ومما يحزن قلب المؤمن ما يراه من تساهل بعض الناس في شأن الاستهزاء بالدين وشعائره، مع أن ذلك من موجبات الردة عن الإسلام عياذًا بالله تعالى، قال في شأن المستهزئين بالدين: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). وتدبّر كيف أثبت لهم إيمان ثم كفروا بكلمة! قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: "إنما كنا نخوض ونلعب" ما يلتفت إليه رسول الله، ويقرأ: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون..) الآية. قال الإمام المجدد: وفيه أن من الأعذار ما لا يُقبل من صاحبه.
وقال العلّامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: من كان ديدنه قول: المطاوعة كذا وكذا. فهذا يخشى عليه أن يكون مرتدا، فلا ينقم عليهم إلا أنهم أهل طاعة.
وقال العثيمين رحمه الله: الذين يسخرون من الملتزمين بدين الله فيهم نوع نفاق، فالله قال عن المنافقين: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: من قال لآخر: يا لحية. وقصده السخرية فهو كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر، لكن لا ينبغي أن يدعوه بذلك.
وقال ابن جبرين رحمه الله: وقع كثير من الشباب في ردة جماعية، وقد دخل عليهم الشيطان من بابين: ترك الصلاة، والاستهزاء بالدين.
فاحفظ لسانك إن رمت النجاة، واعلم أن من أعظم أسباب حفظ اللسان: دوامُ ذكر الله تعالى، فالذكر يملأ فراغ القلب بتعظيم العظيم، ويشغل اللسان بالأمر العظيم، حينها يرى صاحبُه نفاسة عمره فيحفظه. (ولذكر الله أكبر). والذكر هو اتصال البال بالله تعالى بأي وجه كان، بالقلب: تذكُّرًا وتفكُّرًا واعتبارًا، وباللسان: بالقرآن والأذكار وقول الخير، وبالأفعال الشرعية.
 وللذكر مراتبٌ وتفاضلٌ: في أنواعه وأفضلها القرآن، وأحواله وأشرفها السجود، وأزمنته وأطيبُها السَّحر، وأمكنته وأجلّها عَرَفَة، والدين كله ذكرٌ، وضدُ الذكرِ الغفلة.
 فعلى المؤمنين بعامّة وطلبة العلم خاصّة الاعتناء بحراسة اللسان من فخّ إبليس في المجالس: الغِيبة. فهي من كبائر الذنوب، مع ذلك فحال كثير من الصالحين معها كالمستحلّين لها بالحال لا بالاعتقاد، خذلانًا وخيبة!
 فالنفس تستروح لتنقّصِ الناس لتستريح من لومها على تقصيرها، وهذا الإسقاط الخفي إن لم يتداركه الناصح لنفسه في نفسه فإنه يستفحل به حتى يأكل حسناته بكيل مظالم العباد. وقد قيل: القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفُها ألسنتُها، فانتظر الرجلَ حتى يتكلم، فإنّ لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج.
لقد توسّع بعضهم في التساهل في الغيبة بما لم تُبحه الشريعة، فالأصل الثابت هو حرمة العرض المسلم، فلا يباح خرق هذا الأصل إلا على برهان من الشريعة، وليس كلّ من زعم أنه يحذّر من بدعةٍ محقّ في تحذيره ولا مستنٌّ في أسلوبه وطريقته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". متفق عليه.
  وكذلك حمّالةُ حطب السيئات: النميمة. وبعضهم ينمّ ولا يشعر ظانًّا أن النميمة لا تكون مذمومة إلا إن كانت بقصد سيء، وما علم أن النميمة هي نقلُ الكلام على وجه الإفساد بأي وجه كان، فكم من ناقل كلمة على وجه المرح والتفكّه أفسد مودة القلوب وأحيى ميت العداوات، كيف إن صحبها مكر ودناءة وسوء طوية. ومن حمل إليك حطب نميمته في الناس، فاعلم أنه سيسلخك قريبًا في قدورهم.
 ومن جعل قلبه وعاءً لاستقبال النمائم، وساعدها بأجنحة سوء ظنونه بالناس؛ فليبشر بخراب مدينة سروره، واضمحلال هناءة عيشه، فالعَضْهُ نفّاخةُ فتن.
 ففتّش صحيفتك ونقّها اليوم قبل نشرها غدًا، ونقّ سريرتك الليلة قبل ابتلاء السرائر غدًا، وتذكّر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمّام". ولما مرّ بقبرين قال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير! بلى إنه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة.." متفق عليهما.
ومن بوائقِ الألسن: التنابزُ بالألقاب بغيًا وعدوانًا، ويكأن زماننا هو زمان هذا النوع من البغي، والله المستعان. ولما قال رجل لصاحبه: إني لأرحمُك مما يقول الناس فيك؟ قال: أفتسمعُني أقولُ فيهم شيئًا؟ قال: لا، قال: إياهم فارْحَم.
فاعتقل قلمَك ولسانك في محبس حكمتك وعقلك وورعك، ولا تُطلِقْهما إلا بخير، وفكّر واعتبر بمآل خطواتك قبل الإقدام، وصوّب قراراتك قبل انطلاق السهام.
وإن أردت الإحساس بحلاوةِ الإيمان وتذوُّقِ لذة العبادة والانتعاش ببرد اليقين واستشعار نور الصدر ودفئه وانفساحه فانشغل بما يفيدك في المعاد، وبما هو من مهمّاتك الأوّلية وما خلقتَ من أجل تحقيقه.
وتدبر حال أهل الجنة: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) لمّا طهّرُوها في الدنيا بيّضها لهم يوم لقياه ورؤيته، وأذلّوها له بالسجود في الدنيا فأعزّهم في دار كرامته. فابحث – وفقك الله - عن نعيمك المرتقب وسعادتك اللذيذة في سجدة خاشعة طويلة تغسل فيها همومك وتبخّر من صدرك غمومك: (اسجد واقترب).
ومتى تعلق المؤمن بكلّيته بربه، وفوّض إليه كل أمره، وقطع عن قلبه كل حبال الرجاء بالخلق ويأس منهم ووثق بربه؛ فهو حريّ حينها بكرامة الله له ولطفه به، فسلّم أمرك للسلام.
 فإذا تبصّرت مواقع رُشدك وعواقب غيّك، وانتبهت لعيوبك وأبصرتَها، وحرستَ قلبَك وطهّرته، وحصّنت عقلك ونفسك بالعلم والحكمة ومعرفة دخائل النفس وحظوظها العاجلة الخفيّة؛ فستذوق حينها بلسان قلبك حلاوة ثمار الإيمان، وستبتهج بحياتك في رياض القرآن، وستذوق نعيمًا في الدنيا وهو في حقيقته رقيقةٌ من نعيم الجنان، والله الموفق وهو المستعان وعليه المعوّل والتكلان.