إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 10 أبريل 2015

عبدٌ حفظ الله فحفظه الله

عبدٌ حفظ الله فحفظه الله
   الحمد لله وبعد:
   لقد سُمِّي الإنسان من الاستئناس فهو مدني بطبعه، يستوحش في الوحدة ويأنس للجليس، فلا بد له إذن من أنيس وخليط يشاركه في ميوله ويقاربه في رغباته ويتحدث إليه بمكنون نفسه، وبالطبع سيتأثر به لا محالة، ومن هنا شدّد الشرع في شأن الجليس، إذ الطباع سراقة والجبلات نَزَّاعة!
   ومن بعض مداخل ذلك الباب ذكر الله تعالى قصص الأنبياء والمرسلين والصالحين في كتابه للائتساء والاستئناس والاعتبار، فحتى وإن لم تدركهم بحاضرك فأنت معهم بتاريخهم وأخبارهم وآثارهم. لذلك كان ذكر سير الصالحين من محفزات الأعمال الصالحة ومن موقدات كوامن الهمم لدى من يسمعها ويتلوها.
   ومن هنا جاءت هذه الوقفة الحزينة المودعة لرجل عرفته من قديم، فليست أحرفي للتأبين ولا العزاء – وإن سالت مقلة الروح على أسَلَةِ القلم بلا قصد فللمحبة أحكامٌ- والمؤمن في حاجة لِلَملمة شتات قلبه في هذه الدنيا المروّعة، ومن سبل تحصيل ذلك الاعتبار بسير الراحلين من الصالحين.
    لقد كان الراحل الفاضل ينقش في لوحة الذاكرة أجمل خطوط الذكريات وأبهى صور الماضيات، ذلكم هو سليل بيت النبوّة، وفرع الدوحة الرسولية، الشيخ غزاي بن منصور العبدلي الحسني الشريف رحمه الله، أحسبه ولا أزكي على الله أحدًا أنه ممن قام بحق نسبه من التقوى والعلم والعمل، وفي الله خلف من كل مفقود، والجنة ملتقى كل حبيب بحبيبه.
ألا من  لي  بأُنسكَ يا   أُخيّا        ومن  لي  أن  أبثّك  ما    لديّا
طوتكَ خطوبُ دهرٍ قد توالى        لذاك  خطوبه   نشرًا     وطيَّا
كفى  حُزنًا  بدفنك   ثم   إني        نفضْتُ تراب قبرك من    يديَّا
وكانت في حياتك لي عظات        وأنت اليوم أوعظ  منك    حيّا
فيا أسفي عليك وطول شوقي        إليك  لو  اْن  ذلك   ردَّ   شيّا
   لكل إنسان ملمحٌ راسخ وصفة تعلو ما سواها وتنتظم ما عداها مهما كان جامعا لأبواب برٍّ وسالكٍ لطرق ثواب وزلفى وقربى، وأحسب أن تلك الصفة الكاشفة لفقيدنا غزاي هي: الصرامة والحزم مع النفس والجد الذي لا يلين على مدى ستين عامًا، فمن شرخ شبابه حتى شيخوخته وهو مضرب الأمثال في الجد في معالي الآخرة! لذلك فلا عجب إذن من تنوّع توفيق الله له بفتح أبواب الإعانة له في العبادات على مدى هذه السنين – ولا نزكيه على الله – "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"
   نعم، لا يخلو المؤمن من أُويقات تهفو نفسه فيها لفضل عبادة أو علم أو صدقة أو ما سوى ذلك من أسهم البر، فلكل عابد شِرّةٌ ولكل شرّة فترة، ولكن أن يشرع المؤمن في ورع دقيق، وتتبع للسنة للعمل والتطبيق، وطلب للعلم جادّ، وصدقات هائلة، وإصلاح بين الناس، وعبادة طويلة، وذكر دؤوب، وورد للقرآن لا يتخلف عنه حتى مماته؛ فهذا منزل الخُلَّصِ من عباد الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد قال ابن الفرخي رحمه الله في وصية تختصر وسائل السير إلى الله تعالى: ليكن همّك مجموعًا فيما يرضي ربك، فإن اعترض عليك شيء فتب من وقتك. وكما أوصى حاتم أحد خاصته: كل شيء تخشى الموت لأجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت!
   ومن أراد الاستقامة فسبيلها بفضل الله أمران: البصيرة والإرادة، فالبصيرة تهديه والإرادة تقوّيه، وعلى قدر تحصيله لهما يكون توفيقه بإذن ربه. التوفيق للعبادة والصبر عليها لا يأتي بعد فضل الله إلا بصلاح القلب مع الدأب على المصابرة في ذات الله، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
   ولطالما ذكّرني عزم الفقيد بجواب الإمام أحمد لمن سأله: متى الراحة؟ فقال: عند أول قدم تضعها في الجنة. (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)
      بدأ الشيخ غزاي رحمه الله بنفسه فغزاها في سبيل الله فانقادت، وجاهدها في ذات الله فاستقامت، بَرَّز على كثير من لِدَاته وبزّهم بعلو همّته. قد نحتت عقود السنين على محيّاه معالم القناة التي لا تلين لرغائب الفانية. قد كان الزهد حشو إهابه، والورع ملء ثيابه، ولطالما ذكّرني حاله قولَ ثابت البناني: جاهدتُ نفسي على قيام الليل عشرين سنة، فتلذذت به عشرين أخرى.
   هو عبدٌ من عباد الله الصالحين المصلحين – أحسبه والله حسبيه - جمع الله له بين العلم والعمل، كف الله بصره وفتح بصيرته، فحبب له الصلاة والقرآن والذكر والدعاء والنسك والصدقة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتلك أبواب خير لا تنال بالهُوينى، فلا بد دون الشهد من إبر النحل، وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين (أي ألحق صدقة بأخرى، أو أتبع عمل صالح بآخر من جنسه) في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعُي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة" قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
   بدأت بواكير صلاحه بحب القرآن العظيم، وقد كان شيخه محمد الدميجي رحمه الله حازمًا جادًّا – ولعله أفاد منه تيك السجية – فكان يأمره بعقد خمسين عقدة ثم يشرع في مراجعة حزبه المحفوظ، وكلما أنهى عرضةً حلّ عقدة حتى رسخ القرآن في قلبه، وقد كان شيخه يعقد لنفسه في صباه مئة عقدة فأثمر ذلك أن قرأ القرآن كله في جلسة واحدة عن ظهر قلب!
   وقد بلغ من وفاء الشيخ غزاي لشيخه محمد أن جمعه مع والديه في كل دعاء لهما في سجوده، رحمهم الله جميعًا. فحدثوني عن مثل هذا الوفاء في ذا الزمان؟!
   إذن فبداية خيط الصلاح هي العيش مع القرآن وبه، وكفى بالقرآن توفيقًا، ولصاحبه مصلحًا وشافعًا، فهو وربي نعم الأنيس، والسعيد حقًّا من حفظ له حقه. ولو كان للسعادة معيار حسّي لصُعق أهل المال والجاه والسلطان والصحة من افتقارهم لها إزاء غنى بعض أضدادهم منها! فلا تذهب بعيدًا في البحث عنها فهي بين عينيك فخذها واشكر ولا تكفر، (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
   لقد قد كان للقرآن شأن خاص عنده رحمه الله، فكان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار الساعات الطويلة في صلاته وورده في بيته وبيت ربه، وعند الحميدي عن محمد بن المنكدر قال: "إن الله عز وجل ليحفظ بحفظ الرجل الصالح ولده وولد ولده ودويرته التي فيها والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ وستر من الله عز وجل". حدّث عنه الشيخ فيحان بن ماجد أنه قد سمعه يتلو القرآن وهو في غيبوبته التي لم يفق منها، وكان يتلو قول ربه – وتأمل -: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا) يا إخوتاه: إن للإخلاص شأنٌ عظيم فاجتهدوا يا رحمكم الله في تحقيقه.
   لقد كان بناء بيوت الله ودور تعليم كتابه وكفالة معلميه من أولوياته رحمه الله، مع حرصه على طلب كتمان اسمه في سجل المتصدقين في الدنيا، وقد بنى المساجد وساهم في عمارتها في بلده وخارج بلده شرقًا وغربًا، مع العناية بتعليم القرآن فيها. وقد روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدًا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة" وقد بشر الله تعالى في سورة يونس أهل القرآن بقوله الجليل: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
   كما كان رحمه الله حريصًا على تطييب المسجد بالبخور كل ليلة. وعند ابن حبان بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطيّب، وتنظف".
   وقد لزم مكة حرسها في أخريات سنينه في شهر رمضان، أما الحج فلا أعلم أنه قد فوّته قط، ولم يك يحج لوحده، بل كان يحمل معه من شاءوا الحج مجانًا، وتلك سجيّة العظماء.
   كان رحمه الله يقوم بضع ساعات من الليل لا يتخلف عنها حضرًا ولا سفرًا، ولحرصه على صلاح ذريته فكان مع إلحاحه بالدعاء لهم يأخذ أبناءه ومن بعدهم أحفاده لصلاة الفجر، ويتفقد أهل بيته حتى ينتبهوا للصلاة.
   أما جلوسه في مصلاة بعد الفجر حتى ارتفاع الشمس وقبل الغروب فتلك سنة دائمة له رحمه الله. وكان يُدرِّس من رغب تصحيح تلاوته بعد الفجر ويصبر على تلقينهم وتصحيح تلاوتهم بلا ضجر ولا تشاغل، وفي الصحيحين عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلّم القرآن وعلَّمه" إنها زكاة، وقد أدّاها طيبة بها نفسه، تقبّلها الله ورفعه بها.
   كان يرفض ركوب السيارة للمسجد، ويرحب بمن يقوده على قدميه ابتغاء فضل الخُطى، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "وما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة ٍ يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة".
   وقد كانت خاتمته حسنه إذ أُصيب في حادث سير وهو سائر ليشهد صلاة ربه، فكتب ربُّه أن يكمل مسيره إليه، فسقط وهو يقرأ القرآن حتى غشي عليه، ثم ردد الآي في غيبوبته، حتى أجاب رسلَ ربه، فاللهم اجعلها الحسنى وزيادة.. إله الحق آمين.
   كان الفقيد معظِّمًا للعلم مجلًّا لأهله، حريصًا على التعلّم حتى رحيله، يحضر دروس العلم بعقله وفؤاده، فإن طُلب منه طبع كتاب أو تأمين مكتبة كان جوابه الاحتفاء والإحسان.
   وقد كان من ورده الذي يردده بعد القرآن عن ظهر قلب: كتاب التوحيد والأصول الثلاثة والقواعد الأربع.
    ويا صاحبي: إن من أعظم النّعم والنعيم: تحبيب الله إليك العلم، والآن قد تيسر أمر التعلم ولكن الشأن كل الشأن في التوفيق لطلبه، فاسألِ الله أن يحبب العلم لقلبك، وأن يعظم رغبتك فيه، وأن يعلمك ما ينفعك، وأن يزيدك علمًا، إنه هو العليم الحكيم. وقد قال الإمام أحمد – وتأمل الشرط جيدًا -:  العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته.
   قد شُرح في المسجد قبل سنين كتاب التوحيد للإمام المجدد، فطلب قبل نحو سنة ونصف السنة بإعادة الشرح مرة أخرى فشُرِع فيه حتى خُتم الشرح قبل أيام من رحيله، وكذلك الحال معه في كتاب سيرة النبي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقد رحل الجميع، فاللهم ألحقنا بهم في الصالحين.
   إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وتأملها في حياة الناس بين مكثر ذكر التجارة أو الكرة أو الإبل أو الغناء.. ومكثر ذكر الله! ولقد كان الشيخ من نوادر الذاكرين وقد أوتي جَلَدًا ليس إلا للقليل رحمه الله. وله في عشية الجمعة شأن عجيب، فكان لا يخرج من المسجد بعد العصر، وليس هذا بعجيب فكثير من الصالحين هكذا، ولكن العجب كيف كان يطيق رفع يديه في دعائه حتى الغروب، وليس هذا في جمعة أو جمعتين، بل هذا دأبه حتى رحل لربه! إنه التوفيق، فاسألوا الله من فضله. ومتى صلح القلب ولانت الجوارح بالذكر فلا تسل عن لذة ما هنالك.
   لقد كان الشيخ غريبًا عن هذه الدنيا التي لم يحفل بحطامها، وأمثاله فيها قليل، والله المستعان، كان في وادٍ يأنس فيه بخلوته بربه ويلتذ بمناجاته، تاركًا خلفه الناس في غفلاتهم!
   كان يؤذن للعشاء أحيانًا، فإن كان درس العشاء عن سيرة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يكاد فقيدنا يكمل الإقامة من التهدّج والتأثر لذكر الحبيب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن أشد أمتي لي حباًّ ناسٌ يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله".
   كان محبًّا للناس ناصحًا لهم يسره إسعادهم، نحسبه والله حسيبه من أهل هذه الآية: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور).
   لم يكتف - رحمه الله - بالصدقة للأقارب بل شمل كثيرًا من فقراء أهل بلده ثم ديار المسلمين وتشهد له نفوس ترفع أكفها بالضراعة لمولاها برحمته إذ رحمهم، فلكم أطعم جائعًا وكفل يتيمًا وفطّر صائمًا، وحتى عامِلَ المسجد لم ينسه من الإحسان، فقد تكفل بإطعامه من طعامه وطعام عياله. (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وعلى قلّة موارده إلا أن الله قد بارك له فيها (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم).
كان - رحمه الرحمن - لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولو كان القريب والعزيز، بل كان يبدأ بهما لتجرده – ولا أزكيه على الله – لهذا كان لنصحه قبول عند الناس.
   لقد كَثُر المصلون عليه والمشيّعون، وهذه من عاجل بشراه بإذن الله، فعند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجلٍ مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه".
   أحسبه ممن وضع الله لهم القبول في الأرض، ولما رحل أصبح الناس يُعزي بعضهم بعضًا فيه، فمصابهم بفقده كبير.  وعند الشيخين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحِبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض" نسأل الله الكريم من فضله. 
  ولا أشكّ أن لكل من خالطه خبر خاص أو أكثر عن سريرة هذا العابد العطرة الطاهرة، والمؤمنون شهود الله، وليس راءٍ كمن سمع! ولعل له عبادات سرٍّ لا يعلمها سوى علام الغيوب.
هذا وإن الحب شعور كامن، لذيذ أحيانًا وفي أخرى أليم! ومن الإيلام: أن لا تشعر بقدر حبك لشخص حتى يرحل عنك، وهو ما يُعبر عنه العامة بقولهم: "الله لا يبيّن غلاك" ولقد كان الفقيد على شدة حبي له، من أولئك الذين ظهر "غلاهم"! نعم، فالمحبة لا تشترى بالمال بل بجميل السجايا وكريم الخصال، وقد أحسن أمل دنقل حينما قال:
أترى حين أفقأ عينيك..
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
   شيخنا: يبكيه مسجد لطالما صفّ قدميه فيه لله، ورفع يديه فيه داعيًا، وأنفسًا قد أحبته بصدق وفقدته بعمق والتهبت أحشاؤها من لوعة فراقه!
   فلله قدمان لطالما صفتا بي يدي الله، ورجلان قد حفرتا جادةً في السير لشعيرة الله، وكفّان قد ارتفعا بالضراعة للملك الديان وبالصدقة على عباد الرحمن، ولسان طالما لهج بالذكر والاستغفار والأذان والقرآن، وجوف قد أعطشه الصيام طلبًا لرضى المنان ورغبة في ولوج باب الريان، ورأسًا قد كُشف للنسك في مشاعر البلد الحرام، وآذانًا قد أنصتت لدرس علمٍ وقرآن، وعينان قد احتسبهما منذ صباه عند الرحمن، وخرّج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: من أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ (أي بصر عينيه)، فصبر واحتسب، لم أرض له ثوابًا دون الجنةِ".
   جبر الله قلوبنا بفراقه، وعوضنا عنه الأجر، وعوّضَه عنّا الرضوان. ولقد كان فقيدنا من الخمسة الذين يُبكى عليهم.
إذا ما مات ذو عـــــلمٍ وتقوى   فقد ثلمت من الإســـلام ثلمة
وموت الحاكم العـــدل المولّى   بحكم الشرع مــــــنقصةٌ ونقمة
وموت العــــــابد القوّام ليــــلاً   يناجي ربـــــــه في كـــل ظلمة
وموت فتى كثير الجود محض   فإن بــــــــقائه خيــــــــرٌ ونعمة
وموت الفارس الضـرغام هدمٌ    فكم شهدت له في الحرب عزمة
فحسبك خمسةً يبـــكـى عليهـم    وباقي الناس تخفــــــيفٌ ورحمة
وباقي الناس هم همـجٌ رعـــاع    وفي إيجـــادهم لله حـكــــــــــمة

إبراهيم الدميجي

18/ 6/ 1436