إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الخميس، 25 سبتمبر 2014

الحصانُ الرزانُ

الحصانُ الرزانُ
 لقد توقّف العلماء كثيرًا متأملين متدبّرين عظمة وجلالة العِبَرِ من قصة الإفك الهائلة, وما في ثناياها من الرحمات الإلهيه لنبي الله صلوات الله عليه وسلامه وبركاته, ولأهله وأصهاره من آل أبي بكر, وللأمة المرحومة من بعدهم.
 إنّها الحادثة التي هزّت المجتمع الإسلامي النبوي, وأقلقت السادة, وقلقلت الكبار, وأنصعتْ طيب أهل اليقين, وضوّعت نَشْرَهم, وأشهرت فضلهم. وزلزلتْ إيمان من كان على حرفٍ, وحيّرت عقولًا وأدهشَت أفئدة! وأوهت أبنية بعض المتّقين, وأوهنت قوّة بعض الفضلاء, وهدّت عزائم آحادٍ من الحُلماء, وزاغ فيها من من زلّت به القدم إلى مراتع اللسان وسيء الظنون بأهل الإيمان, وثبّت الله أفئدة فئام من المؤمنين فأحسنوا الظن بعباد الرحمن, وأطلقوا على المفترين وحاملي الإفك سهام النكران, وعاتب الله تعالى المؤمنين الذين لم يلتزموا جانب الإحسان في ظنونهم تجاه الإخوان. وتولّى ربُّ العالمين ومالكُ الدنيا والدين, وجبارُ السماوات والأرَضين الدِّفاع عن الصِدِّيقة أم المؤمنين, وعتاب من زل فيها من الصالحين, ولَعَنَ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين من المُفترين والأفّاكين والمُرجفين. وجعلها سبحانه وبحمده آيةً شاهدةً للمؤمنين إلى يومِ يقوم الأشهادُ ويلقى العبادُ رب العالمين. وأجمل بالمديحة الحسّانيّة حين قال شاعر الإسلام, وصدق:
رأيتُكِ ولْيَغْفِرْ لك الله حرَّةً        من المحصنات غير ذات غوائلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ      وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافلِ
عَقِيلَةُ حَي مِنْ لُؤَي بْنِ غَالِب     كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قد طَيبَ الله خِيمَها     وَطَهَّرَهَا مِنْ كُل سُوءٍ وَبَاطِلِ
  وقد ذُكِرَت هذه القصة الجليلة المزلزلة في الصحاح والمسانيد بألفاظ متقاربة ومعانٍ متشابهة متوافقة, وخرّجها مُحَدِّثُ الإسلام وأميرُ المؤمنين في الحديث الإمامُ البخاري رحمه في صحيحه في عدّة مواضع, ومن أجمعها سياقه الطويل رحمه الله للحديث في تبويبه: حَدِيثِ الْإِفْكِ. وهي قصة جديرة بالدراسة والنشر والتكرار, ففيها قواعد كلية للأمة. وكان الإمام ابن باز رحمه الله لا يتمالك نفسه من البكاء عند قراءة هذا الحديث عليه حتى تعلو مجلس درسه سكينة وخشوع ودعاء.
في الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا توبة له البتة, كما قال ابن عباس وغيره. قلت: أي لا تقبل ظاهرًا وإن قبلها الله بينه وبين عبده, وهذا فرعٌ عن سبّ الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن توبته ظاهرًا لا تقبل على المشهور, كما حرّره شيخ الإسلام في الصارم المسلول, ويُقتل, كما نقله القاضي عياض وغيره.
   قال تبارك وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ"  
قال ابن كثير: وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة, لا سيّما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية؛ فإنه كافر لأنه معاند للقرآن.
قال ابن القيم ومَنْ قَوِيَتْ معرفته لله, ومعرفته لرسوله, وقدره عندَ اللهِ في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
قال البقاعي: واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وبأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم, وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يُملي للأفّاكين ويمهلهم، وكأن الحال كما قال أبو تمام الطائي:
كذا فليجلّ الخَطْبُ وليفدح الأمرُ      فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
قلت: وفي فضلها علم كثير نافع, ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل عائشة على النساء, كفضل الثريد على سائر الطعام" وفي الصحيحين من حديثها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يُقرئك السلام" قالت: فقلت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى.  ولهما عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال, جاءني بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير, فيقول: هذه امرأتك, فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي, فأقول إن يك من عند الله يُمْضِهِ" وعند الترمذي وحسّنه: "هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"
وللترمذي وصحّحه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: وتأمّل كيف نسبَ أباها إليها لعظيم محبته لها صلوات الله وسلامه عليه.
وللترمذي وصحّحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم حديث قطّ, فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا. وله وحسّنه أن رجلا نال من عائشة عند عمّار فقال: اغرب مقبوحًا منبوحًا, أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله وصحّحه عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة. وقال مسروق رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة ابنة الصديق, البريئة المبرأة من فوق سابع سماء. وكان الشعبي يذكرها، فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟!
ورآها عروة تصدّقت بسبعين ألفًا, وإنها لترقَعُ جانب درعها رضي الله عنها. وعند ابن سعد عن أم ذرة، قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين، يكون مئة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست، قالت: هاتي يا جارية فطوري. فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتيني لفعلت. وعن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة بقلادة بمئة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين. وفرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن إبراهيم النخعي، قال: قالت عائشة: يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة! وهذا من ورعها وعظيم خوفها من الله, وشدة تواضعها وإزرائها بنفسها رضي الله عنها وأرضاها, وألحقنا بها في السابقين المقربين.
وتوفيت أُمّنا سنة سبع وخمسين على المشهور, في ليلة سابع عشر شهر رمضان, وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بعد الوتر بالبقيع, وصلى عليها أبو هريرة.
وفي " المستدرك  بإسناد صالح، عن أم سلمة: أنها لما سمعت الصرخة على عائشة، قالت: والله لقد كانت أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أباها.

الجمعة، 19 سبتمبر 2014

النصرانية بين التوحيد والوثنيّة

النصرانية بين التوحيد والوثنيّة
الحمد لله وبعد: فدين المرسلين جميعًا هو التوحيد, قال الله تبارك وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" ولما كفرت بنو إسرائيل أرسل الله إليهم عيسى المسيح عليه السلام ليردهم لمحجة الإيمان ويبشرهم بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم, وينذرهم غضب الله وعذابه. وآتاه الإنجيل فيه هدى ونور, فماذا كان بعد؟
لقد آمن به من آمن من بني إسرائيل وكفر به من كفر, ولم يطل به الزمن حتى تآمر ذوو الرئاسة على قتله فرفعه الله إليه حتى ينزل في آخر الزمان فيحكم بالقرآن. وقد قال الحبيب صلوت الله وسلامه وبركاته عليه فيما رواه الشيخان: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي»
رُفع المسيح عليه السلام وبقي بعض إنجيله محفوظًا في صحائف من آمنوا به واتبعوه ممن ثبتوا على دينه التوحيدي الصافي النقي.
ثم وقع الابتلاء لأتباعه بالقتل والسجن والتشريد وإحراق الصحائف فضرب الرعيل الأول منهم أروع آيات الاستشهاد والصبر في ذات الله, حتى دخل دينهم نفاقًا يهودي فِرِّيسي يسمى شاؤول فآلى على نفسه أن يُبدل دين المسيح ليجنح به لوثنية الفلاسفة الإغريق – إذ كان شاؤول متأثرًا بفيلون السكندري وفلسفة الغنوصية والإشراق – فبدّل اسمه لبولس وزعم أن المسيح تراءى له ثم ابتدأ مشروعه المدمّر لبنية المسيحية الحقيقية وإبدالها بديانة خليطة بين غنوصية الهنادكة ووثنية الإغريق ومحالات التصورات مع شيء من النظام الأخلاقي المسيحي القديم. فركب صهوة التبديل والتحريف, ولكن أبى الحواريون وغالب أتباعهم ذلك الانحراف, فاصطرعوا فكريّا وأخلاقيّا وجسديّا فكانت الحرب الجسدية سجالًا مع الحرب الضروس من الرومان لكلى الطائفتين الموحدة والمشركة مع رجحان كفة الموحدين في الغالب, حتى دخل الربع الثاني من القرن الميلادي الرابع فانعطف من هنالك التاريخ المسيحي من التوحيد والإيمان إلى الشرك والوثنية بعد أن دخل في الميدان امبراطور الرومان قسطنطين فمالت كفة الميزان ضد الموحدين ولا زالت في ميول حتى ينزل المسيح فيقيمها بإذن ربه على دين المرسلين.
إلا أن هناك ملامح باقية للتوحيد على مستوى تدوينات الكتاب المقدس المعترف بها وغيرها, وكذلك على مستوى الطوائف الموحّدية المتمسكة بما وجدته من بقايا العهد الإنجيلي القديم مع نقصه الكثير وتحريفه المتكرر.
فمن الكتابات الباقية على سبيل المثال ما جاء في متى «قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلـٰهك تسجد وإياه وحده تعبد» (متى 4: 7) وغيره كثير في العهدين القديم والجديد, وكذلك ما اكتشف من مخطوطات نجع حمادي وإنجيل توماس وبرنابا ويهوذا ومخطوطات البحر الميت وغيرها.
أما الطوائف الموحدة فمنهم – في غالب الظن - فرقة بولس الشمشاطي، وفرقة أبيون، وفرقة ميلينوس، وفرقة آريوس، وفرقة الأسينيين، وطائفة الجوهريين وغيرهم. 
لقد تعرض هؤلاء لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع الكنسية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق، مع هذا فلم يُستأصلوا، ولما أشرق نور الإسلام، وأضاء ما بين الخافقين كان في مقدّمة المهتدين إليه من أهل الكتاب تلك البقايا الموحدة التي انتظرت طويلًا نبيًا عظيمًا ينير لها جادة المرسلين, وبقي منهم كثير لم يشهدوا لرسول الله بالرسالة لانطماس نورهم من هذه الجهة.
ولما ظهرت حركة الإصلاح الكنسي نشط الموحدون في أوروبا حتى إن ملك المجر  سيجسموند (ت: 1571م) كان موحدًا.
وفي ترانسلفانيا ازدهر التوحيد ومن مشاهير الموحدين فيها فرانسيس داود. وفي بوليونية ظهر سوسنس الموحد، وكان له أتباع يعرفون بالسوسنسيين وقد أنكروا التثليث ونادوا بالتوحيد.
ومن القامات البارزة سرفيتوس الذي نادى بالتوحيد في أسبانيا وفرنسا وسويسرا وألف الكتب في ذلك، وكانت نهايته أن أُحرق بجنيف حيًا بعد أن ربطوا معه كتابه "خرافة التثليث" عام (1553م) على يد مدّعي الإصلاح والتسامح كلفن!
(وكل من أعلن التوحيد منهم أو هدم خرافة التثليث وصموه بالهرطقة, لذلك – وهذا نداء لكل مؤرخ مسلم - نحن بحاجة لإعادة كتابة التاريخ الأوروبي من وجهة نظر إسلامية تمامًا كما يكتبون تاريخنا من وجهة نظرهم)
وحينما اضطٌهِد الموحدون في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا فرّوا بدينهم لإنجلترا في عهد هنري الثامن وأسسوا كنائس أسموها كنائس الغرباء.
ثم ظهرت جمعيات تحارب التثليث، ومنها الحركة المضادة للتثليث في شمال إيطاليا في أواسط القرن السادس عشر، تلتها الحركة المعادية للتثليث التي ترأسها الطبيب المشهور جورجيو بندراثا عام (1558م)
وكان من رواد التوحيد في تلك القرن السابع عشر جون بيدل وسُمي: أبو التوحيد الإنجيلزي، وقال بردنوفسكي: «كان العلماء في القرن السابع عشر يشعرون بالحرج من التثليث».
وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسست في عدة مناطق كنائس موحدة، وقد اجتذبت شخصيات مهمة مثل وليام شانينج، وتكوّنت عام (1825م) جمعية التوحيد الأمريكي، كما أضحت مدينة ليون الهولندية وجامعاتها مركزًا للتوحيد.
وفي مطلع القرن العشرين تزايد الموحدون وازداد نشاطهم، وأثر بوجود ما يقرب من (400) كنيسة في بريطانيا ومستعمراتها، وما يقرب من (160) كنيسة أو كليّة في المجر، وغير ذلك في قارة أوروبا, وإن كان مذهب الربوبيين قد ساهم بشدّة في منافستهم.
وفي أمريكا قام الرئيس الثالث توماس جيفرسون بتأليف إنجيل جديد هذّب فيه الأناجيل المعروفة في نسخة منقحة، وحذف منها كل ما يدل على التثليث.
وفي سنة (1825م) أسست المنظمة الموحدية في أمريكا، ثم المجمع الوطني للموحدين (1865م) ومن رؤساء الولايات المتحدة الذين نبذوا خرافة التثليث جون آدمز و توماس جيفرسن و جون قوينسي آدمز و ميلارد فلمون و وليام تافث.
وللعلم فلا توحيد على الحقيقة إلا ما أرسل الله به رسله وأنزله في كتبه، وهو الإيمان بأن الله تعالى واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعبادته وحده لا شريك له؛ فهذا هو التوحيد المطلق، أما إذا قيد بطائفة أو مذهب أو نحلة فهو بحسب ما قيد به ولا يعدو كونه مطلق توحيد.
هذا وعقيدة الموحدين المسيحيين تعود جذورها إلى الدين نفسه الذي علمه المسيح عليه السلام لأتباعه وهي الإسلام في العقيدة, واتباع التوراة في الشريعة مع بعض التـخفيف, فهم في الأصل ربما يكونون هم الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام وناصرته كما قال تعالى: "فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة"
 وظل بعضهم على هذا الإيمان حتى إشراق نور البعثة المحمدية على صاحبها صلوات الله وسلامه، وخلط آخرون ذلك الإيمان المسيحي الأصيل بشيء من البدع والمحدثات. مع التنبيه لبطلان كل دين غير الإسلام بعد بعثة رسولنا صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار».
إبراهيم الدميجي

22/ 11/ 1435

الأحد، 17 أغسطس 2014

براءة إلى الله من داعش وموبقاتها

براءة إلى الله من داعش وموبقاتها
الحمد لله وبعد: يقول أحد الدعاة من ذوي المشاركة في الحوارات مع المخالفين من أهل القبلة وغيرهم: لاحظت أن ظاهرة داعش أصبحت مشجبًا للتنفير من منهج سيد المرسلين وصحابته المرضيين وقفلًا مرتجًا دون وصول الرسالة السامية الصافية لقلوب أولئك، فالنصارى يصرخون بنا: هذا القتل للأبرياء هو دين محمد الذي تدعوننا إليه، فليس بنا إليه حاجة، وقد وجدت منظمات التنصير وجبة إعلامية كاملة الدسم من جرائم تلك الفئة المارقة. أما المبتدعة من غلاة المتشيعة والمتصوفة والمتكلمة وغير الغلاة بل والليبرالية فيرفعون عقائرهم بأن داعش فرع عن السلفية (ويزيدون الوهابية) وهذا دليل على أن السلفية منهج باطل يلبّس على الناس ويقتلهم بغير حق، وأن السلفية منهج غالٍ منحرف وهكذا يسحبون عوار داعش المجرمة للسلفية الرفيقة الرحيمة، ولن أعجب حين أرى بعض القراء الكرام يصعّرون خدودهم استهجانًا لوصفي السلفية بالرفق واللطف فهذا من غربة الزمان، وكم ظلمت السلفية من منتسبة لها زورًا، فكل ما خالف الكتاب والسنة فأهل السنة منه برآء وإن زعم الفاجر خلاف ذلك, فالعبرة بالحقائق لا الشعارات (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
داعش - وما أدراك! - هي فصيل مختلط من ثلاث فئات:
الأولى: ضباط مخابرات من رافضة وأهل كتاب ومهمتهم قيادة التنظيم ووضع الاستراتيجية (غير المعلنة) ومن مهامها تأمين الدعم المالي واللوجستي، وصناعة قادة الصف الثاني (القيادة التكتيكية المحدودة) باختراق أو بعمالة، وبينهم تنسيق بسبب تقاطع مصالحهم وإن لم يتفقوا، فوحدة الهدف جمعتهم وهذا الهدف هو ضرب أهل السنة في معتقدهم وهويتهم ووحدتهم، وإشغالهم عن الإثخان في عدوهم، وإن شئت برهان ذلك فتأمل المستفيد من ضربات داعش ودعايتها بالنظر لأماكن العمليات وأوقاتها سواء في سوريا أو العراق أو لبنان أو مصر أو الخليج أو غيرها وقريبا سترونهن في غزة آن غفل حماتها عنهم، بل وفي أوروبا وأمريكا إن احتاجت تلك الدول لمبرر ما!
 ومن أهداف أولئك إشهار بشاعة أفعال داعش بشكل قُصِد منه نحت مضامين مروّعة في الخلفية الذهنية للمتلقي هنا وهناك.
وطريقة دفع هذه الفئة هي أن نكافحهم بنفس سلاحهم الماضي, فيجب أن تنبري مخابراتنا لاختراق هذا التنظيم وإعادة صياغته أسوة بغيرنا، فسلاح التجنيد والاختراق هو من أمضى الأسلحة في الميدان وما قبله وما بعده.
 الثانية: خوارج على مذهب الأزارقة وأشباههم من أفراخ ذي الخويصرة الذين يكفرون بالكبائر, ويظنّون أن من أجل القربات استباحة الدماء المعصومة والأموال المصونة لا على شيء إلا أنهم ليسوا من فئتهم, فيقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
 وهذه الفئة ليست قليلة العدد للأسف وخطرها شديد جدًّا من جهة شدة ضلال مذهبهم ودمويته (وقد صح حديث رسول الله في تضليلهم ووعيدهم من عشرة أوجه بعضها في الصحيحين، وهم شر الخلق والخليقة، وقد توعدهم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لئن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، وكذلك من جهة صدقهم وحماستهم الذاتية في ترويجه والدفاع عنه (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك ليهم حسرات آن عليم بما يصنعون)
وطريقة مدافعة هؤلاء بسلاحين هما اللسان والسنان، فباللسان تدفع شبههم وتهتك ستور مآلات مقالاتهم وتقام عليهم حجة القرآن، إضافة لجهادهم بالسلاح والقتال, ولنا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أسوة في الأمرين, فقد أذن أولًا لابن عباس رضي الله عنهما أن يناظرهم ويكشف زيفهم, ثم قاتلهم بنفسه وبمن معه في النهروان, وفي الصحيحين: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وقد سجد لله شكرًا حين واتاه تحقيق البشرى السابقة بقتل ذي الثدية. فخطر هذه الفئة المارقة يكمن في تبديلهم حدود الدين سواء في النظر العلمي أو التطبيق العملي.
الفئة الثالثة: شبيبة ذوو غيرة وحماسة وحب للقتال في سبيل الله مع جهل مطبق بمناطات الأحكام ومدارك الشرع، وسوء نظر لعواقب الأمور, فساقهم الغضب مما يرونه من تقصير أو مظالم إلى ركوب أعظم المفسدتين, وأُتوا أكثر ما أُتوا من إساءة تطبيقات الولاء والبراء والردة ودار الحرب ونحوها فهم لم يلتزموا مذهب الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة ابتداءً لكنهم قلبوا قضية الواسع والمضيّق، فحجّروا الواسع مما تكلم فيه الأئمة الأعلام من شروط وأحوال أحكام الردة والكفر وإقامة الحجة وكفر الوصف ودرء الشبهة والحد ونحو ذلك مما يلزم التريث الطويل فيه والصدور عنه ببصيرة تامة لا مغبشة معتمة, وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى عن مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني ولست منه)
وفي المقابل فإنهم يوسّعون ما ضيّقه الشرع كتشديده في الدماء والأعراض والأموال, فحينما تدرأ الشريعة الحد بالشبهة نراهم يستحلونه بها (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
والجدير ذكره أن هذه الفئة الساذجة هي حطب داعش ووقودها الأعظم، وكم من مريد للخير لم يبلغه (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)
 وفرض الوقت تجاه هذه الفئة البائسة أربعة أمور سابقان ولاحقان: فالسابقان: تحصين أفكار الناشئة والشباب ضد الغلو الفكري والانحراف المنهجي, وتلك مهمة منابر الدعوة ومحاضن والتربية ومراكز الإعلام. والثاني: تحصين نفوسهم بنشر العدالة والوضوح والرفق تطبيقًا عمليًّا لا ادعاء وتنظيرًا، وذلك حتى نمنع طفيليات الحقد وجراثيم المقت من النمو والتكاثر في خلايا جسدنا الواحد.
والأخران اللاحقان هما: مدافعتهم برفع بلائهم وشرهم باللسان فإن أبوا الفيئة فبالحرب والسنان (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) فبغيهم وظلمهم وتعديهم واضح للعيان، كفاهم الله شر نفوسهم وكفى الأمة شرهم.
أخيرًا إن كان ثمّة خير في هذه النازلة فهي نفخ روح اليقظة لدى أهل العلم والدعوة والتربية والإعلام للقيام بما يجب عليهم حيالها, فقد انتهى وقت التردد لمن كان مشتبهًا في أمرهم, فحتى وإن قيل ببعض الأكاذيب الدعائية ضدهم _ وهي ليست بقليلة _ فما لم يُقل أكثر, فالبكور البكور قبل قرع سن الندم ولا لات حين السلامة!
ومضة: هناك علاقة طردية بين علم وعقل المرء وبين احتماله لخلاف الناس وحمل الأعذار لهم, فالعلم يوسّع التسامح المنضبط في الدين, والعقل يوسّعه في الدنيا.
إبراهيم الدميجي
18/ 10/ 1435



الخميس، 31 يوليو 2014

الوسطية دين المسلمين

الوسطية دين المسلمين
الحمد لله وبعد: قال الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ أي عدولاً خياراً, لأنهم الشهداء على الأمم, بل هم شهداء نوح عليه السلام حينما يكذّبه غدًا قومُه بنفيهم تبليغه رسالة ربه, ورسولهم صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم. فهم موصوفون بالوسط بمعنى الخيار العدول, فكذلك نهجهم بين الغلاة والجفاة, فهم في موضوع الربوبية وسط بين الملاحدة النفاة, وبين الحلولية والاتحادية, وفي الأنبياء بين مكذبيهم ومؤلهيهم, هكذا اضطرد منهجهم في العقيدة والأحكام والتعاملات, والأخلاق والسلوك, فإذا رأيت طرفي نقيض فثَمّ حق في الوسط, يمثّله أهله من صادقي الاتّباع.
قال تقي الدين رحمه الله في رسالته الجامعة المانعة (الواسطية) واصفاً منهج أهل السنة والجماعة: «هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم, فهم الوسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة, وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية, وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم, وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج».
فردود الأفعال غالبًا لا تتّسم بالانضباط والموضوعية, بل يسوقها الانفعال ويقودها الغضب, فلا تتوقف في رد ما تراه باطلاً عند منطقة الحقّ, بل تتجاوزها إلى الطرف الآخر المخالف, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وعلى سبيل المثال لما خرجت الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) قابلتهم الوعدية (المرجئة), وكذا الجبرية ضد القدرية (النفاة), والتعطيل في مقابل التمثيل, والنصب مقابل الرفض, والغلو (المعاصر) في التكفير مقابل الإرجاء (المعاصر), والافتئات ضد السلطان مقابل التهالك عليه.. وهكذا.
هذا وإن أول نزاع في الإسلام كان قد وقع في مسألة الوعد والوعيد. وقد اشتمل الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية, على نصوص الوعد والوعيد, وأهل التوفيق والسعادة هم أهل السنة والجماعة الذين أعملوها جميعاً ولم يكذبوا بشيء منها, (كلٌّ من عند ربنا).
ومن تطبيقاتهم العملية لهذا المنهج السلفي المستقيم لتحقيق الوسطية والخيرية حديث الإمام الزهري رحمه الله؛ فقد حدّث الزهري بحديث الرجل الذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار بعد موته ويذرّوا رماده.. الحديث متفق علي صحته, ثم أردفه بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة.. الذي رواه مسلم, ثم قال رحمه الله مبيناً سبب روايته للحديثين في مجلس واحد: «لئلا يتكل رجل, ولا ييأس رجل». قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً: معناه؛ لمّا ذكر الحديث الأول, وما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء, فضمّ إليه حديث الهرّة الذي فيه من التخويف ضد ذلك؛ ليجتمع الخوف والرجاء.. وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء.
هذا وإن ومن أشد ما جوبهت به الدعوة السلفية رميها بالتكفير بإطلاق, من قبل المرجئة أو ممن تأثر بهم, والمتتبع لتدوينات كثير من منتسبة السنة يفزع لرواج هذه الشبهة عليهم, وهذا من غربة العلم الأصيل والله المستعان, قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا     بتكفيرهم بالذنب كل موحد
وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم       وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف الحق والهدى    وليس على نهج النبي محمد
وحينما قيل للشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: إنكم تكفرون الناس بالمعاصي, قال: «ليس هذا من قولنا بل هذا قول الخوارج الذين يكفرون بالذنوب, ولم نكفر أحداً بعمل المعاصي, بل نكفر من فعل المكفرات كالشرك بالله أن يعبد معه غيره...»
 فباب التكفير غليظ, كما أن باب الإرجاء سرب مهلك, فالمكفرات محددة في الشرع, ولها ضوابط وشروط وموانع, فلا نتوقف عن تكفير من قام كفره وبلغته الحجة الرسالية, كما لا نتخوض التكفير بلا ضابط ولا علم, وكل ذلك بدلائل الشريعة لا بالهوى والتعصب.
ملاك القول: أن كل عمل فلشيطان منه حظان لا يبالي بأيهما فاز, إما تخذيل عن طاعة فيقع العبد في التقصير, أو تنطع فيها فيركب قلائص الغلو. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ومضة: ‏أحيانًا نظن أننا ننصر قضية ما ونعلي شأنها، بينما نحن في الحقيقة نظلمها ونحط منها! وذلك بعرضها بشكل ضعيف مع تسطيح الردود على ما يورد عليها.
إبراهيم الدميجي
6/ 10/ 1435
aldumaiji@gmail.com

الاثنين، 28 يوليو 2014

يا معاذ.. ليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله

يا معاذ.. ليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله

الحمد لله وبعد: فتوحيد رب العالمين, وإله السماوات ولأرضين, هو تحقيق للشهادتين, وهو أعظم التكاليف بإطلاق, كما قيل: أمرٌ هذا شأنه؛ حقيق أن تُثنى عليه الخناصر, ويُعضّ عليه بالنواجذ, ويقبض فيه على الجمر, ولا يؤخذ بأطراف الأنامل, ولا يؤخذ على فضلة, بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يُطلب على الفضلة. ومن لطف الله ورحمته أن جعل حروف لا إله إلا الله كلها لسانية ليس منها حرف شفهي, كي يسهل نطقها على المحتضر, «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود وعند الشيخين مرفوعاً: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».
والتوحيد هو حقيقة الإسلام الذي جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه, قال الإمام المجدد في الأصول الثلاثة: «...وهذا دينه, لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلّا حذرها منه، والخير الذي دلها عليه؛ التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذرها منه؛ الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه».
وكلمة التوحيد قامت بها السماوات والأرض, وخُلق من أجلها الخلق, ونصبت من أجلها الموازين, وقام لأجلها سوق الجنة والنار, وأسست بها الملة, وجردت لأجلها سيوف الملة.
قال الشيخ حمد بن عتيق في إبطال التنديد: «توحيد الألوهية أول واجب على المكلف, وقد أفصح القرآن فيه كل الإفصاح, وأبدى فيه وأعاد, وضرب لذلك الأمثال, وفيه وقعت الخصومة بين الرسل وأتباعهم» وبوّب الإمام المجدد في كتاب التوحيد (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب) وفي حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على ذلك الباب: «تحقيق التوحيد قدر زائد على ماهية التوحيد, وتحقيقه من وجهين؛ واجب ومندوب؛ فالواجب تخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي, فالشرك ينافيه بالكلية, والبدع تنافي كماله الواجب, والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه. والمندوب هو تحقيق المقربين الذين تركوا مالا بأس فيه حذراً مما فيه بأس, وحقيقته انجذاب الروح إلى الله فلا يكون في قلبه شيء لغيره».
وتأمل كيف كان التهليل – وهو شعار التوحيد - من أعظم مكفرات الذنوب, قال شيخ الإسلام: «التهليل يمحو أصول الشرك, والاستغفار يمحو فروعه».
والدعوة إلى التوحيد هي مهمة المرسلين وأتباعهم, ومن أجلها حصل الافتراق العظيم بين الرسل وأقوامهم المكذبين. قال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً» رواه مسلم. وقال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق على صحته.
وشريعة الإسلام شديدة في التوحيد, سمحة في الأحكام, كما جمعهما حديث: «بعثت بالحنيفية السمحة» رواه أحمد. (حنيفية) أي: في العقيدة ففيها التشديد, فقد قال للذي قال: ما شاء الله وشئت: «أجعلتني لله نداً» رواه أحمد والنسائي. (السمحة) أي في التشريع «صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً...» رواه البخاري.
وفي الدعوة إلى التوحيد قال الحسن البصري بعدما قرأ هذه الآية: «هذا حبيب الله, هذا ولي الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب فيه من دعوته, وعمل صالحاً في إجابته». رواه عبد الرزاق عن معمر.
ولمّا اتهم بعض الناس إمام الدعوة بأنه طالب دنيا أجابهم بكتاب وضح فيه التوحيد وضده, ثم قال: ولو كنتم تعلمون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم, ولكنكم قوم لا تعقلون!
وشرطا الدعوة؛ الإخلاص والمتابعة. وصفات الداعي؛ الفقه؛ ليعلّم على بصيرة, والرفق؛ وهو أقرب الطرق لنيل المقصود, والحلم؛ للصبر على الأذى في طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء. وشرط التمكين للأمة إنما هو التوحيد ﴿يعبدونني لا يشركون بي شيئًا)
وضده الشرك, وهو أظلم الظلم, وأقبح الذنوب ﴿إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار﴾
واعلم أن تهوين شأن الشرك الأكبر في غاية الخطورة, فلو أن رجلاً يقوم الليل, ويصوم النهار, ويحج كل عام, ويعتمر كل شهر, ويتصدق بكل ماله, ويجتهد في أعمال البر, ثم وقع في شرك أكبر؛ كدعاء الموتى, والاستغاثة بهم, ونحو ذلك, وقد قامت عليه الحجة الرسالية, فعمله حابط, وجهده خائب, وسعيه مردود, عياذاً بالله تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا﴾ فالشرك الأكبر إذا طرأ على الإيمان فإنّه ينقضه بتمامه, كما الحدث في الطهارة يبطلها.
 وليس العمل بنافع مالم يسلم من نواقضه, وأعظمها الردة عن دين الله, لذلك لمّا احتج بعضهم على شيخ الإسلام إبّان دخول التتر الشام بأن التتر مسلمون ويشهدون شهادة التوحيد! رد عليهم الشيخ بأنهم نقضوا ذلك, وقال: إن رأيتموني في ذلك الجانب ــ أي صف التتار ــ وعلى رأسي مصحف منشور فاقتلوني.
 فمسألة البراءة من المشركين عظيمة الخطر, جليلة القدر, عزيزة المطلب, وأعظم الناصحين للأمة هم من يغرسون أصول التوحيد وتوابعه فيها, ويهدمون الشرك وفروعه, ويحاربونه بالحجة والبيان والسيف والسنان, فإذا استقام توحيد الأمة انتظمت لها بقية الأمور, وساغ الخلاف والاجتهاد فيما دونه مما يعذر فيه المقلدون. لذلك لما أشار بعض تلاميذ شيخ الإسلام عليه أن يصنّف في الفقه ــ أي العمليّات ــ فيما نقله البزار, أجاب بأن أحكام الفقه أمرها قريب, وإذا قلد المرء أحد الأئمة فيه فلا حرج عليه, ولكني رأيت أصول الدين قد تنازعها الناس.
فعلى الناصح الحازم أن يعتصم بالعروة الوثقى والحبل المتين, وأن يوقن أنه لا يستقل عن توفيق ربه طرفة عين, فلو وكله الله إلى نفسه ضاع وهلك, والتوحيد أشد الأشياء نزاهة وحساسية, فأقل شوب يجرحه ويشوه صفاءه, وهو ضياء ونور في القلب, يشع على النفس طمأنينة وعلى المستقبل أمنًا وفلاحًا.
ومضة: قال واعظ الإسلام عبد الرحمن بن الجوزي: «وحّد زيد بن عمرو وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكفر ابن أُبيّ وقد صلّى القبلتين! فيا من هو من عسكر الرسول! أيحسن منك كل يوم هزيمة؟!
 ومن أراد من العمّال أن ينظر قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه, فيا أقدام الصبر احملي فقد بقي القليل, ويا أيها الراكب قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر».
إبراهيم الدميجي


الأربعاء، 16 يوليو 2014

(لَعلّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)

(لَعلّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
الحمد لله وبعد: فالأنعام سورة عظيمة من القرآن العظيم, وجُلُّها في ترسيخ المعتقد الحنيف وبيان صفات الجليل الجميل سبحانه, وقد اشتملت من القوارع والزواجر ما فيه كفاية للمؤمنين, روى الطبراني رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة واحدة, حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح" حسّنه ابن حجر. ومن قرأ صدرها بتدبر لم يملك قلبه إلا أن يخفق رَهَبًا وإجلالًا ومحبة ورجاءً لله رب العالمين.
وقد بين الله في هذه السورة الجامعة سنة كونية جعلها ناموسًا للبشرية بعامّة, وهي تكشف البُعد القِيَمي لفضيلة الشكر مع توضيح عاقبة ضده من المحق والسحق بعد الإمهال والاستدراج,  وأن الرزايا الدنيوية هي في حقيقتِها تنبيهات للمؤمن كي يقشع عن قلبه غبار المعصية وقَتَرَ الخطيئة ويرجع لطمأنينة الطاعة وسكينة الإيمان, قال تبارك وتعالى:  (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) كم نحن بحاجة ملحة لمثل هذه الجرعات الإيمانية التي تحقن في قلب المؤمن حب التوبة وعدم الركون للزائلة والاعتبار بمن غبر والاعتصام بالله تعالى والضراعة إليه والانكسار بين يديه. فما أقرب العبد من رحمة ربه إذا ألقى لربه مقاليد أموره وتبرأ من الحول والطول إلا به وابتهل إليه ابتهال المضطر الملهوف, واعترف بذنبه وخضع وخشع.
البأساء هي الفقر وضيق العيش, أما الضراء فهي الأسقام والآلام, والتضرع هو الدعاء الملحّ مع الافتقار والانكسار, وتلك المحن عتاب لطيف لتثوب الأمم لربها عن معصيته, فابتلاهم بالشدة ليضرعوا إليه فلما لم يفعلوا ابتلاهم بالنعم, وهذا من المكر بهم, وهذا الاعتبار للفرد وللجماعة, ثم قال الله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) وهنا إغراء وتوبيخ, أي فهلّا إذ ابتليناهم وامتحنّاهم بذلك عادوا إلينا بالتوبة والندم والاعتراف؟! ولكن الحاصل أنّهم أصروا على تنكّب محجّة التوابين وبدلًا من توبتهم ازدادوا جرمًا وكفرًا فعوقبوا بالرّان والقسوة على قلوبهم, وأبعد القلوب عن الله هو القلب القاسي, ومن لم تلينه مواعظ القرآن وتغير الأحوال فلينتظر المليّن الأعظم بنار تلظّى, عياذًا بوجه الله تعالى.
وإن من أشد العقوبات على الذنب أن يُبتلى المذنب بذنب آخر فتجتمع عليه حتى تقسّي قلبه وتوبق مثواه! ويزيّن الشيطان عملَه السيّء حتى إذا وافاه غدًا وحقّت الحقائق وذابت الشهوات وانقشعت غيوم الغفلات تبرأ منه!
ثم قال الله تعالى: (فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) أي فلمّا تركوا الحق خلفهم وأعرضوا ابتلوا بفتح الدنيا ولذتها الزائفة ولحظتها الزائلة, فأصاب سكرُ الغفلة قلوبهم في مقتل, وفرحوا بسحابة صيف مارّة, وتباشروا بلعنةٍ في لباس نعمة! فأتاهم العذاب بغتة فاصطلم نعيمهم وسحق دنياهم, وألحقهم بنار الأبد فما أشقاهم! والمُبْلِسُ هو الآيس من كل خير, وأشد العذاب ما كان بغتة. فعلى الناصح لنفسه أن يسيء الظن بنفسه ويحسن الظن بربه. قال قتادة رحمه الله: بغتَ القومَ أمرُ اللهِ, وما أخذ الله قطُّ قومًا إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغِرَّتهم, فلا تغترّوا بالله. وقال الحسن رحمه الله: من وُسِّع عليه فلم ير أنّه يُمكر به فلا رأي له. وقال إسماعيل بن أبي رافع رحمه الله: من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة.
وقد ثنّى الله هذه الموعظة في سورتي الأعراف والمؤمنون قرعًا لقلب كل ناصحٍ لنفسه مريدٍ سعادتها لأبدِ الأبد, ففي سورة المؤمنون قال سبحانه: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) وفي الأعراف: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون) فلم يضرعوا لربهم فأمهلهم وأملى لهم, ثم استدرجهم بإدرار الأرزاق عليهم ورفع بلاء الدنيا عنهم فقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) أي كثر عديدهم وزاد نفرهم وانبسط نعيمهم فطغوا ولم يخضعوا وكفروا ولم يشكروا (وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء) أي هذا فعل الأيام وما نحن إلا كغيرنا ممن سبق, فكانت سنة الله أمامهم ومن فوقهم فغدوا كأمس الدابر فجأة: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون)
ثم قال سبحانه بعد تحذير الناس من عذابه بياتًا أو ضحى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) أشهد أنهم خاسرون كل الخسار, عياذًا بالله من مكرِه, وفي المسند بسند حسّنه الأرنؤوط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج) وقال الحسن: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجلٌ, والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. اللهم عفوك وغفرانك ورحمتك.
وبعد: فهلّا نظر كل منا لنفسه ونقدها نقد بصير, واستعان بالله في هدايتها لتكون مطمئنة للحق علمًا وعملًا, ساعية لبحبوحة الجنة وفردوسها الأعلى, فالجنة تريد عملًا لا كسلًا وجِدًّا لا لعبًا, وهي يسيرة على من يسرها الله له, وليس بين ولي الله وبينها إلّا أن تخرج الروح من الجسد, مالم تحبس في كبيرة أو دَيْنٍ. وكل نعيم دونها غرور, وكل ساعة في رياضها سرور, (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة).
وخيرًا نفعل لأنفسنا إن أصغينا إلى مواعظ القرآن, فالحياة تنحسر عنا شيئًا فشيئًا حتى يحين رحيلنا الأخير, اللهم اجعله لجنات النعيم. 
ومضة: هل رأيت وجه الموت بحادث أو مرض ونحوه ثم توارى عنك؟ اعلم أنها رسالة من الدار الآخرة وبرقية من البرزخ فاجعلها منك على ذُكرٍ وللحميد شاكرًا حامدًا محبًّا.
إبراهيم الدميجي
20 رمضان 1435
aldumaiji@gmail.com