إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الخميس، 18 أغسطس 2016

الاستغناء بالله تعالى

الاستغناء بالله تعالى
الحمد لله وبعد، فهل تعلم من هو أغنى الناس حقّا وأبسطهم رزقًا وأوفرهم حظًّا؟
إنه المستغني بالله عما سواه. فمن استغنى بالله حق الاستغناء أغناه الله تمام الغنى.
ومعنى الغِنى بالله والاستغناء به: طلب حصول الكفاية وسد الحاجة منه سبحانه دون من سواه.
واعلم أنه بحسَب تحقيق المؤمن للاستغناء بربه تعالى يكون غناه وسدّ فاقته ونُجعُه ونُجحُه وفوزه وفلاحه.
وبما أن الغنى هو محض فضل الله تعالى, وحيث أن أفضالَه لا تعد ولا تحصى ولا تحصر؛ فاقتضت حكمته سبحانه أن يجعل للغنى مراتبَ ودرجات, "ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به, فأفقر الناس إلى الله أغناهم به وأذلهم له, وأعزهم وأضعفهم بين يديه أقواهم, وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله, وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله؛ كان ذكر الغنى بالله مع الفقر إليه متلازمين متناسبين.
 واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه, وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر, كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة القشيرية (272): لا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا مَن غِناه من لوازم ذاته, فهو الغني بذاته عما سواه, وهو الأحد الصمد الغني الحميد.
 والغنى قسمان: غنى سافل, وغنى عال.
 فالغنى السافل هو الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث, وهذا أضعف الغنى فإنه غنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها, فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها, وكأن الغنى بها كان حلمًا فانقضى, ولا همةَ أضعفُ من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل.
وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون وإياه يطلبون وحوله يحومون, ولا أحبَّ إلى الشيطان وأبعدَ عن الرحمن من قلب ملآنٍ بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
 قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنًا, ورجل يموت على الكفر, وقلب فيه خوف الفقر.
وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله, وفقر بعده, وهو كالغفوة بينهما. فحقيقٌ بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه, بل إذا حصل له جعله سببًا لغناه الأكبر ووسيلة إليه, ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له, وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبّدها لغير مولاه الحق, أو يجعلها خادمة لغيره.
وأما الغنى العالي: فهو بحصول ما يسد فاقة القلب ويدفع حاجته, وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة, لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنيّ الحميد, الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء, وإن فاته فاته كل شيء.
 فكما أنه سبحانه الغنيّ على الحقيقة ولا غني سواه, فالغنيّ به هو الغني في الحقيقة ولا غِنى بغيره البتة, فمن لم يستغن به عما سواه تقطّعت نفسه على السوى حسرات, ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة, وحضره كل سرور وفرح, والله المستعان. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أصبح والدنيا أكبرُ همِّه جعل الله فقرَهُ بين عينيه, وشتّت عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له. ومن أصبح والآخرة أكبر همّه جعل الله غناه في قلبه, وجمع عليه شملَه, وأتته الدنيا وهي راغمة" رواه أحمد.
ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنًا وظاهرًا, ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) وقال سبحانه: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
وهذه الاستقامة ترقى بصاحبها إلى الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه, وهي أعلى درجات الغنى.
 فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك قبل ذكرك له, وأنه تعالى ذَكَرَكَ فيمن ذَكَرَهُ من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك, فقدّر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة, وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله, قال تعالى: (هو سماكم المسلمين من قبل) فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قط, وإنما هو الذي أهّلك بسابق ذكره, فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكَهُ لم يكن لك إليه سبيل.
 ومن الذي ذَكَرَكَ باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوّام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك وبعث دواعيك وأحيى عزماتك الصادقة عليها حتى ثبت إليه وأقبلت عليه, فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها, وتوجّهت نحوه سبحانه ركائبها, وعمَر قلبك بمحبته بعد طول الخراب, وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب؟ ومن تقرب إليك أولًا حتى تقربت إليه, ثم أثابك على هذا التقرب تقربًا آخر, فصار التقرب منك محفوفًا بتقربين منه تعالى, تقرّبٌ قبله وتقرب بعده, والحب منك محفوفًا بحبين منه, حب قبله وحب بعده, والذكر منك محفوفا بذكرين ذكر قبله وذكر بعده؟
 فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء, ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلّها آثارُ ذكرِه لك.
 ثم إنه سبحانه ذَكَرَكَ بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس, فله عليك في كل طرفة عين ونفس نِعَمٌ عديدة, ذكرك بها قبل وجودك, وتعرّف بها إليك, وتتحبّب بها إليك, مع غناه التام عنك وعن كل شيء, وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده, إذ هو الجواد المحسنُ لذَاتِه, لا لمعاوضة, ولا لطلب جزاء منك, ولا لحاجة دعته إلى ذلك, كيف وهو الغني الحميد؟
 فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكَرك بها, فلتعظُمْ عندك لذكره لك بها, فإنه ما حَقَرَكَ مَن ذَكَرَكَ بإحسانه, وابتدأك بمعروفه, وتحبّب إليك بنعمته, هذا كله مع غناه عنك.
 فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربه تعالى له, ووصل شاهدُه إلى قلبه؛ شغله ذلك عما سواه, وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذه وسيده يذكُرُه ولا ينساه, فهو يحصل له - بشعوره بذكر أستاذه له - غنًى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له, فهذا هو غنى ذكرِ الله للعبد.
 وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" فهذا ذكرٌ ثانٍ بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره به حتى جعله ذاكرًا, وشعورُ العبد بكلا الذكرين يوجب له غنًى زائدًا على إنعام ربه عليه وعطاياه له.
 والمقصودُ: أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغني قلبَه ويسدّ فاقته, وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم, فإن الفقر من كل خير حاصلٌ لهم, وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم.
 وجميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه فإن العبد يستغني بها بقدر حظّه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها. فمن شهد مشهد علوّ الله على خلقه, وفوقيّته لعباده, واستواءه على عرشه, كما أخبر به أعرَفُ الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق, وتعبّد بمقتضى هذه الصفة, بحيث يصير لقلبه صَمَدٌ يعرج القلب إليه, مناجيًا له, مطرقًا, واقفًا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز, فيشعر بأن كَلِمَه وعَمَله صاعد إليه, معروض عليه بين خاصته وأوليائه؛ فيستحيي أن يصعد إليه من كَلِمِهِ ما يخزيه ويفضحه هناك.
ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس, إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه, فمراسمه نافذةٌ فيها كما يشاء, (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) فمن أعطَى هذا المشهد حقّه معرفة وعبودية؛ استغنى به.
وكذلك من شهدَ مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال, بل أحاط بذلك علمه كله علمًا تفصيليًّا, ثم تعبّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه؛ عَلِمَ أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه, علانية له بادية, لا يخفى عليه منها شيء.
 وكذلك إذا أشعر قلبه صفةَ سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها, سواء عنده من أسرَّ القول ومن جهر به, لا يشغله جهرٌ من جهر عن سمعه لصوت من أسرَّ, ولا يشغله سمعٌ عن سمع, ولا تغلّطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها, بل هي عنده كلها كصوت واحد, كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
 وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله, الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء, ويرى تفاصيل خلق الذرّة الصغيرة ومخّها وعروقها ولحمها وحركتها, ويرى مدّ البعوضة جناحها في ظلمة الليل.
وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية, فحرس حركاته وسكناتِه, وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه, ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها شيء.
 وكذلك إذا شهد مشهد القيّومية الجامع لصفات الأفعال, وأنه قائم على كل شيء, وقائم على كل نفس, وأنه بكمال قيوميته لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل, لا تأخذه سنة ولا نوم, ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفعِ مشاهد العابدين, وهو مشهد الربوبية.
 وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء, وهو شهادة أن لا إله إلا هو, وأن إلهية ما سواه باطل ومحال كما أن ربوبية ما سواه كذلك, فلا أحدَ سواه يستحق أن يُؤله ويُعبد ويُصلّى له ويُسجَد, ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله, فهو المُطاع وحده على الحقيقة, والمألوه وحده, وله الحكم وحده. فكل عبوديةٍ لغيره باطلةٌ وعناءٌ وضلال, وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها, وكل غنى لغيره فقر وفاقة, وكل عز بغيره ذل وصغار, وكل تكثّرٌ بغيره قلة وذلّة. فكما استحال أن يكون للخلق ربٌّ غيره؛ فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره, فهو الذي انتهت إليه الرغبات, وتوجّهت نحوه الطلبات.
فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء, وهو مشهدٌ جامع للأسماء والصفات, وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات.
فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها, وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته, فمن اتّسع قلبه لمشهد الإلهية, وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية, فقد تم له غناه بالإله الحق, وصار من أغنى العباد.
فيا لَه من غنًى ما أعظم خطره, وأجلَّ قدره, تضاءلت دونه الممالكُ فما دونها, وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له, والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس, ويطرده الانتباهُ من النوم.
 واعلم أن أعلى درجات الغنى بالرب سبحانه الفوزُ بوجوده, والفرحُ كلُّ الفرح به، وهذا الغنى هو أعلى درجاتِ الغنى.
إبراهيم الدميجي
3ـ11-1437


الأحد، 7 أغسطس 2016

‏حينما يخفق القلب وفاءً.. من ذكرياتي مع الشيخ عبد الرحمن الدميجي رحمه الله تعالى إملاء فضيلة قاضي محكمة الاستئناف بالرياض الشيخ: فهد الناصر السليمان حفظه الله تعالى.

حينما يخفق القلب وفاءً..
من ذكرياتي مع الشيخ عبد الرحمن الدميجي رحمه الله تعالى
إملاء فضيلة قاضي محكمة الاستئناف بالرياض الشيخ: فهد الناصر السليمان حفظه الله تعالى.
كتب ابنه عمر السليمان وفقه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت مع والدي الشيخ فهد بن ناصر السليمان - القاضي بمحكمة الاستئناف بالرياض -‏ في لقاء مع مجموعة من طلبة العلم، فرغبوا إليه في الحديث عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله  وقصة جمعه لفتاويه فقال: لعل ذلك يكون في وقت آخر..
فطلبوا منه الحديث عن بدايته في القضاء، فأخبرهم عن عمله في محكمة محافظة الخرمة، و أنه أحبها، وله فيها ذكريات عطرة، والتي عمل فيها قاضيًا بعد تعيينه مباشرة.
وبعد حديث عن مدة عمله ودروسه فيها طلبوا منه ذكر أبرز من عرفه فيها،‏ فذكر أميرها ابن مهنا ‏رحمه الله ودعا له بخير، ثم ذكر  مجموعة من المشايخ ومنهم الشيخ علي القرني والشيخ القباس والشيخ الأحيدب والشيخ التويم والشيخ ابن قعود، وكانوا زملاء عمل، والشيخ إبراهيم الحجي والشيخ محمد العبيسي والشيخ  شجاع الشريف والشيخ عبدالله الدميجي والشيخ خالد الشريف مدير الأوقاف سابقًا والمحافظ حالياً، والشيخ سعد الهويدي، وآخرين من مشايخ القبائل والوجهاء وطلبة العلم وجملة ممن موظفي المحكمة لم أتمكن من تدوين أسمائهم، وأثنى على جميع أهالي الخرمة حاضرة وبادية خيرًا، واعتذر عمن غاب اسمه عن ذهنه، فكثير منهم يعرفه بوجهه لا باسمه.

ثم ذكر شيخاً فاضلًا لم يتمكن من إكمال اسمه حيث غلبه البكاء وهو الشيخ عبد الرحمن الدميجي، فعلمت محبته له ومكانته عنده.
 فأخرجت الهاتف الجوال وفتحت المسجل  ((وأخبرته في ما بعد أنني سجلت فقال: إن شئت فدوّن ما سمعت واحذف التسجيل. ولعله كان لكثرة ما غلبه من التأثر )).
فكان مما قال عنه:
لما باشرت العمل في المحكمة في اليوم الثاني أو الثالث، وكنت عند باب المكتب؛ دخل رجل يعلوه الوقار، فهبّ من كان في ممرات المحكمة يسلّمون عليه ويقبلون رأسه، وهو يمتنع من تقبيلهم رأسه، وأسمعهم يقولون: الشيخ عبدالرحمن، الشيخ عبدالرحمن! فسألت من كان بجانبي عنه فقال: هو الشيخ الدميجي، مدير المدرسة الثانوية سابقاً ومدير الدعوة في المحافظة، فأقبلت عليه مسلّماً ومعانقاً.
دخل معي للمكتب مباركاً لي مباشرة العمل، وداعياً لي بالتوفيق والسداد، ومتحدثاً عن الدعوة الى الله في الخرمة، طالباً المشاركة في الدروس والمحاضرات.
يأسرك بحديثه وتواضعه!
نبرات صوته الهادئ يغشاها الحب ويجللها الإخلاص!
نظراته تشع باللطف!
 كلماته معدودة حتى تتمنى ألا يسكت!
 لم يُطل الجلوس، ودعاني للغداء أو العشاء فاعتذرت فقال - وقد عرف سبب تمنعي -: ليس في بيتي، ولكن في ضيافة الدعوة، فوعدته خيراً.
كان من دخل المكتب من المراجعين يسلّم عليه قبل أن يسلم عليّ، فقلت: الحمد لله، هؤلاء الذين يقدّرون شيخهم وأهل الفضل فيهم حريّ بهم الخير، وكانوا كذلك، ولله الحمد.
سمعته يبادلهم التحية بالتحية، والترحيب بالترحيب، ويقول: سلّموا على الشيخ سلموا على القاضي قبلي، فأقول: أنت الشيخ. وعرفت حينئذً تفسير ما شاهدته عند باب المحكمة من محبة الناس وإجلالهم له.
ووقع في قلبي من حينها صدقُ الرجل وخشيتُه لله، ولا أزكي على الله أحداً!
ثم توالت اللقاءات معه طيلة بقائي في الخرمة - أربع سنوات تقريبًا - أبًا وشيخًا ومعينًا ومستشارًا، سيما وقد كان مستشارًا خاصًّا لأمير الخرمة عبدالله المهنا رحمه الله.
وقد اجتمعنا سوياً في اجتماعات رسميّة فكان رأيه وقوله هو الفيصل، يطرحه بهدوء وفي تواضع للنظر فيه وهو قد حبره تحبيراً!
كان قمة في التواضع.
تواضع يعلوه وقار.
تواضع تجلله هيبة.
لا تعرفه من بين جلسائه لتواضعه.
اشتهر بالتسامح والتغاضي عن الهفوات.
تعلو محياه الابتسامة، مع ما يعانيه من مرض يفطن له من أحبّه وعاشره.
بشاشة وجهه ظاهرة مع لمسة ألمٍ يدركها محبّه. 
بذل نفسه للدعوة والدعاة، تولى ادارة الأوقاف والمساجد فكان الإداري الناجح، ولم يختلف يومًا مع المحكمة في وقف أو في إقامة جمعة.
ينسّق للمحاضرات، ويدعو المشايخ وطلبة العلم لزيارة المحافظة لإلقاء الدروس والمحاضرات واللقاءات.  وطلب مني استضافة من يأتي من خارج المحافظة في منزلي لمدة نصف ساعة قبل المحاضرة لما كان يعتقده من أثرٍ حينما يستضيف قاضي البلد المحاضر، فقلت: على الرحب والسعة.
كان مصلحاً لم يتردد في ما يطلب منه يقوم على الصدقات وتوزيعها بامانة وتحري وانجاز يسابق به الأصحاء والشباب.
كان الطيب لا يفارقه، كم شممته فيه وأنا أقبل رأسه، مع تمنعه من التقبيل، إلا أنني كنت أتمكن من تقبيل رأسه لفارقٍ في الطول قليل، فيمسك بيدي ليقبلها فأرفع يده مانعًا له مقبلاً لها. فيقول: (نحشنا من القوم وطحنا في السرية) فأُذكّره أنني لم أقبل رأسه حينما دخل علي المحكمة أول مرة خشية أن تكون له خصومة، فكان يضحك رحمه الله رحمة واسعة.
لم يتدخل يوما في قضية معروضة علي، مع علم الجميع بمكانته عندي، ولكن كان الحق عندي وعنده أحب وأعلى.
عًرف عنه الصلاح والتقوى والبر وصلة الرحم واصلاح ذات البين والدعوة الى الله وإكرام الدعاة.
كان آخر عمل رسمي معه طلبه رفع معاملة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للإذن بإقامة الجمعة في مسجد بناه لوالده رحمه الله، وقد بشّرني بعد ذلك هاتفيًّا بصدور الموافقة على إقامة الجمعة، وكان فرحاً مسرورًا بذلك.  
وإن أنسى فلن أنسَ ذلك الموقف الحزين حينما بلغه خبر نقلي من محكمة الخرمة عام ١٤١٧ بناءً على طلبي، فدخل علي المكتب - وكنت وقتها رئيسًا للمحكمة - فقمت له وأنا أكاد أتعثر في مشيتي، ورأيت وجهه وقد طغى عليه التأثر، ولم أعهده هكذا من قبل!
 فجلس يحوقل ويسترجع، فأخبرته: أنه لولا الوالدة والوالد ما طلبت النقل، فأنت لي كالوالد، فرقّ لي ودعا بخير، ولا زلت أذكر كلمته حينما قال: ((لك غرس في هذا البلد أخشى أن لا يجد من يعتني به!)) يعني بهم من يحضر ما تيسر لي من الدروس. فقلت: الحمد لله، الغرس عروقه في الأرض، وبفضل الله، ثم وجودك وإخوانك يستوي على سوقه. فطلب تأجيل النقل - ولو لسنة واحدة - ثم ألحّ في ذلك فوافقت إكراماً له، وسافر للرياض مع مجموعة من المشايخ لا تحضرني أسماؤهم الآن، واخشى أن أترك أحدهم، وراجعوا مجلس القضاء وأكثروا  الطلب إلا أن المجلس طلب خطاب تنازل عن النقل، ولم يوافق على التأجيل. 
وعند رحيلي اختلطت دموعي بدموعه، ومشاعري بمشاعره، فلم أدرِ من الراحل أنا أو هو؟! 
كل الذي أدريه أنني تركت بعضي عنده، ورحلت بمحبته!
ووعدته وكلّ من حضر للوداع من الأحبة الكرام أن أزور الخرمة كل سنة، وعملت بذلك حسب الوسع والطاقة.
أزورها في شعبان وألقي محاضرة عن أحكام الصيام، أو في ذي القعدة وألقي محاضرة عن الحج.
وأخصه هو إما قبل المحاضرة أو بعدها بالسلام.
وفي عام ( ١٤٢٨ ) كان السلام عليه مختلفًا عن كل الأعوام الخاليات، فلم يكن السلام عليه في بيته، أو في مركز الدعوة كالعادة، بل كان السلام عليه في قبره!
حيث توفي في جمادى الآخرة رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
والموعد الجنة برحمة الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وفي الجعبة عنه الشيء الكثير، فلعل الله أن ييسر الحديث عنه في وقت آخر، والله المستعان.
وكم أتمنى إقامة وقف في الخرمة باسم: (وقف الشيخ عبدىالرحمن الدميجي للدعوة).
فقد كانت الدعوة من أحب الأعمال إليه، وله أعمال صالحة بحمد الله وعقبٌ صالح مبارك، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.   إنتهى
نقله: عمر بن فهد بن ناصر السليمان
الرياض 1/ 11/ ١٤٣٧


الاثنين، 1 أغسطس 2016

"إذ نادى ربه نداءً خفيًّا"

"إذ نادى ربه نداءً خفيًّا"
هل الأولى في دعاء الله تعالى أن يجهر أو يسرّ، ولماذا قرن الله تعالى الذكر بالخِيفة والدعاء بالخُفية؟
أجاب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: "قول الله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخُفية } يتناول نوعي الدعاء؛ لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه وإسراره.
 قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت. أي ما كانت إلا همسًا بينهم وبين ربهم عز وجل؛ وذلك أن الله عز وجل يقول: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وأنه ذكر عبدًا صالحًا ورضي بفعله فقال: { إذ نادى ربه نداء خفيًّا }.
 وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
 أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
 ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، لأن الملوك لا تُرفع الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى.
 فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته؛ حتى إنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. وقلبُه يسأل طالبًا مبتهلًا، ولسانُه لشدة ذلته ساكتًا. وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلًا.
رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
 خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرّقه، فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
 سادسها: - وهو من النكت البديعة جدًّا - أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألةَ نداءِ البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: { إذ نادى ربه نداء خفيا } فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه.
 وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: "أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبَا، إنكم تدعون سميعَا قريبَا، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عنق راحلته".
وقد قال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } وهذا القرب من الداعي هو قرب خاصُّ ليس قربًا عامًّا من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه، وأقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخُفية } فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب.
سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يملّ، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يملّ اللسان وتضعف قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له؛ بخلاف من خفض صوته.
 ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدرِ به أحدٌ فلا يحصل على هذا تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جهر به فَرَطَتْ له الأرواح البشرية ولا بد، ومانَعَتْه وعارضته، ولو لم يكن إلا أنَّ تعلَّقها به يفرّق عليه همته؛ فيضعف أثر الدعاء. ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة.
 تاسعها: أن أعظم النعمةِ الإقبالُ والتعبد، ولكل نعمةِ حاسد على قدرها دقّت أو جلّت، ولا نعمةَ أعظمَ من هذه النعمة، فإن أنفُسَ الحاسدين متعلقةٌ بها، وليس للمحسود أسلمَ من إخفاء نعمته عن الحاسد.
 وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } الآية. وكم من صاحب قلبٍ وجمعيةٍ وحالٍ مع الله تعالى قد تحدّث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيارُ؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى، ولا يطلعُ عليه أحدٌ.
 والقومُ أعظم شيئًا كتمانًا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأنسِ به وجمعيةِ القلب، ولا سيما فعله للمبتدئ السالك، فإذا تمكن أحدهم وقويَ وثبّت أصولَ تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه - بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حالَه مع الله تعالى ليُقتدى به ويؤتمَّ به - لم يبال. وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبالِ على الله تعالى فهو من عظيم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة.
 عاشرها: أن الدعاءَ هو ذكرٌ للمدعوِّ سبحانه وتعالى، متضمنٌ للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكرَ سُمّيَ دعاءً لتضمنه للطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء الحمد لله" فسمَّى الحمدَ لله دعاءً وهو ثناء محض؛ لأن الحمدَ متضمنٌ الحبَّ والثناء، والحبُّ أعلى أنواع الطلب؛ فالحامد طالبٌ للمحبوب فهو أحق أن يُسمَّى داعيًا من السائل الطالب؛ فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
 والمقصود أن كلَّ واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة } فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه.
 قال مجاهد وابن جريج: أُمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح. وتأمل كيف قال في آية الذكر: { واذكر ربك } الآية. وفي آية الدعاء: { ادعوا ربكم تضرعًا وخُفية } فذكر التضرعَ فيهما معًا وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.
وخَصَّ الدعاء بالخُفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخِيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها؛ ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبةُ ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضرُّه؛ لأنها توجب التوانيَ والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات، وسبب هذا عدمُ اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن.
 والمقصود أن تجريدَ الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جَمَعَهُ على الطريق ورده إليه، كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق. والرجاءُ حادٍ يحدوها يطلب لها السير، والحبُّ قائدُها وزمامها الذي يشوِّقها، فإذا لم يكن للمطية سوطٌ ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق خرجت عن الطريق وظلت عنه.
فما حُفظت حدودُ الله ومحارمُه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادًا لا يُرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسَبه.
 فتأمل أسرارَ القرآن وحكمتَه في اقتران الخِيفة بالذكر والخُفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخُفية بالدعاء والخِيفة بالذكر أيضًا، وذكرِ الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبنيٌّ عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه؛ إذ طلبُ ما لا طمعَ له فيه ممتنعٌ، وذكرُ الخوفِ في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه.
 فذكر في كل آيةٍ ما هو اللائق بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاءً لما في الصدور".  عن: مجموع الفتاوى 15 (15 -22) مختصرًا.
إبراهيم الدميجي

25/10/1437