إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 23 يونيو 2013

مسافة اختلاف الرأي بين الراعي والرعية.

مسافة اختلاف الرأي بين الراعي والرعية

الحمد لله وبعد:
 لا بد من التسليم أوّلًا بمقدمتين:
الأولى: أن الله خلق عباده المؤمنين أحرارًا, ليس لهم عبودية إلا لربهم, ولا يملكهم غيره, _حتى الرقيق الأقنان فملكية الأسياد لهم جزئية, ومقيّدة بالمعروف_ ولكلِّ مؤمنٍ رأيُه المستقل الذي به يختار طريقه, راكبًا صهوة إرادته التي سيحاسبه الله عنها بقدر ما أعطاه من ملكة وفقه وعقل, وهو مُطالبٌ باتباع شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وفي النهاية فهو ميسّرٌ لما خلق له "وهديناه النجدين".
الثانية: أن من ضرورات اجتماع الناس وعمارتهم الأرض التي اختارها الله وسخرها لهم, وجعلها ميدانًا لابتلائهم واختبار مدى عبوديتهم له سبحانه, ليقيموا بها دينه, أن يكون لهم قادة يسوسونهم وينقادون لهم ليختاروا لهم أفضلَ الأمور وأرفقَها بهم, ويفصلون بينهم النزاع والخصومة, ويتعاونوا جميعًا لتحقيق ما خُلقوا له, إذ لو لم يكن لهم قائد مُطاع لتسلّط قويهم على ضعيفهم, ولتفرّق أمرهم, وضعف شأنهم, واستطالت عليهم العاديات. إذن فلا بد لهم من أمير ينقادون لأمره, لذا شُرعت الإمامة وجُعلت طاعة الأمير من لوازم الجماعة, وصارت طاعته في المعروف من طاعة الله, وشدّد في نكث البيعة أو الخروج إلا لمبرّر من الشريعة.
 ولمّا كانت تبعية الناس لساستهم أمرًا لازمًا كان من محاذير تلك القضية أن تتحول الوسيلة لغاية, بمعنى أن يَنزع الذي قد جُعِلَ لتعبيد الناس لربهم إلى مشاركة الرب في ذلك الأمر بتعبيدهم له ولإرادته, وقد يصل بعضهم للتعبيد المطلق كفرعون, وقد يقصُر بعضهم دونه, ومدار الأمر على منازعة العبودية في أي شُعبة من شعبها, ولمّا كان الأمر بهذه المثابة من الخطر على أصل الغاية من الخليقة ضُبط الرؤساء _أيًّا كانت رئاستهم_ بأمرين
الأول: أن طاعة الأمير تابعةٌ مقودةٌ لطاعة الله تعالى, "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وتأمّل كيف لم يفرد ولي الأمر بطاعة مستقلة, بل جعلها تابعة لما سبقها من طاعة الله ورسوله, لذا فعند التعارض فليس هناك إلا تقديم طاعة الله _ومنها طاعة رسوله_ دون ما سواه. ومن تشديد الله تعالى في هذا الأمر العظيم قوله تبارك وتعالى في بيعة النساء: "ولا يعصينك في معروف" تنبيهًا على أنه لا طاعة لمخلوق مهما علا شأنه في معصية الخالق, وهو التشديد المؤكد في قضيةِ إفراد الطاعة لله وحده لا شريك له. قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى (7 / 61): "ولفظ الآية عام, أنهن لا يعصينه في معروف. ومعصيته لا تكون إلا في معروف؛ فإنه لا يأمر بمنكر, لكن هذا كما قيل: فيه دلالة على أن طاعة أولي الأمر إنما تلزم في المعروف, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف" ونظير هذا قوله: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" وهو لا يدعو إلا إلى ذلك. والتقييد هنا لا مفهوم له؛ فإنه لا يقع دعاء لغير ذلك, ولا أمر بغير معروف"
قلت:  لذلك فقد قرر العلماء أن من أنواع الشرك؛ شركُ الطاعة. ومن دلائله قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم, وحرموا عليهم الحلال فاتّبعوهم. فهم إذن لم يعبدوهم بالقرابين, ولكنهم أعطوهم حق التشريع لهم من دون الله, فحرموا عليهم وأحلوا لهم, فاتبعوهم في هذا.
الثانية:  أن الله أمر الأمير بالشورى. فرأي الجماعة خير من رأي الواحد.
وقال الإنجليزي إدوارد دنيسون في وصفه للهالك أتاتورك: إن أتاتورك إذا أراد إدخال إصلاح يجعله قانونًا مفروضًا على الناس, خذ مثلًا مسألة الحروف, لو ألفت لجنة لبحثها لقضت سنوات.. وأما كمال باشا _أي أتاتورك_ فإنه جلس مع آخر, أظنه وزير المعارف, ووضع معه الحروف التركية اللاتينية ثم قال: غدًا تكون هذه حروف البلاد, وفي الغداة فرض على الناس تعلمها!    
مع التنبيه إلى أنّ معيار الشورى في الإسلام: أن تكون لأهل العلم والرأي والمعرفة ممن فُحِصَ علمهم وفقهم ودُربتهم وخبرتهم وتجربتهم.
وبعدُ؛ فلا يعني اختلاف رأي المرعيّ عن الراعي وإظهاره أن يكون لفساد ذات بينٍ, أو لغرض شقِّ العصا, إنّما هو رأي يقترحه المؤمنُ لغيرته على بيضة أمته وجمعيتها على الهدى والصواب, فإن أصاب فقد حاز الفضل, وإن أخطأ فالله بغفرُ له, شريطة أن يأتيَ البيوتَ من أبوابها, وأن يُخلص النيّة من آفاتها, مع مراعاة الرفق والحكمة, وأن يتّبعَ ولا يبتدع. وحال سلف الأمة ناطق بهذا, شاهدٌ به, مع الأخذ في الاعتبار أن حكم الحاكم في المسألة التي ساغ فيها خلاف أهل العلم يرفع الخلاف والنزاع التطبيقي, شريطة أن يكون رائده ابتغاء مرضاة الله دون سواه, وليس على الرعيّة التنقيب في النيّات, لكن على العلماء مقايسة الأمور بأشباهها, وإلحاق الفروع بأصولها, وقراءة المشاهد الكلية للوقائع المحكومة بالنظر للمصلحتين العظيمتين: عدم تبديل الدين بنسبة الباطل لهم وتشريعهم له, والحرص على حفظ الجماعة من التشقق والتصدّع والفرقة وذهاب الريح, بمراعاة القاعدة الفاذّة الجامعة المانعة: المصالح والمفاسد, فعليها أُقيمتْ السياسة الشرعية للراعي والرعية, وما أكثر المتسلقين لحظوظهم عبرها عن علمٍ أو جهل, وإن كان هذا لا يعني بحالٍ اطّراحها, بل تنقية مشربها من كيزان الحظوظ
وبعدَ إبداء المؤمن رأيه الذي تحتاجه أمّته؛ يكون قد أدّى الذي عليه, فكلٌّ مُطالبٌ على قدرِ مِنحةِ الله له, فمن بسط الله له العلم فسيُسأل غدًا عن علمه, ومن بسط الله له السلطان فسيُسأل غدًا عن رعيته, وعلى قدر العلم والقدرة يكون السؤال للجميع, ورُبَّ مُبارَكٍ قد أسقط الله به عن الأمة العذاب بعدما حمَّ, وفروض الكفايات تنقلب للأعيان عند عدم الكفاية كلٌّ بحسب ما أوتي, وعلى قدرِ ما بُسِطَ له, وعلى قدر استحكام غربة الإسلام تعظم مواطن الطلب لمواقف الأخيار.
 وخيرُ عباد الله من استعمله ربّه في طاعته, واستغرسه في عبادته, وكان في المكان والزمان والحال الذي ينبغي أن يكون فيه المرضيّون. اللهم اسلكنا في سبيلهم يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال والإكرام.
إبراهيم الدميجي
14/ 8/ 1434
aldumaiji@


الجمعة، 21 يونيو 2013

الإمام محمد رشيد رضا.. فتى القلمون, والهمّ الإصلاحي


الإمام محمد رشيد رضا.. فتى القلمون, والهمّ الإصلاحي
خلق الله تبارك وتعالى بني الإنسان بتمايزٍ في القدرات العقلية والجسدية، وفاوت بينهم في المنح والأرزاق العلمية والإيمانية والمادية، وفرّقهم في أضابير الأزمنة والأمكنة على امتداد التاريخ الإنساني السحيق.. وحسابهم غدًا على قدر النعمة.
من أولئك الأفذاذ النوادر رجل بحجمِ هِمِّ أمة كاملة، يقلقه وجع مسلمٍ في أقصى المشرق، ويفرحه سرور آخر على شاطئ الأطلنطي، ويقَلْقِلُهُ جهل فئام من أمته بحقائق الديانة، ويبكيه بكاء أرملة، ويشجيه دمع يتيم.
نظر إلى حال أمته في ذلك الزمان العصيب، وقد خيّم عليهم الجهلُ، وثارت بينهم العصبيّات والقوميات، واندرس وَشْيُ الإسلام أو كاد، واتخذت البدعُ سُننًا وسَننًا، وانقلبُ المنكرُ معروفًا، وتداعتْ أممُ الكفر على الأمة كما تَدَاعَى الأكَلةُ على قصعتها، وأُلقي الوهنُ على قادتها ساسةً وعلماء.. فصرخَ بلسان حاله: آن للأمة النهوض، بل الوثوب. ولم يكتف بتسطير الأحلام والأماني، بل شدّ صُلبَه، ووجَّهَ هِمته وكفاحه، لتحقيق ما اسطاع من ذلك الهمّ السامي.. همّ الإصلاح الحقيقي للأمة، والنهوض بكل متطلبات حضارتها، في الإيمان والعلم الشرعي والتجريبي، والوعي السياسي، والإصلاح الاجتماعي والصناعي والزراعي وكل ما يلزم من مفاتيح التقدّم دينًا ودنيا.. أما كيف ذلك؟ وما هي نسبة تحقّق مراده؟ لنرى:
ولد الإمام محمد رشيد رضا يوم 27/ 5/ 1282هـ في بلدة القلمون الشاميّة، ونشأ في بيت علم وفضيلة، وحفظ القرآن في صباه، وألحقه أبوه بالمدرسة الوطنية الإسلامية في طرابلس، وقرأ على علماء طرابلس فنون العلم.. وكان المنعطف المهمّ في وجهته الدعوية حينما قرأ عددين من مجلة العروة الوثقى، إذ اتّفق أنه قرأهما أثناء تقليبه لأوراق والده. وهذه المجلة كان يحرّرها الشيخ محمد عبده، فبحث عن أعدادها الأخرى فقرأها بنُهمة، وقد تكوّنت لديه رؤية واسعة لما قد يستطيعه الداعية إلى الله إن وفّقه الله للعلم والعمل والدعوة والصبر والحكمة. فابتدأ مشروعه الكبير من قريته القلمون، فوعظ ودرّس وعلّم الناس حتى ظهرت ثمار دعوته في بلدته وما حولها – ومن المفارقة أَنْ دار الزمان حتى أصدر فيما بعد مجلةً فيقرأُ أحد أعدادها شابٌّ ألبانيٌّ فتكون من أسباب توجُّهِه للحديث، فيتضلع منه حتى يصبح محدّث الدنيا في وقته ذاك هو الإمام الألباني .
ثم أزمع الهجرة لمصر لأمرين: أحدهما: لقاء أستاذه الشيخ محمد عبده، والقرب منه والإفادة من تجاربه وعلمه وتوجيهه، وكان قد التقاه مرتين في طرابلس إبّان زيارة الشيخ للشام. والثاني: البحث عن محضن حرّ لمشروعه الفكري الإعلامي النهضوي عبر إنشاء صحيفة قويّة البناء، صحيحة العلم، سليمة المنهج، صادقة الطرح، وقد كانت مصر خير من يمثّل القالب لتحقيق ذلك الحلم لذلك الشاب الطموح. وفي هذا ملمحٌ لأهل الإصلاح ألا يقبعوا في مكان إن كان غيره أولى، وقد كانت مجلة العروة الوثقى باريسية الصدور، فلم يضرها ذلك، وحاليًّا مجلة البيان اللندنية.
وصل القاهرة في رجب عام 1315 والتقى في اليوم الثاني شيخه وأستاذه محمد عبده، ومن هناك وضع لبنة مشروعه العظيم، فاستشار شيخه بعد مدة في إصدار مجلّة أسبوعية تكون منبرًا للإصلاح فوافقه شيخه، وكان ذا حظوة عنده، وأهداه كتابي التوحيد وكشف الشبهات للإمام المجدد، فأثنى عليهما وعلى صاحبهما وأيَّدَهما - رحمهم الله - جميعًا، وكان مما قال أستاذه له على عصرانيته: إنه لم تُظلم حركة إصلاحية قط كما ظُلمتْ هذه الحركة الصافية.
ثم اختارا اسمًا للمجلة هو المنار، تيمّنًا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الحاكم وغيره بسند صحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ''إن للإسلام صُوىً، ومنارًا كمنار الطريق'' وصدر العدد الأول في 10/ 1315؛ أي بعد ثلاثة أشهر من وصول الشيخ لمصر، وكان حينها في الثالثة والثلاثين من عمره - وتأمّل اتّقاد الهمّة ومضاء العزم - فكان هو المحرّر لأكثر مقالاتها على تنوّعها، مع استكتابه لقامات كبار كتّاب عصره. وهذا يذكرنا بمجلة العرب وصاحبها العلامة حمد الجاسر رحمه الله، كذلك الرسالة للزيات- وقد كان الشيخ محمد سيّال العلم والبيان. ومع صدور العدد الثاني صودر في الشام من قبل الدولة العثمانية لمقالة فيها بعنوان: القول الفصل في سعادة الأمة. وتلا ذلك اضطهاد والد الشيخ وإخوته ومصادرة أملاكهم في القلمون ولم يستطع زيارتهم إلا بعد أحد عشر عامًا.
وكتب الله تعالى القبول لهذه المجلّة، فسارت في الناس مسير الشمس، وتلقّفوها مستبشرين بما فيها من تحقيق وتحرير وغيرةٍ وصدق ونصح. مع ذلك فقد كانت متنوّعة المواضيع، إلا أن جامعها الرصانة والاستقامة. وهي أعظم آثار الشيخ، وقد استمرت من سنة 1316 إلى سنة 1354 واستغرقت ثلاثة وثلاثين مجلدًا، ضمت 160،000 صفحة. لم يكتف الشيخ بالتوجيه من خلف الأوراق، بل نزل بنفسه لميدان التربية والتعليم وأسّس دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة المُؤَصَّلين على منهج السلف الصالح ونشرهم في أقطار المسلمين. فافتتحها عام 1330هـ لكن ضيق ذات يده حال دون استمرارها.
كان حريصًا على وحدة المسلمين واتحادهم ضد عدوهم، فأيد بعض الزعماء العرب محرضًا لهم على خدمة الإسلام، ثم سحب تأييده لهم عندما تحولوا عن ذلك، وأخيرًا وجد ضالته المنشودة في الملك عبد العزيز باستقامته وصدقه والتزامه الكتاب والسنة، ولم يترك الأمر للدعايات المضللة دونه، بل قابله وناقشه وبحثه، مما أثمر تأييده والدفاع عن منهجه، وظل وفيًّا حتى اللحظة الأخيرة.
تميّزَ - رحمه الله - بثلاثة أمور: موسوعية العلم، واتّقاد الغيرة على الدين، والشجاعة الأدبية.
توفي رحمه الله في مصر يوم الخميس 23/ 5/ 1354هـ، وكانت آخر عبارة قالها في تفسيره: ''فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام''

الاثنين، 10 يونيو 2013

سِرُّ الصِّناعةِ عِزُّ الحضارةِ

سِرُّ الصِّناعةِ عِزُّ الحضارةِ

الحمد لله الشكور الحميد, العزيز المجيد, أما بعد:
فلا بد للحضارة الروحية والفكرية من حديد ونار يحفظها ويدفع عنها العاديات بإذن الله تعالى, وعلى قدر أكل الأمة من زرعها ولبسها من نسجها وعملها من مصنعها؛ يكون عزها بإذن الله, أما الأمة التابعة فهي على اسمها تابعة عالة!
هذا والمال عمود المدنية لأنه يبني الحضارة (المادية) التي بها قوام حراسة الحضارة الروحية, فلا بد للدين من علم باصر وسيف ناصر. ولعظيم فرنسا نابليون: ثلاثة أشياء لا بد منها للنصر: المال ثم المال ثم المال.
 وهل السماء تمطر ذهبًا وفضة؟! نعم لقد أنبع الله الأرض لنا بذهبها الأسود الذي حسدتنا عليه الأمم. ولكن هل هذا كل شيء؟ وهل هو كاف للتقدم الحضاري المادي أم لا بد من الأخذ بأسباب سنن الله في كونه؟ لقد اقتضت سنة الله تعالى أن يجعل الثمار لمن زرع والآلات لمن صنع.
في القرن الثامن عشر بدأت بريطانيا من لا شيء إلا من عزمها وتصميمها فحفرت مجدها الصناعي بأصابع أبنائها العارية على صخور تلك الجزيرة الباردة القاسية, فعلا جنابُها وعظمت تجارتها وانتشرت أساطيلها, وسلبت إسبانيا والبرتغال كثيرًا من غنائمهما في أطراف القارات من الأمم المغلوبة المقهورة.. ومرَّ الزمن شيئًا فأخذت بروسيا _ألمانيا فيما بعد_ في عهد رئيسهم المحبوب فردريك بذلك السر الصناعي, واستلهمت روح الصناعة فوثبت في سنين قلائل حتى زاحمت بريطانيا صناعيًا, بل وتعدتها _في الوجهة العسكرية تحديدًا_  فتأمّل كيف تطورت بروسيا من دوقية مجهولة في غياهب سهول بولندا إلى دولة ألمانية دوخت العالم بأسره, والآن هي أغنى دول أوروبا, فقامت من الصفر واللا شيء  بالصناعة! ثم انتقل ذلك العزّ الصناعي لما خلف الأطلنطي فمشت عليه الولايات المتحدة الأمريكية, بعد تهريبها سر احتكار الإنجليز للسر الصناعي, علمًا بأن البرلمان البريطاني كان قد منع مستعمراته في أمريكا من صناعة الحديد عام ١٧٥٠م لأجل ضمان عدم تفوّقهم صناعيًّا, فالصناعة تتبع الحديد, أما إن اجتمعت إلية الطاقة فنعمّا هي, وقد كانت في أمريكا ولا زالت. وعندما استعمرت بريطانيا الهند كان في الهند صناعة واعدة في الفحم والحديد (وهما قطبا الثورة الصناعية, أي الطاقة والمادة الخام) فكان أول همّ للإنجليز هو كسر ظهر هذه الصناعة الواعدة وإعادتها للخلف حتى لا تنافس الصناعة البريطانية. قال مفكر الهند الشهير جواهر لال نهرو: لا يوجد أكذب من بريطانيا, ولا أشد أنانية. قلت: لقد فاقتها أمريكا في هذا الزمن, ولا عجب فأكثر أصولهم أنجلو ساكسونية, وينقضي العجب إذا علمت أن هذه المبادئ هي مبادئ الرأسمالية مهما تلوّنت أو تقلبت أو غيّرت جلودها وجنسياتها. ولك أن تعلم أن بريطانيا التي كانت تصرعُ الطبقيّة في بلادها إذ ذاك, وتلغي الإقطاع, ويحكمها البرجوازيون (الطبقة الغنية من غير النبلاء) نراها قد فعلت العكس في الهند, فرعَتْ الإقطاعيين, وحمتهم ودعمتهم, وأعادت الإقطاع جذعًا بعد أن كاد يسقط!
ثم لحق الأمريكان في الصناعة جيرانهم في الضفة الأخرى من المحيط الهادي, أعني اليابان, فنقلوا ذلك السر العجيب فتطور اقتصادهم بسرعة مدهشة, وقصة مبتعثيهم في ذلك مشهورة, ثم حدث تحول رهيب في الاتحاد السوفيتي إبان بدايات اتحادهم فتحدّوا أنفسهم فنقلوا بلادهم في ظرف أربع سنوات فقط _أربع فقط_ من بلد زراعي متخلف إلى بلد صناعي متقدم يصنع الصناعات الثقيلة وليست الخفيفة فقط! وإن كان لا يُنكر الدور التمهيدي لبطرس الأكبر في الحصول على ذلك المفتاح السرّي. تُرى ما هو السرّ؟ وأين يقع المفتاح العجيب لهذا التطوّر الصناعي؟
الجواب: إن المفتاح هو القرار الشجاع والإرادة الصادقة الدؤوب فقط لا غير, فإن ساعد على ذلك موارد ومعادن, وحسن موقع وشبهه كان خيرًا على خير. فإذا وُجدت الإرادة وحُدّدت الأهداف وصدقت العزيمة فسوف تنكسر بإذن الله جبال الجليد من المعوقات التي يذيبها الإصرار نحو الهدف الواضح. فالمسألة إذن تعود للإرادة والقرار. وقبل هذا كله بالطبع توفيق الله تعالى الذي أقام سننه الكونية على القانون السببي الكوني العام, فمن أخذ بالأسباب أثمرت له نتائجها.
لقد وجدت تركيا ذلك المفتاح منذ سنيات قلائل وأخذت به, وكانت الثمرة أن دخلت نادي الدول الصناعية من أوسع الأبواب _وإن كانت لا تزال تخطو تحت قبّة تلك البوابة الضخمة, لكن بوصلتها الصناعية دقيقة جدًا, وقد آتت أُكلها هذا الشهر بإعلان تسديد جميع الديون الخارجية على الدولة, والديون هي الحبل الخانق الذي يجذبه الرأسماليون الدوليون فيخنق الدولة التي تريد الانفكاك والهروب من ربقة أباطرة بنوك نيويورك وبارونات لندن, ولكن تركيا كسرت القيد, فهنيئًا لها الحريّة.
إن الأخذ بالأسباب المادية مطلب شرعي, لذلك فقد أخذ المسلمون قواعد مهمة للبناء الصناعي والتمدّن الحضاري وبنوا معارفهم التجريبية على من سبقهم وزادوا ونقحوا وحرروا, حتى أخذها عنهم من بعدهم في سير العالم الحثيث نحو التحضر والاستصناع وسائر العلوم التجريبية في الرياضيات والطب وغيرها, ففكّكوا حضارة الإغريق وبنوا عليها, مع تسرّب بعض الثقافة الإغريقية التي ضرّت الأمة بقدر دخولها. وقد أخذ العثمانيون سابقًا  بزمام الصناعة لكنهم وهنوا فأُهينوا, كذلك الأندلسيون, لكنهم تركوا زمام الصناعة مع أنه كان في متناولهم, بل هم أهله وصُنّاعه ومعلّموه ومهندسوه؛  فترتب على تركهم لها دمارهم وسحقهم واجتثاثهم بالكلية من الجزيرة الألبيرية بأسرها! وتنصير من تبقى منهم فيها! كما ترتب على هزال العثمانيين الصناعي تقطيع أوصالهم بعد الحرب العالمية الأولى _وإن كان قادتهم في القرنين الأخيرين هم من تولى كبر أسباب التخلف الديني والمادي, فرُفع عنهم التوفيق فسقطوا, "ولن تجد لسنة الله تحويلًا".
مما يجدر التنبيه إليه ههنا أن العالم الغربي الصناعي له قاعدة يسير عليها ولا يقبل مجرد نقاشها وهي قاعدة: المركز والأطراف, وهي حاضرة بقوة هنا, وقد تمكّنت هذه القاعدة بعد الحرب العالمية الأولى حتى على الدول غير الإسلامية, كدول امريكا اللاتينية والآسيوية والأفريقية. وملخصها: ربط الأطراف بالمركز, والقضاء على أية نزعة للتحرر من ربقتهم ومركزيتهم, ولا بأس من إلقاء بعض الفتات لإسكاتهم حينما يعلو صوت السخط ونداء الحريّة والسيادة الذاتية لا التبعية. وبتعبير آخر: أن تكون مركزية السيادة في الأرض لهم وحدهم (كمجموع دون القوميات والشعوب والأديان المخالفة) مع تسجيل فشلهم في بعض الأحيان.
 هذا فيما بينها وبين العالم (الثاني والثالث!) أما فيما بينها فللحكومات الغربية قاعدة لا تقبل كسرها إلا لمن أخذها كُرهًا كاليابان والصين وهي قاعدة: التوازن الدولي, ولها أمثلة عديدة؛ كالحروب الأوروبية في القرون من السادس عشر إلى الحرب العالمية الثانية, وملخصها: أنه لا يُقبل أن تكون السيادة لدولة واحدة أو حلف واحد مصغر, وإن كانت واشنطن قد كسرت هذا بعد الحرب الباردة, ولكن لعله إلى أمد. فهناك تململ فرنسي وألماني وياباني بل وبريطاني من ذلك, إضافة إلى الرفض الروسي والصيني, والغرض من ذكر ذلك التذكير بأن للمسلمين خيارات أخرى إن أرادوا الموازنة بين خياراتهم وقت المضائق, وبخاصة القرارات الاستراتيجية. وهي لا تخفى على الساسة ولكن كثرة الضرب عليها تنشّط في الأمة أطرافًا خاملة.
ومن فروع القاعدة الأولى: أي سياسة المركز والأطراف؛ أنه لابد أن تُدار أي دولة خارج نطاقهم بمركزهم, ويشتد الأمر حين تكون إسلامية, لأن الإسلام هو الخصم التقليدي للحضارة النصرانية, أو لنقل الصليبية لأن الشعار الصليبي يجمع ثاراتهم التاريخية علينا, حتى وإن كانوا ملاحدة بالكلية! ولا يوجد في الأرض حضارة تضاهي الإسلام بروحيته وعدالته وتسامحه وانسجامه. خاصة وأنهم يشعرون بإفلاس حقيقي عند مضايق المقارنات والمناظرات مع الأمة المسلمة _نذكر هنا ديدات رحمه الله كمثال حاضر قريب_ لذا فيتوجب عليهم بمنطق شريعة الغاب الأخذ بسياسة القطع والقمع, لا الحوار الذي يترتب عليه سقوط المعاقل الفكرية والروحية الغربية تباعًا في ميدان المناظرة والحوار. وقد كان من سياستهم صناعة أدوات بديلة تشاغل المسلمين بأنفسهم, وقد وجدوا في أدوات الاستشراق بغيتهم, فهرعوا لركوبها وبعثوا الحركات الميته كالحلاجية والغلاة من المتصوفة والرافضة والمعتزلة وأخيرا وبقوة شديدة الشيوعية والليبرالية والعلمانية والإلحاد والانحلال ونحوها, كذلك بإشغال ممثلي الإسلام بأنفسهم وهدم القيم الحضارية لهم بأيديهم. وبلسان حالهم ومقالهم: لا بد من الحيلولة دون القيام المادي للمسلمين الذي يحرس القيام الروحي للأمة, ولا بد من تشديد مركزية الغرب لإدارة الشرق برحاه وبخاصة الأمة المسلمة, ولنقف قليلًا مع هذه الأمثلة:
 لك أن تتذكّر أن جمال عبد الناصر لمّا أراد النهوض بمصر صناعيّا وقطع مراحل هامّة وظهرت صناعات ثقيلة مصريّة واعدة.. فجأة حدث شيء ما! شيء خفي هلهل الصناعة وأذاب الإرادة وململ العزيمة وانقلب المجد الصناعي إلى هتاف وصراخ وانتفاخ بالباطل, وحوّلت القوّة المصريّة لصدور المسلمين في اليمن حتى تُستنزف ثم تدمّر لاحقًا بالطائرات اليهودية! أما المصانع فعليها وعلى أهلها السلام.
ثم ننتقل ببصرنا إلى العراق العظيم الذي قامت فيه بوادر نهضة صناعية _وللأسف كانت حربيّة فقط_ فكان لزامًا كسر ظهرها بفتح الجبهة الإيرانية وصرْع المارِدَيْن خلال ثمان سنوات, وكانت أمريكا تصرّح بعدُ: لا نريد للعراق أن يُهزم ولا أن ينتصر! نعم إنه استنزاف الدم العراقي حتى نقيّ العظام. وبعدها أعدّوا له الأحبولة الكويتية فوقع  فيها بكل سذاجة وغباء, حينها كان العراق المجيد قد رحل الى حيث حطّت رحلها أم قشعمِ! مع تسجيلنا للإجرام البعثي الصدّامي على الدين والدم, ولكن كان أبو عديّ رجلًا يقدح قراره من رأسه بدون تبعيّة _ليست مباشرة على الأقل_.
 أما إيران التي استنزفوها في عهد صدام مع علمهم بإخلاصها لهم _بسبب تقاطع المصالح من جهة, وبسبب طبيعة العدوّ للطرفين من جهة أخرى_ فقد شكروها بما لم يخطر لها على بال, إذ قُدّمت لها بلاد الرافدين الغنية على طبق, وفوقه رأس صدام برمزيته السُّنّيّة كذلك!
ثم لننطلق عبر البحر الهندي إلى الأرخبيل الأندنوسي إلى العالم الأصفر ولنقف متسائلين عن سبب كسرهم للنمور الآسيوية لما أرادت الخروج عن طوق المركز _مع أن أكثريتها ليست إسلامية_ لكنهم أسقطوها.
ثم دعونا نقف وقفة طويلة مع قائدين عظيمين للمسلمين:
لما تعاون الراحلان الملك فيصل والرئيس الباكستاني ضياء الحق في المجال الصناعي والعسكري _وبخاصة في جانب البحرية_ والبدء بخطوات عملية لصناعة القنبلة النووية, السعودية بالمال وباكستان بالخبرة والعمل؛ لم تقف دول المركز مكتوفة بل سارعت لقصّ أجنحة من أرادوا الطيران خارج القفص الغربي فكانت النهاية المعلومة لكليهما, ولم تمانع أمريكا من أن تضحي بسفيرها في باكستان لتقتله مع ضياء الحق بصاروخ أرض جو, فالمهم عندها أن لا تُصنع القنبلة النووية الإسلامية, لأن من شأنها أن تكون ملاذًا آمنا لأعظم الأمم على الإطلاق, والتي طردت أمة الروم من أحسن بلدانها إلى هذا اليوم, ولولا أن الله قيّض لباكستان المهندس العصامي الفذّ عبد القدير خان أبو القنبلة النووية الإسلامية الباكستانية فعمل بجهد فريق كامل, وبعقل فئامٍ من الرجال, وقد ساعدته المؤسسة العسكرية حينها, إذ كانت الروح المعنوية التي دفقها ضياء الحق في الجيش والحكومة والشعب لا تزال حاضرة, ولكن _وبكل مرارة_ تم الالتفاف بصعوبة على ذلك الإنجاز بتعاون مخابرات بضع دول عظمى حتى آل الأمر إلى ما عليه الان!
لقد أراد القائدان الوصول إلى الكفاءة الصناعية! وقد علما أن دون ذلك خرط القتاد مالم يحرس الماشين لتحقيق ذلك الهدف النبيل قوّة ردع حقيقية كالسلاح النووي, وهذا فقه عميق منهما لواقع حاكمية السلاح في دنيا المادة الماردة! ولله في تأخير ذلك حِكَمٌ, منها أن المسلمين لا زالوا بحاجة لتمحيص وتحقيق توحيد وعلوّ إيمان.
وبالجملة فلا بد للعرب والمسلمين من ثورة صناعية لابد, لابد. وإنها لقادمة بإذن الله إن وفق الله قادتها وألهمهم رشدهم ووقاهم شرّ أنفسهم. 
تخيّل لو أن النفط الخليجي كان في بلدٍ كفرنسا أو ألمانيا إبّان النهضة الصناعية (كان ذلك سيختصر عليهم عقودًا من السنين) لقد كانوا يعصرون الناس عصرًا ليعملوا وينتجوا من لا شيء, حتى صنعوا الآلات التي أقامت حضارتهم, فلقد علموا أن مصنع النسيج لا بد أن يُصنع بإزائة بارجة, ومنجم الذهب لابد أن يُحمى ببارود, ولقد فهمت إيران اللعبة الدوليّة من آخرها, وها هي تسابق الزمن, كذلك كوريا الشمالية على بشاعتهما, أما كوريا الجنوبية فقد حدّدوا لها سقفًا وهي لا تمانع من القبوع تحته. وليت شعري في أي الخطين قومي, أم أنهم دون ذلك كله, وهل صحيح أن صناعة إسبانيا المتخلفة تعادل صناعة العالم العربي كلة, هل نحن في رقٍّ لا نشعر به, أم لا نريد أن نشعر به, يا للأسى والحسرة؟!
وماذا بعد؟ أقول باختصار: لابد للدول الإسلامية بعامة, والعربية بخاصة, والخليجة بالخصوص: من بناء حضارة صناعية حقيقية, ولْنكن صرحاء؛ فبالله عليكم قد أنبع الله لنا من تحت أقدامنا الذهب الأسود منذ تسعين سنة ولم نصنع حتى اليوم سيارة ولا طائرة ولا هاتفًا! ولو كان عندنا إرادة حقيقية مستمرّة لكنا نجوب الفضاء بسفننا.. أقولها وأنا أعني ما أقول! وصدّقوني: لو استمرت الثورة الصناعية في بلدنا على وتيرتها الأولى لكنّا اليوم في مصافّ الدول الصناعية الكبرى, ولكان النفط اليوم مجرّد موردٍ عاضد للميزانية.
ولا شك أن الخطط الخمسية لدول الخليج قد قطعت أشواطًا في البنية التحتية المصنعية, وبخاصة في البتروكيماويات والمشتقات البترولية والغاز, ولكن كلّما فرحنا بتفرّدٍ لإحدى شركاتنا الكبار (أرامكوا وسابك مثلًا) نصطدم -وبلا سبب ظاهر - بانتكاسة مفاجئة, وشلل مؤقت, وتسرّب لشبهات فسادٍ, وفضائح وإخفاق وفشل.. هل تدرون ما السبب؟! الجواب: لأننا أوشكنا على التشبّث بأهداب السرّ الصناعي بخلطته التجارية, وإكسيره الحضاري, وهذ ما لا تقبله قوى المركز, لذلك فمن أراد النهوض فلابد قبل له ذلك من كسر القيد! وما ذلك على الله بعزيز. وقد قيل: الأمة التي لا تأكل مما تزرع, ولا تلبس مما تصنع؛ لا تستحق الكرامة!
يا سادة: ما بالنا منذ عقود نحرث في تلك الخطط الخمسية والعشرية ولا زالت مخرجاتها دون المأمول! فأين الخلل؟
الجواب: أن الخلل في أمرين: الأول ضعف الإرادة, والثاني: الفساد. لذلك فمما يُحفظ للدكتور غازي القصيبي رحمه الله حينما كان وزيرًا للصناعة أنّه قد ذلّل هذين الأمرين, فأُسند برعاية مباشرة من الملك فهد رحمه الله, وأُطلقت يده النزيهة الحازمة في تشكيل الأنظمة ومتابعتها, ويكفيه فخرًا إنشاء شركة سابك. وإن كانت قد ضعفت كثيرًا في الآخر, وظهر تخبّطها واضطرابها, فهي وأرامكوا وغيرهما في حاجة لغازي جديد ودعم شديد من قبل الملك ومجلس الوزراء, شريطة الحزم والاستقلالية والشفافية وإسناد الأمر لأهله. وهي ليست مشكلة الخليج فقط, بل دول العرب والإسلام كافّة.
ومما ينبه له أنّه لما أرادت إحدى الدول الإسلامية الكبرى الانفكاك من ربقة المركز الغربي الأمريكي عبرَ التحالف الاقتصادي مع الشرق؛ دبّروا لها ولغيرها تضخيم موضوع الإرهاب, وفلم تفجير مركز التجارة العالمي! وقد أفادهم ذلك في تقييد إرادة كثير من دول المسلمين. ولمّا غزرت وكثرت تبرعات دول الخليج في الإغاثة والدعوة إلى الله في العالم ضربوهم بكارثة الأسهم في الأسواق الماليّة الخليجية, وإرجاع الملاءة المالية لتلك الشعوب المعطاءة عشرة أعوام إلى الوراء, ثم قيّدت الإرادة بالتغريب الرسميّ, وبمنع أعمال البر والإغاثة والدعوة في الخارج,  مع السماح للرافضة والمنصرين, والمؤلم المستفزّ حقًّا تسليم بعض المراكز والمساجد التي بناها أهل الخليج للرافضة المجوسية, وليست هذه جملة دِعائية بل هي موثقة ومثبتة في بقاع غير قليلة من العالم!
ونقول لأحرار سادة المسلمين: إن المجال مفتوح إلى الآن؛ فالغرب والشرق عُبَّادٌ للمال, فالمال وحده هو محرّكهم الأساس, أما القوميات والأديان فهي رتوش اجتماعية لأقوامهم لا غير, لذا فضرب المركزية الغربية التي قيدتنا بالتحالف مع الشرق مؤقتًا ولو بشرائه بالمال, ريثما نبني اقتصادًا منافسًا, تحرسه نيران مدافعنا.
 أما عندما تخلو ساحة المصانع من حارس قوي فلا ينتظر أصحابه شرف المنافسة في الميدان الدولي, ولنأخذ بعض الأمثلة: ومنها ما فعلته القوة الصناعية البريطانية المنافسة للصين التي فكرت _فقط فكرت_ أن تنشئ صناعة صينية في القرن الثامن عشر: فقد شنت عليها حربًا عسكريّة ضارية على سبب دنيء قبيح لئيم وهو منع الصين تجار بريطانيا من بيع الأفيون في بلادها, وقد انتهت حرب الأفيون المخزية بين بريطانيا والصين عام ١٨٤٢م بعد ما وقعت الصين المهزومة تلك الاتفاقية المهينة بالقبول ببيع الأفيون والمخدرات لشعبها من قبل التجار البريطانيين الذين كانوا يزرعونه في الهند, وليس هذا فقط بل مع تعويض بريطانيا عن نفقات حربها لها, ومع غرامات أخرى منها تعويضها عن حملة صناديق أفيون ضخمة كانت الصين قد صادرتها وأحرقتها, بالإضافة الى اقتطاع هونج كونج منها! لذا فلا تعجب من الحقد الصيني الأصيل على أوروبا بعامة والمملكة المتحدة بخاصة, وقد كانت الصين في القرن الثامن والتاسع عشر تسمي البريطانيين والفرنسيين البرابرة!
وانظر كذلك إلى القوة الصناعية ما ذا تفعل بمن أراد الخروج من الشرنقة الربوية للبنوك العالمية: فبمبدأ مونروا في القرن الماضي منعت الولايات المتحدة دول أوروبا من التدخل عسكريًا في أي دولة في القارتين الأمريكيتين, ولكنها من الخلف استعمرت غالب الدول الأمريكية اللاتينية بطريق غير مباشر, ألا وهو سياسة الاحتكار, والإقراض الربوي الفاحش, وتملك البنوك ومناجم الفحم وموارد الطاقة, وبيع الأسلحة للأطراف المتحاربة, والدخول عسكريًا إذا لزم الأمر في حالة صعود من يخالفهم. ولا تغرنك عنتريات كاسترو وشافيز وأشباههما فالسلك المركزي قد انتظمهما مع سلفهما عبر عقود. وهذا المبدأ هو المعمول به من قبل أمريكا حاليًا في البلاد الإسلامية عمومًا. فلا بد لنا إذن من الخروج من دائرة المركز بأي ثمن حتى تكون القرارات حرّة. وهل الخنوع المقزّز والانبطاح المشين أمام هيئة الأمم إلا من فروع ذلك؟! واعتبر ذلك بحق نقض الدول الخمس (الفيتو) عمومًا, وانظر لحالنا معهم حيال قضيتنا التقليدية فلسطين, وجرحنا الدامي الحالي في سوريا المكلومة الثكلى, وما من معتَصِمٍ لها!
إنه لمن الطريف المحزن وَهْمُ القوّة لدى من رأس ماله أحلام المفاليس وخيالات الأماني, وهُمْ كثير في هذا الزمان, ولكن لنرجع للوراء قليلًا حتى نرى بولندا قد زجت بالفرسان على صهوات الخيل عام 1939م أمام أرتال الدبابات الألمانية التي سحقتها بلا رحمة, وقريبٌ من ذلك فعل المماليك مع نابليون في مصر, إذ أقبل فارس على حصانه ملوحٌ بسيفه للمبارزة! وما تنتظرون؟ لقد خرّقت جسده الشجاع بنادق جند نابليون على الفور!
إن القوّة لا تقلب الحق باطلًا ولكنها تُجبر الخصم الضعيف على قبوله وإعلان صدقيته, ففي أوائل الحرب العالمية الثانية أعدم الدموي ستالين ستين ألف أسير بولندي, منهم خمسة آلاف ضابط في غابة كاتين, ولما سئل عنهم وقدّمت له قوائم بالمفقودين من الأسرى؛ أنكر بكل صفاقة أنه قد عامل أحدًا من الأسرى بلا إنسانية, وأجبر خصومه على تصديق القوة, حتى كشف يلتسين تلك الكذبة عام 1992م حينما قدم أصل الأمر بالإعدام ممهورًا بإمضاء ستالين! أما سكوت العالم عن ملايين المسلمين الذين أعدمهم بزمهرير سيبيريا فهو أشهر من أن يذكر.  
وإذا أردت أن تعرف مقدار القرب أو البعد من قطب المركز فولّ وجهك للقرار الاقتصادي في الدولة المعيّنة, فعلى قدر حصول حريتها واستقلال قرارها في إدارة مواردها في التملّك والاستيراد والتصدير يكون استقلالها الحقيقي _مع الاعتبار الأولوي للقيم والأخلاق والأفكار_  ولا تغرّنك المظاهر الاستقلالية دون الجواهر الاستغلالية, فهو استعمار بأثواب جدد, فحتى القرارات والاستراتيجيات السياسية للدول الرأسمالية إنما محرّكها الأكبر هو الاقتصاد. وهذا الاستعمار الجديد هو أقلّ الاستعمارات كلفة على المستعمر.
وبما أن ملوك العالم الحقيقيين هم أصحاب البنوك العالمية, فلا بد من العمل على الانفكاك من ربقتهم واستعبادهم للدول والمصانع, بل والشعوب, فهم يحكمون العالم من خلف ستار. وللأسف فدولنا لا زال نظامها يرسف في أغلال ذلك النظام الرأسمالي الجائر, بل حتى الدول التي تعلن أن نظامها المالي نظام إسلامي نجدها بعد الفحص قد أخذت -مع أسلمة اقتصادها المعلن- مَنحًا رأسماليًا شديدًا كالربا, الذي هو عمود الرأسمالية وجذعها الذي لا تقوم إلا به, كذلك الأنظمة الرأسمالية الرائجة في تلك الدول المستعمَرَة ماليًّا (وسياديًّا) بكل أسف ومرارة. ولكن بحمد ربنا ففي آخر النفق يتراءى لناظرينا شعاعٌ وضياءٌ للحرية الإسلامية الأصيلة, لا الليبرالية الخديجة الشوهاء.
وليس بعجيب أن بنوك نيويورك تسيطر على أكثر دول العالم بما فيها الولايات المتحدة ذاتها!
وكم قامت من حرب كان قرارها وقَلَمُها الأول من رواق تلك البنوك, ومن بعدها الشركات الكبرى, وأخيرا الموظف الأول لمن هم خلف الستار نزيل البيت الأبيض, وأعضاء الكونجرس, مع إعطائهم هوامش صغيرة للمناورة ولإرضاء الذات الرئاسية, والمنتخبين المخدوعين. 
يا سادة: لنبدأ بصناعة الحديد بعد استكمال البنية الكاملة للمشتقات البترولية, ومن الأهمية بمكان إنهاء الهدر البترولي ببيعه الحالي خامًا رخيصًا, ولابد من العجلة في ذلك, فكل يوم يمضي فإن المخزون ينقص, وسيأتي يوم يقلّ الإنتاج عن تكلفة استخراجه, فهو مخزون غير متجدّد بحال! والمخزون لن يدوم مهما تفاءل المنقّبون بغزارته. ومن الأمانة حفظه للأجيال.
 وكذلك فلا نريد أن نكتفي بالصناعات الخفيفة, وهي إنتاج البضائع الاستهلاكية ونحوها التي هي عبارة عن شراء الآلات من الخارج ثم تركيبها, بل نريد قيامًا ونهضةً للصناعات الثقيلة التي تصنع المصانع ذاتها بآلاتها ومعداتها كالقوالب والمحركات ونحوها. وكلّ شيء بأيدينا, فالمواد الخام والطاقة والمال المقيم للمصانع, بل حتى الأيدي العاملة, فكل مسلم يريد القيام لعز الإسلام بخبرته مع إعطائه حقه وأجرته, والبلاد الإسلامية ولود ودود بالعلماء والمهندسين والخبراء بالصناعات الدقيقة, ولقد حُدّثتُ عن  مهندسٍ هنديٍّ مسلم, متخصص في نوع دقيق من القوالب الحديدية والفولاذية, وقد قبل التعاقد مع مصنع سعودي براتب قدره 30,000 ريال مفضلّاً إياه على عرض أوروبي يعادل 70,000 ريال, وقد أجاب حينما سئل عن سبب اختياره: أريد المساهمة في انتعاش الصناعة في بلاد الإسلام, يالَسموّه وعظمته!
لقد ذهب فئام من قومنا إلى قوى المركز ليسألوهم ويسترشدوا منهم سبب التخلف الحضاري (المادي) للمسلمين, فغشوهم بأن أجابوهم: إنه دِينكم! فعادوا لأمتهم بشرّ ورْدٍ فقالوا: خذوا حضارتهم حلوها ومرّها! وكانت النتيجة -بتدبير قوى المركز التي كانت تدير سياستهم ورؤوسهم- أن أخذوا انحلالها وفكرها دون صناعتها وقوتها, فما أشدّها من خيبة, وما أعظمها من غبينة!
يا حكام دولنا الإسلاميّة: اعلموا ماذا يُراد بكم وبشعوبكم, وصحّحوا المسار, واستقيموا, وتحرّروا من ربقة الغرب, وولّوا وجهتكم شطر قبلتكم الناصحة الجامعة, وضعوا دفّة المسيرة في أيدٍ مخلصةٍ لدينها, قويّة أمينة, لا ضعيفة ولا سارقة. فقد ملّت شعوبكم الذلة والفقر والتفرق والهوان, وافتحوا صفحة جديدة في مجد أمتكم, ومتى صلح الدين صلحت عليه الدنيا, وإن غدًا لناظره قريب.
إبراهيم الدميجي
30/ 7/ 1434
@aldumaiji