إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 23 يونيو 2013

مسافة اختلاف الرأي بين الراعي والرعية.

مسافة اختلاف الرأي بين الراعي والرعية

الحمد لله وبعد:
 لا بد من التسليم أوّلًا بمقدمتين:
الأولى: أن الله خلق عباده المؤمنين أحرارًا, ليس لهم عبودية إلا لربهم, ولا يملكهم غيره, _حتى الرقيق الأقنان فملكية الأسياد لهم جزئية, ومقيّدة بالمعروف_ ولكلِّ مؤمنٍ رأيُه المستقل الذي به يختار طريقه, راكبًا صهوة إرادته التي سيحاسبه الله عنها بقدر ما أعطاه من ملكة وفقه وعقل, وهو مُطالبٌ باتباع شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وفي النهاية فهو ميسّرٌ لما خلق له "وهديناه النجدين".
الثانية: أن من ضرورات اجتماع الناس وعمارتهم الأرض التي اختارها الله وسخرها لهم, وجعلها ميدانًا لابتلائهم واختبار مدى عبوديتهم له سبحانه, ليقيموا بها دينه, أن يكون لهم قادة يسوسونهم وينقادون لهم ليختاروا لهم أفضلَ الأمور وأرفقَها بهم, ويفصلون بينهم النزاع والخصومة, ويتعاونوا جميعًا لتحقيق ما خُلقوا له, إذ لو لم يكن لهم قائد مُطاع لتسلّط قويهم على ضعيفهم, ولتفرّق أمرهم, وضعف شأنهم, واستطالت عليهم العاديات. إذن فلا بد لهم من أمير ينقادون لأمره, لذا شُرعت الإمامة وجُعلت طاعة الأمير من لوازم الجماعة, وصارت طاعته في المعروف من طاعة الله, وشدّد في نكث البيعة أو الخروج إلا لمبرّر من الشريعة.
 ولمّا كانت تبعية الناس لساستهم أمرًا لازمًا كان من محاذير تلك القضية أن تتحول الوسيلة لغاية, بمعنى أن يَنزع الذي قد جُعِلَ لتعبيد الناس لربهم إلى مشاركة الرب في ذلك الأمر بتعبيدهم له ولإرادته, وقد يصل بعضهم للتعبيد المطلق كفرعون, وقد يقصُر بعضهم دونه, ومدار الأمر على منازعة العبودية في أي شُعبة من شعبها, ولمّا كان الأمر بهذه المثابة من الخطر على أصل الغاية من الخليقة ضُبط الرؤساء _أيًّا كانت رئاستهم_ بأمرين
الأول: أن طاعة الأمير تابعةٌ مقودةٌ لطاعة الله تعالى, "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وتأمّل كيف لم يفرد ولي الأمر بطاعة مستقلة, بل جعلها تابعة لما سبقها من طاعة الله ورسوله, لذا فعند التعارض فليس هناك إلا تقديم طاعة الله _ومنها طاعة رسوله_ دون ما سواه. ومن تشديد الله تعالى في هذا الأمر العظيم قوله تبارك وتعالى في بيعة النساء: "ولا يعصينك في معروف" تنبيهًا على أنه لا طاعة لمخلوق مهما علا شأنه في معصية الخالق, وهو التشديد المؤكد في قضيةِ إفراد الطاعة لله وحده لا شريك له. قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى (7 / 61): "ولفظ الآية عام, أنهن لا يعصينه في معروف. ومعصيته لا تكون إلا في معروف؛ فإنه لا يأمر بمنكر, لكن هذا كما قيل: فيه دلالة على أن طاعة أولي الأمر إنما تلزم في المعروف, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف" ونظير هذا قوله: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" وهو لا يدعو إلا إلى ذلك. والتقييد هنا لا مفهوم له؛ فإنه لا يقع دعاء لغير ذلك, ولا أمر بغير معروف"
قلت:  لذلك فقد قرر العلماء أن من أنواع الشرك؛ شركُ الطاعة. ومن دلائله قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم, وحرموا عليهم الحلال فاتّبعوهم. فهم إذن لم يعبدوهم بالقرابين, ولكنهم أعطوهم حق التشريع لهم من دون الله, فحرموا عليهم وأحلوا لهم, فاتبعوهم في هذا.
الثانية:  أن الله أمر الأمير بالشورى. فرأي الجماعة خير من رأي الواحد.
وقال الإنجليزي إدوارد دنيسون في وصفه للهالك أتاتورك: إن أتاتورك إذا أراد إدخال إصلاح يجعله قانونًا مفروضًا على الناس, خذ مثلًا مسألة الحروف, لو ألفت لجنة لبحثها لقضت سنوات.. وأما كمال باشا _أي أتاتورك_ فإنه جلس مع آخر, أظنه وزير المعارف, ووضع معه الحروف التركية اللاتينية ثم قال: غدًا تكون هذه حروف البلاد, وفي الغداة فرض على الناس تعلمها!    
مع التنبيه إلى أنّ معيار الشورى في الإسلام: أن تكون لأهل العلم والرأي والمعرفة ممن فُحِصَ علمهم وفقهم ودُربتهم وخبرتهم وتجربتهم.
وبعدُ؛ فلا يعني اختلاف رأي المرعيّ عن الراعي وإظهاره أن يكون لفساد ذات بينٍ, أو لغرض شقِّ العصا, إنّما هو رأي يقترحه المؤمنُ لغيرته على بيضة أمته وجمعيتها على الهدى والصواب, فإن أصاب فقد حاز الفضل, وإن أخطأ فالله بغفرُ له, شريطة أن يأتيَ البيوتَ من أبوابها, وأن يُخلص النيّة من آفاتها, مع مراعاة الرفق والحكمة, وأن يتّبعَ ولا يبتدع. وحال سلف الأمة ناطق بهذا, شاهدٌ به, مع الأخذ في الاعتبار أن حكم الحاكم في المسألة التي ساغ فيها خلاف أهل العلم يرفع الخلاف والنزاع التطبيقي, شريطة أن يكون رائده ابتغاء مرضاة الله دون سواه, وليس على الرعيّة التنقيب في النيّات, لكن على العلماء مقايسة الأمور بأشباهها, وإلحاق الفروع بأصولها, وقراءة المشاهد الكلية للوقائع المحكومة بالنظر للمصلحتين العظيمتين: عدم تبديل الدين بنسبة الباطل لهم وتشريعهم له, والحرص على حفظ الجماعة من التشقق والتصدّع والفرقة وذهاب الريح, بمراعاة القاعدة الفاذّة الجامعة المانعة: المصالح والمفاسد, فعليها أُقيمتْ السياسة الشرعية للراعي والرعية, وما أكثر المتسلقين لحظوظهم عبرها عن علمٍ أو جهل, وإن كان هذا لا يعني بحالٍ اطّراحها, بل تنقية مشربها من كيزان الحظوظ
وبعدَ إبداء المؤمن رأيه الذي تحتاجه أمّته؛ يكون قد أدّى الذي عليه, فكلٌّ مُطالبٌ على قدرِ مِنحةِ الله له, فمن بسط الله له العلم فسيُسأل غدًا عن علمه, ومن بسط الله له السلطان فسيُسأل غدًا عن رعيته, وعلى قدر العلم والقدرة يكون السؤال للجميع, ورُبَّ مُبارَكٍ قد أسقط الله به عن الأمة العذاب بعدما حمَّ, وفروض الكفايات تنقلب للأعيان عند عدم الكفاية كلٌّ بحسب ما أوتي, وعلى قدرِ ما بُسِطَ له, وعلى قدر استحكام غربة الإسلام تعظم مواطن الطلب لمواقف الأخيار.
 وخيرُ عباد الله من استعمله ربّه في طاعته, واستغرسه في عبادته, وكان في المكان والزمان والحال الذي ينبغي أن يكون فيه المرضيّون. اللهم اسلكنا في سبيلهم يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال والإكرام.
إبراهيم الدميجي
14/ 8/ 1434
aldumaiji@


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق