إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2023

علامات الافتقار إلى الله تعالى

 

علامات الافتقار إلى الله تعالى

 

الحمد لله، والصلاة والسلام والبركة على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد؛ فإنّ العطايا ليست بالدعاوى، فلكل دعوى صحيحة برهان صحيح، وما كلّ من ادّعى افتقارًا محمودًا صادق في دعواه، فعبادات القلوب هي محكّات البراهين ﴿(بل الإنسان على نفسه بصيرة) [القيامة: ١٤] وللافتقار المحمود الصادق علامات([1])، منها:

الأولى: تحقيق العبودية لله سبحانه:

فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسرًا بين يديه، متذللًا لعظمته، مقدمًا حبه سبحانه على كل حب. فالعبادة هي «الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة»([2]).

ومن كانت هذه حالُه؛ وجدته وقّافًا عند حدود الله، مقبلًا على طاعته، ملتزمًا بأمره ونهيه، فثمرة الذل أن لا يتقدم بين يدي الله وسوله مهتديًا بقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، وقوله: (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

ثانيًا: شكر الله وحمده:

فليقينه بأن لا رافع لفاقته إلا الله، ولا غنىً إلا من الله؛ فهو دائم الشكر له، متقلبًا في رياض الشكر، لا ينفك شاكرًا نِعَمَهُ وشاكرًا دفع نِقمه، وشاكرًا العافية في دينه ودنياه، وشاكرًا توفيقه للشكر الذي لولا فضل الشكور سبحانه لما وُفِّقَ عبده لشُكرانه. ممتثلًا مدائح الخليل الكريم ﷺ: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين . شاكرا لأنعمه)، سائلًا ربه المزيد من فضله والمزيد من توفيقه لشكره لعلمه بغنى ربه وسعة رحمته وعميم فضله (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليما) [النساء: ١٤٧] مازجًا شكره بصبره وصبره بشكره، قد أعدّ لكل نعمة شكرًا ولكل بليّة صبرًا كما قال ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن أن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له»([3]).

ملازمًا الذكر بشكر وحمد وثناء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر. فقد أدى شكر ذلك اليوم»([4]).

حافظًا وصيّة رسول الله ﷺ وكنزه، فعن شداد بن أوس ؓ قال: سمعت من رسول الله ﷺ يقول: «إذا اكتنز الناس الدنانير والدراهم، فاكتنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك. وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب»([5]).

وعن وهب بن منبه، قال: «قال داود: يا رب ابن آدم ليس منه شعرة إلا تحتها منك نعمة، وفوقها منك نعمة، فمن أين يكافيك بما أعطيته؟ قال: فأوحى الله إليه: «يا داود إني أعطي الكثير وأرضى باليسير، وإن شكر ذلك لي أن يعلم أن ما به من نعمة مني»([6]).

وعن طلحة، قال: «قيل من الذي يسمن في الخصب والجدب، ومن الذي يهزل في الخصب والجدب، ومن الذي هو أحلى من العسل ولا ينقطع؟ قال: أما الذي يسمن في الخصب والجدب، فالمؤمن الذي إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وأما الذي يهزل في الخصب والجدب، فالكافر أو الفاجر إن أعطي لم يشكر، وإن ابتلي لم يصبر، وأما الذي هو أحلى من العسل ولا ينقطع فهي ألفة الله التي ألف بين قلوب المؤمنين»([7]).

والمؤمن المفتقر لربه مسارع لشكر من أسداه معروفًا من الناس حتى لا يبقى في قلبه لغير الله تعلق، ويعلم أن الله هو من يسر على أيديهم تلك النعمة والمعروف، وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «لا يَشْكُرُ الله من لا يَشْكُرُ النَّاس»([8]).

ثالثًا: دوام ذكر ربه تعالى:

فلا يطمئن قلبه إلا بذكر ربه (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: ٢٨] «ومن فُتح له فيه؛ فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل، فليتطهّر وليدخل على ربه عز وجل؛ يجد عنده كل ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل؛ وجد كل شيء، وإن فاته ربه عز وجل؛ فاته كل شيء.

وفي القلب خلّة وفاقه لا يسدها شيء البته إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلّة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًّا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان.

فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جِدَتِه، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته»([9]).

رابعًا: التواضع للحق والخلق:

فلا يردُّ حقًّا استبان له ولا يبطره، ولا يحتقر مخلوقًا حتى وإن رأت نفسه القاصرة فضلًا لها عليه، فالعبرة بالمخابر أولًا لا المظاهر، ثم بالخواتيم، وما أدراك ما الخواتيم!

وكيف للمفتقر لربه أن يرى لنفسه علوًّا في الأرض وهو يُرتل قول الحق الكبير المتعال: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [القصص: ٨٣] ويسمع قول رسول الهدى ﷺ واصفًا عظمة ربه سبحانه: «قال اللهُ تبارك وتعالى: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزارِي، فمن نازَعَني واحِدًا منهما قذفتُه في النَّارِ»([10]).

خامسًا: النزوع للتوبة والاستغفار، وعدم الإصرار على الخطايا:

المفتقر لربه تعالى يمتثل أمره إذ قال: (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون)، منتظرًا منشور البشارة ومرقوم الفرح في قول الرحيم التواب الغفور: (يا أيها الذين أمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) [التحريم: ٨].

والعبد الصالح إذا زلّت به القدم ــ ولا بد له من ذلك فكل بني آدم خطّاء ــ اتّصف بصفتين متلازمتين:

الأولى: سرعة الندم والرجوع إلى الله. كما قال الله تعالى في وصف عباده: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) [آل عمران: ١٣٥].

والثانية: عدم الاستهانة بالمعاصي. فلا يقترب من كبيرة ولا يصر على صغيرة مهما صغّرتها نفسه الأمّارة، بين عينيه قول رسوله ﷺ: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبُها تهلكه»([11]).

وقال ابن مسعود ؓ: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا»([12]) قال بن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منوّر، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينوّر به قلبه عظم الأمر عليه. والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص فلا ينجو منه عادة.

وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوّة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيء.

وقوله: «وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب» أي ذنبه سهلٌ عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه.

قال المحب الطبري: «إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة. والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلّ خوفه واستهان بالمعصية». وقال بن أبي جمرة: السبب في ذلك: «أن قلب الفاجر مظلم، فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وُعِظ يقول: هذا سهل»([13]).

فالمؤمن يحذر الآخرة ويخشى ثمار ذنوبه إن لم يسبغ عليه ربه رحمته وغفرانه، «ففي قلبه نار تلتهب، وفي كبده صدع لا ينشعب»([14]) ينتقل من منزل توبة لمنزل أخرى، ومن توبة عامة لخاصة، ومن خاصة لعامة، فهو تواب مستغفر مسترحم، للتواب الغفور الرحيم.

سادسًا: الزهد في حطام الفانية، والمنافسة في نعيم الباقية:

فالمفتقر إلى ربه يعلم أن هناك دارًا قد ارتضاها الله لخُلّص عباده، وأن هذه الدنيا يعطيها من يحب ومن لا يحب، أما تلك النفيسة فلا يعطيها إلا أحبابه وأولياءه، فهو يمتثل بقلبه قول ربه تبارك وتعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ومنا الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [الحديد: ٢٠] .

فمن أوصاف المفتقر إلى الله: «أنه المتخلي من الدنيا تظرّفًا([15])، والمتجافي عنها تعفّفًا، لا يستغني بها تكثّرًا، ولا يستكثر منها تملّكًا. وإن كان مالكًا لها بهذا الشرط لم تضرّه، بل هو فقيرٌ غناه في فقره، وغنيٌّ فقره في غناه([16]).

وسئل الإمام أحمد ؒ: هل يكون لدى الرجل مئة ألف ويكون زاهدًا في الدنيا؟ فقال: «نعم، إذا كانت في يده لا في قلبه».

سابعًا: محبة الخلوة بربة ونجواه والأنس به:

فهو بالله ولله وفي الله، يعلم أن الخلائق حُجبٌ عن ربه إلا ما كان لله وفي الله. فهو دائم اللهج بذكر ربه بقلبه قبل لسانه، لا يكاد ينفك عن مناجاته والأنس به والتلذذ بالتقرب إليه بالصالحات، يسابق عمره بعمله، وبذكره أنفاسه، ويبادر أجله بالاستعداد لما بعده، ويملأ صدره بالسرور والفرح والغبطة بأن خصّه الله بمعرفته والأنس به، ويسأل الله المزيد من جوده وإحسانه.

ثامنًا: التعلّق بالله تعالى وبمحبوباته:

فلا ينقطع حبل صلته بربّة، فنياط فؤاده قد عُلّقت في الملأ الأعلى، فهو مع الناس بجسمه ومع الملائكة المسبحين بروحه، قد ارتفعت روحه من ثَقْلَةِ الطين وجذب الجسد لنور الملأ الأعلى، فروحه تجول بين السماوات مسبحة حامدة مصلية شاكرة. يعلم أنه في الدنيا للمهلة، وفي ساعاتها للابتلاء، موقن بوعد ربه للمتقين أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهو في فرح بفضل الله ورجاء لما في يديه من فضله، وخوف وإشفاق من ذنوبه وسيئاته. (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) [يونس: ٦٢ - ٦٤] نسأل الله الكريم من فضله([17]).

قال بعض الصالحين: «مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب»([18]) والمؤمن لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهو برٌّ متعلق بالبرّ الحق سبحانه يبحث عن البِرِّ في مظانّه: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة: ١٧٧].

وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. » وذكر منهم: «رجل معلّق قلبه بالمساجد»([19]) قال الحافظ ابن حجر: «إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجًا عنه»([20]).

تاسعًا: الوجل من عدم قبول العمل:

فهو مع اجتهاده مشفق من رد أعماله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون: ٦٠] أهًم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا ابنة الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات»([21]).

وحينما احتضرت رضي الله عنها عادها ابن عباس رضي الله عنهما وبشّرها بصالح أعمالها فقالت: «دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددتُ أني كنت نسيًا منسيّا»([22]). وهذا لعظمة علمها بالله تعالى وخشيتها وورعها وتواضعها، وإلا فهي تعلم أنها زوجة رسول الله ﷺ في الجنة.

قال الحافظ ابن حجر معلّقًا على قولها: «هو على عادة أهل الورع في شدّة الخوف على أنفسهم»([23]).

وتتأكد حقيقة الوجل من رد الأعمال بأربعة أمور:

الأول: أن الله عز وجل غني عن طاعات العباد.

قال تعالى: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) وقال سبحانه: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) وقال سبحانه: (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) [النمل: ٤٠]

الثاني: أن القبول هو محض فضل الله ورحمته.

ولهذا قال رسول الله ﷺ: «والله لا أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم»([24]).

فإذا كان هذا حال سيد ولد آدم ﷺ، فكيف بغيره من الناس؟!

وقال ﷺ: «لن يُنجي أحدًا منكم عملُه» قالوا: ولا انت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته»([25]).

وقد كان الصحابة يخشون على أنفسهم النفاق. قال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله ﷺ يخشون النفاق؟ قال: «نعم، إني بحمد الله قد أدركت منهم صدرًا حسنًا، نعم شديدًا، نعم شديدًا»([26]).

الثالث: أن المنّة لله جميعًا.

قال تعالى: (يمنون عليك ان أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) [الحجرات: ١٧].

وفي الحديث الربّاني قال الله تعالى: «يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكم»([27]).

وعن المسور بن مخرمة قال: لما طُعن عمرُ جعل يألم، فقال له ابن عباس ــ وكأنه يُجَزِّعُه ــ([28]): يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك؛ لقد صحبتَ رسولَ الله ﷺ فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: «أما ما ذكرتَ من صحبة رسول الله ﷺ ورضاه؛ فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله تعالى منَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه؛ فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره منَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك([29])، والله لو أن لي طِلاعَ الأرض ذهبًا؛ لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه»([30]).

الرابع: أن العبد لا يأمن على نفسه الفتنة.

فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: «إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب رجل واحد يصرّفه حيث يشاء»([31]) ومن دعائه ﷺ: «اللهم مصرّف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»([32]).

وعن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد فجعل يتعوذ بالله عز وجل من النفاق. فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟! ما شأنك وما شأن النفاق؟! فقال: «اللهم غُفْرًا ــ ثلاثًا ــ لا يأمن البلاءَ من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليُفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه»([33]).

وقال مطرف الشخّير: «لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا؛ أحب إلي من أبيت قائمًا فأصبح مُعجبًا»([34]). فوجلُ المذنبين التائبين أحب إلى الله تعالى من زجل المسبحين المُدلّين.

عاشرًا: خشية الله في السر والعلانية:

وهو من أجلّ وأجلى صفات أهل الإيمان، قال جل ذكره: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) وقال: (وبشر المخبتين . الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).

وخشيته سبحانه من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، وحالُه: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)، وقال سبحانه: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) [السجدة: ١٦] فهو بين خوف ورجاء وحب لله تعالى.

وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، ويعلم أنه يعلم السر والنجوى، قال تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة واجر كبير) وقال: (الذين يخشون ربهم بالغيب لوهم من الساعة مشفقون) وقال: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) [ق: ٣١ - ٣٣] فربط الخشية بالغيب تنبيه إلى شهود العبد مراقبة ربه جل وعلا، وأنه يخافه بالغيب كما يخشاه في الشهادة، وليس ممن إذا خلا بمحارم الله انتهكها!

وقال ﷺ: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. » وذكر منهم: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»([35]).

وكان علي بن الحسين رحمه الله ورضي عن أبيه يُبَخَّلُ، فلما مات وجدوا أنه يعول أهلَ مئة بيت في المدينة، «ورجل تصدّق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». فعلموا أنه من أهل الصدقات العظيمة في السرّ.

وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة قال العفيف عن الفاحشة وقد تمكن منها: «فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا»([36]) فالخشية سوط يذود به المؤمن قلبه عن مواطن الهلكة وأودية الردى.

وقال عبيد الله بن جعفر: «ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله»([37]).

الحادية عشرة: تعظيم الأمر والنهي:

فغاية العبودية: التسليم والانقياد للآمر الناهي محبة وتذلّلًا، قال سبحانه: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) وقال: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) [الحج: ٣٢].

قال ابن القيم رحمه الله: «استقامة القلب بشيئين:

أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب تعالى الله وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتّب على ذلك مقتضاه.

وما أسهل هذا بالدعوى وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. وما أكثر ما يُقدّم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحابّ، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها.

وسنّةُ الله تعالى فيمن هذا شأنه أن يُنكّد عليه محابّه([38])، وينغصها عليه، ولا ينال شيئًا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.

وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئًا سواه عُذِّب به ولا بدّ، وأن من خاف غيره سلُّط عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.

الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمّ من لا يُعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقارا) [نوح: ١٣] قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة. وما أحسن ما قال شيخ الاسلام في تعظيم الأمر والنهي: «هو أن لا يُعارَضا بترخّص جافٍ، ولا يُعرّضا لتشديد غالٍ، ولا يُحملا على علّة تُوهن الانقياد».

ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، فالمؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه. وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتّباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالًّا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والصدق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع ﷺ على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي.

فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحيّنها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه إن تُقُبّلت منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا، ولو أن رجلًا يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا؛ فكيف وكُلُّ ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى؟!

فإذا فوّت العبد عليه هذا الربح قطعًا، وهو باردُ القلب، فارغٌ من هذه المصيبة، غيرُ مرتاع لها؛ فهذا من ضعف تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول وقتها الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصفّ الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قُرعةً، وكذلك فوّت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته، فكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخُطا كانت خطوة تحط خطيئة وأخرى ترفع درجة، وكذلك فوّت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبّها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يُهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا أو جارية ميتة؟! فما ظنُّ هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟! فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد ـ أو الأمة ـ الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي ﷺ إنه قال: «إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها حتى بلغ عشرها»([39]).

وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرًا كاملًا، والناقص بحسبه. وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.

وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانّها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسّنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.

ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضبَ للهِ عز وجل إذا انتُهكت محارمُه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرة إذا عُصى اللهُ تعالى في أرضه.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط. مثال ذلك: أن السنّة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخص الجافي أن يُبرِدَ إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه، فيكون مترخّصًا جافيًا، وحِكمة هذه الرخصة أنّ الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع ﷺ أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.

ومن هذا نهيه ﷺ أن يصليَ بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط لتعلّق قلبه من ذلك بما يشوّش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها. فمن فقه الرجل في عبادته أن يُقبل على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.

والمقصود: أن لا يترخص ترخّصًا جافيًا، ومن ذلك أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذّر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه، فإذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعُه بين الصلاتين لا مُوجب له لتمكّنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنّة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد، بل الجمع رخصةٌ والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لونٌ وهذا لونٌ.

ومن هذا أن الشّبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفوَ العبدُ فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همّه بطنه قبل الأكل وبعده! بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»([40]) ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.

وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت. أو يُردّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة. أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئًا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه. ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبّاد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام، وكان يتقوّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك! فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان.

فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يُعارضا بترخّص جافٍ، ولا يعرّضا لتشديد غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.

وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما افراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد، فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة فثبّطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.

وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا وتشميرًا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوّل له أن هذا لا يكفيك، وهمّتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العامِلين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضؤا للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدّي. فيحمله على الغلوّ والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه.

ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المسقيم: هذا بأن لا يقربه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه. وقد فُتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ، وإيمان، وقوة على محاربته، ولزوم الوسط. والله المستعان.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلّم لأمر الله تعالى وحُكمه ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر. فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه، كما حمل ذلك كثيرًا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف، فإن الله عز وجل شرع الصلوات الخمس إقامة لذكره، واستعمالًا للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كل منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد، فوضعت الصلاة على أكمل مراتب العبودية.

فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محلّ كنوزه من الإيمان والتوحيد والاخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته.

وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه لأنه يدخل عليها بما تحب.

فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر، وأمدّه بمدد آخر يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر أمره الملك بأمر ربه، وبيّن له ما في طاعة العدو من الهلاك. فهذا يلمّ به مرّة، وهذا مرّة، والمنصورُ من نصره الله عز وجل، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.

وجعل له مقابل نفسه الأمارة نفسًا مطمئنة، إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمارة عن الخير أمرته به النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرّة، وهذه مرّة، وهو للغالب منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكليّة قهرًا لا تقوم معه أبدًا.

وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نورًا وبصيرة وعقلًا يردّه عن الذهاب مع الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة. فكلما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذرَ الحذر، فإن المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيد الحرامية وقطاع الطريق إن سرت خلف هذا الدليل.

فهو يطيع الناصح مرّة فيبن له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرّة فيقطع عليه الطريق ويؤخذ ماله ويسلب ثيابه، فيقول: تُرى من أين أُتيت؟!

والعجب أنه يعلم من أين أُتيَ، ويعرف الطريق التي قطعت عليه وأُخذ فيها، ويأبى إلا سلوكها، لأن دليلها قد تمكّن منه، وتحكم فيه، وقويَ عليه، ولو أضعفه بالمخالفة له، وزجره إذا دعاه، وحاربه إذا أراد أخذه؛ لم يتمكن منه، ولكن هو مكنه من نفسه، وهو أعطاه يده، فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه فيباشره، ثم يسومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يُغاث.

فهكذا يستأسرُ للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة، ثم يطلب الخلاص فيعجز عنه، فلمّا أن بُلي العبدُ بما بلي به؛ أعين بالعساكر والعُدد والحصون وقيل له: قاتل عدوّك وجاهده، فهذه الجنود خُذْ منها ما شئت، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها، ورابط إلى الموت فالأمر قريب، ومدة المرابطة يسيرة جدًّا. فكأنك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رسله فنقلوك إلى داره، واسترحت من هذا الجهاد، وفُرِّق بينك وبين عدوك، وأُطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت، وسُجِن عدوُّك في أصعب الحبوس وأنت تراه. فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أُدخله وأغلقت عليه أبوابه، وأيس من الرَّوح والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك وقرت عينك، جزاء على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثغر للرباط، وما كانت إلا ساعة ثم انقضت، وكأن الشدة لم تكن.

فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه؛ فليتدبر قوله عز وجل: { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة } وقوله عز وجل: { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقوله عز وجل: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } وقوله عز وجل: { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } [طه: ١٠٢ - ١٠٤].

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال وذلك عند الغروب قال: «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه»([41]).

فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي في الدنيا بأسرها؛ ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئًا، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ موفورًا وأكمل منه. كما في بعض الآثار: «ابن آدم بعِ الدنيا بالآخرة تربحْهما جميعًا، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرْهما جميعًا». وقال بعض السلف: «ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وإنك لنصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا؛ أضعت نصيبك من الآخرة، وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة؛ فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظامًا»»([42]).

الثانية عشرة من علامات الافتقار إلى الله تعالى: أن يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة.

«فهو عاملٌ على مراد الله منه، لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله. فالفقيرُ خالصٌ بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظّ ونصيب، منشغل بالله عما سواه، وبأمره عن هواه، وبحُسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو في واد والناس في واد.

خاضع، متواضع، سليم القلب، سلس القياد للحق، سريع القلب إلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدّعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله. زاهدٌ في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله، قريب من الناس، أبعدُ شيء منهم، يأنسُ بما يستوحشون منه، ويستوحش مما يأنسون به، متفرّد في طريق طلبه، لا تقيده الرسوم، ولا تملكه العوائد، ولا يفرح بموجود، لا يأسف على مفقود.

من جالسه قرت عينه به، ومن رآه ذكّرته رؤيتُه بالله سبحانه. قد حَمَل كَلَّهُ ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم، وكفّ أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته، وسبَّل لهم عِرضه ونفسه، لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز. لا يدخل فيما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا ينقصه.

وصفُهُ الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال. لا يتوقّع لما يبذله للناس عوضًا منهم ولا مدحة. لا يعاتِب ولا يخاصم ولا يطالب، ولا يرى له على أحد حقًّا، ولا يرى له على أحد فضلًا.

مقبلٌ على شأنه، مكرم لإخوانه، بخيل بزمانه، حافظ للسانه، مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه، لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه.

قد رُفع له عَلَمُ الحب فشمّر إليه، وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه. أجاب منادي المحبة أجاب منادي المحبة إذ دعاه: حي على الفلاح، ووصل السُّرى في بيداء الطلب، فحمد عند الوصول سُرَاه، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح.

فحيّ على جنّات عدن فإنها
ولكننا سبيٌ العدو فهل ترى

وحي على روضاتها وخيامها
وحي على يوم المزيد وموعد الـ
وحي على واد بها هو أفيَحٌ
منابرُ من نور هناك وفضة
ومن حولها كثبان مسك مقاعدٌ

يرون به الرحمنَ جل جلالُه
أو الشمس صحوًا ليس من دون أفْقها
وبينا همُ في عيشهم وسرورهم
إذا هم بنور ساطع قد بدا لهم
بربهم من فوقهم وهو قائل

فيا عجبًا ما عذرُ من هو مؤمنٌ
فبادرْ إذا ما دام في العمر فسحةٌ
فما فرحتْ بالوصل نفسٌ مَهينةٌ
فجدَّ وسارع واغتنم ساعة السُّـرى

وسرّ مسـرعًا فالسير خلفك مسـرعٌ
فهنَّ المنايا أي وادٍ نزلتَه
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك الـ

وقد ساعدت بالوصل غيرَك فالهوى
فدعها وسلِّ النفسَ عنها بجنةٍ
ومن تحتها الأنهار تخفق دائمًا
وقد ذُلّلتْ منها القطوفُ فمن يُرِدْ
وقد فُتِحتْ أبوابُها وتزينت

أقام على أبوابها داعي الهدى
وقد طاب منها نُزْلُها ومقيلُها
وقد غرس الرحمنُ فيها غِراسه

فمن كان من غرس الإله فإنه
فيا مسـرعين السير بالله ربكم
وقولوا محبٌّ قاده الشوق نحوكم
قـضى الله رب العالمين قضيةً
وحبكم أصل الهدى ومداره
وتفنى عظامُ الصَّبِّ بعد مماته

فيا أيها القلب الذي ملك الهوى
وحتّامَ لا تصحو وقد قرُبَ المدى
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا
ويا موقدا نارًا لغيرك ضوؤُها
أهذا جنى العلم الذي قد غرسته
وهذا هو الحظ الذي قد رضيتَه
وهذا هو الربح الذي قد كسبته
بخلت بـشيء لا يضـرك بذلُه
وبعت نعيمًا لا انقضاء له ولا
فهلا عكست الأمر إن كنت حازمًا

وتهدم ما تبني بكفك جاهدًا
وعند مراد الحق تفنى كميّت
وعند خلاف الأمر تحتجُّ بالقضا
تُنزّه تلك النفسَ عن سوء فعلها

وتزعم معْ هذا بأنكَ عارفٌ
وما أنت إلا جاهلٌ ثم ظالمٌ
إذا كان هذا نُصْحُ عبدٍ لنفسه
وفي مثل هذي الحال قد قال من

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ
ولو تبصِـرُ الدنيا وراء ستورها
كحلم بطيف زار في النوم وانقـضى الـ
وظِلٍّ أرتْهُ الشمسُ عند طلوعها
ومُزنةِ صيف طاب منها مقيلُها

فجُزْهَا مَمرًّا لا مقرًّا وكن بها
أو ابنَ سبيل قالَ في ظل دوحةٍ
أخا سفرٍ لا يَستقرُّ قرارُه
فيا عجبًا كم مصـرعٍ عطَبوا به
سقتهم بكأس الحب حتى إذا انتشوا
وأعجبُ ما في العبد رؤيةُ هذه الـ

وأعجب من ذا أنَّ أحبابها الأُلى
وذلك برهانٌ على أن قدرَها
وحسبُك ما قال الرسول ممثّلًا

كما يُدخِل الإنسانُ في اليم إصبعًا
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وهل أَرِدَنْ ماءَ الحياة وأرتوي
وهل تبدوَنْ أعلامُهم بعدما سَفَت
وهل أفرشنْ خدِّي ثَرى عتباتهم
وهل أريَنْ نفـسي طريحًا ببابهم
فوا أسفا تفنى الحياةُ وتنقـضي
فما منكمُ بدُّ ولا عنكمُ غنًى
فمن شاء فليغضب سواكم فلا إذًا
وعُقبى اصطباري في رضاكم حميدةٌ
وما أنا بالشاكي لما ترتضونه

وحسبي انتسابي من بعيد إليكم
إذا قيل هذا عبدُهم ومُحبّهمْ
وها هو قد أبدى الضـراعة قائلًا
أحِبّتَنا عطفًا علينا فإننا
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى
أفِقْ قد دنا الوقت الذي ليس بعده
وبالسُّنَّةِ الغرّاء كن متمسكًا
تمسّك بها مسك البخيل بماله

وإيّاك مما أحدث الناس بعدها
وهيِّءْ جوابًا عندما تسمع الندا
به رُسُلي لما أتوكم فمن يجب
وخذ من تقى الرحمن أسبغَ جُنَّةٍ
ويُنصب ذاك الجـسرُ من فوق متنها
ويأتي إله العالمين لوعده
ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقَّه
ويُنـشر ديوان الحساب وتوضع الـ
فلا مجرمٌ يخشى هناك ظلامةً
وتشهدُ أعضاء المـسيء بما جنى
ويا ليت شعري كيف حالُك عندما
أتأخذ باليمنى كتابك أم ترى
وتقرأ فيه كل شيء عملتَه
تقول كتابي هاؤم اقرؤوه لي
وإن تكن الأخرى فإنك قائلٌ
فلا والذي شقَّ القلوب وأودع الـ
وحَمَّلها قلبَ المحبِّ وإنه
وذلَّلها حتى استكانت لصولة الـ
وذلّل فيها أنفسًا دون ذُلِّها
فقد فاز أقوامٌ وحازوا مرابحًا

على ربِّهمْ طولَ الحياة وحبِّهم

 

منازلُكَ الأولى وفيها المخيمُ
نعود إلى أوطاننا ونسلّمُ
وحيّ على عيش بها ليس يُسأمُ
مُحبّين طوبى للذي هو منهمُ
وتربته من أذفرِ المسك أعظمُ
ومن خالص العِقيانِ لا يتفصّمُ
لمن دونهم هذا الفخار المعظَّمُ
كرؤية بدرِ التَّمِّ
([43])([44]) لا يُتَوَهَّمُ
ضباب ولا غيم هناك يغيّمُ
وأرزاقهم تجري عليهم وتقسمُ
فقيل ارفعوا أبصاركم فإذا همُ
سلام عليكم طبتم وسلِمْتمُ

بهذا ولا يسعى له ويقدمُ
وعَدْلُك مقبول وصرفُك قيِّمُ
ولا فاز قلب بالبطالة ينعمُ
ففي زمن الإمكان يُسعى ويُغنمُ
وهيهات ما منه مفرٌّ ومهزَمُ
عليها قدومٌ أو عليك ستقدَمُ
مُعَنَّى رهين في يديها مسلَّمُ
لها منكَ والواشي بها يتنعّمُ
من الخير في روضاتها الدُّر يَبسُمُ
وطيرُ الأماني فوقها يترنَّمُ
جناها ينلْهُ كيف شاء وينعمُ
لخُطّابها فالحسن فيها مُقَسَّمُ
هلمّوا إلى دار السعادة تغنموا
فطوبى لمن حلّوا بها وتنعموا
من الناس، والرحمن بالغرس أعلمُ
سعيد وإلا فالشقا متحتمُ([45])
قفوا بي على تلك الربوع وسلّموا
قضـى نحبه فيكم تعيشوا وتسلموا
بأنّ الهوى يُعمي القلوب ويُبكمُ
عليه وفوز للمحب ومغنمُ
وأشواقُه وقفٌ عليه محرَّمُ
أّعِنَّتَهُ، حتَّامَ هذا التلوُّمُ
ودُقّت كؤوس السير والناس نُوّمُ
ويبدو لك الأمر الذي كنت تكتمُ
وحرُّ لظاها بين جنبيك يضـرَمُ
وهذا الذي قد كنت ترجوه تُطعَمُ
لنفسك في الدارين لو كنت تفهمُ
لعمرُك لا ربح ولا الأصلُ يسلمُ

وجُدت بـشيء مثله لا يُقوَّمُ([46])
نظيرَ ببخسٍ عن قليل سيُعدمُ
ولكن أضعت الحزم إن كنت تعلمُ
فأنت مدى الأيام تبني وتهدمُ
وعند مراد النفس تُسْدِي وتُلحِمُ

ظهير على الرحمن للجبر يزعمُ
وتعتِبُ أقدارَ الإله وتظلِمُ
كذبتَ يقينٌا في الذي أنت تزعمُ
وإنك بين الجاهلين مقدَّمُ
فمن ذا الذي منه الهدى يُتَعَلَّمُ

مضـى وأحسنَ فيما قاله المتكلِّمُ:
وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ
رأيت خيالًا في منام سيـصرَمُ
منام وراح الطيفُ والصَّبُّ مغرمُ
سيقلِصُ في وقت الزوال ويُفصَمُ
فولّتْ سريعًا والحَرورُ تـضرَّمُ
غريبًا تعِشْ فيها حميدًا وتسلمُ
وراحَ وخلَّى ظلها يتقسَّمُ
إلى أن يرى أوطانَه ويُسَلَّمُ
بنُوها ولكن عن مصارعها عموا
سقتهم كؤوس السُّمِّ والقومُ قد ظَمُوا
عظائمِ منها وهو فيها متيَّمُ

تُهينُ ولِلأعدا تُراعي وتُكرِمُ
جناحُ بعوضٍ أو أدقُّ وألأمُ
لها ولدار الخلد والحقُّ يُفهَمُ
وينزعها منه فما ذاك يغنمُ
على حذر منها وأمريَ محكمُ
على ظمأٍ من حوضه وهو مُفْعَمُ

عليها السوافي تستبينُ وتُعلَمُ
خضوعًا لهم كيما يرِقُّوا ويرحموا
وطيرُ أماني الحبِّ فوقي تُحوِّمُ
وعتبُكُم باقٍ، بقيتُم وعِشتمُ
وماليَ من صبر فأَسلوَ عنكمُ
إذا كنتمُ عن عبدكمْ قد رضيتمُ
ولكنها عنكم عقابٌ ومغرمٌ
ولكنّني أرضى به وأسلِّمُ

وذلك حظٌّ مثلُه يُتَيَمَّمُ
تهلّلَ بِـشرًا ضاحكًا يتبسَّمُ
لكم بلسان الحال والحالُ يُعلمُ
بنا ظمأٌ والمورد العذب أنتمُ
صريعَ الأماني عن قليل ستندمُ
سوى جنة أو حرّ نار تـضرَّمُ

هي العروة الوثقى التي ليس تُفصمُ
وعَضَّ عليها بالنواجذ تسلمُ
فمرتعُ هاتيكَ الحوادث أوخَمُ
من الله يوم العرض ماذا أجبتمُ

سواهم سيخزى عند ذاك ويندمُ
ليومٍ به تبدو عيانًا جهنمُ
فهاوٍ ومخدوشٌ وناجٍ مسلَّمُ
فيفصِلُ ما بين العباد ويَحكُمُ

فيا ويح من قد كان للخلق يظلمُ
موازينُ بالقسط الذي ليس يَظلمُ
ولا محسنٌ من أجره الذرَّ يُهضَمُ
لذاك على فيه المهيمن يختمُ
تَطايرُ كُتْبَ العالمين وتُقسَمُ
بيـسراك خلف الظهر منك يُسلَّمُ
فيُشـرق منك الوجه أو هو يُظلِمُ
يُبـشِّرُ بالجنات حقًّا ويُعلِمُ
ألا ليتني لم أوتَهُ فهو مُغرِمُ
محبةَ فيها حيثُ لا تتـصرَّمُ
ليضعفُ عن حمل القميص ويألمُ
محبة لا تلوي ولا تتلعثمُ
حياضُ المنايا فوقها هي حُوَّمُ

بتركهمُ الدنيا وَالاقبالِ منهمُ
على نهجِ ما قد سَنَّهُ فهُمُ هُمُ
([47])

وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على خير العالمين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.

إبراهيم الدميجي

16/ 4/ 1445

aldumaiji@gmail.com

 



([1])   الافتقار إلى الله لُبُ العبودية، أحمد الصويان (21 - 63) وبعض هذه العلامات ملخّصةٌ منه.

([2])  تفسير الطبري (1/155).

([3])  مسلم (2999).

([4])  موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (7/ 389) وحسنه المحقق حسين أسد. وانظر: جامع الأصول (4/ 245، 252).

([5])  رواه أحمد (9407) بسند حسن. وللحافظ ابن رجب رسالة لطيفة في شرحه.

([6])  مصنف ابن أبي شيبة (35172).

([7])  مصنف ابن أبي شيبة (35511).

([8])  سنن أبي داود (4811) وصححه الأرناؤوط.

([9])  الوابل الصيب لابن القيم (138 – 138).

([10])   رواه أبو داود أبي داود (6/ 189) وصححه الأرنؤوط، ورواه أحمد (7382) وهو في "الزهد" لهناد (825)، وأخرجه ابن ماجه (4174).

([11])   أحمد (22808) وصححه الأرناؤوط.

([12])   البخاري (6308).

([13])   فتح الباري لابن حجر (11/ 105).

([14])   إحياء علوم الدين (4/4).

([15])   أي: ما زاد منها عن حاجته.

([16])   طريق الهجرتين (1/105).

([17])   وقد سبق الكلام عن الأنس بالله والتعلق به في كتب مستقلة.

([18])   شذرات الذهب (2/326).

([19])   البخاري (2/143) ومسلم (660).

([20])   الفتح (2/145).

([21])   أحمد (25263) والترمذي (3175) وابن ماجه (4198) وصححه الألباني في السلسلة (162).

([22])   أحمد (2496) وقوى إسناده المحقق، ورواه مختصرًا البخاري (4753).

([23])   فتح الباري (8/ 484).

([24])   البخاري (7018) والمراد: أي على التفصيل له، أما الإجمال بالنجاة والسعادة فقطعي له، ولبعض من علِم من أمته.

([25])   البخاري (6463) ومسلم (2816).

([26])   أبو نعيم في الحلية (2/307).

([27])   مسلم (2577).

([28])   أي: يُزيل جزعه. فهي من ألفاظ الأضداد.

([29])   لأنه تولّى الخلافة ويخشى أن يكون قد قصّر في حقّها. وهذا من عظيم ورعه وخشيته وعلمه بالله تعالى.

([30])   البخاري (3692).

([31])   مسلم (2654).

([32])   مسلم (2654).

([33])   صفة النفاق وذم المنافقين للفريابي ص (69) رقم (74) وصحح المحقق إسناده.

([34])   الزهد لابن المبارك (151).

([35])   البخاري (660) ومسلم (1031) وهو بتمامه: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه». والسياق للبخاري. وانقلبت جملة «حتى لا تعلم.. » عند مسلم، فوقعت هكذا: «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله».

([36])   البخاري (3465).

([37])   سير أعلام النبلاء (6/9).

([38])   قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) [البلد: 4]، فنعيم الدنيا منغص لأجل ألا يركن إليها المؤمن. ومن عصى الله تعالى لأجل مخلوق نغّص الله تعالى عليه ذلك المخلوق وأفسده عليه جزاءً وفاقًا. ومن أحب غير الله عُذب به.

([39])   مسند أبي يعلى (1628) وحسنه الألباني في تخريج الإيمان لابن تيمية (1/29).

([40])   خرّجه ابن ماجه بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس» سنن ابن ماجه (3349) وصححه الأرناؤوط بطرقه.

([41])   أحمد (21/240). وقال ابن حجر في الأمالي المطلقة (199): «حسن، رجاله موثقون، وله شاهد».

([42])   الوابل الصيب (24 – 39) باختصار.

([43])   هل تعلم أن في الجنة نعيم ليس من جنس نعيم الدنيا، وليس في الدنيا له شبيه أو نظير أو حتى مثل يقارب المعنى، فالجنة فيها فاكهة ونخل ورمان وأنهار وخمر ولبن وقصور وحور... إلخ. ولكنها حوت نعيمًا لا يمكن تخيله ولا مقاربته ولو بالخيال فهو جنس ليس له مسمّى ولا شبيه في الدنيا والدليل على ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين). البخاري (4779) وأعلى نعيم الجنة رؤية الله تبارك وتعالى.

([44])   أي بدر التمام.

([45])   لو قال: فالشقاء مُحتَّمُ.

([46])   أي بخلت على نفسك بعمارة الآخرة، وجُدتَ بها للدنيا!

([47])   طريق الهجرتين: (1/105 - 115) مختصرًا.