إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

السبت، 14 أكتوبر 2023

الله وحده هو الغنيُّ، وجميعُ الخلائقِ مفتقرةٌ إليه

 

الله وحده هو الغنيُّ، وجميعُ الخلائقِ مفتقرةٌ إليه

 

الحمد لله، وبعد؛ فمن أسماء الله تعالى الغني، وهو دال على غناه المطلق بكل صنوف الغنى، كما أنه دال على فقر الخلائق كلها فقرًا مطلقًا إليه تبارك وتعالى.

قال شيخ الإسلام مبيّنًا اضطرار الخلائق وافتقارهم لمولاهم مهما كانت مادّة خلقهم: «فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علّة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة. وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته، لا تكون ذاته إلا فقيرة فقرًا لازمًا لها، ولا يستغنى إلا بالله.

وهذا من معاني (الصمد) وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء. بل الأشياء مفتقرة إليه من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته؛ فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥] فلو لم يخلق شيئًا بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله ــ فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته ــ وإلا كانت أعمالًا فاسدة؛ فإن الحركات تفتقر إلى العلّة الغائية كما افتقرت إلى العلة الفاعلية، بل العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلًا، ولولا ذلك لم يفعل. فلولا أنه المعبود المحبوب لذاته لم يصلح قط شيء من الأعمال والحركات، بل كان العالم يفسد، وهذا معنى قوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: ٢٢] ولم يقل لعدمتا، وهذا معنى قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ

فقول النبي ﷺ: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل»([1]) معناه: أن كل معبود من دون الله باطل كقوله (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) [الحج: ٦٢] وقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون . فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) [يونس: ٣١، ٣٢] وقد قال قبل هذا: (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) [يونس: ٣٠] كما قال في الأنعام: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) [الأنعام: ٦١، ٦٢] وقال: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم) [محمد: ٣].

ودخل عثمان أو غيره على ابن مسعود ــ وهو مريض ــ فقال: كيف تجدك؟ قال أجدني مردودًا إلى الله مولاي الحق. قال تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) [النور: ٢٤، ٢٥] وقد أقروا بوجوده في الدنيا، لكن في ذلك اليوم يعلمون أنه الحق المبين دون ما سواه، ولهذا قال: (هو الحق) بصيغة الحصر، فإنه يومئذ لا يبقى أحد يدّعي لغيره الإلهية، ولا أحد يشرك بربّه أحدًا»([2]).

قال سهل بن عبد الله: «ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب إليه من الافتقار»([3]).

وقال أبو بكر الكتاني: «إذا صح الافتقار إلى الله صحّت العناية([4]) لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بصاحبه»([5]).

وتأمل حال هذا الإنسان العجيب ومزاجه الغريب في جهله مع عجزه، واستغنائه مع فقره، ورجوعه بعد فراره وكفره، قال سبحانه وبحمده: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: ٤٩ - ٥١].

قال الحافظ ابن كثير: «يقول تعالى: لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير ــ وهو: المال، وصحة الجسم، وغير ذلك ــ وإن مسه الشر ــ وهو البلاء أو الفقر ــ (فيئوس قنوط) أي: يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير. (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) أي: إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن: هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي: يكفر بقيام الساعة، أي: لأجل أنه خُوِّل نعمة يفخر، ويبطر، ويكفر، كما قال تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: ٦، ٧].

ثم قال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) [فصلت: ٥١] أي: أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله، عز وجل، كقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات: ٣٩]. (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) [فصلت: ٥١] أي: الشدة، (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: ٥١] أي: يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض: ما طال لفظه وقل معناه، والوجيز: عكسه، وهو: ما قل ودل. وقد قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس: ١٢] ([6]).

و«قال سبحانه: (كلا إن الإنسان ليطغى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: ٦، ٧] يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله. ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) [العلق: ٨] أي: إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك: من أين جمعته؟ وفيم صرفته؟»([7]).

وتدبر قول الله تعالى مبيّنا ضعف البشر وأنهم ليسوا في حقيقتهم بشيء إن خذلهم ربهم ووكلهم إلى ضعفهم وفقرهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: ١٥] «يخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه»([8]).

وقال شيخ الإسلام الثاني في المدارج([9]): «ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة الفقر.

وهذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم، وأعلاها وأرفعها، بل هي روح كل منزلة وسرّها ولبّها وغايتها.

وهذا إنما يُعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة([10]) أخص من معناه الأصلي، فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع أحدها([11]): قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) [البقرة: ٢٧٣] الآية، أي الصدقات لهؤلاء، كان فقراء المهاجرين نحو أربعمئة، ولم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، فكانوا وقفًا على كل سرية يبعثها رسول الله، وهم أهل الصُّفَّة، هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله.

وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله، وقيل: حبَسَهم الفقرُ والعدمُ عن الجهاد في سبيل الله، وقيل: لما عادَوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى؛ أُحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضربًا في الأرض.

والصحيح: أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربًا في الأرض، ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء.

والموضع الثاني: قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) الآية [التوبة: ٦٠]، والموضع الثالث: قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) [فاطر: ١٥]

فالصنف الأول: خواص الفقراء. والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامّهم. والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم، غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم. فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجِدَةِ. ومن ليس محصرًا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعّففًا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني. والصنف الثاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجدة، ويدخل فيهم المتعفف وغيره، والمحصر في سبيل الله وغيره. والصنف الثالث: لا مقابل لهم، بل الله وحده الغني، وكل ما سواه فقير إليه([12]).

ومراد القوم بالفقر: شيء أخصّ من هذا كله، وهو تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة.

وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى فقرًا([13]) بل هو حقيقة العبودية ولبها، وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية.

وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال: «حقيقته أن لا يستغني إلا بالله، ورسمه: عدم الأسباب كلها»([14]) يقول: عدم الوثوق بها، والوقوف معها، وهو كما قال بعض المشايخ: شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه، ويسوقه إلى من يريده. وسئل رُوَيْم([15]) عن الفقر فقال: «إرسال النفس في أحكام الله» وهذا إنما يُحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها. وسئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه؟ فقال: «ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره».

وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: «إذا لم يبق عليه بقيّة منه» فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: «إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له».

وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم، وهو أن يصير كله لله عز وجل، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه. فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول، ثم فسر ذلك بقوله: «إذا كان له فليس له» أي إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.

فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ مُلْكٌ واستغناء مناف للفقر.

وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تنافيه الجِدَةُ([16]) ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جِدَتِهْم وملكهم كإبراهيم الخليل، كان أبا الضيفان، وكانت له الأموال والمواشي، وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام، وكذلك كان نبينا ﷺ كان كما قال الله تعالى: (ووجدك عائلا فأغنى) [الضحى: ٨] فكانوا أغنياء في فقرهم، فقراء في غناهم.

فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقةً تامَّةً إلى الله تعالى من كل وجه.

فالفقر ذاتي للعبد([17]) وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالًا، وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:

والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا

 

كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي

وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب، وأكثر إشارات القوم إليها، كقول بعضهم: «الفقير لا تسبق همتُه خطوتَه» يريد: أنه ابن حاله ووقته، فهمتّه مقصورة على وقته لا تتعداه.

وقيل: أركان الفقر أربعة: «علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه»([18]).

وقال الشبلي: حقيقة الفقر: «أن لا يستغني بشيء دون الله» وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: «إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه»([19]).

وقال أبو حفص: «أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال».

وقيل: «من أراد الفقر لشرف الفقر؛ مات فقيرًا. ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيًّا».

والفقر له بداية ونهاية، وظاهر وباطن. فبدايته: الذل، ونهايته: العز. وظاهره: العدم، وباطنه: الغنى.

واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعُجْب([20]). مع أنه لا صفاء معهما»([21]).

«وعلى العبد الموفق الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجوده، وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه، وليس للعبد من ذاته سوى العدم، وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه.

فإذا شهد هذا وأحضره قلبه وتحقق به؛ خلصه من رؤية أعماله. فإنه لا يراها إلا من الله وبالله، وليست منه هو ولا به. فرؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله، ويخلصه منها شهود السبق ومطالعة الفضل»([22]).

وقال شيخ الإسلام مدلّلًا على حاجة الإنسان التامّة وفقره الّلازم الملازم لرحمة ربه وتوليه من تسعة أوجه فطريّة عقليّة شرعية: «إن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق، هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:

أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.

والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية. فهنا أربعة أشياء:

أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.

والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.

والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.

والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.

فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر. إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:

أحدها: أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه. فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، إذ الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالًا وإكرامًا. والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.

وكذلك قوله تعالى: (عليه توكلت وإليه أنيب) [هود: ٨٨] وقوله: (فاعبده وتوكل عليه) [هود: ١٢٣] وقوله: (عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) [الممتحنة: ٤] وقوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده) [الفرقان: ٥٨] وقوله تعالى: (عليه توكلت وإليه متاب) [الرعد: ٣٠] وقوله: (وتبتل إليه تبتيلا) [المزمل: ٨] (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) [المزمل: ٩] فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.

الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له. فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.

وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فـ(إن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124]. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله رأس الأمر. فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق وقرره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم.

وليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا اللهُ سبحانه. ومن عَبَدَ غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) [الأنبياء: ٢٢] فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقًّا، إذ الله لا سميّ له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية، وأما من جهة الربوبية فشيء آخر.

واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته([23])، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.

ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ غير مُنْعِمٍ له ولا مُلْتَذٍّ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ﷺ: (لا أحب الآفلين) [الأنعام: ٧٦] وكانت أعظم آية في القرآن الكريم: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) [البقرة: ٢٥٥] وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينت أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه. وهذا أمر عظيم جدًا حري بكل مؤمن عابد ملاحظته وتذكره على الدوام، فبعبادة ربه تكون حياته فلا قوام له إلا بها.

واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:

أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم أن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس فالله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب } [التوبة: ١٢٠] الآية، وقال ﷺ لعائشة: «أجرك على قدر نصبك»([24]) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمنًا وتبعًا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه.

ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي كقوله: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة: ٢٨٦] { لا تكلف إلا نفسك } [النساء: ٨٤] { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } [الطلاق: ٧] أي وإن وقع في الأمر تكليف؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفًا([25])، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدًا. قال الله تعالى: { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } [مريم: ٦٥] فهذا أصل.

الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى كما في الدعاء المأثور: «اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة». رواه النسائي وغيره([26]).

وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزْكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه سبحانه. فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة»([27]) فبيَّن النبي ﷺ أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.

وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا([28])، قال الله تعالى في حق الكفار: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم } [المطففين: ١٥، ١٦] فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.

وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان.

الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل. بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصَّره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول. فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه؛ دخلوا في الوجه الأول. ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق؛ فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولًا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولًا حتى يطلبه ويشتاق إليه.

والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذِكْر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه.

الوجه الرابع: أن تعلُّقَ العبدِ بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله([29])، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس. وإن أحبّ شيئًا حبًّا تامًّا بحيث يُخَالِلُـهُ فلا بد أن يسأمه أو يفارقه. وفي الأثر المأثور: «أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان»([30]).

واعلم أن كل من أحب شيئًا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببا لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله يُمَثَّلُ لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يأخذ بلهزمته([31]) يقول: أنا كنزك، أنا مالك([32]).

فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة([33]). وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء.

وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالًا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد. وهذا معنى ما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه» رواه الترمذي وغيره([34]).

الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته؛ فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، فما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .  كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } [مريم: ٨١، ٨٢]. وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق، فلما قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: ٥] كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته. وكان في عبادة ما سواه والاستعانة بما سواه؛ مضرته وهلاكه وفساده.

الوجه السادس: أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد([35]) رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانًا. والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما. وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله. فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك.

وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يجب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه. وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ــ ولو بالدعاء أو الثناء ــ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله. فأجناد الملوك وعبيد المالك وأجراء الصانع وأعوان الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه. وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا.

إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول؛ بل إنما يقصد منفعته بك وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه. والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك([36])، وذلك منفعة عليك بلا مضرة. فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه.

ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم([37])، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى  الذي يؤتي ماله يتزكى  وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } [الليل: ١٧ - ٢٠]. وقال فيه: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } [الإنسان: ٩].

الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.

الوجه الثامن: أنه إذا أصابتك مضرة كالخوف والجوع والمرض؛ فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.

الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك. فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك. قال الله تعالى{ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } [الملك: ٢٠، ٢١]. والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة، قال الله تعالى: { فليعبدوا رب هذا البيت  الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [قريش: ٣ - ٤] وقال تعالى: { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } [القصص: ٥٧] وقال الخليل عليه السلام{ رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات } [البقرة: ١٢٦] الآية. وقال النبي ﷺ: «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم»([38]) «بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم»([39]).

جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك من الناس أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها. والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم كما في حديث الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب»([40])([41]).

قال ابن القيم معلّقًا على كلام شيخه الآنف بعد نقله ما سبق من كلام شيخ الإسلام([42]): «فما أعظم حظ من عرف هذه المسألة، ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، فكما لا تخافهم لا ترجُهم. ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها. فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.

وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة، وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة([43]). فهم يريدون أن يصيروك كالكير، تنفخ بطنك وتعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلُك لجزروك كما يجزرون الشاة! وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرًا ومعبرًا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر. وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت، وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك، ورحت صفر اليدين. وكم فوّتوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دعيت إليها، وقالوا: نحن أحبابك وخدمك وشيعتك وأعوانك والساعون في مصالحك، وكذبوا، والله إنهم لأعداء في صورة أولياء، وحرب في صورة مسالمين، وقطاع طريق في صورة أعوان. فواغوثاه، ثم واغوثاه بالله الذي يُغيث ولا يُغاث، (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) [التغابن: ١٤] (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) [المنافقون: ٩].

فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم، ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم، ولم يخفهم في الله، وأرضى الله بسخطهم، ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم، ولم يراقبهم في الله، وآثر الله، ولم يؤثرهم على الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيى حب الله وخوفه ورجاءه فيه؛ فهذا هو الذي يكتَب عليهم، وتكون معاملته لهم كلّها ربحًا، بشرط أن يصبر على أذاهم، ويتخذه مغنمًا لا مغرمًا، وربحًا لا خسرانًا.

ومما يوضح الأمر أن الخلق لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره، فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) [يونس: ١٠٧] قال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس: «واعلم أن الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك»([44]) وإذا كانت هذه حال الخليقة؛ فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع.

وجماع هذا: أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيرك أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك ولا قادرًا عليها ولا مريدًا لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا أخرجه أثّر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته([45])، فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما:

أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك. وهذا هو الأغلب على الخليقة، فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته. وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت السبب في سلبها عنك، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) [الأنفال: ٥٣] فما أزيلت نعم الله بغير معصيته.

إذا كنت في نعمة فارعها

 

فإن المعاصي تزيل النعمْ

فآفتُك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك، كما قيل:

ما يبلغ الأعداء من جاهل

 

ما يبلغ الجاهل من نفسه

ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أقداره وتعاتبها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك، وفرطت في حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها، ثم قعدتَ تعاتب القدر بلسان الحال والمقال! فأنت المعني بقول القائل:

وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته

 

حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرَا

ولو شعرت بدائك، وعلمت من أين دُهيت، ومن أين أصبت؛ لأمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه، فأعرضتَ عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه، وأقبلت تشكو مَنْ كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه، فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعضهم وقد رأى رجلًا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!

وإذا أتتك مصيبة فاصبرْ لها
وإذا شكوتَ إلى ابن آدم إنّما

 

صبرَ الكريم فإنه بك أرحمُ
تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرحمُ

وإذا علم العبدُ حقيقة الأمر، وعرف من أين أُتي، ومن أي الطرق أغير على سرْحه، ومن أي ثغرة سرق متاعه وسلب؛ استحيا من نفسه ــ إن لم يستح من الله ــ أن يشكوا أحدًا من خلقه، أو يتظلَّمهم، أو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: ٣٠] وقال: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران: ١٦٥] وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) [النساء: ٧٩]»([46]).

وقال رحمه الله تعالى: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: العارف لا يرى له على أحد حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء. وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المُكَدِّي وابنُ المُكَدِّي

 

وهكذا كان أبي وجدّي

وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا([47]).

وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه وهي:

أنا الفقيرُ إلى رب البريّاتِ
أنا الظلومُ لنفـسي وهي ظالمتي
لا أستطيع لنفـسي جلبَ منفعةٍ
وليس لي دونه مولىً يُدبِّرُني

إلا بإذن من الرحمن خالقِنا
ولستُ أملِكُ شيئا دونَه أبدًا

ولا ظهيرٌ له كي يستعين به
والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا
وهذه الحالُ حال الخلق أجمعهم
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه

والحمد لله ملءَ الكونِ أجمعَه

 

أنا المُسيكينُ في مجموع حالاتي
والخيرُ إن يأتنا من عنده ياتي([48])
ولا عن النفس في دفع المضـراتِ
ولا شفيعٌ إذا حاطت خطيئاتي

إلى الشفيع كما جاء في الآياتي
ولا شريكٌ أنا في بعض ذراتي
كما يكون لأرباب الوِلاياتِ
كما الغنى أبدًا وصفٌ لهُ ذاتي
وكلّهم عنده عبدٌ له آتي
فهو الجهولُ الظلوم المشـرك العاتي
ما كان منه وما من بعد قد ياتي»
([49])

       وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

إبراهيم الدميجي

28/ 3/ 1445

aldumaiji@gmail.com

 



([1])  البخاري 5/53 (3841) ومسلم 7/49 (2256).

([2])  مجموع الفتاوى: (5/ 515-517) وانظر كذلك: الرد على المنطقيين: (1/ 345) والعقل والنقل (1/429).

([3])  صفة الصفوة (4/ 65).

([4])  أي: عناية المؤمن بصلاح أمره واستقامته.

([5])  حلية الأولياء (10/ 358).

([6])  تفسير ابن كثير (7/ 186).

([7])  تفسير ابن كثير (8/ 437).

([8])  تفسير ابن كثير (6/ 541).

([9])  قال العثيمين ؒ: «كتاب مدارج السالكين كتاب عظيم في مقتضيات الأسماء والصفات. فإذا قرأه الإنسان كأنما قام من النوم لعظمته» في تعليقه المسموع على الحموية.

([10])   أي المشتغلون بتحقيق أعمال القلوب، وإحسان السلوك الخاص، حتى وإن قصّروا في أبواب أخرى كالمتصوّفة، حتى إنهم يتلقبون بالفقراء.

([11])   بل أكثر كقوله: (الشيطان يعدكم الفقر) [البقرة: ٢٦٨] وقوله: (وأطعموا البائس الفقير) [الحج: ٢٨] وقوله: (إن يكونوا فقراء) [النور: ٣٢] وغيرها. وربما قصد المصنّف رحمه الله تعالى الأنواع لا الألفاظ وهذا يستقيم مع سياق كلامه، والله أعلم.

([12])   فكل غنيّ إليه فقير، وكل جبار إليه كسير.

([13])   وفي هذا نظر، فالافتقار أحد ركائز العبودية وأفرادها، ونفس اللفظ شريف بمعناه هنا.

([14])   ومراده: عدم الالتفات إليها لا إعدامها بالكلية، وهذا مذهب السلف خلافًا لضلال الأشاعرة. وانظر «شفاء العليل» لابن القيم ففيه شفاء ورواء لغلّة الصادي في مسألة القدر والعلّة.

([15])   أبو محمد رويم بن أحمد البغدادي. مات سنة ثلاثة وثمان مئة. وكان مقرئًا، وفقيها على مذهب داود.

ومن أقواله: «من حِكم الحكيم أن يوسِّع على إخوانه في الأحكام، ويضيِّق على نفسه فيها، فإن للتوسعة عليهم اتباع العلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع».

قال عبد الله بن خفيف: سألت رويمًا، فقلت: أوصني. فقال: «ما هذا الأمر، إلا ببذل الروح، فإن أمكنك الدخول فيه مع هذا، وإلا فلا تشتغل بترَّهات الصوفية».

ومن وصاياه: «إذا رزقك الله المقال، والفعال، فأخذ منك المقال وأبقى عليك الفعال فإنها نعمة، وإذا أخذ منك الفعال، وأبقى عليك المقال، فإنها مصيبة، وإذا أخذ منك كليهما فهي نقمة وعقوبة». عن الرسالة القشيرية (1/ 20).

ونقل عنه ابن الديبع الشيباني في مكفرات الذنوب وموجبات الجنة (1/ 4): قال رويم البغدادي: «التوبة هي إسقاط رؤية التوبة. أي إسقاط رؤيتها صادرة من نفس المسلم، بل منّة من الله إليه، وهو منفذ لها بعد ما تحركت نفسه إليها، وصدق افتقاره إلى ربه، ولم يجد له مفرّا من نفسه إلا إلى الله تعالى، وصدق في التخلّق بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فحينئذ يسعفه الله تعالى بالتوفيق إليها، ويعينه على تحقيقها».

وذكر عنه صاحب العاقبة في ذكر الموت (1/ 134) قال: وقيل لرويم عند الموت قل: لا إله إلا الله فقال: ما أُحْسِنُ غيرها.

وذُكروا عنه أنه أجاب من سأله عن المحبة فأنشد:

ولو قلتَ لي مُتْ قلتُ سمعًا وطاعةً

 

وقلتُ لداعي الموت أهلًا ومرحبًا

 

([16])   أي: الغِنى الحسّي بالمال والمعافاة ونحو ذلك، ومنه حديث أبي سعيد مرفوعًا: «ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجد» أخرجه مسلم (477).

([17])   أي: لا ينفك عنه، لأنه من لوازم خلقته، فلا يستغني عن ربه طرفة عين حتى وإن كابر وكفر.

([18])   وهو كلامٌ شريف، فلا بد من علم بالشريعة حتى لا تتخطفه الجهالات والخيالات والمنامات والأذواق. كذلك الورع حتى لا يستسهل قبول تبرير النفس في تحصيل شهواتها بزعم افتقارها. وكذلك اليقين لأنه الزاد الذي تتغذى به الروح في سيرها لربها. أما الذكر المؤنس للنفس فلا وحشة معه، بل الأنس والسرور بربه هو غاية سعادته.

([19])   مع التنبيه إلى أن المتصوفة يقررون طرائق ومسالك ورسوم وأوضاع يلزمون بها من رام الافتقار، وكثير منها تكلّفات وتنطعات وشطحات ما أنزل الله بها من سلطان، وبالجملة: فلا بد من إحسان الاتّباع مع إحسان القصد بلا تكلّف أصلٍ معدوم، ولا تغيير ركن موجود، فالأمر أمر الله، والدين دينه، والشرع شرعه، وعلى رسوله البلاغ وعلينا صدق الاتّباع وإحسان الائتساء، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) [الأحزاب: ٢١] وكما قال أبو العالية الرياحي ؒ: «كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: (ماذا كنتم تعبدون) و(ماذا أجبتم المرسلين) ورحم الله أبا عثمان النيسابوري – وهو من جلّة شيوخ القوم وعارفيهم ومقدّميهم - فإنه لما حضرته الوفاة وكان شديد الوصية باتباع السنة وتحكيمها ولزومها، مزق ابنه قميصًا على نفسه، ففتح أبو عثمان عينيه وهو في السياق فقال: «يا بني خلاف السنة في الظاهر، وعلامة رياء في الباطن».

([20])   فالعُجب من محبطات الأعمال الخفية، نسأل الله السلامة. وقيل: أنينُ المذنبين أحب إلى الله من زَجَلِ المُسبّحين المدلّين.

([21])   مدارج السالكين (2/ 436 – 439) بتصرف يسير.

([22])   مدارج السالكين (2/ 447).

([23])   فسر شيخنا العلامة العثيمين هذه الآية الجليلة وأطال النفس في بسط معانيها في تفسيره لسورة الانشقاق، وما علم أنها آخر آية يرحل بها عن الدنيا، فقد كان يقرأ ورده حتى إذا قرأها فاضت روحه مع أنفاس تلاوته لها رحمه الله تعالى.

([24])   رواه البخاري بنحوه (1787) ورواه مسلم (2/ 876) (1211) عن أم المؤمنين قالت: قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد! قال: «انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلّي منه، ثم القينا عند كذا وكذا» قال: أظنه قال: «غدا، ولكنها على قدر نصبك» أو قال: «نفقتك».

([25])   ولهذا فإن عبارة «أعمال المكلفين» و«الأحكام التكليفية» و«التكاليف الشرعية» ونحوها تشير بأن العبادات قائمة على المشقة، وأن الشدة مقصودة لذاتها في العبادة، وليس الأمر كذلك، فالعبادة حياة وراحة وسكينة وغداء للروح ولا غناء للقلب عنها طرفة عين. أما المشقة اللاحقة بها أحيانًا كالقتال في سبيل الله والحج والصيام والتهجد والإنفاق وغير ذلك فهذه متطلبات ووسائل لتحصيلها فهي تابعة لها، وإنما تكون المشقة مقصودة من جهة أنها اختبار وامتحان لدين العبد، فهي كالقنطرة والجسر الذي يميز الصادق المريد عن غيره، وبالجملة فالعبادة مقصودة لذاتها فهي حياة القلب، أما المشقة والتكليف فهو عارض مقصود لغيره، علمًا أن مقصود الفقهاء بالتكليف هو الأمر الإلهي وليس المشقة والكلفة. والمقصود أنه لو عُبر بأوامر الله أو فرائضه ونحو ذلك كان أولى من لفظ التكليف الموهم بأن الشرع مبني على المشقة، وليس الأمر كذلك، وفي الأمر سعة بحمد الله تعالى، وبالله التوفيق.

([26])   النسائي (1305) وصححه الألباني.

([27])   مسلم (181).

([28])   كما روى مسلم في صحيحه (4/ 2178) (2833) عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: «إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا».

([29])   فمن رحمة الله تعالى أن أباح بقدر الحاجة ما يكون وسيلة لإقامة الدين الذي هو غاية الخليقة.

([30])   البيهقي في الشعب (10541) الحاكم (4/ 324) أبو نعيم في الحلية (3/ 202) وانظر السلسلة الصحيحة (831).

([31])   أي: شدقيه.

([32])   الحديث في البخاري (1403) و(4565).

([33])   لخوفه من فواته، وهلعه عليه، وحرقته به، وغيرته عليه، وذلته له، وانشغاله به عما سواه.. في عذابات أُخر يُصلى بها المحبون غير ربهم.

([34])   الترمذي (2322) وحسَّنه النووي في المنثورات (296) والسيوطي في الجامع الصغير (1961) وذكره الألباني في صحيح الجامع (3414).

([35])   الواجد هو الغنيّ، مأخوذ من الجَدّ وهو الغني، فيوصف الله تعالى بأنه واجد، ولكن لا يُسمّى به لأن الحديث فيه لا يصح، وانظر: مدارج السالكين (3/384).

([36])   وهذا كلام شريف جدًّا جدًّا. وقد بسطه ابن القيم في طريق الهجرتين (1/107).

([37])   وهذا تنبيه نفيس، فبعض الخلق يجفو بني جنسه ويشمئز منهم بل قد يقع في نوع بغي أو تقصير من جهة قصده الاستغناء عنهم بالله، ونسي أن الله قد سخر الناس لبعضهم وأقام سنن خلقه على تعاونهم وتنافعهم واتصالهم بل وإحسانهم، فالموفق من نظر للأمر نظرة كلية شاملة، فأعطى الناس حقوقها المرعية من قبل الشريعة بلا تعلق البتة بغير رب العالمين.

([38])   البخاري (2896).

([39])   وهذه الزيادة عند النسائي (6/ 45) من طريق مصعب بن سعد عن أبيه بزيادة تبين معنى الحديث، ولفظه: «إنما ينصُرُ الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم». وصححه الألباني في صحيح النسائي (3178).

([40])   البخاري (1162).

([41])    مجموع الفتاوى (1/ 21- 33) باختصار. وانظر: (الفتاوى العراقية: 1/ 483-492).

([42])   وقد نقله بغالب حروفه في طريق الهجرتين (1/116 – 131).

([43])   ويقصد من كانت صحبتهم لا تقربك إلى الله تعالى.

([44])   أحمد (2669) والترمذي (2516) وانظر كلام ابن رجب النفيس في معانيه في جامع العلوم والحكم (1/462).

([45])   وتدبر هذا المعنى الشريف مما يحفز الداعي على المسألة والطلب والإلحاح في الدعاء وحسن الظن بالكريم الوهاب سبحانه وبحمده.

([46])   طريق الهجرتين (1/ 130 – 136).

([47])    ويعني بذلك القدر الواجب لا أصل الإيمان والإسلام، وهذا من علمه بالله سبحانه وما ينبغي له من الحق العظيم، فمن كان بالله أعرف كان له أحب، وله أرجى، ومنه أخوف، كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: ٢٨].

([48])   أصلها يأتي، ووصلت الهمزة ولم تقطع للضرورة الشعرية.

([49])   المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 143) وانظر: المدارج (2/ 524) و(العقود الدرية: 450).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق