إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 11 أكتوبر 2023

هل وعد الله أولياءه بالنصر في الدنيا؟

هل وعد الله أولياءه بالنصر في الدنيا؟

 

الحمد لله مُعزّ أوليائه ومذل أعدائه، فلقد وعد الله تعالى أولياءه بالنصر والتمكين والعز والظفر والغلبة، وقد يظن بعض الناس أن نصر الله لأوليائه إنما هو في الآخرة دون الدنيا، وهذا قصور في فهم مراد الله تعالى. قال ابن تيمية ؒ: «نذكر هنا نكتة نافعة؛ وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما يصيب كثيرًا من الكفار والفجّار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلًا، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للتقوى.. وهو ممن يصدق بالقرآن؛ حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ولهم العزة والنصرة، والقرآن لا يرد بخلاف المحسوس، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق... والمقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية؛ بناهما على الجهل بأمر الله ونهيه وبوعده ووعيده، فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق؛ فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور تارك للمحظور، وهو على العكس من ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق، وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا، وقد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين ولأهل الفجور على أهل البر، فهذا من جهله بوعد الله تعالى.

أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها وبوجوبها، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم، ويترك ما أوجب، وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل.

وأما الثاني: فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين؛ بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى وسبيل آخر([1]).

ولهذا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين باتّباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى، وأمرهم بانتظار وعده وهي المقدمة الثانية، وأمرنا بالاستغفار والصبر لأنهم لا بد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار، ولا بد مع انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد كما قال تعالى: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) [يونس: 109]»([2]).

ويؤكد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على أن حصول النصر وغير ذلك من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه ومن أنواع الأذى، وذلك أن الخلق كلهم يموتون، فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم([3])، فمن عدّ القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس، بل الفتن التي تكون بين الكفار، وتكون بين المختلفين من أهل القبلة ليس مما يختص بالقتال، فإن الموت يعرض لبني آدم بأسباب عامة، وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره، ومن جوع وغيره، وبأسباب خاصة، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل، بل الأمر بالعكس([4]) كما قد جربه الناس، ثم موت الشهيد من أيسر الميتات([5])([6]).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله ومن تبعه بإحسان.

 

إبراهيم الدميجي

26/ 3/ 1445

 



([1])   ففي الأول لم يَرَ نقص دينه، وفي الثاني لم يفقه وعد ربه، وكلاهما جهل.

([2])  انظر: النبوات، لشيخ الإسلام (247)، ومنهاج السنة النبوية (3/32)، ومجموع الفتاوى (17/102)، وشفاء العليل (202)، وإغاثة اللهفان (2/177)  وقاعدة في المحبة، (140 - 190)، وعنه نقل ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/173 - 187).

([3])  عند الترمذي (1668) من حديث أبي هريرة ◙ أن رسول الله ﷺ قال: «الشهيد لا يجد أَلَمَ القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة». وحسنه الألباني في المشكاة (3759).

([4])  قال الصدّيق رضي الله عنه: «اطلبوا الموت توهب لكم الحياة».

([5])  قاعدة في المحبة، لابن تيمية،  (149)، وعنه ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/177) وما بعدها.

([6])  وانظر: موقف المسلم عند الفتن، مقال لإبراهيم بن محمد الحقيل، مجلة البيان (195/ 22) بتصرف يسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق