إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 25 نوفمبر 2013

يا بَعْضي دَعْ بَعْضًا

يا بَعْضي دَعْ بَعْضًا
الحمد لله, وبعد: فأصل هذا المثل السائر أن زرارة بنِ عُدَس زَوَّج ابنتَه من سُوَيد ابن ربيعة، فكان له منها تِسْعَةُ بنين، وأنّ سُويداً قَتل أخًا صغيراَ لعمرو بن هِنْد – الملك, قتيل عمرو بن كلثوم - وهَرب سويد ولم يَقْدِر عليه ابن هند، فأرسل إلى زرارة: إنِ ائتني بوَلده من ابنتك، فجاء بهم، فأمر عمرو بقَتْلهم، فتعلًقوا بجدّهم زُرارة. فصاح باكيًا: يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً، فذهبت مثلاً.. تلك قصة المثل الأولى, فما قصته الثانية؟!
لا شك أن الجسد الإسلامي الواحد يشكو ما آل إليه حال أعضائه وأطرافه من التنازع والتخالف والتناحر بشكل مروّع - ولهذا حديث آخر إن شاء الله - وحديثي اليوم ليس من ذلك القبيل، بل هو رنين صدى آخر!
فقصة المثل الحالية للمتلمّس اللمّاح هي ما نشاهده ونسمعه من تندّر مكرور وتنابز مؤلم بين أبنائنا وبناتنا, وبخاصة بعد سيادة وسائل التواصل الاجتماعي التي أضفت على حياة الناس لونًا جديدًا من المتعة الذهنية والبصرية والسمعية, وهذا سوى المنافع العلمية والدعوية والإغاثية, وكذا ما يجري مع ركام سيلها من سموم وبواقع فكرية وأخلاقية..
ومقصودي هنا هو ما يُتداول من طُرفٍ ونكات ومواقف تخيّلية تنبئ عن واقع يحاكي بعض جيراننا الذين اشتهروا في العقدين الماضيين بحسّ الدعابة وعفوية النكتة، فسبقهم شبابنا في هذا المضمار الذي لا يدركُ سابقُه مجد ولا فخار سوى بيان الأسى والإحباط والفراغ والتيه الذي تزمّله وتدثّره غير قليل من شبابنا وفتياتنا! وحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه أحمد وأبو داود بسند حسن: "ويل للذي يحدِّثُ فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له"
لقد ازدادت حدّة التعاليق اللّامِزَةُ بيننا بشكل مسفٍّ، وقد مالت الكفّة للذكور حتى كادت رمانة الميزان أن تندقّ, - لا لضعف أخيلتهن, ولكن لخفرهن وحيائهن - لولا ردود قولٍ منهن تنزل عليهم كـ" الصواقع" الملتهبة والشهب المحرقة.. وما هذا منهن سوى ردّات فعلٍ واستجابة انفعال, - وإن كان غير مضطرد - فهن لا يبتدئن في الغالب ولكن أحيانا يغالين في الانتقام, ومردّ كل ذا نقص عقل الطرفين!
أحبتي: الألقاب المتنابَزُ بها كثيرة ومتغيرة ومتجددة, لكنها لا تذهب بعيدًا حتى يعود الوصفان جذعان: فيبقى وصف الرجال للون بعض أعضائهن وبخاصة موضع السجود بالسواد (سواد الركب!) ونعتهن لهم بلباسهم الداخلي هزءًا (أبو فنيلة وسروال!) فهذا هو الثابت والباقي متغير ويدور عليه, وربما زحفت عليه بعض الألقاب الرنانة الجديدة التي تستحلب دمع الضحك عند طرف ودمع الحزن لدى آخر.. خاصة إن كان الكسر لدى ربّات القوارير الهشّة! وإن الأذى عليهن ليصل الذروة حال مقارنتهن الانتقائية مع نساء بلد آخر.
يختل بعضهم الحجة بقوله: ننقد لنظهر الخلل فيسهل علاجه بعد الإحساس به, والجواب: إن كثيرًا من النقد يعزز الداء أكثر مما يرفعه, وبخاصة بمعيّة السخرية والهزء, ويكفينا عموم زجر ربنا: "ولا تنابزوا بالألقاب"
والمخجل المؤسف أن بعضهم يسفّ الوصف بأشياء خاصة جدّا, بل ربما نزل بعضهم للعورات! وفي الصحيحين: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"
إن بعض تلك النكات لإسفافها واتضاعها لدركات النزول الأخلاقي، وحقنها بمادة حقد سوداء؛ ليخيل إليك أن الأصابع التي كتبتها لا تنتمي لهذا البلد ولا ساكنيه, إنما هي كتلة حقد ذات أصابع! وما هي منهم وإن كانت منهم, بل حقيق بها ضربُ غرائب النُّوق, وإبعادُها خلفَ العَيّوق!
لستُ ضد المرح والطرائف والانشراح وتلطيف الوقت وإحماضه، لكن قد جعل الله لكلّ شيء قدرًا.
وصيتي للطرفين بحفظ الوقت عن الغفلة، وحفظ القلم فهو أحد اللسانين، وغدًا إعتاق من غِلِّ الكلِم أو إيباق!
 وأهمس في آذان أحبتي: إن كثيرًا مما يُتداول، وبخاصة ما كان فيه خفضٌ وإغماضٌ بسبب خلق الله فلا يخلو من تنكّرٍ للأصل, وضعف وفاء للمجتمع الذي رعاك ورباك, وحنّ عليك, وحينما ناديته.. لبّاك. وكما قالت العامة: الذي ليس فيه خير لأهل بلده لا خير فيه.
وتلك الطُّرفة التي قذفتها للناس ليس لك من مغنمها شيء, فكل ما يتداول يستحي واضعه من نشره باسمه! ولكن الذي يبقى هو المغرم والوزر. وإن لم يكن الناس يدرون من ابتدأ تيك "النكتة" فالعليم الخبير لا تخفى عليه خافية! وفي مسلم: "ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها, ووزر من عمل بها من بعده, من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"
إذن فالقضية أوزار متتابعة, يأخذ بعضها برقاب بعض, في سلسلة سنين وعقود وقرون, وقد يصل الوزر لحمل ذنوب الملايين من الخاطئين!
يقول أحدهم: أنا لا أخصّ أحدًا بعينه حتى لا تكون غيبةً لشخص معين معروف, يقف خصمًا لي غدًا.
وجوابه: ربما الأمر أشد! فالشخص المعيّن قد يُسامح, فإن لم يفعل فهو خصم واحد يأخذ من حسنانك لوحدِهِ, ولكن هل تأمن أن يصفّ غدًا أمامك عشرة ملايين مؤمنة من بنات بلدك كلّهن يتطلعن لحسناتك اللاتي كنت بها فرحًا مستبشرًا بقبولها, فلا تدري إلا وهي تُقسم بين هؤلاء: هنا بعض أجر صلاة, وهناك أجر صدقة, وهناك أجر بِرٍّ.. ثم هل تأمن نفادَ ذيّاك الرصيد, فتحمل أوزارهن, فهل تطيق حمل أوزارك فضلًا عن أوزار النساء؟! والمرأة كذلك بالنسبة لجموع الرجال غدًا، فاللهم سلم سلم. وحديث المفلس حقيقّ بالتدبر وقَمِنٌ بالتذكير دومًا. والعبرة هنا في المظالم عامة, وعلى قدر الحاصل يكون التحصيل, وبحسَبِ المظلمة يجري الاقتصاص!
فلا تكتب بخطك غير شيء   ...   يسرّك في القيامة أن تراه
يا صاحبي: تقول: إن العموم لا يضر أحد, فكيف لك بذلك؟ فتخيل معي مجلسًا من - عشرات أو مئات المجالس - فيه شابة من بنات بلدك, وفي المجلس ذاته امرأة أخرى من غير البلد, فتقرأ عليها تلك (الطرفة!) أو أن ترسلها لها برسالة! فهل تصوّرت مدى الأذى النفسي الذي يلحقها؟ وهل تظن أن الأنثى بجلافتك وصلافتك وجمودك لا تتأذى بمثل ذلك؟!
إن الأنثى روح رقيق فأدنى خدش يؤلمه.. ونسمه شذيّة فأقل أذى يتلفها.. ووردة غضّة فأهون مسّ يُذويها.. وفؤاد خفّاق فأيسر حرف يُمِضُّه..
وفي النهاية هي أمك, هي أختك, هي بنتك, هي جارتك, هي زوجك.. هي الأنثى التي زعمت يومًا أنها.. "حبيبتك"!
إطلالة:  خفقُ الفؤاد بالحُبّ كالمِلْحِ.. بل كالسكّر؛ إن فُقِدَ كسدَتْ الحياةُ، وإن زاد تلِفَتْ..
إذا لعب الرجال بكل شيءٍ   ...   رأيت الحبَّ يلعب بالرجالِ

إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com

الجمعة، 15 نوفمبر 2013

جمالٌ تشربه العيونُ صِرْفًا


جمالٌ تشربه العيونُ صِرْفًا

محمد وعبد العزيز: سلام الله عليكما..
 يا من لنجدٍ سريتما.. ولجرحِ سالٍ نكأتُما.
أبا أسامة وليغفر لك الله: قد علمتَ ما قلمي إلا ابن لبون, فعلامَ تُقْحِمهُ سبْقَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ؟! ثم لم تقنعْ حتى أتيتني بفحلِ البيان ابن مسعود!
أبا أسامة, ويحك! هلّا أقلت العثار, أو هل نسأت الخيار..
 فلي فؤادٌ جريح.. بل بالمآسي ذبيح..
 يرى بمقلتيه شؤونًا..
 سَحَّتْ شؤونًا لديه..

تمسي الكُماةُ وتُصبح..
 تروي قناها وتنضح.. 
كيما ضباها تُطوّح..
فقد ملكت فأسجح..

أعبدَ العزيز, مالَكَ ولِي؟! دعني ففي الأحشاء من وجع السنين ما يكفي..
مات قيسٌ ونَبِيهٌ والمرقّشُ وعروةُ بعد أن شرب الحب نَقِيِّ عظامهم..
 وأسلَمَهُم لنائبات المنايا..

فدع السَّالي يمرُّ رويدًا, يركب الطيف بأحلام الزمن.
أما علمتَ يا بن الأكرمين أن خيرًا للمُدنِفِ أن يسلو..
 ففي السلوان عن ذكر المنازل نصفُ راحة..
 أرأيتَ عينًا للبكاء تُعارُ؟!

لك الله يا عبد العزيز! لا تعد لمثلها فقد أوجعتني..
 وأقولها صادقًا؛ فإني كلما قصدت لذيّاك السبيل: تهيج في صدري أمورٌ لا أطيقُ لها دفعًا, تضطرم وتفور.. كالقدر استجمعت غليانًا..
 فتمور بي المشاعر كأني قاربُ صيّادٍ غشيته أمواجٌ كالجبال..
 قد درّتِ عليه السماء ُكأفواهِ القرب برعود واجفة, وبروق قاصفة..
فلا يملك رُبَّانُهُ حينها إلا الدعاء بالسلامة, وانتظار الفرج..
 هذا مع شوبٍ من نصولٍ وقَنًا وأَسَلٍ تدقُّ معاليق الفؤاد.. وتهشم عُوجَ الحنايا..
 فتثور من ذلك المحتدم سحابةٌ بيضاء تُعْتِمُ البصر والبصيرة..
فلا تنجلي الغمامة حتى تنبجسَ المقطوعةُ أيًّا كانت..
 بعد أن تطرح أباها صريعًا!..
وكلُّ حيٍّ هالك!

يا صاحبي: إن في رقيق الأدب شعرًا ونثرًا أيًّا تَوَجَّهت ركائبه خيطَ إبرَيْسم..
 أَرَقُّ من شُعاعٍ في عينِ طفلٍ فرح بقدوم والده من غربة..
 وأصفى من دمعة عاشقٍ على جَدَثِ صاحبته..
 بيد أن ذلك الخيط يجرُّ معه عُجَرَ الذكرى وبُجَرَ الآهات الماضيات..
وقد ظنَّ الملوّعُ وكَذَبَ الظنُّ طَمَّهنَّ في قعر الأطلسي..
 فإذ بها تعود شابّةً لعوبًا ضحوكًا.. غادرة!
بينا يسير القلبُ في ستارةً من تيسير، قَنِعًا بخفقةٍ من فؤادٍ رغيبٍ، قد تجلّد للغِيَر، وتلفّع بالرِّضا، وهجَرَ الكواعبَ رقيقاتِ الحواشي، من ربات حجال الأدب..
 أَعْنِي بهنَّ الخواطرَ شعرًا ونثرًا..
 اللاتي يشغلكَ جمالُ نثرِهِنَّ عن حسن نظْمِهِنَّ..
 ويُنسيك لطف شِعْرِهن عن شهد نثرهن..
فتُمسي من شُغْلٍ بهنّ ونسيانٍ لغيرهن خارجَ المعقول!
 غِيَابًا لا كالجنون, ونشوةً لا من قهوة ابن كلثوم..
 فتغيب عما حولك زمانًا ومكانًا..
يودُّ خليلُك لو رآك حينها: فناءَ العاذِلِ, وبُعْدَ الكاشح..
كيما يسرقُ معك رقيقةً من رقائق أحلام أهل الهناء..

أيها الخاطِر الخَطِر, ما دهاك حتى تَحُلَّ عِقَالَ عقلي؟!
بينا فؤادي قد سَلَا عن رُعودِ خفْقِ الأفئدةِ؛ إذ بك يا غفر الله لك, ترمي سويداءه بسهم قد عَجَمَ عودَهُ بيانُ الصاحبِ وابنِ العميد، وراشَ نبلَهُ ابنُ معمرٍ ولبيد، وَحَدَّ نصلَهُ المسعود، فرميتني وقصدت السويداء..
 فليهنك صيدك، ولك العزاء فقد استسمنتَ ذا وَرَمٍ، ولو وفّرت سهمَك لغيرِ فؤادي لأوشكت أن تحظى بِفَرَا، ولكن هيهات هيهات! فقد نفذ نصلُكَ الفتَّاك لقلب المُضنى العليل، وسبق سيفُك عَذْلي، وصولُك هَرَبي، فمرحبًا بكما على شطء الأدب، وحياكما في بستان المحبين, وخُذَاهَا تحفة النزول:
‏لهفي على شدوٍ قديمٍ قد أفلْ
يحكي بِلُبِّي سهمَ ناعِسَةِ المُقَلْ
هلّا تَرَفَّقَ فالجوى بلغ المحلْ
بُح أو فَمُتْ متشحّطًا والدمّ طَلْ

خذاني معكما لنركب زورق الأمل, تسوقنا أطراف أنامل هبّات الصَّبَا.. فلها أسرارٌ لا تبوحها لسوى أهلِ ذيَّاك السبيل..
 أعني النسيبَ الرقيق المحتشم.. والأدبَ العالي المحتدم..
 أحيانًا كرموز الأحباب, لا يفهمها سوى من تجرّعَ العذابَ العذْبَ من المِقَةِ..
 أو مَلَكَ "شيفرة" البديع تذوقًا أو إنشاءً..
وأخرى نراها جزْلَةً سهلةً ممتنعة، يرومُ بَدْعَها من شاء..
حتى إذا مَدَّ يمينَه لتناول كَفِّها ابتعدت كهالة البدر في ليلة إضحيان..
تتماوجُ بين عينيه كمُحَيا صبيّةٍ تنظر في غديرٍ أترعَهُ صوبُ غادية..
وثالثةً كغرامِ رسائل كنفاني لغادة..
 أو ابن زيدون لولّادة..
 صادقةً باكيةً آسيةً..

يا صاحباي: ألا يُذِيبنَّ بالجَوَى فؤاديكما مشهدُ ذاك القمريُّ ينوحُ لقمريّته وهي ترنو اليه بخَجَلٍ وجَذَل.. وتُسارِقُ مقلتيه بعينين كادتا أن تذبلا حنانًا وحبًّا ولهفًا..
ويكأنَّه ينشدها قول الأول وهو يهتزّ لنشوة الذكرى الرغيبة:
عيناكِ شاهدتان أنَّكِ من ... حَرِّ الهوى تجدين ما أَجِدُ
بِكِ ما بِنَا لكن على مَضَضٍ ... تتجلّدينَ وما بنا جَلَدُ

وَلِمَنْ يفتلِ عند ذكر الأدب شِدقه, ويلوي عن محاسنه كشحه: دعْ قارب أفئدتنا يُبحر رخاءً ويسير هوناً، كمشوق إلى لقاء مشوقة، وأنثارُ وبل إلى كبد يبابٍ صادي..

ألا وإن بعض من بَسَطَ المداد في تيك السابلة, قد جاوز الغاية في التّهتّك وخلع العِذار, لكني من خطل ذلك على حذر..
 فإن لم يكن الأدب رافدَ عفاف, وموقد شرف فلا كان..
 وجملة الكلام: لعل قُصارى هذه الكلمات أن تُذهب عن نفس المُعَنَّى قتامَهَا..

وهل تسير قوافل الأدب إلّا على رواحل الخيال؟
 وخلف سجف الحقيقة يكمن أبداع الذائقة..
 فدعني أُعْنِقُ في خيالي بلا طِوَلٍ.. فما استروحَ أهلُ النبل والرهافة إلا بعد أن كرعوا في ذلك المشرب؟ ومن رام رقَّة الطبع فليأخذ بسبيل ذلك المرتع, وليتجول بخاطره في ذلك المنتجع، فما لذة اللبانات إلا وصل ما هنالك..
إن طيف الخيال يا عبل يَشفي..

وكأني بفقيه أهل المدينة عبيد الله بن عتبة بن مسعود, وهو يخاطب نفسه بجلال وصبابة:
ألا مَنْ لنفسٍ ما تموتُ فينقضي   ...   عَناها ولا تحيا حياةً لها طعمُ
أَأَتْرُكُ إتيان الحبيب تأثُّماً   ...   ألا إنَّ هُجران الحبيب هو الإثمُ
فذُقْ هجرَها قد كنت تزعم أنه   ...   رشادٌ ألا يا ربَّما كذب الزعمُ
ووقفت امرأة على عُروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها، وكان من أرقّ الناس تشبيباً، وأحلاهم منطقًا, فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقول:
إذا وجدتُ أُوارَ الحُبّ في كَبِدي  ...  غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ
هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه  ...  فَمن لنارٍ على الأحشاء تَتّقِدُ
والله ما قال هذا رجل صالح!
وكذَبَتْ, فلم يكن مُرائياً, ولكنه كان مَصْدوراً فنَفث..

وقيل لابن المسيب: إن قوماً من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر!
 فقال: لقد نسكوا نسكاً أعجمياً!

عَلِّلَاني بمُقْلَةِ الخِشْفِ إنّي
من هواها يذوب مني وريدي
عللاني بنظرةٍ منه تشفي
عللاني بطارفي وتليدي
من مُحيّا سقى عيوني بشربٍ
عللاني.. ثم ازحفا بالبنودِ

يا صاحبي: ثَمَّ مستوى من الكَلِمِ يحوي شرايين يتدفَّقُ فيها نوعٌ عزيزٌ من متعةِ الأنْفُسِ..
لا يُشَمُّ ولا يُمَسُّ ولا يُرَى..
لكنه يسمو بعطفيك للأعلى برفقٍ يَبُزُّ الوالدةَ الحنون..
 وشذىً يحكى أرجَ الربيع..
 ولطفٍ يربو على رَخْصِ كَفِّ الرضيع..
 ونعومةِ نهدِ المُعْصِر..
تقرأها ويقرؤنها في "زمكان" متّحد، ولكن..
 ويكأنك تقرأ من بينهم لغةً أخرى!
فتهتف بنفسك الظمأى: أنِ اجرَعي راح البيان المترع بمعاني السحر الحلال..
 قد نُسجت من سندس اللفظ البليغ..
 فانبجسَ من عين صفائها سلسللُ نثرٍ برَّاق..
 وانفجر من معدن حكمتها جلجلُ نظمٍ دفّاق..
 فغدا مزيجُها لونٌ لا نظير في عين الأديب لجماله..
 وَدَّ هنيهةً لو اسطاعَ حبسَ الزمن..
أو فليكُنْ بسجنهما دهرًا يرتشفُ حلاوته شيئًا بعد شيءٍ، ومعنًى بعد لفظٍ، وصورةً تلو نبضٍ.. وأَجْمِلْ بأبكار الزمان!

إن توافقا أمست بناظره وأذنه كألذّ ما سجعت به بلابل الأقلام..
 وصدحت خلاله خرائدُ الأفهام..
 فترتشِفُهُ رقائق الأسماع..
 وتطربُ لرحيقِ سُلَافِهِ هشاشاتُ القلوب..
 إذا جرت نفثاته في الأفهام؛ قالت: أهذه بنت فكرة, أم بنت كرْمة..
 كيف إن كانت من شفتَيْ من هجم خيالها على قلبك الآن..
أيدري الدمعُ أي دمٍ أراقا؟!

آهٍ من دبيبِ راحِ الفِكَرِ في تجاويف الفؤاد..
ليهنِكَ يا من تذوّقت الجمال..
قد ذاب شهدُهُ في حرارة جوى الصَّبِّ الملهوفِ لعناق أبكار المعاني..
 وضمِّ خرائد المباني..
 ونجوى خودِ الأَخيلَةِ..
فاستوى أمامه السطرُ النوراني على سابلةِ العاشق المتيّم..
 يهديه قصدًا للثمِ الشفةِ العطشى له..
قد ذبلت لترويه..
 وازدانت لتسقيه..
 ولا تذهب بعيدًا يا رفيق فؤادي, فما ثَمَّ منها سوى المعاني!
 أما الحقائق فدونها ضرب يدمي النواصيا!

ألا ما أشدّ ما يقاسيه القلم إن هفَتْ رئته لنوع من المعاني لا يتأتّى إلا كمجيء نوعٍ نادر من طيرٍ مهاجرٍ, كأن ريشه من نسج شمسِ الأصيل..
 وصدرَهُ كندف غيمِ الصباح..
 وعينَهُ كطلِّ قطرات النَّدى على وجنةِ زهرةِ خزامى على كثيب الدهناء..
إن المعاني تارة تكون أقرب لأَسَلَةِ اليراعِ من قطرةِ مِدَاده..
وأخرى تكون أبعدَ من السِّمَاكِ الرَّامح..

ثمّة نفوسٌ رهيفة, إن استقبلت روحك ملأتها انشراحًا وبِشرًا..
 ووجوهٌ جميلةٌ, إن تذكَّرْتَ قسماتها ارتمت ذاكرة الجمال خجْلَى على أهدابها..
 وأحاديث حِبٍّ يجتني التذكار منها ما تمنّى..
ويا من مَرَّ على روضتنا ولم يفهم المعنى..
يا من لم يمضغ الشيح والقيصوم, إليك عنّا..
جُزْ بخيرٍ.. جُدْ بسترٍ.. وامض لشأنك عنّا..
لا تلمنا إن خلعنا جبة القاضي وبحنا..
بعفافٍ قد سَمَرْنا.. وصيانٍ قد حَرَسْنا..
يا كثيف الطبع عنا.. عن جَنَانَا لا تسلنا..
أحسن الظن ودعنا..

ليس هذا يا مُنانا نوحُ باك في يتامى..
تلق أرجًا يجتنيه.. ضوع أزهار الخزاما..

يا صاحبي: قديمًا كُتبَ الأشخاصُ برموزٍ لأغراض شتى, رَهَبًا أو تحليةً في ذهن المنسجم.. تأمل ما كتب الهنود على لسان الحيوان "كَليلة ودِمْنَة" وفي ذا التلميح غنًى عن التصريح..
لا تقل: كلا, لا ولا تقل: لم هذا وكيف؟!
فالقصور يلحقه التقصير عن إدراك ما تتكلّس المعاني بجوهَرِهِ! فيضربها بمعول الفكر وكرّ النظر.. فلا تسمع لماء عين المعاني رِكزًا!..
فمثلُ تيِك المعاني تحتاج لقهوة سوداء كالحٌ لونها, مُرّةٍ كالحنظل, عذبةٍ كَسَحِّ الدِّيَمِ, في مكان خال من الإنس والجانّ..

 فما هي إلا هنيهات حتى يصْفُوَ الذهن بانقشاع سحائب شُعَبِ الهموم..
 ويعفو الخاطر بجودٍ غزير..
 فينحدر إليها سيلٌ جرّارٌ من مشاعر الفؤاد المُضْنَى بأثقال الأشباح..
 المفعم بطيب أرواح الإصباح..
 قد صَرَعَ خيالاتها بشبيبةِ روحه, وكهولة تجاربه..
يمدُّهُ هاطلٌ مدرارٌ وغيث صدوقٌ من دموعٍ كانت حبيسة الأجفان!
 قد أَبَتْ عِزَّةُ أنفِهِ قبلها إلا تيك القَسوةِ الممضَّةَ بخنجر الأسر العذب المعذب.. هذا حينًا..

 وحينًا آخر تطول تلك الزفرات فتسري في اللجَّةِ ليلةً بتمامها..
بعدها تجري الرياح اللقاح بفكرِهِ مع الغيوم السابحات حتى يأذن الله بأمره..
فبينا ذهنه يسبَحُ في بحر ساكن؛ إلا ورنت مقلته لضياء أدفأَ جوانحه التي لحقها بردٌ من نسيم السَّحَرِ..
 إنه برد له خصوصية لدى أهيلِ الأدب..
لا يحس بلذيذ لذعه أهلُ الكثافة.. فإن صادفوا مثله انقلب جليدًا مُحْرِقًا..
أما هنا فهو لذع يدب رويدًا على أطراف الجوانح..
 ثم يفيض شذًى وعبقًا حتى يُرى ثَمِلٌ وما ثمّ شرابُ جسد..
 لكنه شراب نفس لم تملك أن غرقت في لجة نشوتِهِ..
 فنطقت بعد عِيِّها بحروفٍ لم يزُرْهَا سحبانُ وائل..
 ولم يحملها فؤادُ ابن الملوّح..

إيهٍ يا بن مسعود.. يا سليل البديع يا باسق البيان: إني مُنبيك عن عينٍ ماؤُها أحلى من عذب المطر..
 وشذاها أرقُّ من فتيت المسك والعنبر..
 تنساب بنعومةٍ على رَضْرَاضٍ كياقوت عُمَان..
 قد حفّتها أزاهير الأقحوان..
 وخلطتها ورود العرار وشقائق النعمان..
تجري بجوارِ كثيبٍ كأنّه خَدُّ عذراء..
 قد جرَفَ الماء أسفله فنحت على ذراعه خَتْمَ الحسن..
 وضَوَّعَ من عَذِيِّ رَمْلِهِ عَبَقَ النقاء..
 ثم جرى ماء الحياة حتى هوى من عليائه بوهج شلالِ نورٍ يشعُّ جمالًا وألقًا وبهاءً..

لقد كاد من فرط جماله أن تشربه العيون صرفًا!..
لِصوتِه نَغمات يتصاغر لجرسها بيتهوفن وموزار..
 وقَسَماتٍ وألوانٍ تمنَّى لو رآها دافنشي وأنجلو..

إن رمت ذيّاك المكان فأرعني فؤادك أفتّش لك في زواياه عن مكان لتلك الرغيبة التي لا تُرى سوى بعينِ أديبٍ.. وما أُراكَ إلا هو..
فلقد تذوّقت من عذب تغريدِ يراعتك ما قد علمت أنك من أهل ذيّاك المنزل..

 فلِقُطّانِهِ لغة لا يتناولُ عقيقها وزمردها من لم يذق من نِيلِها وفُراتها..
يَرِدُ الجُموعُ حوضَها فيصدُرون رُواءً لحظة شربهم منها..
لكنّ مَنْ أَعْمَقَ دلوَهُ حتّى لامَسَ عينَها؛ فإنه يصدُرُ منها أشدّ عطشًا منه قبل الورود..
 فيعودُ كيما يكرعُ فيزداد لها ومنها وبها ولعًا..
 فلا يسلو عن حبها..
 ولا يروى من رشفها..
 حتى يُسلِمَ الروح!
وواهًا ثم واهًا لغربة الأديب في صحراء الجفاء..

إبراهيم الدميجي
@aldumaiji
aldumaiji@gmail.com