إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 15 يونيو 2025

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (10) فَإنَّكَ كالَّليلِ الذي هو مُدْرِكِي

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(10)

فَإنَّكَ كالَّليلِ الذي هو مُدْرِكِي

 

    أصبحنا وأصبح الملك لله, نادى بها صاحبي وهو يتوضأ للفجر, حينما سُلَّ سيفُ الصبح من غمد الظلام, والنسائم الباردة لا زالت تهبّ من الشمال, وبعد الصلاة وأذكارها ركبنا السيارة لاستكشاف بيداء جبلي طيئ, فالتفتُّ إلى جبلي شمّر وهما شامخان جهة مشرق الشمس, فتذكرت شموخ جبل رضوى الذي يظرب المثل بشموخه وضخامته وثقلِهِ ووعورته. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لنا حاضرٌ فَعْمٌ وبادٍ كأنَّهُ ... شماريخُ رَضْوى عزَّةً وتَكَرُّما

متى ما ترزنَا من معدٍّ بعُصبةٍ ... وغسَّانَ نمنعْ حوضَنَا أن يُهدَّما

بكلّ فَتى عاري الأشاجعِ لاحَهُ ... قراعُ الكُماةِ يرشَحُ المسكَ والدَّما

ولدْنا بني العنقاءِ وابنيْ مُحرَّقٍ ... فأكرمْ بنا خالاً وأكرمْ بنا ابْنَمَا

نُسوِّدُ المال القليلِ إذا بدتْ ... مروءتهُ فينا وإنْ كانَ مُعدما

وإنَّا لقوَّالون للخيلِ أقدِمِي ... إذا لمْ يجدْ بعضُ الفوارسِ مَقْدما

لنا الجَفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافُنا يقطُرْنَ من نجدةٍ دَما

أبى فعلُنا المعروفَ أن ننطقَ الخَنَا ... وقائلُنا بالعُرفِ إلاّ تكلُّما

    ومن الطرائف حول ذلك؛ ما ذكره أبو مالك بن كركرة قال: أنشدني ابن مناذر قصيدة رثى فيها عبد المجيد فلما بلغ قوله:

يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحط الصخور من هبودِ

قلت: هبود أي شيء هو؟ قال: جبل. قلت: سخنت عينيك! هبود والله عين باليمامة؟ ماؤها ملح لا يشرب منه شيء خلقه الله، والله لقد خريت فيها مرّات! فلما كان بعد مدة، وقفت عليه في مسجد البصرة، وهو ينشدها، فلما بلغ هذا البيت أنشد:

يقدح الدهر في شماريخ رضوى  ...   ويحط الصخور من عبودِ

قلت له: عبود أي شيء هو؟ فقال: جبل بالشام، ولعلك يا ابن الزانية خريت عليه أيضا؟ فضحكت، ثم قلت: ما خريت عليه، ولا رأيته، ثم انصرفت عنه، وأنا أضحك.

     هذا وتزعم العرب أن أجَأَ في الأصل كان اسم رجل, وكان عاشقاً سلمى, وكانت امرأة أخرى يقال لها العوجاء تجمع بينهما بالحرام، ثم إن بعل سلمى أدركهم بعدما هربوا منه, فصلبهم على هذه الأجبُل, فسُمِّيَت الأجبُل بأسمائهم, والجبل الثالث هو العوجاء وهو دون الجبلين في الضخامة. أما الرُّبَّان فهو رُكْنٌ ضَخْمٌ من أَجَأٍ وسَلْمى؛ سُمِّيَ رُبّاناً لارْتِفَاعِه.

     قال بُرْجُ بن مُسْهِرٍ الطائِىُّ يُخاطبُ صَخْرًا الهُذَلِىَّ :

فَإِنْ نَرْجِعْ إِلى الجَبَليْنِ يومًا   ...  نُصَالِحْ قَوْمنا حتّى المَمَاتِ

    وقال زَيْدُ بنُ مُهَلْهِلٍ الطائيُّ:

جَلَبْنَ الخَيْلَ مِنْ أَجَإٍ وَسَلْمَى   ...   تَخُبُّ تَرَائِعاً خَبَبَ الرِّكَابِ

     وقال لَبِيدٌ، يصف كَتِيبةَ النُّعمانِ:

كَأَرْكَان سَلْمَى إِذْ بَدَتْ أَوْ كَأَنَّهَا  ...   ذُرَى أَجَا إِذْ لاَحَ فِيهِ مُوَاسِلُ

     ومُوَاسِلٌ: قُنَّةٌ في أَجإٍ، وقد جاءَ مقصوراً غير مهموزٍ، وهو الأسهل وهو المعمول به الآن عند العامة.

     ثم سرنا حتى أوفينا على هضبة, وقد سكنت الريح وبدأت جمرة النهار ترسل شعاعاها الدافئ على متون الأرض التي تقصّفت قبل أيامٍ بمطرٍ كأفواه القرب.     

    وأشرفنا من فوق التلعة على بساط بديع من الخضرة والربيع, والأركة تنمُّ وسطه عن الكمأة الزبيدية السمينة! فانتشى صاحبي لمرأى هذا المشهد البديع, ولا يملك من رأى مثل هذه المناظر الخلابة إلا التسبيح بحمد ربه. فلما رأى صاحبي ذلك تمثل بقول عمر بن ربيعة:

فلما توافقنا عرفت الذي بها   ...   كمثل الذي بي حَذْوَكَ النعلَ بالنعلِ

    ثم تمثل بقول جميل:

أبثينَ إنك قد ملكت فأسجحي   ...   وخذي بحظك من كريم واصلٍ

    ثم قال: حُقَّ لمن عاشوا في الفيافي أن تَنضج قريحةُ أشعارهم, وتُفترع أبكارُ أخيلتهم. فهات من آدابهم فِقَراً حساناً ونتفاً جياداً تهش لها الأسماع وترتاح لها القلوب, فتشحذ الأفكار الكليلة وتشفي الأذهان العليلة, وخاصة أهل البادية, فأحلى أبيات الشِّعر ما خرج من أبيات الشَّعر.

     قلت: صدقت يا عذب الحديث, ولا عجب في البادية من وجود الشعراء المعرّقين _ أي تسلسل الشعر في نسلهم _ فمنهم محمد بن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفى. كل هؤلاء شعراء معرقون، وأشعر ولد جرير بلال. أما شعراء القرى والمدر المعرّقون فمنهم سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت, كلهم شعراء.

    ثم قال هلمّ فلنتخير أطايب سجع حمائم أصحابي, فقلت: أنشد البحتري الطائي:

ألامُ على هواكِ وليس عدلاً   ...   إذا أحببتُ مثلك أن أُلاما

أعيدي فيّ نظرة مُستثيبٍ   ...   توخّى الأجر أو كره الأثاما

ولأبي العميثل:

سلام على الوصل الذي كان بيننا   ...   تداعت به أركانه فتضعضعا

تمنى رجال ما أحبوا وإنما   ...   تمنّيت أن أشكوا إليها فتسمعا

   فقال: هذا النسيب لا مجونيات امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة والأحوص وأبي نواس:

يا مَنْ تمادى في مُجُون الْهَوَى ... سالَ بك السَّيْلُ ولا تدْرِي

    قلت: لكن أبا نُوَاسٍ قد أحسن في قوله:

فديتُكَ قـد جُـبلتُ على هواكَـا   ...  فنفْسي لا تنازِعُني سِواكَا

فليـتَ الناسَ أُعْـمُـوا عنك غيري   ...   فآمن أن يرَوْكَ كما أراكَا

وليْتَكَ كلما كلّمْتَ غيْري   ...    رُميتَ بخرسةٍ ومنعتَ فاكَا

أُحبّكَ لا ببعْضي بل بكُلّي   ...    وإنْ لم يُـبقـي حبّـكَ بي حَــرَاكَـا

ويَـقبحُ من سـواكَ الشيْءُ عندي   ... فَتَفْعَلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا

   وقال جميل:

فيا حسنها إذ يغسلُ الدمعُ كحلَهَا  ...   وإذ هيَ تذري الدمعَ منها الأناملِ

عشية َ قالت في العتابِ قتلتني  ...   وقتلي بما قالت هناك تُحاوِلُ

فقلت لها جودي فقالت مجيبة ً   ...   ألَلجِدّ هذا منكَ أم أنتَ هازِلُ؟

لقد جعلَ الليلُ القصيرُ لنا بكم   ...   عليّ لروعاتِ الهوى يتطاولُ

     ولنُصَيْب:

جلستُ لها كيما تمُرّ لعلّني   ...   أُخالسها التسليم إن لن تسلِّمِ

فلما رأتني والوشاة تحدرت   ...   مدامعها خوفاً ولم تتكلّمِ

مساكين أهل العشق ما كنت أشتري   ...   حياة جميع العاشقين بدرهمِ

    فضحك وقال: قاتله الله ما أصيده للمقاتل! إن النسيب الرقيق كهذا لَهُوَ مما تهشُّ له النفس, ويعلق به القلب, ويسرع اليه الهوى. خذ هذه؛ قال الوليد بن زيدون الأندلسي في معنىً شائق:

تبكي فراقك عين أنت ناظرها   ...   قد لجّ في هجرها عن هجرك الوسنُ

أنت الحياة فإن يقدر فراقك لي   ...   فليحفر القبر أو فليحضر الكفنُ

     ولعمرو بن سعيد بن زيد:

أمن آل ليلى بالملا متربّعُ ... كما لاح وشمٌ في الذراع مرجّعُ

ظللتُ بروحاء الطريق كأنني ... أخو حيةٍ أوصالُه تتقطّع

وأتبع ليلى حيث سارت وخيمتْ ... وما للناسُ إلا آلفُ ومودعُ

    ولما أراد عبد الملك الخروج إلى قتال مصعب بن الزبير تعلقت به امرأته عاتكة, فبكت وأبكت جواريها, فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة_وهذه الدعوة يراد بها المدح عُرفاً_ إذ يقول:

إذا ما أراد الغزوَ لم يُثْنِ عزمَهُ   ...   حَصَانٌ عليها نظم درٍّ يزينُهَا

نهته فلما لم تر النهي عاقَهُ   ...   بكتْ فبكى مما دهاها قطينُهَا

 ولابن الأحنف وتأمل كيف نَحَتَهُ في جبل القريض فأضحى جميل المطلع حسن المقطع, هائل المعنى والمبنى:

والحُـبُّ أولُ ما يكون لجـاجـة   ...    تأتي به وتسوقه الأقـدارُ

حتى إذا اقتحم الفتى لُجَجَ الهوى   ...    جاءت أمورٌ لا تطاق كبارُ

    ودخلت عزة على أم البنين بنت عبد العزيز, وقيل سكينة بنت الحسين, فقالت: ما الحق الذي الذي مطلتيه كثيّراً إذ قال:

قضى كل ذي حقّ فوفّى حقوقه   ...   وعزّة ممطولٌ معنّى غريمُها

فقالت: وعدته قُبلة. فقالت: نَجِّزِيها وعلي إثمها! ثم إنها استغفرت وندمت.

وذو القلب الحزين وإن تعزى   ...   يُهيَّجُ حين يلقى العاشقينا

    يا صاحبي: إنه الحب القديم, والعشق العتيق, والغرام الدفين, نعم إنها علائق خلّة ونوازع مقة, تلتحم بها الأحشاء فيتشبث بها القلب وتمتزج بعلائق الكبد, لا تحول مدى الأيام ولا تزول طوال الليالي.

     ولْنذهب بخيالنا لبدويات أبي الطيب إذ يقول في تفضيل ظباء الأعرابيات على غزلان الحضريات:

ما أوجهُ الحضرِ المستحسناتِ بهِ ... كأوجهِ البدويَّاتِ الرَّعابيبِ

حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ

أين المعيزُ من الآرامِ ناظرةً ... وغير ناظرةٍ في الحُسنِ والطِّيبِ

أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرفنَ بها ... مضغ الكلام ولا صبغَ الحواجيبِ

ولا برزن من الحمَّام مائلةً ... أوراكهنَّ صقيلات العراقيبِ

    ومن بكائيات أبي تمّام العالية:

ومما ضرّم البُرَحاءَ أنّي   ...   شكوتُ وما شكوتُ إلى رحيمِ

أظن الدمع في خدي سيبقى   ...   رسوماً من بكائي في الرسومِ

    وقال أبو تمام ولله دره:

فأَجْرَى لَها الإشْفَاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً  ...   منَ الدمِ فوقَ خدٍّ مورّدِ

هيَ البدرُ يغنيها توددُ وجهها   ...  إلى كُل مَنْ لاقَتْ وإنْ لَمْ تَوَدَّدِ

    ثم قمنا فمشينا على الأقدام مع كل منّا عصاه التي لا تعصيه, وصاحبي يقول: ما هذا الحب الذي يُودِي بعبد الله بن عجلان النهدي لما رأى أثر كفّ محبوبته في ثوب زوجها إلى الموت؟! حقاً إن ابن آدم ضعيف. "وخلق الإنسان ضعيفاً" قال طاووس وغيره: أي في أمر النساء, ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء. وقال وكيع: يَذهب عقلُه عندهن. وقال سعيد بن المسيب: ما آيس الشيطان من بني آدم إلاّ أتاه من قِبل النساء، وقد أتى عليَّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ألا ترونني لا أقوم إلاّ رفداً, ولا آكل إلاّ ما لُوِّقَ لي, وقد مات صاحبي منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس!

    فهل ترى يا صاحبي أن الحب العفيف تؤججه الغريزة؟

    فأجبته: قسمة الحب ثلاثية, فثلث وَهْمٌ, وثلث شهوةٌ, وثلث حقيقة. لذا يذوي الحب عند النكاح, فالوهم ينقشع, والشهوة تبرد, وتبقى الحقيقة فيعيش بثلث حبِّه إن كان ثَمّ.

    ثم قال: ما أجمل ما في الأنثى؟ قلت: الحياء الحقيقي لا المصطنع, والخجل الذاتي لا المتكلف, وإن الرجال ليشمّون خجل الأنثى ويميزوه من أول وهلةٍ, فللفحول غريزتهم الرجولية التي نادراً ما تخطئ في هذا المضمار, وحياءُ بنات حواء درجات متفاوتة وعلى قدر حضوره في نفس الأنثى يعلوا قدرها, وتسموا روحها, وتستحق أن تُعشَق.

    وكانت على بعدٍ سدرة بريّة قد طرّ ورقُها, وجرى في العود ماؤها, فمضى إليها فتناول منها غصناً فشمه وأنشد رائعة جميل:

أيبكي حمام الأيك من فقد إِلْفِهِ   ...   وأصبر مالي عن بثينة من صبرِ

يقولون مسحورٌ يجنّ بذكرِها   ...   فأُقسمُ ما بي من جنونٍ ولا سحرِ

وأقسم لا أنساك ما ذَرَّ شارقٌ   ...   وما هبّ آلٌ في مُلَمَّعَةٍ قفرِ

وما لاح نجمٌ في السماء معلَّقٌ   ...   وما أورق الأغصان من ورق السدرِ

ذكرت مقامي ليلة البان قابضاً   ...   على كف حوراءِ المدامعِ كالبدرِ

فكدت ولم أملك إليها صبابةً   ...   أهيمُ وفاض الدمعُ منّي على النحرِ

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلةً   ...   كليلَتِنَا حتى نرى ساطع الفجرِ

تجودُ علينا بالحديث وتارةً   ...   تجود علينا بالرّضاب من الثغرِ

ولو سألتْ مني حياتي بذلتُها   ...   وجُدْتُ بها إن كان ذلك من أمري

    ثم قال: ولجميل كذلك وفيه وصف الصراع الإيماني والنفساني:

أُصَلّي فأبكي في الصلاةِ لذكرِهَا   ...   لي الويلُ مما يكتب الملكانِ

ضمنت لها ألّا أهيمَ بغيرِهَا   ...   وقد وثقت مني بغير ضمانِ

    وقال كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعي صاحب عزة بنت جميل المنافية القرشية:

الله يعلم لو أردتُ زيادةً   ...   في حب عزّة ما وجدت مزيداً

    وقال فيها وقد علقها صغيرة قال:

نظرة إليها نظرة وهي عاتق   ...   على حين إن شبّت وبانَ نهودُهَا

نظرت إليها نظرة ما يسرُّني   ...   بها حمر أنعام البلاد وسودُهَا

   ويا رفيقي: ألا ترى أن بعض النهي يولعُ في المنهي؟ كما قال أبو نواس:

دع عنك لومي فإن اللومَ إغراءُ   ...   وداوني بالتي كانت هي الداءُ

    وكما قال الأحوص:

وزادنَى كَلَفاً في الحُبِّ أنْ منعتْ ... وحَبُّ شيءٍ إلى الإِنسان ما مُنِعاَ

   ولم ينتظر جوابي فأتمّ كلامه الآنف قائلاً: آهٍ منك يا كثيّر حين قلتَ _والمحبوب مسبوب, وقد يُؤذَى من المِقَةِ الحبيبُ_:

يقولون سوداء العيون مريضة   ...   فأقبلتُ من أهلي إليها أعودُها

فو الله ما أدري إذا أنا جئتُهَا   ...   أَأُبرِئُهَا من دائها أمْ أزيدُها

إذا جئتُها وسط النساء منحتُهَا   ...   صدوداً كأن النفس ليس تريدُها

ولي نظرة بعد الصدود من الجوى    ...   كنظرةِ ثكلى قد أصيبَ وحيدُها

    ولكأنما هذه نبوءة قد تحقّقت حين رحلت حبيبته عزة للدار الآخرة, فوقف على قبرها ودموعه سواجمٌ على الوجنات, ولا غَرْوَ فقطع الأوصال أيسر من قطع الوصال, وقال:

وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِعَزّةَ نَاقَتي   ...   وفي البُرْدِ رَشّاشٌ من الدّمعِ يسفحُ

فَيَا عَزَّ أنْتِ البَدرُ قَد حالَ دونَهُ ... رَجيعُ التّرَابِ والصّفِيحُ المضرَّحُ

وقَد كنتُ أبكي مِن فِراقِكِ حِقبَةً ... فأنْتِ لَعَمْري اليوْمَ أنأى وأنزَحُ

فَهَلاّ فَداكِ الموتُ مَن أنتِ زَينُه ... ومَن هوَ أسْوا منكِ حالاً وأقبَحُ

ألا لا أرى بعد ابنَةِ النَّضرِ لَذّةً ... لِشيءٍ ولا مِلْحاً لِمَنْ يَتَمَلّحُ

فلا زالَ وادي رَمسِ عَزّةَ سائِلاً ... بِهِ نِعمَةٌ من رحمَةِ الله تسفَحُ

فإنّ التي أحبَبتُ قد حالَ دونها ... طوَالُ اللّيالي والضّريحُ المصَفَّحُ

أربَّ بِعَينَيَّ البُكا كُلَّ لَيلَةٍ ... فقَد كادَ مجْرَى دمع عيني يَقرَحُ

إذا لم يكُنْ ماءٌ تَحَلَّبَتَا دَماً ... وشرُّ البكاءِ المستَعادُ الممَنَّحُ

    ثم جلس صاحبي وجعل ظهره للشجرة, وكنتُ قد سبقتُهُ للجلوس على صخرة في ظل شجرته لمّا كان ينشد ما فات, ثم تنفّس الصعداء كأنما ينفث على سقيم, ثم اختلجت عيناه وشفتاه كأنما يرى طيفاً حنوناً ألمّ بروحه, ثم قال:

    من لطائف العشاق خبر قيس بن ذريح الخزاعي رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما, وقيس بن ذريح هو صاحب لبنى بنت الحباب الكعبية, وبعض الناس يخلط بينه وبين المجنون العامري. ولا تعجب من تردّدي عليهما كذلك جميل وكثير, فإني إذا لاحت لهم بروق مِقَةٍ أكون كما قال البحتري:

ذاك وادي الأراك فاحبس قليلاً   ...   مُقْصِراً في ملامتي أو مُطيلا

    قيسُ لُبْنَى, كان منزل قومه في ظاهر المدينة وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة وقيل: إن منزله كان بسَرِفٍ كما قال:

الحمد لله قد أمستْ مُجَاوِرةً ... أهلَ العَقيق وأمسَيْنا على سَرِفِ

    تزوج قيسٌ لُبْنَى فكانا على أحسن حال, ثم طلقها بعد عشر سنين لمّا أقسم عليه والده وألحّ. ولو عصاه فليس عليه شيء, فليس والده كأبي بكر حينما أمر ابنه بالتطليق, وبهذا أفتى الكثير من الأجلَّة, فزاد شغفه بها بعد طلاقها, فأنشد فيها غرره الماتعة وقصائده الرائقة.

      وكان أول أمرهما فيما يروون؛ أنه قد مَرَّ لبعض حاجته بخيام بني كعب بن خزاعة, فوقف على خيمة منها والحي خلوف, والخيمة خيمةُ لُبْنَى بنت الحباب الكعبية, فاستسقى ماءً فسقته وخرجت إليه به, وكانت امرأةٌ مديدة القامة, شهلاءٌ حلوة المنظر والكلام, فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء, فقالت له: أتنزل فتتبرد عندنا؟ قال: نعم, فنزل بهم وجاء أبوها فنحر له وأكرمه, فانصرف قيس وفي قلبه من لبنى حر لا يطفأ, فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع, ثم أتاها يوماً آخر وقد اشتد وجده بها فسلّم, فظهرت له وردت سلامه وتحفّت به, فشكا إليها ما يجد بها وما يلقى من حبها وشكت إليه مثل ذلك,  وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه.

    فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوّجه إياها فأبى عليه وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك, وكان ذريح كثير المال موسراً, فأحب ألا يخرج ابنه إلى غريبة, فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه أبوه به, فأتى أمه فشكا ذلك إليها واستعان بها على أبيه فلم يجد عندها ما يحب, فأتى الحسين بن علي بن أبي طالب وابن أبي عتيق فشكا إليهما ما به وما رد عليه أبوه, فقال له الحسين: أنا أكفيك, فمشى معه إلى أبي لبنى فلما بصر به أعظمه ووثب إليه وقال له: يا بن رسول الله, ما جاء بك, ألا بعثتَ إلي فأتيتك؟ قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك, وقد جئتك خاطباً ابنتك لبنى لقيس بن ذريح. فقال: يا ابن رسول الله ما كنا لنعصي لك أمراً, وما بنا عن الفتى رغبة, ولكن أحب الأمر إلينا أن يخطبها ذريح أبوه علينا, وأن يكون ذلك عن أمره, فإنا نخاف إن لم يسع أبوه في هذا أن يكون عاراً وسُبَّةً علينا. فأتى الحسين رضي الله عنه ذريحاً وقومه, وهم مجتمعون فقاموا إليه إعظاما له, وقالوا له مثل قول الخزاعيين, فقال لذريح أقسمت عليك إلا خطبت لبنى لابنك قيس. قال: السمع والطاعة لأمرك, فخرج معه في وجوه من قومه حتى أتوا لبنى فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها فزوّجه إياها وزفت إليه بعد ذلك.

     فأقامت معه مدة لا ينكر أحد من صاحبه شيئاً, وكان أبرّ الناس بأمه, فألهته لُبْنَى وعكوفه عليها عن بعض ذلك, فوجدتْ أمه في نفسها وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن برّي!

    ثم إن قيساً مرض مرضاً شديداً, فلما برأ من علته قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس وما يترك خلفاً, وقد حُرِمَ الولد من هذه المرأة, وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة فزوِّجْهُ بغيرها لعل الله أن يرزقه ولداً, وألحّت عليه في ذلك, فأمهل قيساً حتى إذا اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك ولا ولد لك ولا لي سواك, وهذه المرأة ليست بولود, فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يهب لك ولداً تقر به عينك وأعيننا. فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً, فقال له أبوه: فإن في مالي سعة فتسرَّ بالإماء, قال: ولا أسوءُها بشيء أبداً والله. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلّقتها! فأبى, وقال: الموت والله علي أسهل من ذلك, ولكني أخيرك خصلة من ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال تتزوج أنت فلعل الله أن يرزقك ولداً غيري. قال: فما فيّ فضلةٌ لذلك. قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي, واصنع ما كنت صانعاً لو مُتّ في علتي هذه. قال: ولا هذه. قال فَأَدَعُ لُبْنَى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها, فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة أنها في خيالي. قال: لا أرض أو تطلقها, وحلف لا يكنّهُ سقفُ بيت أبداً حتى يطلق لبنى. فكان يخرج فيقف في حر الشمس, ويجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصلَى هو بحرّ الشمس حتى يفيءَ الفيءُ فينصرف عنه, ويدخل إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه, وتقول له: يا قيس لا تطع أباك فتهلك وتهلكني. فيقول: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً. فيقال إنه مكث كذلك سنة حتى طلّقها, وقيل عشراً. كما قد قال قيس لزيد بن سليمان: هجرني أبواي في لبنى عشر سنين أستأذن عليهما فيرداني حتى طلقتها.

    وقال الحسين بن علي رضي الله عنهما فيما بعد لذريح أبي قيس: أَحَلَّ لك أن فرّقت بين قيس ولبنى؟! أما إني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرّقت بين الرجل وامرأته, أو مشيت إليهما بالسيف! _أي من الذنب_

    فلما انقضت عدتها وبانت بطلاقه إياها, أرسلت إلى أبيها ليحتملها وكان قيس يدخل عليها, فأقبل أبوها بهودج على ناقة, وبإبل تحمل أثاثها, فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها فقال: ويحك ما دهاني فيكم؟! فقالت: لا تسألني وسل لبنى, فذهب ليلم بخبائها فيسألها, فمنعه قومها, فأقبلت عليه امرأة من قومه فقالت له: ما لك ويحك تسأل, كأنك جاهل أو تتجاهل! هذه لبنى ترتحل الليلة أو غداً, فسقط مغشياً عليه لا يعقل ثم أفاق وهو يقول:

وإنّي لمُفْنٍ دمعَ عيْنيَ بالبكا ... حِذَارَ الذي قد كان أو هو كائنُ

وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراقُ حبيبٍ لم يَبِنْ وهو بائن

وما كنتُ أخشى أن تكون منيّتي ... بكفَّيْكِ إلاّ أنّ ما حان حائن

   ثم لم يلبث حتى استُطِيرَ عقلُهُ وذُهب به ولحقه مثل الجنون, وتذكّر لبنى وحالها معه, فأسف وجعل يبكي وينشج أحرّ نشيج. ويقول:

يقولون لُبْنَى فتنةٌ كنتَ قبلها ... بخيرٍ فلا تَنْدَمْ عليها وطلِّقِ

فطاوعتُ أعدائي وعاصيتُ ناصحي ... وأقررْتُ عين الشامت المُتخلِّقِ

وَدِدْتُ لعمر الله أنّي عَصَيْتُهم ... وحُمِّلت في رِضوانِها كلَّ مُوبِقِ

وكُلِّفتُ خوضَ البحر والبحر زاخرٌ ... أَبِيتُ على أثْبَاج موج مُغَرِّقِ

كأنّي أرى الناسَ المحبّين بعدها ... عُصارةَ ماء الحنظل المُتَفَلِّقِ

فتُنكر عيني بعدها كلَّ منظَرٍ ... ويكره سمعي بعدَها كلَّ منطقِ

    فلما ارتحل قومها وعلم أن أباها سيمنعه من المسير معها؛ وقف ينظر إليهم ويبكي حتى غابوا عن عينه, ثم كرَّ راجعاً, ونظر إلى أثر خف بعيرها فأكب عليه يقبله, ورجع يقبل موضع مجلسها, وأثر قدمها, فَلِيمَ على ذلك وعنّفه قومه على تقبيل التراب فقال مخاطباً خيال لُبنى:

وما أحببتُ أرضَكُم ولكن ... أُقَبِّل إثْر من وَطِئ التُّرابا

لقد لاقيتُ من كَلَفِي بلُبْنَى ... بَلاءً ما أُسِيغ به الشَّرابا

إذا نادى المنادي باسمِ لُبْنَى ... عَيِيتُ فما أُطيقُ له جوابا

     وقال وقد نظر إلى آثارها:

كأنِّي والِهٌ بفراق لُبْنَى ... تَهِيمُ بفقد واحدِها ثَكُولُ

ألاَ يا قلبُ وَيْحَكَ كن جَليداً ... فقد رحَلتْ وفات بها الذَّمِيل

فإنك لا تُطيق رجوعَ لُبنى ... إذا رحَلتْ وإن كثُر العَوِيلُ

وكَمْ قد عِشْتَ كَمْ بالقرب منها ... ولكنّ الفِراقَ هو السبيل

فصبراً كلُّ مؤتَلِفَيْنِ يوماً ... من الأيام عيشُهما يزول

    والذميلُ ضربٌ متوسطٌ من سير الإبل. فلما جنّ عليه الليل وانفرد وأوى إلى مضجعه لم يأخذه القرار, وجعل يتململ فيه تململ السليم _أي اللديغ, تفاؤلاً بسلامته_ ثم وثب حتى أتى موضع خبائها فجعل يتمرغ فيه ويبكي ويقول _وتأمل كيف يستذكر لياليهما الصريمة وهما بين نجوى واحتضان, فما أجمل هذا الإسقاط والاستعطاف والبوح!_:

بِتُّ والهَمُّ يالُبَيْنَى ضجيعي   ...   وجرت مُذْ نأيتِ عنِّي دموعي

وتنفَّستُ إذ ذكرتُك حتّى   ...   زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي

يا لبينى فداك نفسي وأهلي   ...   هل لدهر مضى لنا من رجوعِ

    ومما قال وسارت به النّوق لجلاله:

وكلُّ مُلِمّات الزمان وجدتُها ... سوى فُرْقةِ الأحباب هيِّنَةَ الخَطْبِ

    ثم ذهب لمضارب قومها عند مائهم, واحتال حتى لقيها فقالت له: يا هذا, إنك متعرّض لنفسك وفاضحي, فقال لها:

صدَعْتِ القلبَ ثم ذرَرْتِ فيه ... هواكِ فلِيمَ فالتأم الفُطورُ

تَغَلْغَلَ حيثُ لم يبلُغ شَرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرورُ

     وجعل قيس يعاتب نفسه في طاعته أباه في طلاقه لبنى ويقول:

وَيْلِي وعَوْلِي ومالي حين تُفلِتُني ... من بعد ما أحرزتْ كفّي بها الظَّفَرا

قد قال قلبي لطَرْفي وهو يعذُله ... هذا جزاؤك منّي فاكدِم الحجرا

قد كنتُ أنهاك عنها لو تُطاوِعُني ... فاصبِرْ فما لك فيها أجرُ من صبرا

    وقال في معارضة للامية كعب بن زهير المشهورة:

بانت لُبَيْنَى فأنتَ اليوم متبول ... والرأي عندك بعد الحزم مخبولُ

أستودِع اللهَ لُبْنَى إذ تفارقني ... بالرغم منّي وقولُ الشيخ مفعولُ

وقد أَرَاني بلبنى حقَّ مُقتنِعٍ ... والشملُ مجتمعٌ والحبل موصولُ

     وقال في إحدى لياليه:

قد قلتُ للقلب لا لُبْناك فاعتِرفِ ... واقضِ اللُّبَانةَ ما قضَّيْتَ وانصرِفِ

قد كنت أحلف جَهْداً لا أُفارقها ... أُفٍّ لكثرة ذاك القِيل والحَلِفِ

حتى تكنَّفني الواشون فافتُلِتتْ ... لا تأمَنَنْ أبداً من غشّ مُكتنِفِ

هيهات هيهات قد أمستْ مُجاوِرةً ... أهلَ العَقيق وأَمسيْنا على سَرِفِ

حيٌّ يَمَانُونَ والبَطْحاء منزلَنا ... هذا لَعْمرُك شملٌ غيرُ مؤتِلِفِ

     وأرسلت له أمه بنات يَعِبْنَ لبنى عنده لعلّه يسلوا, فأنشد وهو يرى وفود الحجيج والعمار داعياً ربه من ذلك الذنب الذي يراه قد محق حياته وهو طلاقه لبنى, ثم يذكر عيب أولئك لها قائلاً في بكائية حزينة تقطر دمعاً وتُسمِعُك وجيب الفؤاد وخفقانه في تأوهات الأبيات_وقد نُسبت القصيدة للمجنون, وهي أشبه به_:

دعا المحرمون الله يستغفرونه ... بمكة شعثاً كي تُمَحَّى ذ نوبُها

وناديتُ يا رحمن أوّل سؤلتي ... لنفسي لبنى ثم أنت حسيبُها

وإنْ أُعْطِ لُبنى فِي حَياتِي لَمْ يَتُبْ ... إلى اللّه عَبدٌ تَوْبَةً لاَ أَتوبُها

يَقَرُّ لعيني قربُها ويزيدُني   ...  بِها كَلَفاً مَنْ كانَ عِندِي يَعيبُها

وكم قائل قد قال تُبْ فعصيتُهُ ...  وَتِلْكَ لَعَمْري توبةٌ لا أتوبُها

وَمَا هَجرَتْكِ النَّفْسُ يا لَبْنُ أنَّها ... قَلَتْكِ وَلَكِنْ قَلَّ مِنْكِ نَصِيبُها

فيا نفس صبراً لستِ والله فاعلمي ...   بِأوَّلِ نَفْسٍ غابَ عَنْها حَبِيبُها

     فانصرفن عنه, فقال ناعياً نفسه لنفسه:

فإن يك تَهْيامي بلُبْنى غَوايَةً ... فقد يا ذَرِيحُ بن الحُبَاب غَوَيْتُ

فلا أنت ما أمَّلتَ فيّ رأيتَه ... ولا أنا لبنى والحياةَ حَوَيْتُ

فوَطِّنْ لهُلْكِي منك نفساً فإنّني ... كأنك بي قد يا ذَريحُ قَضَيْتُ

  فمرض واشتدّ سقمه, فسأل أبوه فتيات الحي أن يعُدنه ويحدثنه لعله أن يتسلى أو يعلق بعضهن, ففعلن ذلك, ودخل إليه طبيب ليداويه والفتيات معه فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه وأطلن السؤال عن سبب علته فقال:

عِيدَ قيسٌ من حبِّ لُبنى ولُبنى ... داءُ قيسٍ والحبُّ داءٌ شديدُ

وإذا عادني العوائدُ يوماً ... قالت العين لا أَرَى من أُريدُ

ليت لُبْنَى تَعُودني ثم أَقْضِي ... إنها لا تعود فيمن يعودُ

وَيْحَ قيسٍ لقد تضمَّن منها ... داءَ خَبْلٍ فالقلبُ منه عَميدُ

    فقال له الطبيب: منذ كم هذه العلة؟ ومتى وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال:

تعلَّقَ رُوحِي روحَها قبل خَلْقِنا ... ومن بعدِ ما كنَّا نِطافاً وفي المهدِ

فزاد كما زِدنا فأصبح نامياً ... وليس إذا مُتْنا بمُنْصَرِم العهدِ

ولكنَّه باقٍ على كلِّ حادثٍ ... وزائرُنا في ظُلْمة القبر واللَّحْدِ

     فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ والعيوب, فقال:

إذا عِبتُها شبَّهتُها البدرَ طالعاً ... وحَسْبُكَ من عيب لها شَبَهُ البدرِ

لقد فُضِّلتْ لبنى على الناس مثلَ ما ... على ألف شهر فُضِّلتْ ليلةُ القدرِ

    ودخل أبوه وهو يخاطب الطبيب بهذه المخاطبة فأنّبه ولامه, وقال له: يا بني اللهَ اللهَ في نفسك! فإنك ميت إن دمت على هذا فقال:

وفِي عُرْوةَ العُذْرِيّ إن متُّ أُسوةٌ ... وعمروِ بن عَجْلانَ الذي قتلتْ هندُ

وبي مثلُ ما ماتا به غيرَ أنني ... إلى أجلٍ لم يأتِني وقتُه بعدُ

هل الحبُّ إلاّ عَبْرةٌ بعد زَفْرةٍ ... وحَرٌّ على الأحشاء ليس له بَرْدُ

وفَيْضُ دموعٍ تَستهل إذا بدا ... لنا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو

    فلما طال على قيس ما به, أشار قومه على أبيه بأن يزوجه امرأة جميلة, لعله أن يسلو بها عن لبنى, فدعاه إلى ذلك فأباه وقال:

لقد خِفتُ ألاّ تَقْنَع النفسُ بعدها ... بشيءٍ من الدنيا وإن كان مَقْنَعا

وأزجُر عنها النفس إذ حيل دونها ... وتأبَى إليها النفسُ إلاّ تَطلُّعا

 فأعلمهم أبوه بما ردّ عليه, قالوا: فمره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم, فلعل عينه أن تقع على امرأة تعجبه, فأقسم عليه أبوه أن يفعل, فسار حتى نزل بحي من فزارة فرأى جارية حسناء قد حسرت برقع خز عن وجهها وهي كالبدر ليلة تَمِّهِ, فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: لبنى! فسقط على وجهه مغشياً عليه, فنضحت على وجهه ماء, وارتاعت لما عراه, ثم قالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح إنه لمجنون, فأفاق فنسبته فانتسب فقالت: قد علمتُ أنك قيس, ولكن نشدتك بالله إلا أصبت من طعامنا, وقدمت إليه طعاماً فأصاب منه بإصبعه وركب, فأتى على أثره أخٌ لها كان غائبا, فرأى مناخ ناقته, فسألهم عنه فأخبروه, فركب حتى رده إلى منزله, وحلف عليه ليقيمن عنده شهراً, فقال له: لقد شققت علي, ولكني سأتبع هواك, والفزاري يزداد إعجاباً بحديثه وعقله وروايته, فعرض عليه الصهر, فقال له: يا هذا إن فيك لرغبة, ولكني في شغل لا يُنتفع بي معه, فلم يزل يعاوده والحي يلومونه ويقولون له: قد خشينا أن يصير علينا فعلك سُبَّةً! فقال: دعوني ففي مثل هذا الفتى يرغب الكرام, فلم يزل به حتى أجابه وعقد الصهر بينه وبينه على أخته المسماة لُبنى, وقال له: أنا أسوق عنك صداقها, فقال: أنا والله يا أخي أكثر قومي مالاً, فما حاجتك إلى تكلّف هذا, أنا سائر إلى قومي وسائق إليها المهر ففعل, وأعلم أباه الذي كان منه, فسرّه وساق المهر عنه, ورجع إلى الفزاريين حتى أدخلت عليه زوجته فلم يروه هشَّ إليها ولا دنا منها ولا خاطبها بحرف ولا نظر إليها, وأقام على ذلك أياماً كثيرة, ثم أعلمهم أنه يريد الخروج إلى قومه أياماً, فأذنوا له في ذلك فمضى لوجهه إلى المدينة وكان له صديق من الأنصار بها فأتاه فأعلمه الأنصاري أن خبر تزويجه بلغ لبنى فغمها, وقالت: إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم.

     وقد كان أبوها شكا قيساً إلى معاوية وأعلمه تعرضه لها بعد الطلاق, فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرض لها وأمر أباها أن يزوجها رجلا يعرف بخالد بن حلزة. فلما زفّت إلى زوجها وعلم قيس جزع جزعاً شديداً وجعل ينشج أحر نشيج, ثم ركب من فوره حتى أتى محلة قومها فنادته النساء: ما تصنع الآن ها هنا؟ قد نقلت لبنى إلى زوجها, وجعل الفتيان يعارضونه بهذه المقالة وما أشبهها وهو لا يجيبهم حتى أتى موضع خبائها, فنزل عن راحلته وجعل يتمعّكُ في موضعها ويمرغ خده على ترابها ويبكي أحر بكاء ويقول:

إلى الله أشكو فَقْدَ لُبنى كما شكا ... إلى الله فقدَ الوالدَيْنِ يتيمُ

يتيمٌ جفاه الأقربون فجسمُه ... نَحيلٌ وعهدُ الوالدَيْن قديمُ

بكت دارُهم مِنْ نأيهم فتهلّلتْ ... دموعي فأيَّ الجازِعَيْنِ ألوم

أمُستعبِراً يبكي من الشوق والهوى ... أَمَ آخَر يبكي شَجْوَه ويَهِيم

تهيَّضَنِي من حبّ لُبْنَى علائقٌ ... وأصنافُ حبٍّ هَوْلُهن عظيمُ

أفي الحقِّ هذا أنّ قلبكِ فارغٌ ... صحيح وقلبي في هواكِ سَقيم

     وقال أيضا في رحيل لبنى عن وطنها وانتقالها إلى زوجها بالمدينة وهو مقيم في حيها وقد أفضى بأبياته لذكريات خاصة جداً:

بانت لُبَيْنَى فهاج القلبَ مَنْ بانا ... وكان ما وعدتْ مَطْلاً وَلَيّانَا

وأَخْلفتْك مُنًى قد كنتَ تأمُلها ... فأصبح القلبُ بعد البين حيرانا

الله يدري وما يدري به أحدٌ ... ماذا أُجَمْجِم من ذكراكِ أحيانا

يا أكملَ الناسِ من قَرْنٍ إلى قدمٍ ... وأحسنَ الناس ذا ثوبٍ وعُرْيانا

نعم الضَّجيعُ بُعَيْد النوم تَجْلُبه ... إليكَ ممتلئاً نوما ويَقْظانا

وقال بعد أن وجّهت له لبنى رسولاً تعلمه ما جرى من إباحة دمه إن تعرض لحيّها وتحذره, وبلغ أباه الخبر فعاتبه وتجهمه وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك, فقال:

فإن يَحْجُبوها أو يَحُلْ دون وصلها ... مقالةُ واشٍ أو وَعيدُ أميرِ

فلن يمنعوا عينيَّ من دائم البُكا ... ولن يُذهبوا ما قد أَجَنَّ ضميري

إلى الله أشكو ما أُلاَقِي من الهوى ... ومن حُرَقٍ تعتادني وزَفيرِ

ومن حَرَقٍ للحبّ في باطن الحشى ... وليلٍ طويلِ الحزن غيرِ قصيرِ

سأبكي على نفسي بعينٍ غزيرةٍ ... بكاءَ حَزينٍ في الوَثاق أسيرِ

وكنَّا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأَنْعَمِ حالَيْ غِبْطَةٍ وسرورِ

فما برِح الواشون حتى بَدَتْ لهم ... بطونُ الهوى مقلوبةً لظهورِ

لقد كنتِ حَسْبَ النفس لو دام وصلُنا ... ولكنَّما الدنيا متاعُ غرورِ

    وقال أيضاً وقد أزرى به اليأس, فاستروح ببعض العزاء _ونعوذ بالله من العشق وأحواله والجوى وأهواله_:

إن تك لُبْنَى قد أتى دون قربها ... حجابٌ منيعٌ ما إليه سبيلُ

فإنّ نسيم الجوّ يجمع بيننا ... ونُبصر قَرْنَ الشمس حين تزولُ

وأرواحنا باللَّيل في الحيّ تلتقي ... ونعلم أنّا بالنهار نَقيلُ

وتجمعنا الأرضُ القَرارُ وفوقنا ... سماء نرى فيها النجومَ تجولُ

إلى أن يعود الدهر سَلْماً وتنقضي ... تراتٌ بغاها عندنا وذُحولُ

     ثم حج قيس ابن ذريج واتفق أن حجت لبنى في تلك السنة فرآها ومعها امرأة من قومها فدهش وبقي واقفا مكانه ومضت لسبيلها, ثم أرسلت إليه بالمرأة تبلغه السلام وتسأله عن خبره فألفته جالسا وحده ينشد ويبكي:

ويومَ مِنًى أعرضتِ عنِّي فلم أقل ... بحاجة نفس عند لُبْنَى مقالُها

وفي اليأس للنفس المريضة راحةٌ ... إذا النفسُ رامت خُطَّةً لا تَنالُها

     فجعلت تحدثه عن لبنى ويحدثها عن نفسه ملياً ولم تعلمه أن لبنى أرسلتها إليه, فسألها أن تبلغها عنه السلام فامتنعت عليه فأنشأ يقول:

إذا طلعتْ شمسُ النهار فسلِّمي ... فآيةُ تسليمي عليكِ طلوعُها

بعشر تحيَّاتٍ إذا الشمسُ أَشْرقتْ ... وعشرٍ إذا اصفرَّتْ وحان رجوعُها

ولو أبلغتْها جارةٌ قوليَ اسلَمِي ... بكتْ جَزَعاً وارفَضَّ منها دموعُها

وبانَ الذي تُخْفِي من الوجد في الحَشَى ... إذا جاءها عنِّي حديث يَرُوعُها

    ثم إنه اعتل فقال لها أهلها: إنه عليل, وقد يموت في سفره هذا, فقالت لهم لتدفعهم عن نفسها: ما أراه إلا كاذباً فيما يدّعي ومتعللاً لا عليلاً, فبلغه ذلك فقال وهذه الأبيات من الغرر العربيّات:

تكاد بلادُ الله يا أُمَّ مَعْمَرٍ ... بما رحُبتْ يوماً عليّ تَضِيقُ

تكذِّبني بالودّ لُبْنَى وليتَها ... تُكَلَّف منِّي مثلَه فتذوقُ

تتوق إليكِ النفس ثم أَرُدُّها ... حياءً ومثلي بالحياء حَقيقُ

أَذُود سَوَامَ النفس عنكِ وما له ... على أحدٍ إلا عليك طريقُ

فإنِّي وإن حاولتِ صُرْمي وهِجْرتي ... عليك مِنَ أحداثِ الرَّدَى لشَفيقُ

ولم أرَ أيّاماً كأيّامنا التي ... مَرَرْنَ علينا والزمان أَنِيقُ

ووعدُكِ إيّانا ولو قلتِ عاجلٌ ... بعيدٌ كما قد تعلمين سَحِيقُ

وحدّثتني يا قلبُ أنك صابرٌ ... على البين من لُبْنَى فسوف تذوقُ

فمُتْ كَمَداً أو عِشْ سَقيماً فإنمَّا ... تكلِّفني ما لاَ أَرَاكَ تُطِيقُ

أطعتَ وُشَاةً لم يكن لك فيهمُ ... خليلٌ ولا جارٌ عليك شَفيقُ

فإن تك لمّا تَسْلُ عنها فإنّني ... بها مُغْرَمٌ صَبُّ الفؤاد مَشُوقُ

بلُبْنَى أُنادَى عند أوُل غَشْيَةٍ ... ويَثْنِي بها الدَّاعِي لها فأفِيقُ

شهِدتُ على نفسي بأنك غادةٌ ... رَدَاحٌ وأنّ الوجه منكِ عتيقُ

وأنكِ لا تَجزينَنِي بصَحابةٍ ... ولا أنا للهِجران منكِ مُطِيقُ

وأنكِ قسَّمتِ الفؤادَ فنصفُه ... رَهينٌ ونصفٌ في الحبال وَثيقُ

صَبُوحِي إذا ما ذَرَّتِ الشمسُ ذكركُم ... ولي ذكرُكم عند المَساء غَبُوقُ

إذا أنا عَزَّيتُ الهوى أو تركتُه ... أتتْ عَبَراتٌ بالدموع تَسُوقُ

كأنّ الهوى بين الحَيَازِيم والحَشَى ... وبين التَّرَاقِي واللَّهَاة حَرِيقُ

وأكتُم أسرارَ الهوى فأميتها ... إذا باح مَزَّاحٌ بهنّ بَرُوقُ

سعَى الدهرُ والواشون بيني وبينها ... فقُطّع حبلُ الوصل وهو وَثيقُ

هل الصبر إلا أن أَصُدَّ فلا أرَى ... بأرضِك إلاّ أن يكون طريقُ

    فلما قضى الناس حجهم وانصرفوا ازداد مرض قيس وهو في طريقه مرضاً شديداً أشفى منه على الموت, فلم يأته رسولها عائداً لأن قومها رأوه وعلموا به, فقال وقلبه ينفطر من الحزن, وكبده تنصدع من الشوق والصبابة:

ألُبْنَى لقد جَلَّتْ عليكِ مصيبتي ... غَدَاةَ غدٍ إذ حلَّ ما أتوقَّعُ

تُمنِّينَنِي نَيْلاً وتَلْوِينَني به ... فنفسي شوقاً كلَّ يوم تَقَطَّعُ

وقلبكِ قَطُّ ما يَليِن لما يَرى ... فواكبدي قد طال هذا التضرُّعُ

ألومُكِ في شأني وأنتِ مُلِيمةٌ ... لعَمْرِي وأَجْفَى للمحبِّ وأقطعُ

أخُبّرتِ أنّي فيكِ مَيّتُ حَسْرتي ... فما فاض من عينيكِ للوَجْد مَدْمَعُ

ولكن لعَمْرِي قد بكيتُكِ جاهداً ... وإن كان دائي كلُّه منك أجمعُ

صَبِيحةَ جاء العائداتُ يَعُدْنَنِي ... فظَلَّتْ عليَّ العائداتُ تَفَجَّعُ

فقائلةٌ جئنا إليه وقد قضَى ... وقائلةٌ لا بل تركْناه يَنْزِعُ

فما غَشِيتْ عينيكِ من ذاك عَبْرةٌ ... وعيني على ما بي بِذكْراكِ تدمَعُ

إذا أنتِ لم تَبْكِي عليّ جِنازةً ... لديكِ فلا تبكي غداً حين أُرفَعُ

     قال فبلغتها الأبيات فجزعت جزعاً شديداً وبكت بكاء كثيراً, ثم خرجت إليه ليلاً على موعد, فاعتذرت وقالت: إنما أُبقي عليك وأخشى أن تُقتل, فأنا أتحاماك لذلك, ولولا هذا لما افترقنا وودعته وانصرفت.

    ثم أرسلت له تسأله عن زواجه بالفزارية, فأقسم أنه لم يدن منها ولم يكشف لها ستراً, وأنه لو رآها مع نساء لما عرفها, ثم حمّل الرسول هذه القصيدة وهي على رويّ قصيدة المجنون "المؤنسة" ومنها:

أَلاَ حيِّ لُبْنَى اليومَ إن كنتَ غاديَا ... وأَلمِمْ بها من قبلِ أنْ لا تَلاَقِيَا

تَسَاقطُ نفسي حين ألقاكِ أنفُساً ... يَرِدْنَ فما يَصْدُرْنَ إلا صَوَادِيا

فإنْ أَحْيَ أو أهلِكْ فلستُ بزائلٍ ... لكم حافظاً ما بَلَّ ريقٌ لسانيا

أقول إذا نفسي من الوَجْد أَصْعدتْ ... بها زَفْرةٌ تعتادني هي ما هيا

وبين الحَشَى والنحرِ منِّي حرارةٌ ... ولوعةُ وجدٍ تترك القلب ساهيا

ألاَ ليت لُبْنَى لم تكن ليَ خُلَّةً ... ولم تَرَنِي لُبْنى ولم أدرِ ما هيا

خليليَّ مالي قد بَلِيتُ ولا أَرَى ... لُبَيْنَي على الهِجْران إلاّ كما هيا

جَزِعتُ عليها لو أَرى ليَ مَجْزَعاً ... وأفنيتُ دمعَ العين لو كان فانيا

حياتَك لا تُغْلَبْ عليها فإنه ... كفَى بالذي تَلْقَى لنفسِك ناهيا

تَمرّ الليالي والشهور ولا أَرَى ... وَلُوعِي بها يزداد إلاّ تماديا

فما عن نَوالٍ من لُبَيْنَى زيارتي ... ولا قِلّةُ الإِلمام أَن كنتُ قاليا

ولكنّها صَدَّتْ وحُمِّلتُ من هوىً ... لها ما يَؤود الشامخاتِ الرواسيا

    وقال في رقّة كرقّة هواء الجبال والماء الزلال:

ألاَ ليتَ أيّاماً مَضَيْن تعودُ ... فإن عُدْنَ يوماً إنني لسعيدُ

سَقَى دارَ لُبنى حيث حَلَّتْ وخَيَّمتْ ... من الأرض مُنْهَلُّ الغَمامِ رَعودُ

أعالج من نفسي بَقايا حُشاشةٍ ... على رَمَقٍ والعائداتُ تعودُ

فإنْ ذُكرتْ لُبْنَى هَشِشْتُ لذكرها ... كما هَشَّ للثدي الدَّرُورِ وَليدُ

أجيب بلُبنى مَنْ دعاني تَجَلُّداً ... وبي زَفَراتٌ تنجلي وتعودُ

تُعيد إلى روحي الحياةَ وإنني ... بنفسيَ لو عاينتني لأجودُ

سلاَ كُلُّ ذي شَجْوٍ علمتُ مكانَه ... وقلبي للبنى ما حَيِيتُ ودودُ

وقائلةٍ قد مات أو هو مَيِّتٌ ... ولِلنفس منِّي أن تَفيض رَصيدُ

أُعالِج من نفسي بقايا حُشاشةٍ ... على رَمَقٍ والعائداتُ تعودُ

    قال أحدهم أقبلت ذات يوم من الغابة, فلما كنت بالمذاذ إذا ربع حديث العهد بالساكن, وإذا رجل مجتمع في جانب ذلك الربع يبكي ويحدّث نفسه, فسلمت فلم يرد علي سلاماً, فقلت في نفسي: رجل ملتبس به, فوليت عنه فصاح بي بعد ساعة: وعليك السلام, هَلُمّ هَلُمّ إليّ يا صاحب السلام, فأتيته فقال: أما والله لقد فهمت سلامك, ولكني رجل مشترك اللب يضلّ عني أحياناً ثم يعود إليّ, فقلت: ومن أنت؟ قال قيس بن ذريح الليثي. قلت: صاحب لبنى؟ قال: صاحب لبنى لعمري وقتيلها. ثم أرسل عينيه كأنهما مزادتان, فما أنسى حسن قوله _وأظنه من آخر ما أنشد قبل وفاته رحمه الله وعفا عنه_: 

أبائنةٌ لبنى ولم تقطع المدى ... بوصلٍ ولا صرم فييأس طامعُ

قد كنتُ قبل اليوم خلوا وإنما ... تقسم بين الهالكين المصارعُ

ولولا رجاء القلب أن يعطف النوى ... لما حملته بينهنّ الأضالعُ

له وجبات أثر لبنى كأنها ... شقائق برق في السحاب لوامعُ

نهاري نهار الناس حتى إذا بدى ... لي الليل هزتني إليك المضاجعُ

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامعُ

إذا نحن أنفدنا البكاء عشية ... فموعدنا قرن من الشمس طالعُ

وللحب آيات تُبَيِّنُ للفتى ... شحوب وتبري من يديه الأشاجعُ

وما كل ما منَّيتَ نفسك خالياً ... تُلاقي ولا كل الذي أنت تابعُ

تداعت له الأحزان من كل وجهة ... فحن كما حن الطيور السواجعُ

كأن بلاد اللّه ما لم تكن بها ... وإن كان فيها الناس قفر بلاقعُ

هما بَرَّحَابي مُعْوِلَيْنِ كِلاهما ... فؤادٌ وعينٌ جفنُها الدَّهرَ دامعُ

وطار غراب البين وانشقّت العصا ... لبين كما شَقَّ الأديمَ الصواقعُ

ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أُحاذر من لبنى فهل أنت واقعُ

وأنك لو أبلغتها قِيلي اسلمي ... طوت حزناً وارفض منها المدامعُ

أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت كآت غيَّه وهو طائعُ

فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته عن يديك النوازعُ

فليس لأمر حاول اللّه جمعه ... مشتٍّ ولا ما فرّق اللّه جامعُ

كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها ... وإن تلقها فالقلب راض وقانعُ

فيا قلب خبرني إذا شطت النوى ... بلبنى وصدت عنك ما أنت صانعُ

أتصبر للبين المُشِتِّ مع الجوى ... أم أنت امرؤ ناسي الحياة فجازعُ

فما أنا إن بانت لُبينى بهاجع ... إذا ما استقلت بالنيام المضاجعُ

وكيف ينام المرء مستشعر الجوى ... ضجيع الأسى فيه نكاس روادعُ

فلا خير في الدنيا إذا لم تزورنا ... لبينى ولم يجمع لنا الشمل جامعُ

أليست لبينى تحت سقف يُكنِّها ... وإياي هذا إن نأت لي نافعُ

ويلبسنا الليل البهيم إذا دجا ... ونبصر ضوء الصبح والفجر ساطعُ

تطأ تحت رجليها بساطاً وبعضه ... أطأه برجلي ليس يطويه مانعُ

وافرح أن تمسي بخير وإن يكن ... بها الحدث العادي تَرُعْنِي الروائعُ

كأنك بدع لم تر الناس قبلها ... ولن يطلعنك الدهر فيمن يطالعُ

وقد كنت أبكي والنوى لا أظنه ... بنا وبكم لم ندر ما البين صانعُ

وأهجركم هجر البغيض وحبكم ... على كبدي منه كلوم صوادعُ

فوا كبدي من شدة الشوق والأسى ... ووا كبدي إني إلى اللّه راجعُ

وأعجل للإشفاق حتى يشفني ... مخافة شحط الدار والشمل جامعُ

واعمد للأرض التي من ورائكم ... لترجعني يوماً إليك الرواجعُ

فيا قلب صبراً واعترافاً لما ترى ... ويا حبها قَعْ بالذي أنت واقعُ

    ويذكرون أن قيساً استشفع بابن عتيق فمضى بالحسن والحسين إلى زوجها مستشفعاً بهما دون أن يعلمهما حاجته, فلما أعطاهما وعده طلب منه ابن عتيق أن يطلقها لقيس ففعل فتزوجها, وقيل_وهو المشهور_ بل ماتت في عدتها, فبكاها ثم مات بعدها بثلاث فدفن بجانبها.

    وقال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضاً، فاطلعت فإذا أبو السائب قابضاً على غراب يباع، قد أخذ طرف ردائه. وهو يقول للغراب: يقول لك ابن ذريح:

ألا يا غُرَابَ البَينِ قَد طرْتَ بالّذي ... أُحَاذِرُ من لُبنى فَهلْ أنتَ وَاقعُ

    ثم لا تقع، ويضربه بردائه والغراب يصيح! وفعل أبي السائب من الظرف لا التصديق, وهذا مثال على وشيجة الأدباء. وإلا فالتشاؤم هو من مخلَّفات الجاهلية التي هدمها الإسلام, وقد كان من أهل الجاهلية من لا يراها حقّاً كقول لبيد رضي الله عنه قبل إسلامه, ونُسبت لطرفة:

لعمرك ما تدري الطَّوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطَّير ما الله صانعُ

    وأبو عقيل لبيد العامري شاعر مفلّق حكيم, عركته الأيام وبرته الليالي حتى أفحل, فلمّا أسلم أشبع القرآن نهمته فترك الشعر وأقبل على كتاب الله, وحفظ القرآن كلّه, وهجر شعر حتى لم يرو له في الإسلام غير بيت واحد هو:

ما عاتب الحرَّ الكريم كنفسه  ...   والمرء يصلحه الجليسُ الصالحُ

     قال الشعبي: كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن اشتنشد من قبلك من شعراء قومك ما قالوا في الإسلام فأرسل إلى الأغلب العجلي فاستنشده فقال:

لقد سألتَ هيِّنا موجوداً ... أرجزاً تريد أم قصيداً

    ثم أرسل إلى لبيد فقال له: إن شئت مما عفا الله عنه يعني الجاهلية فعلت, قال: لا أنشدني ما قلت في الإسلام, فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة وقال أبدلني الله عز و جل بهذه في الإسلام مكان الشعر. وفي رواية: قد استغنيت بسورة البقرة, ولله أبوه ما أعقله وأبصره!

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق