إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

إنّهم أصحابه.. وكفى!


إنّهم أصحابه.. وكفى!
وقفةٌ يسيرةٌ في مقارنةٍ بين أصحاب محمدٍ وأصحاب موسى عليهما الصلاة والسلام في خشية الله بالغيب، وفي الجهاد:
ففي حفظ الله بالغيب: مَكَرَ اليهودُ واحتالوا في السبت طمعًا في الصيد؛ فمسخهم الله قردة. (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر). أما الصحابة المرضيون فإنّهم حين أحرموا؛ تركوا الصيد وهو بين أيديهم وفي متناولهم. (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب). قال مقاتل بن حيان: "أنزلت هذه الآية في عُمرة القضيّة الحديبية، وكان الوحشُ والطير والصيد يغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قطّ فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون، ليعلمَ الله من يخافه بالغيب، وليعلم من يطيعه في سره وجهره". (1) أي ليظهر علمُه في الغيب في عالم الشهادة.
 وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كنتُ يومًا جالسًا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزلٍ في طريق مكة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَمَامَنا، والقومُ مُحرمون وأنا غير مُحْرِم عام الحديبية، فأبصروا حمارًا وحشيًّا -وأنا مشغولٌ أخصفُ نعلي -فلم يؤذِنُوني، (2) وأحبّوا لو أنّي أبصرتُه. وفي رواية: فرأيتُ أصحابي يتراءون شيئًا. وفي رواية: يَضحكُ بعضُهم إلى بعض، فنطرتُ فإذا حمارٌ وحشيّ، فقمتُ إلى فرسي فأسرجتُه، ثم ركبتُ ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نُعينك عليه، فغضبتُ فنزلتُ فأخذتهما، ثم ركبتُ فشددتُ على الحمار فعقرتُه، ثم جئتُ به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه. ثم إنهم شكُّوا في أكلهم إياه وهم حُرُمٌ، فرُحنا، وخبأتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم العضدَ معي، فأدرَكْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك فقال لهم: "هل منكم أحدٌ أَمَرَهُ أن يحمل عليه، أو أشار إليه"؟ قالوا: لا، فقال: "كلوا ما بقي من لحمه، إنّما هي طعمة أطعمكموها الله، هو حلالٌ، هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم، فناولتُه العضدَ فأكَلها، (3) وهو محرم. (4)
أما في الجهاد في سبيل الله وحسن الأدب معه: فيكفينا ما حدّث به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدتُ من المقداد مشهدًا لَأن أكون أنا صاحبه أحبّ إلي مما عدل به: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: والله يا رسول الله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشرقُ لذلك، وسرّه بذلك. (5)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاورَ حيث بلغه إقبالُ أبي سفيان، قال: فتكلّم أبو بكر؛ فأعرض عنه، ثم تكلم عمر؛ فأعرض عنه، (6) فقال سعد بن عبادة: إيّانا يريدُ رسولَ الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخيضَها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بركِ الغماد لفعلنا". (7)
فلم يكن الله سبحانه ليختار لنبيه سوى صفوة أمته وخلاصتهم ممن سيحيطون به ويحملون رسالته ويصونون شريعته، فهم صحابته الذين مات وهو راضٍ عنهم واثقٌ بهم محبٌّ لهم. فلهم عند ربه مكارم خاصة بهم، لا يدانيهم لها أحدٌ من الأمة مهما علا كعب فضله، فقنطرتهم بعيدة المنال بل مستحيلة النوال؛ لأنّ سبب فضلهم قد انقطع عما بعدهم. ومن تأمّل سيرتهم؛ أيقن صدقيّة تفضيلهم، فلا كان ولا يكون مثلهم.
إنّهم أصحابه وكفى! اللهم ارض عنا معهم يا كريم.
إبراهيم الدميجي
30/ 12/ 1436
...............................................................................
(1) تفسير ابن كثير (3 / 193) وقد ذكر الحافظ ابن كثير عند تفسير هذه الآية خبرين فيهما عِبَرٌ تربوية عالية، فقد نقل بسنده عن ميمون بن مهران: «أنّ أعرابيًّا أتى أبا بكر قال: قتلت صيدًا وأنا محرم، فما ترى عليَّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر ؓ لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي: أتيتُك وأنت خليفةُ رسول الله ﷺ أسألك، فإذا أنت تسأل غيرَك؟ فقال أبو بكر: وما تُنكر؟ يقول الله تعالى: ﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ﴾ فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمرٍ أمرناك به». وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يُحتمل هاهنا. فبيّن له الصدّيقُ الحكمَ بِرِفْقٍ وتؤدة، لمَّا رآه أعرابيًّا جاهلًا، وإنما دواء الجهل التعليم، فأمّا إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم، فقد ذكر ابن جرير بسنده عن قبيصة بن جابر قال: «خرجنا حُجّاجًا، فكنّا إذا صلّينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدّث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي، فرماه رجلٌ كان معنا – وعند ابن أبي حاتم: وهو مُحْرِمٌ - بحجرٍ فما أخطأ خُشَّاءَهُ - وهو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن - فركب رَدْعَهُ ميتًا – أي خرَّ لوجهه على دَمِهِ - قال: فعظّمنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجتُ معه حتى أتينا عمر ؓ، قال: فقصّ عليه القصة قال: وإلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة – أي سِوارٌ من فضة ويعني عبد الرحمن بن عوف -فالتفت عمرُ إلى صاحبه فكلمه قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمّدت رميه، وما أردتُّ قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واسقِ إهابَها ــ أي تصدّق بجلدها لمن يدبغه ويستقي به، والإهاب هو الجلدُ قبل الدباغ ـــ.
قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عظِّم شعائر الله، فما دَرَى أميرُ المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه: اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: ﴿ يحكم به ذوا عدل منكم ﴾ ـــ وتأمل حماسةَ الشباب وطيشَ الإنكارِ بلا علم ـــــ قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدِّرَّةُ. قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدِّرّة، وجعل يقول: أقتلتَ في الحرم، وسفّهتَ الحُكْم؟ قال: ثم أقبل عليَّ فقلتُ: يا أمير المؤمنين، لا أُحلُّ لك اليوم شيئًا يحرم عليك منّي، - قال العلامة أحمد شاكر في هامش تحقيقه لتفسير الطبري (10 / 25): يعني أنّه لما أقبل عليه عمرُ وعرف أنه ضاربه كما ضرب صاحبه؛ رَهَّبَ عمرَ وأخافه بقوله: إنّه لن يحلّه من ضرب بشرةٍ هي عليه حرام إلا بحقّها. فلذلك هاب عمر أن يضربه كما ضرب صاحبه. فانظر إلى ما طُبعَ عليه أسلافنا من حريّة الطباع وما وَقَذَ الإسلامُ من عرامهم حتى كفّ عمر يده مخافة أن يصيب من أبشار المسلم حرامًا لا يحلّ له إلا بحقّه-.
قال عمر: يا قبيصة بن جابر، إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر، بيّنَ اللسان، وإنّ الشابَّ يكونُ فيه تسعةُ أخلاقٍ حسنة وخلقٌ سيئٌ، فيُفسدُ الخلقُ السيئُ الأخلاقَ الحسنةَ، فإيّاك وعثراتِ الشباب».
(2) أي لم ينبهوني ويخبروني عن الصيد.
(3) أكل منها تأكيدًا لحلّها، وقطعًا لوارد التأويلات.
(4) البخاري 4 / 29 (1824) ومسلم 2 / 854 (60 / 1196).
(5) أحمد (13296) ومسلم (2874).
(6) لأنهما من المهاجرين، وهنا قد أراد الأنصارَ لأجل بيعة العقبة، فقد كانت بيعتهم له ﷺ أن ينصروه في المدينة، لذلك أراد أن يطمئن لسماحةِ نفوسهم بنصره خارجها. وقد فهم المغزى النبويَّ سيّدُ الخزرج سعد بن عبادة ؓ فقام وقال تلك المقالة العظيمة المشكورة، والله أعلم.
وحبُّ الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق. وقد قال عمير بن وهب فيهم وفي المهاجرين لمّا أرسلته قريش؛ لينظر حال المسلمين ذلك اليوم: «ولكنّي قد رأيتُ يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع». قال حسان ؓ:
وإنكَ لن تلقى منَ الناسِ معشرًا          أعَــــــــــزَّ من الأنصَارِ عِزًّا وأفضَـــــــلا
(7) أحمد (13703) ومسلم (1779).

هناك تعليق واحد: