إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 20 يونيو 2014

مزالق تطبيقية في البصمة الوراثية D.N.A

مزالق تطبيقية في البصمة الوراثية D.N.A
الحمد لله, وبعد: فمن عيوب البشر – وهي من مزاياهم أحيانًا - محبتهم للتجديد والابتكار ومللهم من الرتابة والتكرار, فهي عيب إن جلبت السَّأم من أمر لا بد منه لصلاح الإنسان في دينه كالذكر والصلاة واجتناب الحرام ونحوها, أو في دنياه كفتوره وكَسَلِهِ في عمله وطلب رزقه ومصلحته ومن يعول, كما ملّت بنو إسرائيل المنّ والسّلوى للبقل والقثّاء.
وقد راعى الشارع الحكيم ذلك فنوّع العبادات من ناحية جنسها ونوعها وزمنها ومكانها وقدرها, وقسمها على القلب واللسان والجسد والمال, وجعل للجنّة أبوابًا ثمانية ينادى من اجتهد في عملٍ من بابه.
 ومتى أحسن الناس التعامل مع هذه الغريزة النفسانية فإنها تنقلب دافعًا للعمل ووقودًا للعزم وحاديًا للهمّة, كمن نوّع أذكاره أو جدّد طريقة صدقته أو نوّع سبيل طلبه للعلم أو التجارة ونحو ذلك.
يدخل الخلل من هذا الباب من جهة تداخل حب التجديد أو التنويع أو التبديل فيما لم يأذن به الله لحفظ دين الناس أو دنياهم, ومنه تحتّم مصلحة بقاء ما كان على ما كان. وهذا باب واسع في السياسة ووسائل الدعوة وغيرها ولا تكفي هذه الحروف لبسطها, والمراد ذكر شاهد بذلك وهو ما يسمى بالفحص الجيني D.N.A أو تحليل البصمة الوراثية أو الحمض النووي, وكل هذا فرع عن الهندسة الوراثية.
وهذا العلم جديد بكليّته, ومع أن المشتغلين به قد قطعوا شوطًا بعيدًا فيه, وثبتت لهم فيه أقدام, وصارت بعض نظرياته قطعيات؛ إلا أن لكل جديد فورة وشِرَّةٌ ولأهله صولة وعجلة, حريّ بأهل الإسلام منهم أن يتأملوا وقع أقدامهم في خوضه حتى لا يزيغوا, وأن يتفقهوا في حدود الله فيه حتى لا يَضلّوا ويُضلّوا, فما من أمر في هذه الدنيا إلا ولله فيه علم وحكمة وحُكم. فلم يخلقنا سدى ولم يتركنا هملًا. "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
إن هذا العلم متعلق بجهة إثبات الأصل النَّسَبي وإعادة الفرع له سواء كان هذا الفرع شخصًا يراد ردّه لسلالة آبائه وإن بَعُدوا جدًّا, أو كان المراد رد الفرع الأصغر وهو الخلية البشرية سواء أخذت من دم أو شَعر أو لعاب ونحوه فيعاد هذا لأصله وهو الشخص الواحد المعني به, وهذا نافع جدًّا في أدلّة إثبات الجرائم وإقامة القرائن في الطب الشرعي ونحوه.
ولا بد هنا من استشعار أن أدلة البصمة الوراثية تكون ظنية لا قطعية من جهة احتمال تعرض التحليل لأخطاء بشرية أو مخبرية، كاختلاط العيّنات أو إبدالها سهوًا أو عمدًا وغير ذلك.
إذن فهذا العلم الجديد له جانبان:
الأول مباح بل ممدوح: وهو ما ساعد في إحقاق حق شرعي وإبطال باطل, فمن ذلك: مسائل الطب الشرعي والجنائي, كما أن الفحص الجيني يحل محل القيافة بل هو أضبط منها. ومن المهمات بيان أن القيافة إنما يلجأ إليها لفرز حالة فردية تنازع عليها أكثر من طرف, وليست لفرز حالات جماعية والكشف عن نسب قبائل بأسرها.
إذن فمجال جواز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب محصور في حالات التنازع على مجهول النسب، سواء أكان بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه. كذلك في حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات أو مراكز رعاية الأطفال أو أطفال الأنابيب ونحو ذلك. كذلك حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف علي هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين ونحو ذلك. وبهذا صدرت فتوى المجمع الفقهي الإسلامي.
الثاني ممنوع: وهو ما ينادي به بعض الناس من إبدال الطرائق النَّسَبِيِّة الشرعية به, فيرُدُّون النسب بإطلاق للماء وليس للفراش, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسم المسألة بقوله: "الولد للفراش" فمتى كانت المرأة فراشًا للرجل فأولادها ينسبون له شرعًا, لذلك لا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، كما لا يجوز تقديمها على اللعان فالقرآن قد حسم المسألة في سورة النور.
 وتأمل حال أحدهم حينما أراد إلحاق ابنه العشريني معه في أمريكا, فاشترطت السفارة البصمة الوراثية, فتبين أنه ليس من مائه, فحدثت بسببها كوارث لم ترقأ حتى اللحظة, وأترعوا كأسَهُ تعاسةً وصدرَهُ همًّا!
ومن جدير التنبيه: أن الشريعة تراعي كل قضية من جميع جوانبها بدون إغفال أو ميل, لذلك فإثبات النسب يُكتفى فيه بالاستفاضة وعدم نفي المنسوب إليه الولد, فهذه هي الجادة وهي الأصل, أما غيرها فهو الاستثناء ومن أفراده الاشتباه والاحتياط, ومن ذلك احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ذلك المنسوب المتنازع عليه, فبعد حكمِهِ بأن الولد للفراش نظر لشبهه الشديد بالآخر فقال: "واحتجبي منه يا سودة" وهذا من باب الاحتياط للطرفين, فالحُكم لنَسَبيّة من وُلد على الفراش كان على الأصل, أما الحجاب فكان على الاحتياط. ويُلحق بهذا الرضاع المشكوك في عدده فيحتاط له من الجهتين فلا زواج ولا محرمية.
 ومهما يكن من أمر فلا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، وما يفعله بعض أهل الطيش باشتراط فحص البصمة له عواقب وخيمة ليست على الأفراد فقط بل على قبائل بأسرها, ولنوضح الصورة بمثال كاشف:
 فعند أرباب البصمة أن النسب العربي محصور في بضع نتائج لا يخرج عنها بموجب فحص عينات فردية عشوائية ليست استغراقية ولا أغلبية لا زمانًا ولا مكانًا, فإذا وجد شخص في الهند أو بريطانيا يحمل ذلك الجين حكموا بعروبته رأسًا حتى وإن كان لم يسمع بالعرب ولا لسانهم ولا موطنهم لا في حياته فحسب بل بعدة أجيال سابقة له! وهذه معضلة لن يستطيعوا الفكاك منها لأن اللغة والموطن معتبران في الحكم, وتأمل عكس ذلك يظهر لك المراد, فلو أن إنسانًا أو جماعة نزحت لجزيرة العرب قبل أربعة آلاف سنة أو أكثر ولم يخرجوا منها وتكلموا لسانها وتطبّعوا وسادوا, ثم تبيّن أن حمضهم النووي مخالف للجين السائد فهل يمكن بحال نفي عروبتهم؟! ولا تعجب فقد نشر بعض الناس مثل هذه الألغام المدمّرة للنسيج المجتمعي, فالعرف الصحيح السائد هو أن العربي هو من كان من نسلٍ قد درج في أرض العرب لبضعة أجيال وتكلم لغتهم وتطبع بطبائعهم ويكفيه ذلك. أما ضده فهو الأعجمي – ولاحظ اعتبار اللغة من الإعجام والإعراب -.
ومن فروع ذلك: انتساب الفخذ القبلي لجذمه, فما عدّه الناس وتعارفوا عليه واشتهر بينهم بلا نكير أن هذا البطن من تلك القبيلة فهو المعتبر, فالشيوع والمواضعة والاشتهار هي مأرِزُ قبول النسب وآخِيّتُه وليس الحمض النووي بحال.  
وتأمل ما لو أن رجلًا قبل ألف سنة حالف قبيلةً ثم انتسب إليها وأحفاد أحفاده ثم ظهر التحليل اليومَ مخالفًا! بل لو أن امرأة ما قبل مئات السنين أدخلت على زوجها ما ليس منه – لشبهة أو خطأ أو إكراه أو ذنب - ولحق به لأنه ولد على فراشه شرعًا, ثم تناسلت أجيال وبطون وقبائل من ذلك الإنسان, ثم أظهرت البصمة نفي أولئك, فما ذنبهم في أمر قد حسمه الشرع بنسبتهم لأبيهم الشرعي دون صاحب البصمة؟!
 وبالجملة؛ فالشرع قد اكتفى بالاستفاضة والاشتهار بلا نكير, وحَكَمَ للفراش لا للبصمة, فحكمهما غير متفقين على الدوام فلينتبه, إذ مناط الشرع الفراش ومناط البصمة الجينات.
لقد راعت الشريعة تكوين محضن آمن صالح للإنسان ليقوم بتحقيق العبودية لربه – وهي غاية الخليقة - لذلك فقد تشنّفت للوئام بين الناس واجتماعهم, وتوسّعت في إثبات النسب وتسامحت فيه، فاكتفت بقبول الشهادة فيه على الاستفاضة، فلا يُطالب بدليل خارجي إذا كان هناك إقرار ما دام واقع الحال لا ينافيه, وعقدت الشريعة معاونات خاصة بين القرابات كتحمل العاقلة للدية والأمر بصلة الرحم ونحو ذلك, فالنسب وسيلة لا غاية, فهو وسيلة لإقامة العبودية بإحسان الاستخلاف الأرضي.
 وحتى لا تختلط الأنساب فقد حمت العرض وشددت في الفاحشة وطالبت بحفظ الأنساب. ولكل شيء قدره الذي لا ينبغي الإيغال والتجاوز والتشديد فيه, فيكفي المؤمن أن يعلم من نسبه ما يصل به رحمه ثم لينته, وليحذر من التفاخر بنسبه أو نبز الناس بأنسابهم أو طعنهم فيها فكلّ ذلك عفنٌ جاهلي, وليعلم أن إبليس هو أول مفاخر بأصله حينما قال: "أنا خير منه".
وفي المقابل فقد شدّد الشرع في الانتساب لغير الأب – ومن ذلك الانتساب لقبيلة وهو يعلم أنه ليس منها -  فعند الشيخين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام".
ومضة: أعجبني جواب ذلك اللوذعي حينما سئل عن أصله فقال: من طين.
إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

الخميس، 12 يونيو 2014

التبشير الليبرالي بالدولة السعودية الرابعة.. ماذا وراء الأَكَمَة؟


التبشير الليبرالي بالدولة السعودية الرابعة.. ماذا وراء الأَكَمَة؟
الحمد لله وبعد: فيُطلق مسمى الدولة السعودية الرابعة ويراد به واحد من أمرين: الأول قطيعة زمانية كما حدث مع الدولتين – المرحلتين - الأولى والثانية, ولكن هذا – منطقيًّا - غير مراد هنا لأننا لازلنا في ظل الثالثة ولم تنقطع بعد! فلم يبق إذن سوى القصد الثاني وهو: القطيعة المنهجية عقديًا وفكريًّا وأخلاقيًّا مع الدولة الثالثة, فهذا هو مرادهم وأمنيتهم, وقد ألمح منظروهم لذلك كثيرًا وصرّحوا تارات. وبالطبع فهذه القطيعة سيعقبها - في أذهانهم - قطع الصلة بسلطة الأسرة الحاكمة عبر مرحلتين:
 الأولى: بردّها لتكون ملكيّة تشريفية بلا سلطان ولا قيادة.
 الثانية: عبر هدم المؤسسة السياسية كليًّا وبناء هيكل سياسي وثقافي وقيمي ليبرالي جديد لا يمت بصلة لما سبقه!
لذلك فمسماها الذي وضعوه (السعودية الرابعة) لا يعدو أن يكن رمادًا للعيون القلقة والعقول المترقبة, فلا خير في فتنتهم هذه, فلا دين محفوظ ولا دنيا صالحة.
يا سادة: المسألة ليست إشارت بعيدة من هنا وهناك استدعاها الذهن المتوجس وأكمل فراغاتها بخياله, كلّا بل إن دخان الفتنة راء للعيان, ومن له أذنان فليسمع!
خطورة ذلك في التالي:
1-   أن هذا الفكر يستبطن فكرًا ثقافيًّا دخيلًا على أمة الإسلام, ويقوم على تراث وأصول غربية المنشأ والنتاج, وثمارها خلاف غاية الخلق الإنساني "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" 
2-   أن سنن الله لا تتخلّف, وإن تأخّر وقوعها في نظرنا القاصر المقصّر فهو راجع إلى أسباب لم تكتمل أو موانع لم تزل, وكلٌّ بقدر الله وحكمته. "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" وبالمقابل في الطرفين: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إن خيرًا بخير منه أو شرًّا بعاقبته. ويا قوم: الوَحا فليس كل برقٍ خلّب!
3-   أن البناء القائم هو الأصلح للسلم الاجتماعي والرفاه الشعبي إن تم ضبطه بمعايير شرعية صحيحة وأيدي صادقة مخلصة.
وهنا ننبه لأمر مهم وهو أنهم في ابتداء مطالبهم لا يكثرون الحديث فيما يغضب السواد الأعظم للشعب عليهم من النداء بتنحية الشريعة والإلزام بالتغريب الثقافي والسلوكي, فهذا وإن كان هدفًا حاضرًا واضحًا لديهم إلا أنهم يرون أن من الصالح لهم تأجيل الحديث فيه ريثما يرون قابلية الساحة لذلك (الوباء) أما المرحلة الراهنة فهي الكلام العام المجمل عن الحقوق والحريات ونحوها بطريقة رمادية حمّالةَ أوجه, فيلقون كلامًا يقوله الصِّدِّيق والزنديق, بلا تفصيل وإيضاح إلا لما لا بد منه لاختراق لُحمة الشعب وسُداه, ويأبى الله إلا أن تخرج من أفواههم من حين لآخر فلتات محرجة فاضحة.
4-   الديمقراطية فاسدة على مر العصور, وإن كانت في زمننا قد أصلحت كثيرًا من عيوبها, بل قد فاقت - بكل مرارة - كثيرًا من تطبيقات المسلمين! وليس العيب في الإسلام, إنما في الانحراف عنه, فكثيرٌ مما نراه هي نماذج مشوّهة لشرعته. أما الديمقراطيات الحديثة فإنها - وإن أصلحت جانبًا من الدنيا - فأنّا لها إصلاح الدين, فأساسها الذين تقوم عليه هو المادية المطلقة. وهذا أمر لا بد أن يكون واضحًا بين عيني كل من يعاني أمر السياسات وفقه المقارنة بينها.
إن المتتبع لحال دول العالم عبر التاريخ يرى أن كثيرها قد تأرجح - في متوالية حقيقة بالدراسة والتعجب - بين استبداد مطلق ألجركي أو فردي شمولي ديكتاتوري وديمقراطية بحرية شبه فوضوية. فالأول يثمر الأمن والسلم مع خنق الحريات وسلب الحقوق, والثاني بضده حلاوة ومرارة, أما الإسلام فقد جمع حسنتيهما في نظام متسق فريد "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"
وملاك القول أن هؤلاء الذين يبشرون بالدولة الرابعة لا بد أن لهم إيحاء وتوجيه من الشرق أو الغرب ممن يرومون إبدال الدولة من جذورها بما فيها هيكل الأسرة الحاكمة, وتنفيذ هذا في العادة يكون تاليًا للمرحلة الاولى في حالة نجاح تلك المرحلة وإلا كان هو الأول وهي تالية له. 
والشعب بأغلبية ساحقة مؤمن سلفي بالفطرة, ويحب السكينة والطمأنينة, ويكره تغير الحال واضطراب الأمن, وكلما رفع أحد عقيرته بالتغيير صاح به الشعب من كل جانب قائلا بلا مثنوية: قد بايعنا هؤلاء على الكتاب والسنة فلن يكون الانتقاض من جهتتا, فمن وفى وفينا له, ومن نقض فعلى نفسه, فالقضية قضية دين وآخرة قبل أن تكون حظوظ دنيا.
ومضة: من أسباب نشر معتقد أهل السنة والجماعة في العالم الرفاه المالي الذي امتن الله به على الدولتين السعوديتين الأولى والثالثة فالمال رافد مهم للدعوة إلى الله سواء بالكتب أو الدعاة.
إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

الجمعة، 6 يونيو 2014

حينما تخنق الفروع أصلها, وتمنع الوسائل غايتها!

حينما تخنق الفروع أصلها, وتمنع الوسائل غايتها!

الحمد لله, وبعد: فمن ألف باء فهم المسائل حسن التصور لها إجمالاً, أما تحقيق حدود التفاصيل فهو ميدان اختلاف الرأي, وفي دائرته يكون السجال مؤيدًا بالبراهين.
كمسلمين لدينا كلية مطلقة لا تقبل الجدل والتمحّك, ولا الضبابية والتمحّل, تلك هي محورية تحقيق العبادة لله جل وعلا.
فهذا القدر الكلي مجمع عليه, لذا فمنه المنطلق في الحوار وإليه العود في الترجيح.
فموضوع الغاية من الخلق محسوم بآية الذاريات, إنما الشقاق يكون بالقفز الفكري أو الشعوري خارجه! لذلك فطريقة القرآن هي رد الناس إلى هذه الغاية مهما تلونت سبلهم وأسبابهم, فيستحيل أن يتعدد الحق في نفسه, إذن فلا بد من مرجعية مهيمنة وحاسمة, تلك بلا تردد هي حاكميّة الوحي المنزل.
دعونا نقف على أمثلة متنوعة الألوان والرسوم حتى ندرك خداع النفس الأمارة لصاحبها حينما تتلفع له بقناع النصح والوداد المُخفي لما تحته من وجه الحقيقة الآثمة!
ثَمّ خمسة أمثلة, الأول: مثال الفقيه المبرّر بليّ أعناق النصوص لما يراه من تقديم مصلحة دنيا الناس على دينهم بتضخيم جانب أمن الجسد على أمن الديانة.
فحينما يتوسع الفقيه في منطق تسويغ فعل السياسي خارج حدود المقبول, وينشغل بترقيع خَللِ السياسي في مقابل تضخيم خوف المآلات بحجة - أو شبهة – دفع ورفع الفتن المتوهّمة, فنحن هنا أمام مثال لتقزيم الأصل وهو تحقيق العبادة لرب العالمين في سبيل حفظ دنيا لفرد أو جماعة.  وكم من مبطل  بلباس ناصح!
 ولا نعني بذلك إلغاء القصد النبيل للفقيه, فهو أمر قد جاءت به الشريعة وعظّمت شأنه, فلا يقوم الدين إلا بدنيا صالحة, والتاريخ شاهد صدق, إنما المطلوب أن يُحجّم الأمر بقدره الشرعي فلا يكون هو الأصل دون تحقيق العبادة لله.
وللتوضيح نقول: تحقيق العبودية عبادة محضة ومحور لا يقبل التجزئة, أما غير ذلك فهي وسائل لتحقيقها لا غير, فهذه الوسائل ملحقة بالعبادات من جهة أنها تفضي إليها لا أنها هي.
 قال تعالى: "والفتنة أشد من القتل" فالفتنة حينما تصرف عن الأصل الأعظم وهو الإيمان فهي بلا ريب أشد من قتل يُتلف الجسد وتبقى بعده حياة الإيمان. وفرض الوقت هو أن تُحفظ العبادات ووسائلها بحيث لا تنقلب الوسيلة غاية ولا الفرع أصلًا, وبالمقابل لا يجوز أن تُلغى الوسيلة بحيث لا يبقى للمرء بعدها لغايته وصول.
فحاكم الشام – على سبيل المثال لا الحصر – قد بدّل الدين وغيّر الملة وحارب الشريعة, فليس من الحكمة الشرعية في شيء أن يؤمر الناس بمسالمته وهو يظنون أنهم قادرون على إبداله بالصالح في الدين والدنيا.
الثاني: الغيور المنكِر المتحمس الذي ترتاح نفسه للّجَجِ والخصام, والعجلة, والبداءة بالتغيير بسلاطة اللسان وسوء الظن وتفتيش النيات وكشف العورات والفرح – عمليًّا – بالزلات, ونشر المنكرات وإشاعتها بقصد حربها وكسرها, والتساهل في اتهام أهل العلم والفضل بالتقصير في القيام بأمر الدين, ووصمهم بالمداهنة وبيع الآخرة نظير عمالةٍ من سلطان.. ونحو ذلك مما قد كُفيه ولم يكلّف به, ولكن أبت عثرتُه إلا أن تُكرعه حمأة البغي!
وقد يزيد هذا العَجولُ بلا علم ولا حلم فينكر باليد ما ليس تحت يده ومما ليس مأذونًا له فيه, وقد يستطيل بغيًا فيستطيب إشهار السيف على من حرّم الله في سبيل إقامة أمنيةٍ لا يراها خارج جمجته الحيرى! فيفرح بدرس نواقض الإسلام دون درس موانع التكفير بل يرعيها أذنًا صماء, فيكتفي بالأولى ليركض بها في نكيره, ويتعمّد الإغماض عن الثانية لأنها تقيد حريّة طيشه! ويكأنما نسيَ أن شارع الأولى والثانية واحد. وكم من مريدٍ للخير لم يبلغْه, وكم من كارثة لا ترقؤها الأيام ابتدأها من يظن فعلَه صالحًا! "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"
يا صاحبي: إنكار المنكر فرض على الأعيان أو الكفايات بحسب الأحوال, فاحرص على اعتدال رمّانة ميزانك بلا وكس ولا شطط, فلا تقعد عن إنكارٍ مشروع, ولا تتخوض مالم تأمرك به الشريعة.
الثالث: الداعي إلى سبيل ربه ولكن عبر التوسع فيما يراه وسيلة جاذبة للناس للخير الذي يدعوهم إليه, فيركب المشتبه, ويتوسع فيما اختُلف فيه, وينسلخ من ضوابط من أجازوا له ما هوي مرحلة بعد أخرى حتى تظهر عورة منهجه بعد سقوط آخر ورقة للتوت ولو من غيره ممن استنّوا طريقته, بل َربّما عصى ربه في سبيل طاعته! والله طيب لا يقبل إلا طيبًا, ولم يجعل هداية خلقه وطبّ قلوبهم وأجسادهم فيما حرّم عليهم, وليس كل طريقٍ للحق موصلٌ وإن نبل هدف سالكيه.
فقف إذن حيث وقف سلفُك الصالح, فإنهم عن علم وورع وحكمة وتوفيق كفّوا "فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون"
الرابع: المرء مع أسرته من زوج وذرية, فيسعى لأن يملأ أعمارهم بهجة وسرورًا, ويتذكر فصول الحب وحسن المعشر والرحمة والكرم ونحوها, ولكنه في غفلة هائلة عن النصح الحقيقي والشفقة التامة والحب الصادق الذي يفضي به إلى أن يأخذ بأيدهم إلى رضوان الله والجنة.
جميل جدًّا أن ترسم الضحكة والبسمة على محياهم شريطة أن تعمل على أن يستمر هذا معهم بعد رحيلهم عن هذه الدار الصغيرة الزائلة, فاعمل على رسم الهدف النهائي الأخروي وصِلْهُ بمباهج الدنيا التي لا تحلو أصلًا إلا مع طاعة الله. فإن رأيت فرعًا أمَّارًا بالسوء فاهتف به: "والآخرة خير وأبقى" "ورزق ربك خير وأبقى"
الخامس: المؤمن مع نفسه في حال زجرها أو إكرامها, فمن شق عليها بأطرِها على مسير لم تؤمر به, ولم يرفق بها في طريقٍ صالحٍ حتى كلّته وملّته, فحبس غريزته تأثّمًا دون إفراغها فيما سخّر لها خالقها من المباح, أو أطلقها حول الحمى, ثم أولجها الحمى, حتى إذا طرقت الحرام وألِفت العصيان لم يسمع لنداء الإيمان في قلبه ركزًا!
 وكما أن الإيمان لا يصح دون علم؛ فكذلك العلم لا ينفع دون إيمان, وتأمل كيف جمعهما ربنا بقوله: "قال الذين أوتوا العلم والإيمان"  
فإحسان العبادة غاية الصدّيقين, والرفق بالنفس مع الحزم معها وسيلة تحقيق هذا المقصد الأعلى بإذن ربنا الأعلى, ومتى طغت الوسيلة على الغاية هلكت الراحلة والراحل, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
ومضة: ضع يدك على فؤادك ثم اسأله: أي فؤادي، متى خفقتك الأخيرة؟!
اللهم اجعلها على الإيمان.
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
8/8/ 1435

aldumaiji@gmail.com