إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 22 يوليو 2019

رُباعيةُ الفَلاحِ


رُباعيةُ الفَلاحِ
الحمد لله وبعد؛ فإن نعمة الذكاء قدر زائد على نعمة العقل، فالعقل هو إدراك المجملات وغالب التفصيلات ونوع نفوذ لحقائقها، فيجمع المتماثلات ويُفرّق المختلفات، ويدرك المآلات إجمالًا، أما الذكاء فهو نفوذ خاص في حقائق المشكلات، وجمع شامل للمُتَشتِّتات، وتحليل يفضي به لحلّ المعضلات، وربط وتحليل وحفظ وإبداع وإنشاء وسبق في نوع أو أنواع من الأفكار والأحداث ونحو ذلك. لذا كانت النعمة به أخص على من شاء الكريم إكرامه به ابتداء وابتلاءه وتكليفه وامتحانه انتهاءً، فالذكاء مفتقر لزكاء، وكلاهما مفتقر لتوفيق الله تعالى، فالذكاء بلا زكاء وبالٌ وخيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعليه؛ فإنّ رباعية الفلاح – فاعلم – هي: سلامة القلب، وقوّة الإرادة، وصحّة العلم والذكاء. فسلامة القلب وقوة الإرادة وصحّة العلم عليها المعوّل بإذن الله تعالى، أما العقل فيكفي في مناط تكليفه تمييز الخير من الشر. فالقلب هو موضع نظر الرب جل وعلا، فأهمّ المهمات صلاحُه وطيبه ونقاء موارده حتى يكون نقيًّا طاهرًا طيّبًا، تعينُه بإذن ربه إرادةٌ قويّة حازمة صابرة، لا تلين قناتها لشدائد البلايا وكبريات الرزايا، بل تزيدها قوةً ومضاء وعزمًا، والطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى مفتقر لعلم صحيح يضيء الطريق لنفوذ البصيرة وأنّى ذلك إلا بالوحي المنزل وعلى قدر العلم النافع كمًّا وكيفًا تكون الرفعة وعلو المراتب بإذن الله، فإن ساعد على ذلك ساعدُ ذكاء وحِدّةُ نباهة وجودة ذهن؛ كان المُرتقى العظيم الجليل إلى الله تبارك وتعالى بإذنه ولطفه ورحمته.
وبحمد الله تبارك وتعالى فلم يجعل الله الذكاء شرطًا لرضاه وجنته، إنما علّقه على القلب السليم، فقال سبحانه: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، فالقلب لا عذر لأحد في بذل وسعه لسلامته لتعلّق المصير المحتوم بذلك، ولكن يحتاج المؤمن لجرعات أرادة حازمة لتطهير ذلك القلب، فالقلب هو الوعاء القُرباني للإله العظيم سبحانه، والإرادة هي الطاقة المُحرّكة والعاملة والحاملة لهذا الوعاء العجيب، أما العلم فهو النور المضيء لجهات بقعة الابتلاء لهذا الإنسان، فيضيء له سبيله الموصل – إن سلكه وثبت عليه – لجنات النعيم، وليس هذا الضياء سوى الوحي المقدّس المنزل، لهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب، ولكن لا تمييز للمرء بدون عقل يسمح له بالمعرفة للحال والمآل والخير والشر على الإجمال، وحسن التصور لما حوله وما مضى وما يستقبل، ويمكّنه من التعامل مع جوارحه الحسية والمعنوية حتى تكون القيادة له والسيطرة لديه، وهذا القدر من العقل هو القدر الكافي لحمل الأمانة وهو المناط للتكليف، أما ما زاد عليه فهو الذكاء، والذكاء مراتب عديدة وأنواع متشعّبة، ويزيد حساب التكليف مع زيادة حدّته وقوّته.
 لذلك فالذكاء سلاح ذو حدين فليس كله خير، فإن استعمله في طاعة الله قدر وسعه فهو معراج هائل سريع لنيل القربات العظيمة، لأنه ينفذ به لكوامن العلوم ويحلق به في سماوات المعارف ويحصل به فوائد غيوث الوحي، فيحفظ الكتاب والسنة ويغوص في معانيهما ويربط بينها ويحلل العُقد ويجمع الأشتات ويفرّق بين ما فرّقته الشريعة، ويجمع بين ما ماثلَتهُ حقيقة وإن اختلف ظاهرًا، ويقارن بين كلام العلماء فيعرف مناطات اختلافهم ومسائل إجماعهم ويستوعب ذلك بما أمدّه الله بذكائه،ويتأمل في النفس والآفاق والأحداث فيخرج بتصور نافذ سليم بحقيقتها، ويحيل زبدة هذا العلم لقلبه الطاهر السليم، ويستعين بإرادته الصابرة الشديدة للعمل به في نفسه أوّلًا ثم بنشره ونفع الناس به، هناك يكون – بلطف الله تعالى – من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وممن رفعهم الله تعالى، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
ولكنّ الذكاء الثاقب بالمقابل باب كبير مشرع على مفاتن الدنيا التي تلوح وتتزين للأذكياء ولا يراها البسطاء، لأن حقيقة الذكاء أنه نفوذ الإدراك للأشياء كما هي، وعلى قدر الذكاء يكون النفوذ الإدراكي كمًّا بإدراك الأمور البعيدة والخارجة عن المألوفات المعتادة وكيفًا عن طريق النفوذ لتفاصيل التفاصيل مما هو قريب جدًّا حتى غاب بقربه عن إدراك العامّة. فكثير من موارد وساوس الشيطان الخفية سببها ذكاء لم يوفّق صاحبه لاستعماله في مرضاة ربه، فعاد عليه خيبة ووبالًا.
وبالجملة؛ فالذكاء يكون خيرًا للمرء إذا كانت طهارة قلبه وقوّة إرادته مساوية له أو أكبر منه، لأن نفوذه لإدراك الأشياء يكون دومًا محروسًا بقلب طاهر وإرادة صلبة، فهنا تكون حدة الذكاء وقوته وقودًا هائلًا ممتعًا مريحًا يطوي المكان والزمان بثاقب بصيرته، ويرفع الهمة عاليًا لأسقف السماوات بنفوذ إدراكه، لأنه حينها يستعمل العلم ويستفيد منه خير الفوائد، ويُسخّر علومَ دنياه لخدمة آخرته، فيحصّل النفوذ في جواهر العلوم الربانية بالقرآن العظيم، والضياء الرسالي بالسنة المحمدية، فتنكشف له غوامض العلوم المنغلقة على غيره لا لعدمها ولكن لتشابهها أو تفرّقها أو نسيانها أو كثرتها ونحو ذلك، ولكن البرّ الرحيم جمع له الله قلبًا طيبًا سليمًا، وإرادة رجولية صلبة، وعلمًا من الوحي صافيًا من أكدار الأهواء وأخلاطِ العلوم الأرضية الزائفة، وذكاء نافذًا لجواهر المعاني دون الانتظار طويلًا على عتبات الرسوم والشكليات. ومن أمثلة أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ولا أزكي على الله أحدًا.
والمقصود؛ هو أن المؤمن المريد للفلاح لا يستغني عن الصبر، فالصبر هو المُعيلُ – بإذن الله – للإرادة، ومن لا صبر له فإرادته ضعيفة غير مستحقة لنيل معالي الأمور، ولكن إن قوّى الله صبر المرء قويت على إثره إرادته، فاستطاع – بتوفيق الله له – أن يطهّر قلبه من أدران الخطايا ومشوشات البصيرة، ثم استعمل صبره في تحصيل العلوم النافعة لدينه، المغذّية لإيمانه، العائدة عليه بحلاوة العبادة ولذة المعرفة، ثم حرس قلبه وعقله وإرادته بصبره لله ما دام قلبه يخفق خفقات الابتلاء في دار الابتلاء، والله المستعان.     
إن المؤمن حين ينبض فؤاده بمعاني الدين ومقامات الإسلام؛ فنبضه محتاج لجرعات صبر من لدن رب العالمين سبحانه، فهو مضطر إلى الاصطبار لحمل نفسه الإمارة على أحكام التنزيل العزيز، وهو مفتقر إلى كل معاني الصبر أيضًا حينما يسير على خُطا المرسلين حين تنطمس سبلهم وتندرس خطاهم تحت ركام حظوظ دَنايا النفوس وحطام فراغ الرؤوس، فرغبوا العاجلة الفانية دون الآخرة الباقية.
فالمؤمن الموفّق هو من يتحصن بجُنة الصبر عند ادلهامّ الملمّات وانصباب الكُربات، وحينما يرى ببصره وبصيرته أكثرَ الناس قد استبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا؛ فإنه يضع كفَّهُ على نابض قلبه صاعدًا ببصره إلى سماء الله الفسيحة يتلو مثاني الصبر والشكر في كتاب ربه، ضارعًا إلى إلهه بكل رُوحه وجوارحه ونفسه وكيانه أن يُفرغ على قلبه القُلَّبِ صبرًا يُثبِّتُه حين تزيغُ أقدام الإقدام عن مراضي الملك العلام. ويا رب هل إلّا عليك المعوّل.
إبراهيم الدميجي


الثلاثاء، 16 يوليو 2019

عبرٌ من أصحاب الأخدود


عبرٌ من أصحاب الأخدود
الحمد لله وبعد؛ فعليك أيها الداعي لسبيل ربك – ولا بد أن نكون جميعًا كذلك – عليك بجادة الصابرين، محسني الظنِّ بلطفِ ربهم، ولا تلتفت لكل مثبّط أو حاسدٍ أو عدو: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) فالله حق ووعده حق ونصره حق ولقاؤه يوم القيامة حق، فاصبر على الحق تكن من أهله، والله المستعان، (فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).
 ولا تنس – إن نسيتَ – احتساب الأجر عند ربك، فما عند الله الغني الكريم البرِّ الشكور خيرٌ وأبقى لك مما عند خلقه الفانينَ الضعفاءِ الفقراء. وكلُّ عمل تعملُه لله محتسبًا أجره وذخره فستلقاه مغتبطًا به ما دمت مخلصًا متبعًا صابرًا، ولَنِعمَ الذخيرة تلك الذخيرة ولنعم الكنز ذلك الكنز!
وائتس في جميع ما يصيبك بنبيك صلى الله عليه وسلم، فعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: "دُميت إصبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال:
هل أنت إلا إصبعٌ دُميتِ  ... وفي سبيل الله ما لقيتِ
فلكل مصلح: امض لسبيلك متوكلًا على ربك مستنّا بنبيك ﷺ متأملًا هذا البيان الحاسم من رب العالمين: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد).
وليتدبّرِ الداعيةُ الموفقُ قصةَ أصحابِ الأخدودِ وما فيها من أنواع الصبر والمصابرة في ذات الله تعالى سواءً من الغلامِ أو الراهب أو المؤمنين حتى نساءَهم، لقد استحقت تلك القصةُ العظيمةُ الخلودَ في محكم تنزيل رب العالمين: (وما نقموا منهم إلا إن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد) فلا تخفى عليه خافيةٌ مهما دقّت أو جلّت، فهو شهيدٌ على المؤمنين الصابرين، حافظٌ لصبرهم في ذاته المقدسةِ العليّة، فصَبَرُوا أرواحهم قربانًا لوجهه سبحانه وبحمده، وشهيدٌ على الكافرين وطغيانهم وظلمهم وكفرهم. ومع شناعةِ جرمهم وفداحةِ ظلمهم وغليظِ كفرهم إلا أنّ الرحمنَ قد أشرعَ لهم بابَ التوبة على مصراعيه بقوله الأعزِ الأكرمِ الألطفِ: (ثم لم يتوبوا) فلا إله إلا الله ما أعظم حلم الله وأسبغَ رحمته وأوسع فضله.
وقد فصّل حبيبُنا صلى الله عليه وسلم قصةَ أصحاب الأخدود، فقد روى مسلم بسنده عن صهيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كان ملِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبُرتُ، فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلامًا يعلمه.
 وكان في طريقه إذا سلك راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر، مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضيَ الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس.
 فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى فإن ابتليتَ فلا تدلَّ عليّ.
 وكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك - وهذه رسالة لكل طبيب لأدواء الأرواح أو الأجساد أن يعلّقَ العباد بربهم لا بعلمه وخبرته وطبّه، فهو مجرد سبب قد يتخلف لذاته أو لمانعٍ خارجٍ عنه، أما الشافي في الحقيقةِ فهو اللهُ وحدَه، قال إمام الحنفاءِ عليه السلام: (وإذا مرضت فهو يشفين). – قال: فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى، فأتى الملِك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبَهُ حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب.
 فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقّه حتى وقع شقّاه! - وتأمل كيف هرب هذا الراهب الصالحُ من الابتلاء فلحقه الابتلاء، وإنما يُبتلى المرءُ على قدر دِينه، والقدرُ لا مهرب منه، ولعلهُ خيرٌ له أن بلّغهُ منزلةَ الشهادةِ العظيمة، وأخرجه من سجن الدنيا لفسحة الجنان وجوار الرحمن جل جلاله بإذن الله تعالى ورحمته. وفيه الصبرُ العظيم لهذا الرجلِ، فلم يعطهم مرادَهم، بل صبر حتى قتلوه في الله ولله وإلى الله، ولا إله إلا الله. – قال: ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوُضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقّاه! - وتأمل كيف يفعلُ الإيمانُ المفعمُ باليقين والنصحِ فعلَهُ في قلوب الخلق، ويشبه هذان الصالحان سحرةَ فرعونَ الذين كانوا في بكرة النهار سحرة أشقياء وفي عشيته بررة شهداء. وتأمل حال صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كيف قاموا لله تعالى تلك المقامات المشهودة والمجاهدات المشهورة بعد أن بلغ الإيمانُ حُشاشةَ قلوبِهم فصفّى كدَرَها وشدّ ضعفها وبلَغَ بها مبلغ أكرمَ الخلق على الله تعالى بعد الأنبياء والمرسلين.
وهكذا يفعلُ الأبطالُ إذ صدقوا    وهكذا يعصفُ التوحيدُ بالوثنِ
فعلى المؤمن أن يثبُتَ على الحق، وأن يقومَ فيه لله تعالى لا يخشى فيه لومةَ لائم – قال: ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذُروته - أي قِمّته - فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت - وفيه غاية التوكل والتفويض وإخلاص الاستنصار بالله تعالى.- قال: فرجف بهم الجبل فسقطوا. - (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) فهو مجيب لدعوةِ المضطرِ مطلقًا، فكيف بوليّه الداعي إليه المُبتلَى في ذاته لإعلاء كلمته؟! (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فمال من هاد) (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)-. قال: وجاء يمشي إلى الملك – وتأمل رحمك الله ثقة الغلام بوعد الله تعالى ومعيّته وتأييده، فلم يهرب ويختبئ، بل عاد ليدعو ذلك الملِكَ الظالمَ الضالَّ لعلمه أن في هداية الله له نفعًا عامًّا لرعيته بدخولهم في دين الله تعالى-. قال: فقال له الملِك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى - (وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا)
إنَّ المصائب ما تخطَّتْ دِينهُ ... نِعمٌ وإن صعُبتْ عليهِ قليلا
واللهُ ليسَ بغافلٍ عن أمرهِ ... وكفى بربّك ناصرًا وكفيلا
 قال: فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرقُور – أي سفينةً صغيرة - وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به، فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
 وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني - وفيه نقضٌ لدين هذا الملكِ الطاغوت، فقد جعل ذلك الغلامُ الفذُّ الملكَ يهدمُ الشركَ الذي بناه في قلوب الناس بهذا الفداء العظيم من هذا الشهيد الشاب – قال: فجَمَع الناسَ في صعيد واحد، وصلَبَه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات، - والصدغ هو ما بين العين والأُذن، وقد وضع يده عليه لتألُّمِهِ قبل وفاته رحمه الله تعالى، وبحمدِ الله فليسَ ألمُ القتل في سبيل الله شديدًا مهما كانت طريقته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يجد الشهيدُ من مسّ القتل إلا كما يجد أحدُكم من مسِّ القرصة" رواه الترمذي وصححه. قال: فقال الناس: آمنا برب الغلام! فأُتي الملك فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس. - وهنا نصرُ اللهِ المؤزرُ لدعوةِ ذلك الغلام الصالح، وفيه أن الداعي إلى الله تعالى قد لا يُمهَلُ حتى يرى ثمار دعوته الطاهرة، بل قد يَسقي اللهُ تعالى بَذْرَتَه فلا تنمو وتثمرُ إلا بعد رحيله عن الدنيا إلى ربه تعالى، وهذا الأمرُ واردٌ حتى على الرسل الكرام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرضت عليّ الأممُ، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهيط، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلان، والنبيَّ ليس معه أحد". متفق عليه. وتأمل قصةَ أصحابِ القرية في سورة (يس) كيف أرسل الله لهم ثلاثةَ رسلٍ، فكفروا بهم حتى أرسل الله عليهم الصيحةَ فأهلكتهم، ولم يذكرِ اللهُ تعالى أن قد آمن لهم سوى رجلٍ واحد!
قال: فَأَمَرَ بالأخدود بأفواه السكك فخُدّت وأَضرَمَ فيها النيرانَ، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا. حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست – أي جبُنت وتردّدت -أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبري فإنك على الحق!".
ولست أُبالي حين أُقتَلُ مسلمًا   ..  على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ  ... يبارك على أوصالِ شِلْوٍ ممزّعِ
وبعد؛ ففي هذه القصة الهائلة بيانُ الصبر العظيم لذلك الراهب التقي الصالح، وكذلك جليسِ الملك الموفّق الصابر، والغلامِ الشهيد الناصح، فهو شيخُ الغلمان بحق، وهو الداعيةُ الصغير في سِنِّهِ، الكبيرُ في إيمانه وعمله ودعوته وشهادته وتخليد ذكره، فلم يَرُدّ هؤلاءِ الشهداءِ تهديدُ الطاغوت وأعوانِه، ولا قتلُهُم لهم هذه القَتْلات الشنيعة عن دينهم، فرحمهم الله وألحقنا بهم في الصالحين غيرَ خزايا ولا ندامى هو مولانا ومولاهم ونعم المولى ونعم النصير. وإنما تُعمر الديار ويُدفع البلاء بأمثالهم، بدعائهم وابتهالهم وصلاحهم ودعوتِهمُ العبادَ لسبيل الله تعالى.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء وأمثالَهم لأمته لتعلمَ الأمةُ أنَّ من عباد الله من يرجونه لا يرغبون لغيره، ويخافونَه لا يخشون سواه، وأن الله قد اختارهم وربّاهم واصطفاهم لحمل شدائد دينه في الدنيا ثم لنيل رضوانه وأجره في العُقبى.
وبنحو خبرهم جاءت الأخبار، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، فعن أبي عبد الله خبّابِ بن الأَرَتّ رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدةً، فقلنا: ألا تستنصرْ لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَن قبلكم يؤخذُ الرجلُ فيحفرُ له في الأرض فيجعلُ فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُه ذلك عن دينه! والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخافُ إلا اللهَ والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري.
فالإنسانُ عجولٌ بطبعه، وغريزةُ العجلة جِبِلّةٌ لا يسلمُ منها إلا القليلُ، قال عنه خالقُه ومسوّيه: (خُلق الإنسان من عجل) وقال: (وكان الإنسان عجولًا).
ولكنَّ هذه الجبلّةَ العجولَ ليست بعذر في ترك التأنّي، فلقد أصاب المتأني أو كاد، وأخطأ المتعجّلُ أو كاد، والعجلة أمُّ الندامة، إنما المقصود بيانُ أنَّ هذه الغريزةَ النفسانيةَ محتاجةٌ إلى مصابرةٍ حتى تكونَ منقادةٌ لخُلُقِ الأناةِ وعقلِ الرزانة. وقد بشّر صلى الله عليه وسلم أشجَّ عبد القيس بمحبة الله تعالى لأناته وحلمه، وأنه قد جبله عليهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك خَصلتين يحبُّهما الله: الحلمُ والأناة". رواه مسلم.
إنّ دين الله منصورٌ لا محالة، فليس على الدين خوفٌ حتى وإن تقلص في ناحية أو ضعُفَ تديّنُ الناسِ في أخرى، فاللهُ ناصرٌ دينَه ومتمُ نورِه ومظهرٌ سنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: (والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). فلا خوفٌ على السفينة، إنّما الخوف أن تمضي بدونك!
إبراهيم الدميجي