إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 23 مايو 2014

سعد الحضبي: قد أتعبت من بعدك!

سعد الحضبي: قد أتعبت من بعدك!
   الحمد لله على كل حال, وبعد: فالخير من معدنه لا يستغرب, والسمو من أهله لا يُستنكر, ومعدن الحلم الوافر لا يظهره سوى جسام الخطوب, ولا يُعرف الحليم إلا عند الغضب, والبلايا تفحص معادن الرجال فيصفو الذهب الإبريز ويضمحل الزيف والكدر. والله تعالى قد خلقنا ليبتلينا في هذه الدار "يا قوم إنما هذه الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار" وقال سبحانه: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم"
   وقد كانت العرب تضرب المثل بحلم الأحنف بن قيس وعظيم عفوه فقالوا: أحلمُ من الأحنف. قلت: قرأنا في الكتب وسمعناها من الرواة ولكننا اليوم نراها عيانًا من سيدٍ كريم وحرٍّ نبيل, ذاكم هو الشيخ سعد بن سلطان الحضبي السبيعي وفقه الله وجبر مصابه وغفر لابنه.
   قيل للأحنف: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فوالله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك. وقد صار للأحنف عينُ ما رواه عن ابن عمه, فعفا عن ابن أخيه فورًا.
   لقد رفعت العرب قيسًا بهذا الحلم الشامخ, والعفو العظيم, وبهذه الطريقة التي لا يطيقها سوى سميذع عظيم فلما مات قيس رثوه بقولهم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما
فما كان قيس هُلْكهُ هُلْكُ واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
   أن حروف المجد لا تكتب بالكلام بل بالأفعال, والرجال مّوّاقفٌ والبلايا شواهد, وقد وهب الله سعد الحضبي سعة العقل ورحابة الصدر الذي تجاوز طباق الدنيا لموعود الله ولقائه, وعظيم اليقين بأن الآخرة خير وأبقى, وبحسن الظن برحمة من هو أرحم بولده من والديه, وبمن لا يأتي الخير إلا من يديه. فتجرّع مرارات فقد الحبيب فهو أبٌ للجميع ويعلم أن مصاب أخيه لا يقل عن مصابه, جمعت قلبيهما المصيبة, ووحّد روحيهما الرضى بمرّ القضاء. 
   أتاه البارحة الخبر الصاعق بقتل ابنه على يد ابن أخيه, فذهب من فوره للشرطة وتنازل عن القاتل – تاب الله عليه وغفر له - قائلًا : كلهم أبنائي. ثم زاد عظمة وحكمة وعقلًا حينما عزّى أخيه في مقتل ابنه. لله درك يا سعد. لقد أتبعت من بعدك!
   ألا ما أسمى العفوَ وأجملَهُ, وأحسنَ الصفحَ وأرفعه. جزاك الله عفوًا بعفوك, وأجرًا بصبرك, وجنة ورضوانًا بإيمانك وحسن خلقك. واشكر ربك على أن فضّلك بهذه اللطيفة الربانية, فأكثر خلق الله لا يستطيعونها وإن تمنّوها وراموها, فالناس تعفوا وتصفح ولكن بعد برودة غيظهم وهدوء نفوسهم, أما مع شدته واحتدامه فتلك منزلة العظماء, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
   أدعياء المثالية كثيرون, لكن المواقف الشديدة هي من تمتحن صدق الدعاوى ومقدار القيم, وعلى قدر ثبات المبدأ ورسوخ الخُلُق أمام رياح المصائب القاسية يكون علوّ الخُلق ونصاعة الحلم وطهارة القلب وبياض الوجه.
    قد علم سعد أن ابنه وابن أخيه رئتان في صدر ويدان في جسد, ولكنه حتم القضاء والقدر وسبق الكتاب والقلم, لا مفر منه ولا مهرب عنه "كان ذلك في الكتاب مسطورًا" وكل حيّ ميت وابن ميت.
   ليهنأ أهل العفو منشور السعادة مسطورًا في كتاب الله فقال سبحانه: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" وقال سبحانه: "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور"
    وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخيَّر من أي الحور العين شاء" رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
   ولنتأمّلْ قول رب العالمين: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" ففي هذا غاية الإغراء والترغيب, فقد أطلق الأجر بلا تحديد مقداره, فما ظنّك بأجرٍ تكفّل به الكريم الغني الوهاب؟!
   أخي سعد وأخي عليّ: أحسن الله عزاءكما وعزاءنا جميعًا, وعظّم أجركما وعوضكما عن فهد الصبر والأجر, وعوض فهدًا عنكم الرضى والجنة.
   اللهم ارحم عبدك فهد واغفر له ووسّع مدخله وأعلِ نزله واجمعه بوالديه وأهله وأحبابه في جنات النعيم, وإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله على كل حال.
إني أعزيك لا أني على ثقة   ...   أني بباقٍ ولكن شرعة الدينِ
فلا المُعزِّي بباقٍ بعد تعزية   ...   ولا المُعَزَّى وإن عاشا إلى حينِ
ومضة: مما جادت به قريحة فقيدنا الراحل فهد في ابتهاله وضراعته للرحيم الرحمن وفيها عزاء لأحبابه:
أنا في رجا اللي ما بعد خاب من يرجيه
 يحل الفرج في ساعة الضيق والشدة
لك الحمد يا ربي على ما تاخذ وتعطيه
 تهوّنها وتفرجها على منهو وصل حدّه
ألا يا الله وانا عبدك ولا يخفاك ما أخفيه
واشيل من الذنوب اللي تزيح طويق وتهدّه
له أستغفره واتوب والرحمة منه واليه
مصير العمر يفنى يا بشر لو طالت المدة
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@hotmail.com

24/ رجب/ 1435

هناك 6 تعليقات:

  1. جزاك الله خيرا ورحم الله والديك عن النار

    ردحذف
  2. الله يرحمه ويغفره الله ﻻيفرقكم ياهلي

    ردحذف
  3. الله يثبته ويخلف عليه ويعوضه الجنة
    رجل عن ألف رجل

    ردحذف
  4. الله يرحم الميت ويغفر له ويرفع قدره ويعوضه الجنة ويتوب على الحي ويحمع الكلمة ويصبر اهل الفقيد ويجبر كسر خواطرهم فمصابهم كبير .

    ردحذف
  5. الله يغفر للميت ويرحمه ويرزقه جنات النعيم ويجبر خواطر ذويه في فقده ....اللهم آمين

    ردحذف
  6. شكرا لك أستاذ إبراهيم وهذا الكلام يدل على وفائك وطيبك ومحبتك
    فأنت من أسرة عريقة غالية محبوبة من الجميع
    ، وهذا الكلام وسام شرف لنا وفقك الله والله يجزاك خير
    والشيخ سعد من أسرة طيبة لهم مواقف في الطيب والشهامة والمكارم
    اكتسب ذلك من والده وجده منير الحضبي

    ردحذف