إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 23 مايو 2014

قبسات من الحنيف العفيف (2/2)

قبسات من الحنيف العفيف (2/2)

الحمد لله وبعد: فلا زلنا نقتبس من ضياء سورة الكريم ابن الكريم عليهما السلام..
   التفات بديع إذ قال: "ورفع أبويه على العرش".. ثم التفت بخطابه "رب قد آتيتني من الملك"  وقبل المُلْكِ ابتدأ يوسف عزيزًا  "اجعلني على خزائن الأرض" أي وزيرًا للمال وتصريفه وتدبير المعايش, وقد يكون الحال قد انتهى به لملك مصر, بدليل تحدثه بنعمة الله عليه بإيتائه الملك, والعرب لا تطلق الملك على الوزارة, كذلك رفع أبويه على العرش, والعرب لا تطلق العرش إلا على سرير الملك. وهذا ظاهر القرآن.
   "وخروا له سجّدا" ظاهره أن يعقوب سجد معهم لابنه على سبيل التحية. فهذا نبيّ قد سجد لغير الله إذ كانت مباحة حينها, والملائكة سجدت لآدم بأمر الله, ولكن في زمان الأمّة الخاتمة انتقل السجود من كونه تحية فصار عبادة محضة, صرفُها لغير الله شرك وتنديد, فمنعُها ليس من باب سدّ الذريعة للتعظيم, بل لأنها قد صارت هيكل التعظيم نفسه, كما في آية الحجر: "فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين" وما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". وهذا من محاسن هذا الدين القويم, ومن منن المنان الكريم على هذه الأمة المرحومة, فكم في السجود من متع أرواح تسافر خلاله لفردوس الدنيا بالأنس بمعبودها ومألوهها, وأمان لها من مزعجات الزمان, فلله الحمد كما ينبغي له.
   "وقد أحسن بي" تحدثًا بنعم الله فهو النبي الشكور, وتأمل التعدية بالباء الملاصقةفهي هنا أبلغ من إليّ.
   "وعلمتني من تأويل الأحاديث" فيه شرف علم التعبير, فقد شكر هذا النبي الكريم ربه وحمده عليه في معرض ذلك الثناء البليغ العظيم. ومن طرق تحصيله وتحصيل الفراسة تحقيق التوحيد فقد علل تعبيره الرؤى بتحقيقه التوحيد إذ قال للفتيان في السجن: "ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله"
   "توفني مسلمًا" فقلوب الصديقين معلّقة بالخواتيم.
   "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"  فيه التحذير البليغ لمعاشر الموحدين الحنفاء, فحتى وإن كان الدخول أوليًّا للمشركين شركًا أكبر؛ فهذا لا يمنع أن تتناول بعض أهل التوحيد الذين لوّثوا نزاهته بشركيّات لم تخرجهم منه لكنّها أغضت من رونقه وبهائه وأظلمت من نوره وإشراقه وأنزلت من علوّه وسموه, وذلك الشرك الأصغر كيسير الرياء, والحلف بغير الله, وقول ما شاء الله وشئت, ولولا الله وفلان ونحو ذلك, وليت شعري كم سيكون وزن خطيئة التشريك في الميزان يوم العرض الأكبر؟! وقد كان من هدي الصحابة أنهم يستشهدون بنصوص الشرك على الأمرين.
   "وسبحان الله وما أنا من المشركين" خطيئة الشرك من أعظم المسبة لله تعالى, لذلك ذكر بمعيّته التسبيح وهو المبالغة في التنزيه والتقديس, ومن ذلك ما رواه أبو داود بسند حسن أن الأعرابي لما قال: نستشفع بالله عليك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبّح وكرر التسبيح, لأن جناب التعظيم لله قد مُسَّ, فناسب أن يسبح الله تعالى. وتعظيم الله تعالى هو ركيزة الإيمان ومعقد الديانة, لذلك كان من أعظم الأسماء الحسنى (العظيم). وقد تكرر هذا الاسم الشريف في القرآن بضعًا وثلاثين مرة, كذلك في الأدعية النبوية, ومنها دعاء الكرب. والعظمة إزار الجبّار جل جلاله وتقدّست صفاته وأسماؤه, كما في الحديث الرباني في الصحيح.
   "حتى إذا استيئس الرسل" ذكرها في سورة الفرج بعد الكرب, فمَن هذا المتفائل الذي يتصوّر أن يوسف بعد الجب والرقّ والسجن سينتهي به الحال للحرية والوزارة والملك, وأعظمها النبوة, يا لَهذا الفرج الرباني والنعم السابغة!
   كذا تفريج همومِ وكشف غمومِ يعقوب عليه السلام برجوع فلذات كبده, وتأكيده على علمه بالله تعالى في موضعين:
   الأول حينما عوتب ولِيمَ على بكائه تلك السنين على يوسف فأخبرهم أنّه يعلم من الله مالا يعلمون, أي من صفات كماله ورحمته وفَرَجه حتى كأنه يرى المستقبل عيانًا, فبصيرته قد عبرت بإيمانه ما لم يبلغه غيره, إنها النبوّة يا صاح.
   فالأنبياء هم أعظم الناس تحقيقًا لدرجة الإحسان, وتكميل مراتب الإيمان, وهم من عبدوا الله كأنهم يرونه حقًّا.
    ثم قالها مرّةً اخرى لما ارتدّ بصره إليه, وذكّرهم بسالف قوله الصابر الراضي الهادئ في تيك الليالي القاسية, وقت ثقل المصيبة التي تنوء بها الرواسي. فهل أعظم من فقد ابن سيكون نبيّ؟! "وأعلم من الله ما لا تعلمون" ألم تر أن ربه قد قلّدهُ مديحة: "وإنه لذو علم لما علّمناه"
هذا وقد ترددّ كثيرًا في السورة ذكر العلم, والمراد العلم بالله وبدينه, كذلك العلم بعاقبة الأمور, وهو من فروع حسن الظن بالله تعالى.
  "فنجّي من نشاء" مناسبة لثناء يوسف: "إن ربي لطيف لما يشاء" فما ثمّ إلا محض رحمة الله وفضله أو الهلكة والشقوة.
  "ولكن تصديق الذي بين يديه" لما بشرت الكتب والرسل السابقة بالقرآن كان نزوله عينُ تصديقها, فنزوله هو تأويل بشاراتهم, وكما قال يوسف لما خرّوا له سجدا: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقّا" فكذلك إنزال القران على محمد صلى الله عليه وسلم هو حقيقةُ تصديقِ البشارات السابقة وإثبات صدقها.
   ومضة: كم في هذا البيت من سلوى وراحةٍ وقوتٍ لمن استطال الطريق:
إذا طاب منك الودُّ يا غاية المنى   ...   فكل الذي فوق التراب ترابُ

إبراهيم الدميجي
صحيفة الاقتصادية
24/رجب/1435
aldumaiji@gmail.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق