إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 30 أبريل 2023

انفساخُ العَزَائِم وانتقاضُ الدَّعَائِم

 

انفساخُ العَزَائِم وانتقاضُ الدَّعَائِم

 

وكَمْ مِنْ همَّةٍ في النَّفْسِ قَدْ خَمَدَتْ ... مِنْ بَعْدِ مَا زَجَلَتْ حُلْمًا بِعَالِيهَا

الحمد للهِ الفعَّالِ لمَا يريدُ، وعَدَ الشاكِرين بالمزيدِ، وهو على كل شيء قديرٌ، (وهو على كل شيء شهيد)، هو الحيُّ القيّومُ السّميعُ المُجيبُ، (إن الله يفعل ما يريد)، وهو العليمُ الحكيمُ اللطيفُ الرفيقُ، (إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويُعِيدُ)، تبارك وتعالى وتقدّس، وجلّ وعزّ وحُمِدَ وسُبِّحَ، الخلْقُ خلْقُهُ، والأمرُ أمرُه، والدينُ دينه، وهو الدينُ الحقُّ الرشيدُ، (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)، (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

خَلَقَ الإنسانَ مزيجًا أمشاجًا يبتلِيه، وسَوَّاهُ حيًّا سميعًا بصيرًا عاقلًا رشيدًا لما يُصلحه ويقيمُه ويحمِيه، ركّبَهُ من جَسَدٍ يحمِلُه، وعقلٍ يُرشدُه، وروحٍ تحكُمُه، وأَقَّتَ له موعدًا لا يجوزه، وأجَلًا لا ريب فيه، وقُدْرَةً مبسوطةً له، وقَدَرًا ما له عنهُ مَحِيدٌ، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك)، ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).

 خَلَقَهُ - لحِكَمٍ عظيمةٍ - على أصلِ الضَّعْفِ وَوَهْنِ الصبرِ وقِلّةِ الحيلة، (وخلق الإنسان ضعيفا)، وجعَلَ له غريزةً تُحِبُّ الجَدَلَ، وتَنْسَى العَهْدَ، وتنقضُ العزْمَ، وتُؤثِرُ العاجلة، فهو خاسرٌ لا محالة إلّا إن آمن وعمل صالحًا وتواصى بالحق والصبر، قال تبارك وتعالى في شأن الإنسان: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا)، قال الحافظ: "فالإنسان كثيرُ المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصّره لطريق النجاة" (1)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا). قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما سُمّيَ الإنسانُ لأنّه عُهِدَ إليه فنَسِيَ. وقال مجاهد والحسن: نَسِيَ، أي: تَرَكَ" (2).

 أكرمه ربُّه العظيمُ بالعلمِ والإيمانِ، والعقلِ واللسانِ، وحبِّ الخيرِ والحَنَانِ، والإرادةِ والاختيارِ المنعقدِين في سُويداء الجَنَانِ، وحكمتُه وعدلُه وعلمُه ورحمتُه وإحاطتُه من وراء ذلك كله، (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)، (ولقد كرمنا بني آدم)، وأسجدَ له خَلْقَه النُّورانيَّينَ العُظَماءَ الملائكةَ الكُرَمَاءَ تكرِمَةً له، (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)، فعلَى قَدْرِ إيمانِ الإنسانِ وعلمِه ويقينه وعملِهِ تكونُ رفعتُه وسموُّه وزكاتُه وطيبُه، وعلى قدر جهله وكفره وشركه وظلمه ونفاقه يكون اتّضاعُه ونزوله وخسرانه وهلاكه، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)، (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون)، (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء)، (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون)، (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا).

 وإنّ من عجائب القدرةِ فقدُ العزمِ بعد انقياده، وحلُّ قيده بعد انعقاده، وعُزُوبُه بعد إنشائه، فلا إله إلا اللهُ العليمُ القديرُ المدبّرُ الحكيمُ، فقد يريدُ المرءُ أمرًا ساميًا، ويطمحُ لغاية فُضلى، ويشمّرُ عازمًا بلوغها، حَالُهُ:

إذَا هَمَّ ألقَى بينَ عَينَيهِ عَزْمَهُ … وَنَكَّبَ عن ذِكْرِ العَوَاقبِ جَانِبَا

 ثمَّ - فجأةً- لأمرٍ غير مفهومٍ، وعِلّة غير معلومة، وسببٍ خفيّ غير ظاهر، نراه ينكصُ عنها القَهْقَرَى، راغبًا عنها لا إليها، راجعًا مُعرضًا مُدبِرًا زاهدًا، بل كارِهًا قَالِيًا، وما مِنْ بأسٍ سوى ضَجَرٍ وصرْفٍ لا يجد له مَدْفَعًا، ولا يَرْضَى عنه مَقْنَعًا، إنما يرتاحُ عنه بالبِعَادِ، فإن رامَ عَوْدًا لما مضى من سبيله إذِ الصَّرْفُ قد عَادَ، حالُ عزيمتِهِ: وجَادَتْ بَوَصْلٍ حِينَ لا ينفعُ الوَصْلُ!

 فتبارك الله خالقُ هذا وهذا، فهو المُدَبِّرٌ المُتَصَرِّفُ الحكيم العليم. وكما قيل: أنت تريدُ، وأنا أريدُ، والله يفعل ما يريد. وقال يوسفُ بن عبد الأحدِ: "قلت للمُزَنِيِّ: معنى قولِ الشّافعي: يَتَرَوَّحُ الرَّجُلُ بِبَيْتَيِنِ مِنَ الشَّعْرِ، ما هُما، فأنشدَنِي:

يُرِيدُ المَرْءُ أنْ يُعْطى مُناهُ … ويَأْبى اللَّهُ إلّا ما أرادَا

يَقُولُ المَرْءُ فائِدَتِي ومالِي … وتَقْوى اللَّهِ أفْضَلُ ما اسْتَفادَا" (3)

إنّ انفساخَ العزائمِ على الدوام، وانصرافَ الرغائبِ كلَّ حين، وهجومَ المَلَالِ قبل التَّمَامِ، وانتقاصَ الإرادات للقمم، وانتقاض الدَّعَائِم للهِمَمِ؛ معدودٌ من براهينِ ربوبية الله تعالى، وعجيبِ صُنْعِه في خلْقِه. وقد سئل حكيم: بماذا عرفت ربَّك؟ قال: "بفسخِ العزائمِ ونقْضِ الهمَمِ". فإنّ العبدُ يهمُّ بالأمر ذي البالِ، ويشدُّ عزْمَهُ إليه، راغبًا مريدًا، فإذا هو في ثاني الحال - بلا سبب ظاهر- راغبًا عنه، منصرفًا لغيره، فاترًا في شأنه، قد انطفأتْ مُحَرِّكَاتُ قُدْرَته بأمرٍ ما! كما قال صاحب النوادر: "الآدمي يفكّر ويُدبّر ويعزم، وتدبيرُ الله تَعالى من ورائه بِإبْطال ذَلِك، وتَكون تِلْكَ الأُمُور على غير ما فكّر ودبّر" (4).

لقد كُتِبَ النقصُ والنقضُ والانقطاعُ والمَلَالُ على أهيلِ هذه الدار في مجُمَل عاداتهم، ما لم يثبت واحدُهُم بعد واحِدِهِم على أمرِ خيرٍ يَشُدُّ الله فيه عزيمته، ويقبضُ عليه إرادته، ويفتحُ له نياط قلبه، ويفتلُ له حبال رسوخه، ويُتمِّمُ له به مرادَهُ، ويُحقّقُ له عن طريقه مأمولَهُ من رغائبِ الدنيا ونعيمِ الدين، حتى يبلغَ الجنة التي لا مَلال فيها ولا سآمة: (لا يبغون عنها حولا).

فالإنسان في الدنيا ملولٌ بطبعه، منقطعٌ دون بلوغ أمانيه، لأنه ضيّق الأفق، قليلُ العلم، شَرُودُ العزيمة، خوّارُ النفسِ، مُغرَمٌ بالحظّ العاجلِ السّهل، مُولعٌ بالنائلِ القريب اليسير، كما وصفه خلّاقه العليم الحكيم: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا)، أي: ضَجِرًا لا صَبْرَ له. وقال: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، فهي غريزةٌ خَلْقِيّة لا يُلام عليها ما دامت في حدود الشرع، وكلّمَا هذّبها حَسُنَ حالُه، واستقامت سبيله، ونهضتْ مصالِحُه. كما قال الله تعالى عنه: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ)، وقال: (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا)، والدنيا كلها عاجلة. والمرءُ هلوعٌ جزوعٌ جموعٌ منوعٌ إلا المُصلّين.

ضَجَرُ الفَتى فِي الحَادثاتِ مَذَمَّةٌ … والصَّبْرُ أحسنُ بِالرِّجالِ وأليقُ

ومن هنا جاءت الإشادة بالحلمِ لأنه ضدُّ الجهلِ، وبالأَناةِ لأنها نقيضُ العجلة، وتأمّلْ خُلُقَيْ الخليلين عليهما الصلاة السلام تجدْهُما خيرَ من تَخَلَّقَ بهذين الخُلُقَين السَّامِيَيْن، والسجيّتَين السّاميتين، وسائر أخلاق الجمال، لا جَرَم؛ فَهُمَا هُمَا!

ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: «إنُّ فيكَ خَصلتَيْن يُحبُّهما الله تعالى: الحلمُ والأناة» (5).

فالإنسان – لعجلته، وقلّة صبره، وضيقِ أفُقِ معرفته- يرفعُ الأمنية لِمَا فوقَ القدرة، أو يجعل أمَدَ مِضمارِ المسابقةِ دونَ طَوْقِ مسارعتِه. فتضيعُ نفسُه بين غَمَارَاتِ فَشَلِ الأمنيات، إلّا من رحم الله، أبى الله إلّا نقصَ الإنسان، حتى لا يركنَ لنفسه، أو يُعجبَ بقدرته، أو يزهوَ بعلوّه، أو يقنعَ بعاجلِ حظِّه، فالله وليُّهُ وطبيبُه ومرشدُه وهاديه. ومَن يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَن يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ.

وإذا هَمَمْتَ بِأمْرِ سُوءٍ فاتَّئدْ … وإذا هَمَمْتَ بِأمْرِ خيرٍ فاعْجِلِ

وإن المرء ليقصد أحيانًا لأعمالٍ خيِّرَة وأشياء فاضلة، ويرسم له منهجًا بجدّيّة وعزم، فما هو إلّا زمنٌ ليس بالطويل؛ إلّا والإرادةُ التي قد كانت سامقة صلبة بالأمس؛ قد عادت اليوم للوراء مُنثنية، وللخَلْفِ راجعة، فاستبدلتِ القهقرى بالتقدّم، وضرَبَتْ جمعيّة الهَمِّ بالتّشرذُم، أمّا العزمُ الذي كان بالأمس مَضَّاءً شديدًا؛ فلقد أضحى اليوم بالكسل مسلوبًا، وبالفتور منهوبًا! (6).

وقد ترى ذلك في كثير من أصحابك ولِدَاتِكَ، ولربما شكاه لك تواضعًا بعضُ مشايخك، وقد تلمسه في خلق بعض تلامذتك ممن كنتَ تعدّهم للرسوخ في العلم والعمل، عبر اصطبارك الطويل لهم في الطلب والتحصيل والعبادة، إذا أعطاهم الله تعالى خصوصيات ذهنية عالية، وقدرات عقلية حادة، وألباب نبيهة، مع وافر أخلاق نبالة وكرم وشهامة، وقد رسمت في ذهنك لوحة جميلة لمستقبل ذلك اليافع وذاك في ميادين العلم والسلوك والعمل. وهم في ذلك قد قطعوا في التعلّم أشواطًا، وساروا في العلم أميالًا، وثنوا الركب وحفظوا ودرسوا بتؤدةٍ وعنايةٍ وحسنِ تعاهُدٍ ومتابعةٍ ورفقٍ، مع إعطاء نفوسهم حظوظها المباحة حتى لا يكلُّوا، فما هو إلّا زمان ليس بالطويل حتى يبدأ انقطاعُ همّة أكثرهم بالتدريج، فَتَنْحَلُّ لُحْمَةُ عَزَماتهم عَرَاءً، وتنهلُّ سَدَى إراداتهم هَبَاءً، ويبدأ ذلك النزول لدرك البطالة عبر تعلُّلِهم بأدنى سبب للغياب وأيسر مندوحة وأقلّ عذر، ثم يطول بهم الأمر شبرًا فذراعًا فباعًا فميلًا فانقطاعًا. حتى يتحوّلون عما كانوا عليه من الجدية في العلم والعمل، فيرغبون عن المعالي للسَّفْسَافِ، وعن النَّوَائِفِ للأسافل، عائذًا بالله العظيم من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ)، (الله اعلم حيث يجعل رسالته) (وربك يخلق ما يشاء ويختار).

وينبغي التنبّه إلى أن الأمور قد لا تكون حقائقها على ظواهرها، ولا غاياتها على مبادئها، فقد يكون الله تعالى – وهو الحكيم اللطيف الحميد العليم- قد صرف عبدَهُ لأمرٍ خير مما صُرِفَ عنه مهما بدا لنا خلافه، أو أنه قد دفع السوء عنه من حيث يعلم العبد ذلك أو لا يعلم، إنما هو محض لطف الرب جل جلاله، فهو الحكيم الحميد سبحانه، فلا يخرج شيء البتة عن حكمة الله تعالى ورحمته وعلمه ولطفه، حتى في أمر العلم والعبادة، تبارك الله، (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

والمقصود؛ أنْ ليستِ كلّ الأمور على ما يبدو من ظواهرها، فلله حكم وأسرار في أقضيته وأقدَارِه هي في الغاية من الحكمة والرحمة، وهو محمود على أفعاله وأقداره وتدبيره بكلّ حال. ولقد قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: "إنّ العبدَ ليهمُّ بالأمرِ من التجارةِ والإمارةِ حتى يُيسّر لهُ. فينظرُ اللَهُ إليه فيقولُ للملائكةِ: اصرفوه عنهُ، فإنهُ إن يسّرتُهُ له أدخلتُه النارَ، فيصرفه اللَّهُ عنهُ، فيظلُّ يتطيَّرُ يقولُ: سبقنِي فلانٌ دهانِي فلان، وما هو إلا فضلُ اللَّهِ عز وجلّ" (7).

وكَمْ رُمْتُ أمْرًا خِرْتَ ليِ في انصِرافِهِ … وما زِلتَ بي مِنِّي أبَرَّ وأرْحَما

وإنّكَ لتجدُ بعضَ من اشتُهِرُوا صِغَارًا على مستوى الإقليم أو الدولة أو العالم الإسلامي بقوّة حافظاتهم، وحذقِ نباهاتهم، وجودة قرائحهم، وحِدَّةِ عقولهم، وانتظرناهم ليكونوا أئمة للدين سابقين، ونجومَ هُدًى للخير ناشرين، ولكنا لم نسمع لهم من حينها رِكْزًا، ولم يُرصَدْ لهم خبرٌ ولو هَمْسًا، فلم يلبثوا أن طواهم النسيان، فلا ندري أغُيِّبُوا تحتَ الترابُ في ملاحِدِهِم، أم غابوا فوق التراب بانطفاءِ أَلَقِهِم، وخبوِّ شُعْلَتِهِم، ونُضُوبِ عزْمِهم، إمّا أنّهم لم يتلقّهم من يأخذ بأيديهم بصبر وحكمة وتُؤَدَة، أو أنّ عَزَمَاتِهم قد تاهتْ في بِيْدِ رَغَائبِ الدنيا المُذيبة شمع هِمَمِ أكثر الفتيان. وبالجملة؛ فإنّه يعزّ علينا أنْ أمسى تألُّقُهم من ماضي طفولتهم، لا حاضر شبيبتهم، ولا قابلِ كهولتهم، وهذا منارٌ بسبيلِ حروفِنا هذه، والله المستعان واليه المشتكى والمفزع والمعتصم.

كلُّ امرِيءٍ رَاجعٌ يَوْمًا لِشِيمتهِ … وإنْ تَخَالَقَ أَخْلاقًا إلى حِينٍ

وفي أمور تدبير الدنيا فإنّ انفساخ العزائم حاضرٌ أيضًا؛ لأنّه غريزة إنسانية، وإنّك لترى الرجل قد أوغل في بابِ تجارةٍ أو وظيفةٍ وقد كتب الله له فيه خيرًا، ويسّر له به أسباب بركةِ رزقٍ، ورَغَدِ عيش، ثم يفجؤك بعد مدة برغبته عن ذلك الباب لغيره، وَيْ كَأنّما صُرِفَ عنه صَرْفًا!

وإنّ من جذورِ أخلاقه العجلة، كما قال ربه وفاطره: (خلق الإنسان من عجل)، فهو غِرٌّ عجول، لا يطيق صبرًا كيما يربح القليل على القليل حتى يكثر بإذن الله مع الوقت الطويل والصبر الجميل، بل تضيق نفسه الطفولية إلّا بالكثير العاجل وبالجهد القليل، ألا ما أعجبك وأعجلك وأجهلك أيها الإنسان، إلا من رحم الرحمن.

 لذلك رحم الله المؤمن بأن عجّل بعض نعيم الجنة له في الدنيا كالفرح به تعالى، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتلذُّذِ بمناجاته وذكره ودعائه وتلاوة كلامه، وذوقِ لذةِ الإيمان ووَجْدِ حلاوته ونحو ذلك من نعيم الأنفس ورقائق جِنَانِ النعيم التي اختصّ الله تعالى بها المؤمنين، فالنفس عجولٌ حرونٌ محتاجةٌ لشيء من عاجل حظّها حتى لا تنقطع عن المسير لمرضاة ربها تبارك وتعالى وتقدس، كما قيل:

إني لأرْجُو مِنكَ شَيئًا عاجِلًا … والنَّفْسُ مُوَلَعَةٌ بِحُبِّ العاجِلِ

وقال سبحانه في شأن ذاك المخلوق العجيب في حاله، والمحبوب المكرّم في أصله، (خلق الإنسان ضعيفا)، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، فجسده ضعيف، وعزمه ضعيف، وعلمه قليل، إلا من رحم الله تعالى.

 واعلم أنّ المللَ عدوُّ الإنجازِ والتسويفَ علامةُ ابتدائه. وإنّك إذا تتبّعتَ قصص النجاح العِلمية والعملية والإيمانية والعبادية والتربوية والتجارية وغيرها وجدتَّ أنّ العامل المشترك بينها هو ثبات صاحبِهَا على قدر - ولو يسير- منها، مُدَّةً طويلة من الزمن. ولقد صدق جفرسون إذ قال: "فيما يتعلّق بالأسلوب اسبح مع التيار، وفيما يتعلّق بالمبدأ اثبت كالصخرة".

وتدبر قول الله تعالى: (ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا . إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ وقُلْ عَسى أنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا). قال الشيخ المرصفي رحمه الله تعالى: "إنّ كلَّ حركةٍ، وكلّ نأمة، بل كل نَفَسٍ من أنفاس الحيّ، مرهون بإرادة الله. وسُجُفُ الغيبِ مُسْبَلٌ يحجبُ ما وراء اللحظة الحاضرة. وعينُ الإنسان لا تمتدّ إلى ما وراء الستر المُسْدَل، وعقلُه مهما عَلِمَ قاصرٌ كلِيلٌ، فلا يقل إنسان: إني فاعلٌ ذلك غدًا، والغدُ في غيب الله، وأستارُ غيبِ الله دون العواقب!

وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له، وأن يعيش يومًا بيوم، لحظة بلحظة، وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله، كلّا. ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره، وأن يعزم ما يعزم، ويستعينَ بمشيئة الله على ما يعزم، ويستشعر أن يدَ الله فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله تدبيرٌ غير تدبيره، فإن وفّقه الله إلى ما اعتزم، وجرت مشيئة الله بغير ما دبّر؛ لم يحزن ولم ييأس؛ لأن الأمر لله أولًا وأخيرًا!

فليفكر الإنسان وليدبّر، ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله، ويدبر بتوفيق الله، وأنه لا يملك إلا ما يمدّه الله من تفكير وتدبير، ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ، أو ضعف أو فتور، بل على العكس يمدّه بالثقة والقوّة والاطمئنان والعزيمة، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبّل قضاء الله بالرضا والطمأنينة والاستسلام، لأنّه الأصل الذي كان مجهولًا فكشف عنه الستار!

هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلبَ المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكّر ويدبّر، ولا يحسّ بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويُخفق، بل يبقى في كل أحواله متصلًا بالله، قويًّا بالاعتماد عليه، شاكرًا لتوفيقه إيّاه، مسلمًا بقضائه وقدره، غير مُتَبَطِّر ولا قَنُوطٍ." (8).

والمُوفّقُ من عباد الله تعالى هو من حرص على حسنةِ الآخرة، ثم حسنةِ الدنيا، لأنّ حسنة الآخرة تنتظمها وتيسّرها بأمر الله تعالى، قال الله تعالى في وصف حال ومقال المؤمنين: (ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)، وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان أكثرُ دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". (9) ثمّ قنع بما تنتهي عنده أقدارُ ربِّهِ عند نهاية بذله وسْعَهُ فيما ينفعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ، وَفي كُلٍّ خَيرٌ (10) احرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ. وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ (11) اللّهِ، وَمَا شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ" (12).

وتأمل جلالَ ونصحَ وحكمةَ خبرِ جبير بن نفير رحمه الله تعالى قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمرَّ به رجلٌ فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لوَدَدْنَا أنّا رأينَا ما رأيتَ، وشهِدْنَا ما شهدتَّ. فاستغضب، فجعلتُ أعجبُ، ما قال إلّا خيرًا! ثم أقبلَ إليه فقال:

 ما يحملُ الرجلَ على أن يتمنّى مَحْضَرًا غيّبه اللهُ عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتمُ البلاءَ بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشدِّ حالٍ بُعِثَ عليها نبيٌّ من الأنبياء في فترةٍ من جاهلية، ما يَرَون أنّ دينًا أفضلُ من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقانٍ فَرَّقَ به بين الحقّ والباطل، وفَرَّقَ بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجلُ ليَرَى والدَهُ وولَدَهُ، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْلَ قلبه للإيمان، يعلم أنّه إن هلك دخل النار، فلا تَقَرُّ عينُه وهو يعلم أنّ حبيبَهُ في النار، وإنّها التي قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)" (13).

ويا ليتَ عُقَدَ إصرارِنا على الذنوب تنفسخ عن قلوبنا حتى نكونَ من أهل التوبة النصوح، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمّ شَعَثَ التائب وتجمعه، وتكفّه عما كان يتعاطاه من الدناءات. وقال الثوري، عن سِمَاك، عن النعمان، عن عمر رضي الله عنه قال: "التوبة النصوح: أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه". وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يتوب ثم لا يعود".  ولهذا قال العلماء: "التوبةُ النَّصُوح: أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل. ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه بطريقه".

وكان الحسن يقول: "التوبة النصوح: أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته". فأما إذا حَزَمَ بالتوبة، وصَمَّمَ عليها؛ فإنها تَجُبُّ ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تجبُّ ما قبلها" (14)." (15).

ومن هنا جاء التأكيد على شأن الثبات على الخير قدر الطاقة، فمن ثَبَتَ نَبَتَ، ومَن شدَّ انقطع، ومن شَذَّ ضاع، فالمُنْبَتّ لا ظهرًا أبقَى ولا سيرًا قطع، والبطال الكسلان لا خيرًا حصّل لنفسه ولا للناس نَفَعَ، ومن جُمْلَةُ ما جاء في السنة النبوية في هذا الشأن ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ (16)، وكان يُحَجِّرُهُ (17) باللَّيل فيُصلي فيه، ويَبْسُطُهُ بِالنَّهار، فَيَجْلِس عليه، فجعل النَّاسُ يَثُوبُونَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، يُصَلُّونَ بصلاته، حتَّى كَثُرُوا. فأقبَل، فقال: "يا أيُّها النَّاسُ؛ خُذُوا من الأعمال ما تطيقون، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتَّى تَملُّوا (18) وإنَّ أحَبَّ الأعمال إلى الله ما دَامَ وإن قلَّ"، زادَ في رواية: "واكْلَفُوا من الْعَمَلِ ما تُطيقون". (19) وفي رواية: "سَدِّدُوا وقاربُوا، (20) واعلموا أنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وأنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإنْ قلَّ"، وفي رواية: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ: أيُّ العَمَل أحبُّ إلى الله؟ فقال: "أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ"، متفق عليه (21)، وزاد أبو داود (22): "وكان إذا عمل عملًا أثبَتَهُ"، وفي أخرى له عن علقمة قال: سألتُ عائشةَ: كيف كان عملُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يَخُصَّ شيئًا من الأيام؟ قالت: "لا، كان عَملُه دِيمَةً (23)، وأيُّكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟"

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وفي السنن (24) عنه أنه قال: "لكلِّ عاملٍ شِرَّةٌ (25)، ولكل شِرَّةٍ فترة (26)، فمن كانت فترته إلى سُنَّةٍ فقد اهتدى، ومن أخطأَها فقد ضَلَّ". وفي لفظ: "ولكل شِرَّةٍ فَتْرَة؛ فإن كان صاحبها سَدَّدَ وقارب فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوهُ".

فقيل للحسن البصري لما رَوَى هذا الحديث: "إنَّك إذا مَرَرتَ بالسُّوق فإنَّ النَّاس يُشِيرونَ إليكَ؟ فقال: "لم يُرِدْ ذلك، وإنما أرادَ المُبْتَدِعَ في دينه والفاجرَ في دنياه". وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإنَّ من الناس من يكون له شدَّة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابُدَّ من فُتُور في ذلك. وهم في الفَتْرَة نوعان:

منهم: من يلزم السنَّة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نُهِيَ عنه، بل يلزم عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، يعني الموتَ، قال الحسن البصري: لم يَجْعَل الله لعباده المؤمنين أجلًا دون الموت.

ومنهم: من يخرج إلى البدعة في دينه أو فُجُور في دنياه حتى يُشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدًا في الدِّين ثم صار كذا وكذا. فهذا مِمَّا يخاف على من عَدَل عن العبادات الشرعية إلى الزيادات البدعية. ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: "اقتصادٌ في سُنَّة خير من اجتهادٍ في بِدْعة" (27).

ومع هذا فجِنْس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل مِن أصحاب رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشعبٍ فيه عُيَينة مِن ماءٍ عَذْبة فأَعْجَبَتْهُ. فقال: لو اعتزلتُ الناس،َ فأَقَمتُ في هذا الشِّعْب، ولن أفْعَلَ حتى أَستأذِنَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (28) فذَكَرَ ذلك لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لا تفعل، فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضلُ من صلاتِه في بيتِه سبعينَ عامًا، أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغفِرَ اللهُ لكم ويُدْخِلَكم الجَنَّة؛ اغْزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجَبَتْ له الجَنَّةُ" (29). وفُوَاقُ النَّاقة: ما بين الحلبتين.

وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). قال: أَخْلَصُه وأَصْوَبُه، قالوا يا أبا علي؛ ما أَخْلَصُه وأَصْوَبُه؟ قال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالِص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُنَّة. وهذا كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهمَّ اجعل عملي كُلّه صالحًا، واجعله لِوَجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.

والعملُ الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فِعل الحسنات التي يكون الرجل به مُحْسنًا. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، وقال: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون)". (30)

لقد كان الصحابة ومن بعدهم من أئمة الدين يتواصون بحُسن المتابعة والاقتصاد في السنة والاقتصار عليها والعض على نهجها ما استطاعوا لذلك سبيلًا، فعن أُبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه قال: "عليكم بالسَّبيل والسُّنَّة، وإنّ اقتصادًا في سنَّةٍ وسبيل، خيرٌ من اجتهادٍ في غير سنَّةٍ وسبيل، فانظروا أعمالكم؛ فإن كانت اقتصادًا واجتهادًا، فلتكن على منهاج الأنبياء وسُنَّتهم" (31). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "اقتصادٌ في سُنَّة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة؛ إنّك أن تتَّبع، خيرٌ من أن تبتدع، ولن تخطئ الطَّريق ما اتَّبعت الأثر" (32). وقال أيضًا: "يا حبّذَا نومُ الأكياسِ وفطرُهُم، كيف يسبقون سهرَ الجاهلين وصيامَهم" (33). وقال بعضهم: "كم من مستغفرٍ محروم، وساكت مرحوم، هذا مستغفر وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه ذاكر" (34). وقال بعضهم: "ليس الشأنُ فيمن يقوم الليل، إنّما الشأن فيمن ينام عَلى فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب". وفي ذلك قيل:

مَنْ لِي بمِثلِ سيرِكَ المُدَلَّلِ … تَمشِي رويدًا وتجي في الأوَّلِ" (35)

لذا؛ فكلنا – بلا استثناء- مُحتاجون لأمورٍ تعيننا بإذن الله تعالى على اجتياز قنطرة الدنيا بسلام، فما هي إلّا مُهَلٌ قصيرة في دار الامتحان، وسُنَيّاتُ تكليفٍ يسيرة في دنيا الابتلاء، فاصبر بالله ولله قليلًا، فالسنين تُطوَى سريعًا حتى يلحق باقيك من أعضائك بسابقيك من أحبابك، والمرجوّ من الله البرِّ الكريم الرحمن الرحيم أن يكون المُلتَقَى في ظلال عرش الرحمن جل جلاله، – رحمني الله وإياك-. فلا تغرّنَّكَ الآمالُ فإنّما الآجالُ تقتنصُ الآمالَ، ومنايا تخترمُ الأماني، وساعات رحيل إلى لقاء الله تعالى، والسعيدُ من رضي عنه الله تعالى، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم).

وإنّ الحاجة ماسّة بيننا لنتعاون في التالي: أن نتواصى بيننا بالحق وبالصبر وبالمرحمة، (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، (وتواصوا بالمرحمة)، ومن ذلك التواصي المستمر الدائم بالإخلاص لله تعالى، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومحاسبة النفس على الدوام في ذلك.

 وكذلك التناصح والتواصي والتعاون على البرّ والتقوى، وعلى تَفَقُّدِ الإخوان حتّى لا يستحوذ عليهم الشيطان، فيطوي على قلوبهم كَشْحِهِ السّامّ، ويُغطّي بصائرَهم بمكره الفَتّان، فيسْرِي بهم لِمَبَاءَاتِ الهَلَاكِ، ويسوقهم لمَرَاقِدِ الغفلَاتِ، ثم يلقيهم في شِبَاكِ الفتن والخطيئات. وإنّ المؤمنُ ضعيفٌ بنفسه مهما كان حالُه، قويٌّ بإخوانه، واجتماعهم، وتعاونهم، وتناصحهم، وتعاضدهم، وتوادّهم، وتفقّد خلّات بعضهم، ورأبِ صدوعهم، ورَفْءِ شقوقهم، والأخذِ بأيدي بعضهم إلى سعة رضوان الله تعالى ونعيم الجنة، وكلٌّ بقدْرِه وطاقته، فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، فعليها بذلُ الوسع حتى تبلغ الغاية، وإنّما يأكل الذئب القاصية.

أخاكَ أخاكَ إنّ مَنْ لاَ أخًا لَهُ … كَساعٍ إلى الهَيْجَا بغَيرِ سِلاَحِ

ومما نحتاجه كذلك: المجاهدة للنفس، وحسن سياستها، والرّفق بها، وإنّ من الرفق بها الحزمُ معها في كلّ ما مِن شأنه خيرها. وإنّ من المهمّات العظيمة في إحسان سياسة النفس ضرورة المحافظة على المسار الوسط من جهتين:

الأولى: رسم طريق الهدي النبوي لها، حتى لا تفْرُط في غُلُوٍّ، ولا تُفَرِّط في أمرٍ أو نهيٍ، فهو النهج الوسط، بلا وكسٍ ولا شَطَطٍ.

الثانية: - وإليها قصدنا هنا- ألّا تنزلَ عن الحدّ الأدنى لمطالب الشرع الحنيف. فثمّ حدٌّ أدنى لا يجوز النزول عنه بحال، وهو حدُّ الحرام، فيبقيها بعيدة عن حمى حدِّ المحرمات، ولكن يطاوعها على الندرة في التوسع في المباحات، بل قد يولجها أحيانًا لعلِّةٍ مُلْجِئَةٍ بعض أبواب المكروهات وترك المستحبات ونحو ذلك، بدون أن تكون عادة، لأنّ العادة الغافلة الرديئة تُسقِطُ أسوار المجاهدة دون حصن القلب، فله حماه الذي متى اجتازه عدوه اقترب للقلب بقدره.

والمقصود؛ أن يكون ذلك بأقل الممكن حتى لا تستمرئ النفسُ الدَّعَةَ والكسل، فسائس الفرس أعلم بمزاجه، وأحرص على عافيته ونشاطه، فلا يرخي له الطِّول دومًا ولا يشدُّه دومًا، بل برفق حازم، وإقبال على مهل، ومن لم يقدمه عزمه أخره عجزه. ومع هذا كله فهداها بيد هاديها، (فألهمها فجورها وتقواها)، (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).

فالفتور سمة وغريزة وخِلقة في الإنسان، والنفس يعتريها ما ينوبها من فتور وتقصير تسكن إليه حينًا، فمن حُسن سياستها الترفّق الحكيم معها حين ضعفها، فسوطُ زاجرِ الموعظة في حال فتور النفس وتعبها قد يرتدُّ على خلاف ما وضع له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، فإن حَرَنَتْ عن وعْظِ المَخَافَةِ أو خِيفَ عليها مِسْكَةٌ من قُنُوطٍ عن الوعظ فَاحْدُ لها بالبِشارات، وأرخِ لها عنانها شيئًا، وخذ بها لسهول مُتع الإباحة، ثم ارتق بها درج الجديّة، فالحُرُوقُ مَفَاوِزُ الشُّرُوقِ.

وبالجملة؛ فابْسط لنفسك حبل مسرَّتها بساعة وساعة، بلا ركون طويل وعكوف دائم، حتى لا يكون الاستثاء أصلًا، فهذه مرتبة البطالين، ولكن لا بأس أن تشتغل بها النفس من باب الترويح المباح استعدادًا وتقوّيًا على الجدِّ الفاضل، بحيث لا يطولَ ذلك الفتور فيستحكم كعادات السوء.

 واعلم أن من شروط سلامة المسير إراحة الراحلة، وتأمّل فقه عليم الأمة معاذ حينما تحدث مع أبي موسى رضي الله عنهما وسأله عن أمر ينبغي أن يكون هو شغلنا وهمّنا ومردّ سؤالاتنا، قال: "يا أبا مُوسى كَيْفَ تَفْعَلُ بِالقُرْآنِ؟، قالَ: أتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا، أقْرَأُ عَلى فراشِي، وفِي صَلاتِي، وعَلى راحِلَتِي، ثُمَّ قالَ: أبُو مُوسى: كَيْفَ تَفْعَلُ أنْتَ يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟، قالَ مُعاذٌ: سَأُنَبِّئُكَ كَيْفَ أفْعَلُ، أمّا أنا، فَأبْدَأُ فَأتَقَوّى بِنَوْمَتِي عَلى قَوْمَتِي، فَأحْتَسِبُ فِي نَوْمَتِي، كَما أحْتَسِبُ فِي قَوْمَتِي" (36).

وإنّ من رحمة الله تعالى أن جعل هناك محطات للتزود بالتقوى زمانية كالجمعة ورمضان والحج، ومكانية كالمساجد وحلق العلم، فحقيقٌ بالحازم استغلالها فيما يزيد إيمانه بمولاه، ويرفع درجاته في عقباه. وكلما خبت همّتُكَ شيئًا فتذكر أن نار الله الموقدة لا تخمد لمن لم يهرب إلى الله منها، (كلما خبت زدناهم سعيرا).

هذا؛ ومشروعُكَ الأعظم – فاعلم- الذي ينبغي أن يكون نصب عينيك، وأن تعمل لأجله سواد ليلك وبياض نهارك، وتهتم لأجله في يقظتك ومنامك، وفي شرخ شبابك وكهولتك وهرمك حتى رمقك الأخير ونفسك الخاتم ولحظتك النهائية في هذا العالم الامتحاني حتى تصنع لك أعظم قصة نجاح: هو بلوغك رضوان الله تعالى. فاعمل بِكُلِّكَ لتحصيله والفوزِ به، ولْيَكُنْ بعد ذلكَ ما يكونُ.

لهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لِكَبَارِهَا  ...  وهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ من الدَّهْرِ

فاسأل الله تعالى الثبات على الهدى حتى الممات، وقد ورد من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنّي أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد" (37).  والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، ولا يُخيِّبُ من أحسن فيه ظَنَّهُ، وأَعْلَى عِندَهُ رَجَاءَهُ، وَأَعَظَمَ بينَ يَدَيه رَغِيبَتَه، فهو عند حسنِ ظنِّ عبده به، فاعمل عمل الراغبين حتى تكون من الرَّاجين، ولا تقعدنَّ مع الكسالى فالكسل أَعْدَى مِن الجَرَبِ، ولا تَركَنَنَّ إلى البطَّالِين المُتَمَنِّينَ على الله الأماني، (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به)، (أم للإنسان ما تمنى . فلله الآخرة والأولى)، واحذر ارتهان نفسك بالسيئات، فلا فِكَاكَ بعد رحمة الله إلا بالتوبة والصالحات، فلا يكن حالُكَ كحالِ: (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا)، واسأل ربك الخير كلَّه، ومِنْ أعظمِه حسنَ الخاتمة، (يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).

وعن شَهْرِ بن حَوشَبٍ رحمه الله تعالى، قال: قلتُ لأُمِّ سَلَمة رَضِيَ اللهُ عنها: يَا أمَّ المؤمِنينَ؛ مَا كَانَ أكثْرُ دعاءِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قالت: كَانَ أكْثَرُ دُعائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ". قالت: قلت: يا رسول الله؛ ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبّتْ قلبي على دينك؟ قال: "يا أُمًّ سَلَمَة؛ إنّهُ ليس آدميٌّ إلّا وقلبُه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ". فَتَلَا معاذ (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك انت الوهاب) (38). وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: "يا مقلّب القلوب، ثبّتْ قلبي على دينك". قال: فقلنا يا رسول الله؛ آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ قال: فقال: "نعم، إنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها" (39). وعن سالِمٍ عن عبد اللَّهِ ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كَثِيرًا مِمّا كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْلِفُ: "لا، ومُقَلِّبِ القُلُوبِ" (40)، وفي رواية: كانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ ﷺ: "لَا ومُقَلِّبِ القُلُوبِ" (41) فليكن لسانك لَهِجًا على الدوام بهذا الدعاء العظيم.

ومن هذا الباب قال الإمام المحقق ابن تيمية رحمه الله تعالى عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الرضا بعد القضاء" (42) "وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء. وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ. وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصًا عزائم الصوفية، (43) ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: "بفسخ العزائم ونقض الهمم". وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، وفي الترمذي: أنّ بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمنا أيّ العمل أحبّ إلى الله لعملناه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. (44)

وقد قال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب). الآية. فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبّوه؛ فلما ابتلوا به كرهوه، وفروا منه. وأين ألم الجهاد من ألم النار وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به؟! ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب، أنه كان يقول:

وليس لي في سواكَ حظٌّ    ...   فكيفما شئتَ فاختبرني

 فأخذه الحَسر من ساعته، أي حُصِرَ بولُه، (45) فكان يدور على المكاتب (46)، ويفرّق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمّكم الكذاب. (47) وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن سمنون قال: يا رب، قد رضيتُ بكل ما تقضيه عليّ. فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا. فكان يتلوى كما تتلوى الحيّة، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما أطلق بوله قال: ربّ قد تبتُ إليك.

 قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادّعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدنى بلوى، مع أن سمنونًا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور. وقد ذكر القشيري في باب الرضا عن رويم المقري رفيق سمنون قال: قال رويم: إنّ الراضي لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحوّلها عن يساره! فهذا يشبه قول سمنون: فكيف ما شئت فامتحني. وإذا لم يطق الصبر على عسر البول أفيطيق أن تكون النار عن يمينه؟!

والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء، وابتلي بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبّي لك إلّا فرجتَ عني؛ ففرّج عنه. ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون إنه رجع إلى الدنيا، وترك التصوّف، حتى روي عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يتكتم سرًّا فليفعل كما فعل رويم؛ كتم حُبَّ الدنيا أربعين سنة، (48) فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: وَلِيَ إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد، وكان بينهما مودة أكيدة فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه، فترك لبس التصوف، ولبس الخزّ والقَصَب والديبقي، وأَكَلَ الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حبّ الدنيا ما لم يجدها، فلما وجدها ظهر ما كان يكتم من حبّها. هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف، وكان على مذهب داود. (49)

وقبل النهاية لنا وقفة لا بدّ منها؛ فالمؤمن الموفّق هو من كشف الله له زيفَ الجهلِ عن جوهر العلم، فلإبليس – أعاذنا الله تعالى منه- تسويلات وتزيينات وتلبيسات وترويعات وتحزينات لا تكادُ تنتهي عند من لم يستعذ بالله منه، ويتبصّر حاله معه، ويتّخذه عدوًّا كما أمره ربه، (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب الجحيم). وإنّ انفساخ العزائم عن طلب ذخائر الآخرة ومعالي همم المتقين والعمل الصالح والقول الطيب مؤذنٌ باستلابِ حبِّ الدنيا قلب المرء بخراب دينه، إن لم يتداركه ربه بعونه وتوفيقه وحفظه وهدايته. فإنّ من غرائز النفوس التي لا تكاد تنفك عنها حب الدنيا، قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث)، وقد أرشد سبحانه بعد بيان حالنا الضعيف مع زينة الدنيا إلى ما ينبغي لنا حقًّا أن نرتقي إليه، فقال تبارك وتعالى: (قل أؤنبؤكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله). وقال سبحانه مُعَرِّيًا غريزة بني آدم: (وتحبون المال حبا جما)، وقال سبحانه مبيّنًا حقيقة الدنيا وحال الغافلين معها: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما)، ثم نقل الوصف مباشرة للآخرة فقال: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله) أي: اختاروا مصيركم، واحرثوا لآخرتكم، واعملوا لمنازلكم غدًا. وتدبر قوله تعالى ورحمته بنا حين زوى كثيرًا من ترف الدنيا عنا، فقال سبحانه: (ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيها يَظْهَرُونَ). قال الحسن رحمه الله تعالى: "لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال، ثم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟!" (50).

وروى أحمد (51) بسند جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة". وروى البخاري (52) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كانَ رَسول اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ". ونحو هذا من الطيبات المعينة على عبادة الله تعالى. فحبُّ الدنيا غريزة هذبتها الشريعة، وأكثرها محتاج لمجاهدة قلب حتى يكتفي منها بالبُلغة للوصول لغايته في الدار الآخرة، والعاقل هو من لم يُحبّ الدنيا لذاتها بل بما تفضي به إلى مرضاة الله. قال ابن تيمية رحمه الله في الصفدية: "ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حُبِّبَ إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، (53) هكذا لفظ الحديث، لم يقل: حبّب إلي ثلاث، فإن المُحبّب إليه من الدنيا اثنان، وجعلت قرة عينه في الصلاة، فهي أعظم من ذينك، ولم يجعلها من الدنيا". ومن أمثلة محبة العلم أنّ ابن هطيل رحمه الله تعالى كان مُوْلعًا بشرح الرضى على كافية ابن الحاجب، لا يفارقه في أغلب أوقاته، فلما حضرته الوفاة طلب هذا الشرح، ثم وضعه على صدره، وقال:

تمتَّعْ من شَميمِ عَرَارِ نجدٍ  ...   فما بعد العَشيّةِ من عَرَارِ

أما عن الترفّه، فالمذموم منه ما ألهى عن الآخرة لا ما أراح النفس بالمباح من وعثاء الدنيا، ولكن تقصُّدَ الترفّه والتنعّم والانغماس في لذائذ الجسد ليس للمتقين بسبيل سلامة، أما مطلق الطيبات فطيبة حسنة، فقد قال سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون). وفي صحيح البخاري معلقًا مجزومًا به (54) باب قول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا في غير إسراف ولا مَخْيَلة". وقال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَفٌ أو مخْيَلةٌ".

 وأخرج البيهقي (55) أنّ ابن عباس لما ذهب لمناظرة الخوارج قالوا له: مرحبًا بك يا أبا عباس فما هذه الحُلّة؟ قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟! لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).

ولنا في الأنبياء أسوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ، فَناداهُ رَبُّهُ: يا أيُّوبُ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرى؟ قالَ: بَلى وعِزَّتِكَ، ولَكِنْ لا غِنى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ". (56) قال القَسطلاّني رحمه الله تعالى: "قوله: "ولكن لا غِنى بي عن بركتك": أي: خيرِك، واستُنبط منه فضل الغِنى لأنه سمّاه بركة، ومُحالٌ أن يكون أيوب صلوات الله عليه وسلامه أخذ هذا الماء حبًّا للدنيا، وإنما أخذه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه تعالى لأنه قريب العهد بتكوين الله تعالى، أو أنّه نعمة جديدة خارقة للعادة، فينبغي تلقّيها بالقبول، ففي ذلك شكر لها وتعظيم لشأنها، وفي الإعراض عنها كفرٌ بها، وفيه جواز الاغتسال عريانًا؛ لأنّ الله تعالى عاتبه على جمع الجراد، ولم يعاتبه على الاغتسال عريانًا" (57). وعليه؛ فالدنيا لا تُذمُّ لذاتها بل بما ترتب على التعامل معها، فما قرّب إلى الله تعالى فهو محمود ممدوح طيب كريم، وما أبعد عنه فالمذموم المُطّرح.

وبكل حالٍ؛ فلا يزالُ الحُزنُ (58) والرّجاءُ، والفرَحُ والأملُ، والتّرقّبُ والانتظار، والشّوقُ والتّوقُ، والحُلْمُ والحقيقةُ، والجَلْبُ والقبضُ، والدّفعُ والرّفعُ، والعزمُ والفسخُ، والفَتْلُ والنَّقضُ، والإنشاءُ والهدم، يعتلج في أفئدة أهل الإيمان واليقين، مهما بلغتْ مَوْعِدَتُهُم لأنفسهم، أو وصلَ علمُهُم وفهْمهُم، أو قويتْ عزماتُهُم واشتدَّتْ إراداتُهم، وأينمَا تعطّفت بهم دنياهم في بِطَاحِ التَّرفِ، وأمواجِ الرّغائبِ، وسَحَابِ الأمنيات، وأوديةِ الضَّنْكِ، وسُبُلِ الكَّدِّ، وأروقَةِ المعرفةِ،  فالدنيا قد طُبِعتْ على الكَدَرِ، والإنسانُ خُلِقَ في كَبَدٍ، وَكمْ من مُؤمنٍ يموتُ وحاجته في صدره لم تُيَسَّرْ له، لحِكْمةٍ ربّانية ولطفٍ إلهيٍّ، فأمر المؤمن كله خير بإذن الله تعالى، ولله الحمد في كل حال وعلى كل شيء. فقد يثوبُ الإنسانُ – أحيانًا- لأصلِ طبعِهِ الضعيفِ، فيعْزُبُ – شيئًا- عن رواسخِ يقينه، وسوَاطِعِ بصيرته، وثوابتِ عقله حينَ تَراكُمِ أسبابِ الأحزان، وتوارُدِ أسرابِ الهموم، وتتابُعِ كتائبِ الغموم؛ بَيْدَ أنَّ الإيمانَ عمود نورٍ ليقينه، ورَوْحٌ مريحٌ لروحِهِ، وعزاءٌ تامٌّ لفؤادِه، وسكينةٌ وارِفَةٌ لقلبِه المطمئنِّ بربه، الراضي به، الموقنِ بلقائه، القويِّ به، الحسنِ ظنًّا به، الواثقِ على الدوام به، المتوكِّلِ بكليته عليه، الفَرِحِ كُلّ الفرحِ به.

ومَن كانَ هذا حالُه فلا ضَيعَةَ عليه، ولا خوفٌ ولا حزنٌ، فالله تبارك وتعالى لا يُضَيِّعُ أهلَهُ، ولا يُخلِفُ ميعادَهُ، ولا يُخَيِّبُ مَن صَدَقَ معه، وبالله التوفيق. والحمد لله أزلًا وأبَدًا وسَرْمَدًا، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

 

إبراهيم الدميجي

28 رمضان 1444

aldumaiji@gmail.com

..............................

1.    تفسير ابن كثير (5 / 171)

2.    تفسير ابن كثير (5 / 320)

3.    ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء (٩/‏١٥١)

4.    نوادر الأصول في أحاديث الرسول، للحكيم الترمذي (٢/‏١٠٧)

5.    مسلم 1/36 ( 17 ) ( 25 )

6.    وانظر: (العزم) للمؤلف، ضمن سلسلة أعمال القلوب.

7.    تفسير ابن رجب (٢/‏٣١٤)

8.    الجامع الصحيح للسيرة النبوية، د. سعد المرصفي (٤/‏٩١٩)

9.    البخاري (6389)، ومسلم (2690) وفي رواية لمسلم: "اللهم" بدل: "ربنا"، والباقي مثله.

10.                    قال النووي في شرح صحيح مسلم (8/382) (2664): "معناه: في كلٍّ من القويّ والضعيف خير، لاشتراكهما في الإيمان".

11.                    قال ابن باز رحمه الله تعالى: "قدَرُ الله وما شاء فعل"، وبعضهم ضبطها "قدَّرَ الله وما شاء فعل" أي: قدّر الشيء الواقع، والمعنى الأول أظهر، أي: أنّ هذا الواقع هو قَدَرُ الله، أي: مقدورُ الله، وما شاء الله فعل". شرح كتاب التوحيد: ص: (250). وكذلك رجّحه العثيمين رحمه الله تعالى.

12.                    مسلم 8/56 ( 2664 ) ( 34 )

13.                    المسند (23810) وصححه محققوه، وصححه الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/142) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (87) وصححه الألباني.

14.                    مسلم (121)

15.                    تفسير ابن كثير (8 / 168) باختصار.

16.                    أي: نسيج من خوص النخل في المسجد.

17.                    يُحَجِّرُهُ: حَجَّرَهُ يُحَجِّرُهُ، أي: يتّخذه حُجْرَةً وسترة ينفرد عليه فيها. وقال الفَتَّنِي رحمه الله تعالى في مجمع بحار الأنوار (١/‏٤٥٤): "هو من التحجير، احتجر، أي: حفظ موضعًا من المسجد لئلّا يمرّ عليه مارٌّ، ويتوفّر خشوعه، ثم تركها وعاد إلى البيت لخوف مفسدة. وانظر: شرح النووي على مسلم (٦/‏٦٩)

18.                    سئل شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله تعالى عن دخول (التّرَدُّدِ والمَلَلِ والظِّلِّ) في صفات الله تعالى؟ فأجاب:

"الحمد لله، هذه الألفاظ لا شكّ أنها وردت مضافة إلى الله في أحاديث صحيحة، ولكن دلالة الأحاديث على اعتبارها صفة لله أو غير صفة مختلفة، فأما التردّد فإنّه بالمعنى الذي ورد في الحديث القدسي: "وما ترددّتُّ في شيء أنا فاعله تَرَدُّدِي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه". هو صفة فعلية، ومعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تعارضُ إرادتين: إرادةُ قبضِ نفس المؤمن، وكراهة الله لما يسوء المؤمن، وهو الموت.

وليس هذا التردُّدُ من الله ناشئًا عن الجهلِ بمقتضى الحكمة، والجهلِ بما ينتهي إليه الأمر، فهذا تردُّدُ المخلوق. بل هو سبحانه العليم الحكيم، فهذا التعارض بين إرادتيه سبحانه تردُّدٌ مع كمال العلم بالحكمة، ومنتهى الأمر، ولهذا قال في الحديث: "ولا بدَّ له منه". فتردّد المخلوق الناشئ عن جهله نقصٌ، بخلاف التردّد من الله فلا نقص فيه، بل هو متضمّن للكمال: كمال العلم، وكمال الحكمة.

وأما الملل المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: "اكلفُوا من العلم ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ حتى تملّوا"، فالعلماء مختلفون في دلالة الحديث على إثبات الملل صفة لله تعالى، فقال بعضهم: إنّه لا يدلّ على إثبات الملل، وأنّه من جنس قول القائل: فلانٌ لا تنقطع حجته حتى ينقطع خصمه. لا يدل على إثبات الانقطاع.

ومنهم من قال: إنّه يدلّ على إثبات الملل، وتأوّله بقطع الثواب، فمعناه: أنّ الله لا يقطع الثواب حتى تقطعوا العمل، ففسروا اللفظ بلازمه.

ويمكن أن يقال: إنه يدل على إثبات الملل صفة لله تعالى في مقابل ملل العبد من العمل بسبب تكلّفه وإشقاقِه على نفسه، والملل من الشيء يتضمّن كراهته، ومعلوم أنّ الله تعالى يحبّ من عباده العمل بطاعته ما لم يشقّوا على أنفسهم، ويكلفوها ما لا تطيق، فإنه الله يكره منهم العمل في هذه الحال، والله أعلم بالصواب.

وأما الظلّ المضاف إلى الله بقوله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلّهم الله في ظلِّه"، فالصواب عندي أنه ليس صفة لله تعالى، بل هو ظلُّ العرش، كما جاء في رواية، أو أيُّ ظِلٍّ يقي الله به من شاء من حرّ الشمس في ذلك اليوم؛ كظلّ الصدقة كما في الحديث: "المؤمن في ظلّ صدقته يوم القيامة". فعلى هذا تكون إضافة الظلّ إليه من إضافة المخلوق إلى خالقه، ولم أقف على كلام في هذا لأحدٍ من أئمة السنة المُقتَدَى بهم. والله أعلم". لقاءات ملتقى أهل الحديث بالعلماء (٢/‏٣٠)

19.                    أي: تحمّلوا من العمل ما تطيقون المداومة والثبات عليه. قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: في كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّأ (١/‏١٠٨): "يقال: كَلِفَ بكذا من باب فَرِحَ: أي: أُولِع وأحبّ، وحذف باء الجر من قوله: «ما تطيقون» فعُدي الفعل بنفسه على طريقة التوسع؛ أو لأنه ضمن "اكلفُوا" معنى اعملوا، فعبر عن العمل بالكلف؛ لأن العمل من لوازم المحبة؛ إذ لا يفعل الطائع فعلًا إلا هو عن محبة؛ إذ لا إكراه عليه. وفي هذا التضمين نكتة بديعة وهي الإشارة إلى علة النهي التي قدمناها، وهي أن الشأن أن يكون عمل المتطوع عن محبة وإقبال، فعبر عن اعملوا بـ"اكلفوا" ببداعة بليغة".

20.                    "سَدِّدُوا": اقصدوا السَّداد من الأمر، وهو الصواب. "وقاربوا": اطلبوا المقاربة، وهي القصد في الأمر الذي لا غُلو فيه ولا تقصير.

21.                    البخاري (6465) ومسلم (782)

22.                    أبو داود (1368) وصححه الألباني.

23.                    الديمةُ: المطر الدائم في سكون، مبالغة من الدوام أو الديمومة، ويسمى الهتّان، شَبَّهَتْ عمله في دوامه مع الاقتصاد بديمة المطر.

24.                    الترمذي (2453) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: "حسن صحيح غريب". وأخرجه أحمد (2/188)

25.                    أي: نشاط ورغبة.

26.                    أي: فتور وتراخ.

27.                    السُّنَّة، للمروزي. ص: (٣٠)

28.                    وهذا من أناته رضي الله عنه، وحُسنِ متابعته، وطيب تديّنه، وحكر اهتدائه على الوحي المبين، دون الخواطر الجامحة أو المدخولة، أو تزيينات النفس على غير هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك بارك الله له بالنصح الرَّسُوليِّ له ألّا يفعل.

29.                    أحمد (2/446، 524) والترمذي (1650) وحسنه الترمذي والألباني.

30.                    جامع المسائل لابن تيمية، (5 / 375-377) باختصار.

31.                    مصنف ابن أبي شيبة (٧/ ٢٢٤) باختصار.

32.                    السُّنَّة، للمروزي. ص: (٣٢)

33.                    أحمد في الزهد (١٣٧) وأبو نعيم في الحلية (١/ ٢١١)

34.                    صفة الصفوة، لابن الجوزي (٢/‏٢٩٣) ونسبها ليحيى بن معاذ رحمه الله تعالى.

35.                    مجموع رسائل ابن رجب (٤/‏٤١٧)

36.                    صحيح ابن حبان (١٢/ ١٩٦). ومستخرج أبي عوانة (٥/‏١٠٠) وصححه الألباني والأرناؤوط.

37.                    مسند أحمد (28 / 338) (17114) والحاكم (1/508) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والحديث حسن بطرقه. قال الإمام أحمد: حدثنا روح، قال: حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: كان شداد بن أوس، في سفر، فنزل منزلًا، فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبثُ بها، فأنكرتُ عليه، فقال: ما تكلّمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمّها غير كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليّ، واحفظوا مني ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كَنَزَ الناسُ الذهبَ والفضةَ، فاكنِزُوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب". وقال محققو المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط: "حديث حسن بطرقه، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه، حسان بن عطية لم يدرك شداد بن أوس. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين".

وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (13 / 31): "أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/335- 336)، ومن طريقه: أبو نعيم في الحلية (1/266)، وكذا ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/127) من طريقين عن سليمان بن عبدالرحمن: ثنا إسماعيل بن عياش: حدثني محمد بن يزيد الرحبي عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:... فذكره. قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف لا يضر".

38.                    الترمذي (3522) وقال: حديث حسن. وصححه الألباني.

39.                    أحمد (12107) وقال محققوه: إسناده قوي، على شرط مسلم.

40.                    البخاري (٦٦١٧)

41.                    البخاري ( ٦٦٢٨)

42.                    أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106)

43.                    وهو غالب لا مضطرد كما قال، فمنهم من يثبت في عزيمته كالجبال الرواسي لعظيم إيمانه وقديم دُربته وقوة أطر نفسه على الاستقامة، وكان فسخها غالبًا لديهم بالخصوص لأن إرادتهم غلبت علمَهم، فعلمهم بالله تعالى وبشرعه ليس على المستوى المطلوب لإيمانهم، فيبتدئ المريد بقوّةِ عزيمةٍ رغَبًا ورَهَبًا ومحبّة وشوقًا، لكنها لا تلبث أن تضعف أو تضمحل في ثاني الحال، لأنها مبنيّة على وهج رغبة وطرفٍ من علم، فعادت دعوى غير مُحقّقة. أما إن ساعدها علمُ فقيه بطريق الرسول صلى الله عليه وسلم في أعمال الجوارح وأحوال القلوب وما يصلح لها وما يقيمها وما يقوّيها لاختلف الحال إلا من مانعٍ من خارجٍ كفسادِ نيّة أو ضعفِ تديّن أو خذلانٍ مقدور، والله أعلم.

44.                    الترمذي (5 / 412) (3309) وصححه الألباني.

45.                    كأنه أُصيب بفشل كلوي مؤقت أو حَجَرٍ سدَّ مسالكَه.

46.                    أي: طلاب الكتاتيب.

47.                    لأنهم لم يُقارفوا ذنوبًا، فعمدُ الطفل خطأٌ، ومن رحمة الله تعالى بهم أن يحتسب لهم الحسنات دون السيئات.

48.                    لعل مقصودهم بكتمان حبّ الدنيا: أي: حبّ المبالغة في زينتها والتنافس في حطامها الذي يقسّي القلب فيغفل عن معالي الآخرة. وبما قصدوا – وهذا أظهر-: ترك مظاهر التصوف التي أصّلها المتصوفة لأنفسهم من غير هدى من الله، (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)، فاشترطوا زيًّا معينًا من الصوف والخِرَق البالية زعمًا أنه من لوازم الطريق، وما هو من لوازمه، ولكن من اكتفى به زهدًا في الدنيا بدون شهرة أو تعاظم أو قصد أنها سنّة متّبعة فحسن، والله أعلم.

49.                    الفتاوى الكبرى  (2 / 401- 406) باختصار.

50.                    ذكره الطبري في تفسيره (٢١/‏٥٩٨).

51.                    أحمد (14037) والنسائي (7/61) وسنده جيد.

52.                    البخاري (٥٤٣١).

53.                    الصفدية (2 / 272).

54.                    البخاري معلّقًا بصيغة الجزم (10/264). وقد وصله النسائي (٢٥٥٩) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

55.                    البيهقي في السنن الكبرى (17186).

56.                    رواه البخاري (٢٧٩).

57.                     إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني (١/‏٣٣٣) باختصار.

58.                    وإن كان غير محمودٍ.