إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 5 أبريل 2023

مقدِّمةُ الحَمويّةِ.. طلعَ الصَّباحُ فَأطْفِؤُا القِندِيلَا

 

مقدِّمةُ الحَمويّةِ.. طلعَ الصَّباحُ فَأطْفِؤُا القِندِيلَا

 

الحمد لله العليّ الأعلى، وصلى الله وسلم على نبيه المُجتبى وآله ومَن بسنته اهتدى، أما بعد:

فإنَّ العلمَ رَحِمٌ بين أهله، ولا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا ذوو الفضل، والمؤمنُ أخو المؤمن، والسعيدُ مِنْ وَلَدِ آدم هو من اصطفاه الله تعالى بإيمانٍ يُقرِّبُه إليه، وعِلمٍ يرفعه لديه، (قال الذين أوتوا العلم والإيمان)، فإنْ لَمْ يكُ عالمًا فليكُن طالبَ علمٍ، فإن قَصُرَ عن ذلك فليكن لأهلِ الدينِ والعبادةِ والعلمِ مُحِبًّا، فالمرءُ مع مَن أحبَّ.

 وإنّ أبا العباس ابن تيمية عَلَمٌ من أعلام أمةِ أحمد صلى الله عليه وسلم وبارك، وإمامٌ من أئمة المسلمين، ومجاهدٌ كبيرٌ تشهدُ له ميادينُ الوَغَى، ومنابرُ المساجدِ، وساحات المناظرات، وطروسِ العلم، ودواوينِ السلاطين بقولِهِ الحقَّ لا تأخذهُ فيه لومةُ لائمٍ، ولا إشفاقُ عاذلٍ، ولا تهديدُ كاشحٍ، وتشهدُ لإمَامته حِلَقُ الدّرْسِ، وقلوبُ أهلِ السُّنَّةِ العتيقةِ، والفطرةِ السليمةِ، والقرائحِ القويمةِ، الناطقةُ بحُبَّهِ، الّلاهِجَةِ بالدعاءِ له، المثنيةُ عليهِ، الشاهدةُ له بالخيرِ والهدى، المُسَبِّحَةُ بحمد الله تعالى للُطْفِهِ وكرمهِ وهِبَاته ورفقهِ وأَلطافِهِ، المُتَعَبِّدَةُ الله تعالى بحبِّهِ وأمثالِه من نجومِ العلمِ والعملِ والجهادِ والهُدَى والتقوى والإحسانِ، (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)، (فانقلبوا بنعمة من الله لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم). تِلكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ.

إنّ مِن مِنَنِ الله تعالى العظيمة وآلائه الكبرى على الأمّة أن قيّض لها أئمةً يدعون إليه بعلمهم وعملهم وحُسْنِ سَمْتَهم، فما أحسن أَثَرَهَمْ على الناس!

أوّاهُ ما أروعَ الأبطالِ إذْ حَمَلُوا   ...   هَمَّ الدِّيانَةِ إنْ خَافُوا وإنْ سَغَبُوا

مَا قالَ واحدُهُمْ هَمِّي الحُطَام فقدْ   ...   صَاغَتْ مبادِئُهُمْ طه فمَا انقَلَبُوا

تَنَاثَرَ العلمُ شهْدًا مِن ثُغُورِهمُ   ...   أكرمْ بهِ مَنْبَعًا للدينِ يَنْسَكِبُ

أنّها نعمٌ ربّانيةٌ تستحقُّ الشكرَ، وتستنطقُ الحمدَ، وتستنزلُ المزيدَ العظيم من فضل الله الكريم، (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). ولقد أجرى الله تعالى للأُمَّةِ على يَدِ ابن تيمية خيرًا كثيرًا، فجمع الله تعالى فيه ما تفرّقَ في كثيرٍ من الأئمة بعمله وقوله لسانًا وبَنَانًا، فهو ممن اتفق البعيد والقريب على ألْمَعِيَّتِهِ، وتَفَرِّدِه، وجهاده، وواسعِ علمهِ، وثباتِ مبادئه، ووضوحِ مُسَلَّمَاتهِ، وعلوِّ مقاماتِه في شَتَّى ميادين العملِ لله تعالى، فآياتُ التنزيل تجري على يراعته يقتبسُ هُداها، وأحاديثُ وأخبارُ البشيرِ النذيرِ صلى الله عليه وسلم بين عينيه يقتطفُ جَنَاهَا، مَنْ صَحِبَهُ أحَبّهُ لله ديانةً، ومَن عاداهُ أجَلَّهُ مهابةً، ومَن طالعَ سيرته وضع يده على قلبه شُكرًا لله الكريم الذي جعل في الأمة مثلَهُ، ولا نزكيه على الله تعالى، وإنْ كان سَدَادُ الفحلِ الجهبذِ ابنِ القيم رحمه الله تعالى على يديه بفضل الله؛ فما ظنّكم بمن سواه؟!

ولا يضرُّه من أشار إليه بسوء، ولا يُشينُهُ من طَعَن عليه مُعتَقَدَهُ، أو طارد قالاتِ البهتان إليه، أو همَزَهُ أو لَمَزَهُ أو غَمَزهُ؛ فلم يسلَمْ أنبياءُ الله تعالى قبلَهُ، ولا الصالحين بعدَهُ، فخصومات شياطين الإنس والجن مَهْيَعُ المرسلين، (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون). ناموسُ العليمِ الحكيمِ واقتدارُه، وشريعتُه ولُطْفُهُ وابتلاؤه، (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).

ولقد كتب الشيخُ وناظر وحَاجَجَ، وقامَ وركبَ، وحَلّ وارتحل، وأوذي وامتُحن، وطُرِدَ وسُجِنَ وعُذِّبَ، وحاولوا غيلته مِرارًا، وراموُا قتلَهُ جهَارًا، وهو في كلِّ ذلك يَصبِرُ للهِ بالله تعالى ويُصابر، ويقوم له مجاهِدًا ويُرابط، لأجل العلم النافع ونشره والعمل به، والدعوة الحُسنى، وإضاءةِ ما يسْطِيعُ مِن بِقَاعٍ تَقَلَّصَ عنها شيءٌ من نورِ الوحي العظيم، واندرَسَتْ في مَهَامِهِهَا بعضُ آثار الرسول الكريم عليه الصلوات والبركات والتسليم، وهذه مُهمّةُ أهلِ العلم كافَّة في كلِّ زمان ومكان، (لتبيننه للناس ولا تكتمونه). فهَل مِنْ ناقمٍ عليه بحقٍّ.. اللهم كلَّا!

وَلَم تَزَل قِلَّةُ الإِنصافِ قاطِعَةً   ...  بَينَ الرِجالِ وَلَو كانوا ذَوي رَحِمِ

ألَا وإنّ مشكلةَ بعض من انحرف عن هذا الإمام، أو هجم عليه، أو ضلَّلَهُ؛ راجعة إمّا إلى ثقةِ المخذولِ في مُقَدَّمِي طائفته الذين حالوا بينه وبين هدايات الله تعالى بعلوم ذلك العالم الرباني، فالتقليدُ الأعمى بلا بصيرةٍ آفةٌ قديمة لدى الجُهّال أو المتعصبة أو الكسالى. وإما أن يكون راجعًا إلى سوء الهضم العقليّ المعرفيّ لبعض ما حوته خزائنُ حروف شيخ الإسلام من نوادر الذخائر العلمية المتينة، وإما لسوءِ المعتقد أو خبثِ الطويّة التي لم تَغِبْ عن علم ربِّ البرية، (أحصاه الله ونسوه)، فما دهاهُ حتى حلَّ عِقَالَ عقلِهِ! وإلى العقابيل تُرْمَى شِرَارُ الأفئدة، وكُلُّ إنسانٍ هالِكٌ وابنُ هالكٍ.. فلْيَهْنِهِمْ صيْدهُم ولنا العَزَاءُ!

فاظْلِمْ كمَا شئتَ لا أرجوكَ مَرْحَمةً ... إنّا إلى اللهِ يومَ الحشرِ نَحتَكِمُ

وبالتتبّع؛ فجُلّ مَن عابَ دقائق تحريراته لم يأتِ بشيءٍ، بل تجد أنّ كلامه يأتي مُرسَلًا محلول العِقَالِ بلا ضابطٍ ولا برهانٍ ولا دليل، ولا إنصافٍ ولا إحكامٍ ولا إحسانِ تعليل، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). ومن جهل شيئًا عَابَهُ، ومَتَى اسْتَرَابَهُ عَادَاهُ، فليته قنع بالسكوت إذ وَسِعَهُ إن كان جاهلًا، أو تذكّر لقاءَ الدَّيَّانِ أن كان عالمًا، وقد ‏قال إبراهيم بن بشّار رحمه الله تعالى: "اجتمَعنا ذات يومٍ في مسجدٍ، فما منّا أحَدٌ إلّا تَكَلَّمَ، إلّا إبراهيم بن أدهم، فإنَّهُ ساكِتٌ، فقلتُ: لِمَ لا تَتَكَلَّمُ، فقال: الكلامُ يُظْهِرُ حُمْقَ الأحْمَقِ، وعَقَلَ العاقِل". (1) وأبلغ من ذلك: "وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ". (2) وربُّ العِزَّةِ يقول: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). ولقد أتَتْكَ بِحَائِنٍ رِجْلاه، ومن صادق مقول أبي العلاء المعري:

أُلُو الفَضلِ في أَوطانِهِم غُرَباءُ   ...  تَشِذُّ وَتَنأى عَنهُمُ القُرَباءُ

قال الحافظ ابن الزّملكاني رحمه الله تعالى: "لم يأت قبل ابن تيمية بخمسمئة سنة مثله". أي: بعد الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ. قال الإمام ابن باز رحمه الله مُعلِّقًا: "ولا نعلم إلى عصرنا هذا من قد أتى مثله، رحمه الله". قلت: فمنذ 1200 سنة لم يأت أحد كهذا الإمام المجدد الصدّيق، ومع هذا فليس بمعصوم، فهل يُلام من أحبه ووثق بنصحه وعلمه. ونقول فيه كما قال ابن عمر رضي الله عنهما في ابنه سالم:

يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ ...  وَجِلْدَةٌ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالأَنْفِ سَالِمُ

ومن طعن في الإمامين ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب فاتّهمه على الإسلام، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا رأيت الرجل يَغْمِزُ حماد بن سلمة؛ فاتَّهِمْهُ على الإسلام، فإنه كان شديدًا على المبتدعة". (3) فإنهما قد قاما للدين حق القيام، وجدّد الله بهما ما اندرس من معالم الإسلام. قال العلامة عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى في شرحه لبلوغ المرام كتاب الصلاة: "وقد سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ هل هو أعلم من الأئمة الأربعة، أم هم أعلم منه؟ فأجاب بجواب موفق فيما أحسب، قال: باعتبار أن شيخ الإسلام تخرّج على كتب الأئمة الأربعة، وكتب أتباعهم فلهم الفضل عليه من هذه الحيثية، وباعتباره جمع بين ما قالوه وأحاط بما كتبوه، يعني إحاطة بشرية لا يعني هذا أن شيخ الإسلام أحاط بكل ما كتب أو ما قيل، نعم، فهو من هذه الحيثية أشمل منهم علمًا، هذا كلامه. وهناك أمر ينبغي أن نتنبه له وهو فضل علم السلف".

ولد شيخ الإسلام سنة 661 ومات سنة 728 وله 67 سنة و10 أشهر، بعدمَا أروَى الله به أكبادًا عِطاشًا لدفع الشبهات بالعلم الفُراتِ، وأشبعَ به أنفُسًا جِياعًا لِغّضِّ العلمِ من مَعينِ ورثة الأنبياء، وأدمَى الله به نواصيَ أهلِ الزيغ والإحداث والإضلال، رحمه الله تعالى. ولا فضل إلا بالتقوى، وتمامها العلم والإيمان. وعلى مثل ذا فابكِ إن كنتَ باكيًا. (4) ولله أبو حيان النحوي إذ قال:

قامَ ابنُ تيمية في نصرِ شِرعَتنا ... مقامَ سيّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ

فأظهرَ الدين إذْ آثارُه دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشركَ إذ طارتْ له شَرَرُ

وإن من عجيب لطف الله تعالى بعبده أن يسوق له الهدى من أبعد باب يتوقّعه، كمن تكون هدايته على يد من كان يراه عدوّه، ومن ذلك الشيخ العلامة محمد خليل هرّاس رحمه الله تعالى، وكان أستاذًا في الفلسفة والمنطق من جامعة الأزهر، وكان معاديًا لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فقصد نقض كتبه بالرد عليها وجمع بعضها، وعكف يدرسها ثلاثة أشهر تمهيدًا لنقضها؛ فما انقضت دراسته لها حتى تبين له أنه لم يفهم الإسلام حقًّا إلا بعد دراسته هذه الكتب المباركة لذلك العالم المبارك، فقام من بعدها بالانتصار لشيخ الإسلام، وأصبح من كبار علماء السنة في زمانه، وشرح الواسطية شرحًا ماتعًا نافعًا.

لقد رفعَ التوحيدَ أُسًّا وغايةً    ...    ومن كان ذا دومًا فللحقِّ هادِيا

وكذلك حال الشيخ خليل سليمان حيدرية، فحدّث عن نفسه أنه كان متصوّفًا وله زوايا، فلطف الله تعالى به – لمّا أراد هدايته – بأن أهداه أحد شيوخ المتصوفة كتاب مجموع فتاوى ابن تيمية طالبًا منه الرد عليه، فقرأه لينقضه؛ فغدى صائدُ الضلالة مصيدَ الهدى بحمد ربه، إذ فتح الله قلبه بذلك المجموع المبارك، فغدا داعيًا لعقيدة السلف منافحًا عنها، وإذا أراد الله أمرًا هيّأ له أسبابه.

فَمَا لِأُخُوَّةٍ في اللهِ مَعْنًى  ... إذا كانَ الصَّدِيقُ هو الإِدَامَا

وكان الكتاني رحمه الله تعالى ممن شنّعوا على ابن تيمية رحمه الله جهلًا به، وبعد أن اطّلع على تصانيفه قال بإنصاف عزيز: "فصدر مني ما صدر من التوغل والإفراط في ذم ابن تيمية.. فلما طالعت كتبه علمت أن الرجل عديم النظير في الإسلام، وقرة عين أهله.. ويستخرج شواهد القرآن.. وكأنه ما حفظ أحد القرآن إلا هو".

يَا قَاصدًا ثَبَجَ البِحارِ إلَا ارْعَوِ  ...  فلكَمْ تَجَنْدَلَ في المُحيطِ الضَّارِب

وبالجملة؛ فحال الرجل وعلمه المبثوث قد طار في الآفاق، وقد انصرفَ صفوةُ العلماءِ الذين وقفوا على كتبه إلى عِلمِه وتحرايرته كالعنق الواحد، عليه رحمةُ الله وسلامُهُ ورضوانُه والمسلمين، وجزاه عنا خير ما جزى العلماء الصدِّيقين، وأَلْحَقَنَا به جميعًا ووالدِينا وأحبابنا والمسلمين، غير خزَايَا ولا نَدَامَى، إله الحقِّ آمين.

خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَع شَيْئَاً سَمِعْـتَ بِهِ   ...   في طَلْعَةِ البَدرِ ما يُغْنِيكَ عَن زُحَلِ

هذا؛ وإنّ سبب رقم هذا المقال هو الإعلام بمقدمة رسالته القيّمة الحمويّة لِمَن فاته علوّ قدرها، لا بقصد الإشادة فهي تُنبيكَ عن فحواها، ولا الإشارة ففي صدور أكابر العلماء معناها، وما مثلي بمثلها يشيدُ ويشيرُ، اللهم غفرًا!

والمقصود هو تنبيه القارئ النبيه إلى أن من حقّ هذه الرسالة التيميّة بالذات نشرها في هذا الزمان الذي ادلهمّت فتنُه، وتعلقت بقلوب فئام من الشبيبة شبهاته، واستطار شر أهل الأهواء في الناس مع وسائل الاتصال الحديثة. فكان لزامًا على كل قادر سد باب الشر من جهته، وحسم مادة الفتنة من قبله، وحراسة ثغر الأمة طاقته، وغزو قلاع الشيطان بسلاح العلم بالقرآن، (وجاهدهم به جهادا كبيرا)، و"المؤمن القويُّ خيرٌ من المؤمن الضعيف". (5)

وقد خط الشيخ الصالح أحمد بن مري رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد وفاته يوصيهم بكتب الشيخ وعلمه، ويبشرهم بحسن العاقبة للمتقين، ومنها: "فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا.. ووالله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم". (6) وقد أبرّ الله تعالى قسمه، وليس راءٍ كمن سمع. وقد نشر الله في الناس علمه، وأعلى بين الأنام ذكره، فانتشرت كتبه ورسائله، منها ما هو ممهور باسمه، ومنها ما أبهم حفظًا لها من عاديات الجُهلاء، كصنيع ابن أبي العزّ والألوسي رحمهما الله تعالى، وغيرهما كثير.

ولما سأله تلميذه البارُّ البزار رحمهما الله تعالى عن سبب كثرة تآليفه في العلميات وأصول الدين دونَ كثيرٍ من مسائلِ العمليّات، والتَمَسَ مِنهُ تأليف نَصٍّ فِي الفِقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليَكُون عُمدة فِي الإفتاء؛ أجابه بقوله: "الفُرُوع أمرها قريب، ومتى قلّد المُسلم فِيها أحدَ العلماء المقلَّدين جازَ لَهُ العَمَل بقوله ما لم يتَيَقَّن خطأه، وأما الأصول فَإنِّي رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء قد تجاذبوا فِيها بأزِمَّة الضلال، وأن جمهورهم أوقع النّاس فِي التشكيك فِي أصول دينهم، فَلَمّا رَأيتُ الأمر على ذَلِك؛ بَانَ لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيّف دلائلهم ذبًّا عَن المِلّة الحنيفية والسّنة الصَّحِيحَة الجلية". (7)

وبالجملة؛ فالشيخ لم يترك شاذّة من كبريات شبهات المُبطلين في عصره إلا وكتب ما يهدمها من أساسها بحمد الله تعالى، سواء من الفرق المنتسبة للإسلام أو الخارجة عنه. والذي يدعو إليه، ويلحّ فيه، ويجاهد له، ولا يتراجع عنه؛ هو إقامة المعتقد الصحيح الذي لا لبس فيه ولا اشتباه، وحينما خاصموه في رسالته الواسطية، ورغبوا إليه – مَكْرًا - بعدم الحَسْمِ بها في مسائل المُعتَقد، ولوّحُوا وألمَحُوا، وأرعدوا وأبرقوا، وأرْغَبُوا وأرْهَبُوا، وصرّحوا أنهم سيقبلون بها على أنها رسالة مذهبية حنبلية؛ أبى ذلك بكل حزم ووضوحٍ وشموخ، فالحقُّ يَعلُو ولا يُعلَى، فصَدَح على رؤوسهم، وصَرَخَ بمشهد من جموعهم أنَّها مُعْتَقَدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتِه، وأنظَرَهم ثلاث سنين ليُثبتوا حرفًا منها مخالفًا للقرآن والسنة، وأنّى لهم ذلك! (الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ)، (قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)، (فإنْ حاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ وقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والأُمِّيِّينَ أأسْلَمْتُمْ فَإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ).

فالحقُّ شمسٌ والعيونُ نواظرٌ … لكنّها تخفى على العميانِ

 فالأمرُ إذن ليس خلافًا مذهبيًّا يسوغ فيه الخلاف، بل هو معني بملة محمد وإبراهيم والمرسلين صلى الله عليهم وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقّوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم". (8)

أما عن هذه الرسالة الحموية فهي من رسائله الراسخة الشاهقة، وكان الإمام ابن باز رحمه الله تعالى يوصي بها ولو أنْ تُقرَأ مئة مرة، لعظيم نفعها. ومقصودنا هنا مقدمتها، والرسالة واضحة البيان، وليست طويلة الذيول، ومعلوم أنّ أصعب التصنيف وأشقّ التأليف هي المختصرات؛ لأنها اعتصارٌ للفكر، واختزالٌ للعلم، وجمعٌ للمتفرق، وتسويرٌ للشوارد، وإحاطةٌ بمهمات ذلك العلم، واجتذاب أطرافِ أُصولِ ذيَّاكَ الفنّ، فالمصنف في المختصرات كماش على حبلٍ دقيق كيما يوصل للقارئ علمَهُ المراد بإيجازٍ تامِّ المعنى، بلا إغلاقٍ للألفاظ ولا إخلالٍ بالمعاني، أمّا المطوّلات فإنّ المصنِّف فيها يصوغ فيها مرتاحًا ما شاء من معاني بما شاء من حروف، ويسبحُ في بحر فكره بلا تقيّد بضوابط الإيجاز، والقرآن العظيم موجزٌ معجز.

وقيمة هذه المقدمة لرسالة لعقيدة الحموية ظاهرة في التالي:

1- تأصيل مرجعية الوحي.

2- عنايتها بتأصيل أشرف العلوم على الإطلاق وهو علم أسماء وصفات الله تعالى، وشرفُ كلِّ علم بشرف متعلّقه.

3- احتوت على جرعات سُنّية من التحرير العلمي والاستعلاء الإيماني بالوحي على من تنكّب جادّته، والاستعزاز بالمنهج النبوي المشرق على سبل أهل الأهواء المظلمة، والطوائف المنحرفة، والملل الضالة. وإنّ حقْنَ هذه المضامين الكليّة في نفوس الناس في الغاية من الأهمية، وخاصة في هذا الزمان الذي اشتدّت فيه غُربَةُ السُّنَّةِ في الناس، ولا زال أهل السّنة غرباء بين الأنام في كثير من بقاعِ الإسلام، والمُشتكى إلى الله الملك العلّام.

4- أنها بمثابة رصدٍ مُحقَّقٍ، من خبيرٍ مُدّقِّقٍ، وتحليلٍ مُوَفَّقٍ لأصول ضلالات البدع وابتداءاتها منذُ بزوغِ قرونِ فِتَنِهَا الأولى حتى عصر الشيخ في القرن السابع، فهي حروف نافعة مركّزة في ردّ فروعِ البدع الباطلة لأصولها الوثنية الضالة، وهي الأصول الخائبة التي نبغت من قديم، فتقلّدَهَا متهوِّكٌ خَالِفٌ عن غَابِرٍ تالِفٍ، في سلسلةٍ نَكِدَةٍ مسمومةٍ برُقْيَةِ إبليس أعاذنا الله جميعًا منه. ففي هذه المقدمة سردٌ موجز لتاريخ البدع عامة، وفي ضلالات أهل الأهواء في الصفات الإلهية خاصة. مع بيان أن ذلك هو أعظم أسباب الافتراق في الأمة، ولكلِّ خُبْثٍ وارثٌ.

لكلِّ ساقطةٍ في الأرضِ لاقطةٌ  ... وكلُّ كاسدةٍ يومًا لهَا سُوقُ

5- هدم للأصل المُحدث من افتراضهم الباطل بتعارض النقل والعقل. وقد توسع الشيخ في كتابه الكبير العقل والنقل بما لا مزيد عليه، فهو معدود عالميًّا من أنفس الوثائق العلمية التي ناقشت القضايا العقلية، بل أربت عليها بأن أثبتت بساطع البراهين اتساق العقل الصحيح مع النص الصحيح الصريح.

6- حوت المقدمة عمليًّا الطريقة الصحيحة للتعامل مع وافد الأفكار المخالفة، ومنهج التعاطي مع الضلالات الفكرية بعامة، وتضمينها جملة صالحة من الإلزامات المحكمة النقلية والعقلية والفطرية، بل والأخلاقية المسلكية.

7- الوضوح والبيان والجزالة والاقتضاب الإيجابي غير المُخِلّ.

8- تتضح فيها شواهد الولاء والبراء للوحي، والوفاء الأصيل له.

وَجَرَّبنا وَجَرَّبَ أَوَّلُونا  ...  فَلا شَيءٌ أَعَزُّ مِنَ الوَفاءِ

9- لا أعلمُ رسالة موجزة من رسائل علماء الإسلام في هدم أصول المبتدعة إجمالًا كهذه المقدمة الهائلة، فهي حقيقةٌ جدًّا وقمينةٌ دومًا بالدرس والتكرار والنشر، ويكأنّما عليها قبس من ضياء النبوة، لا جرم فهي معنية بردّ الأمة للمعين الصحيح الأوحد القرآن والسنة.

10- هي صالحة لتأصيل طلاب العلم عقديّا في بدايات الطلب.

ولعلها تصل لمن بيده الأمر، سواء أكانَ طالب علم في مكتبته، أو شيخًا في مسجده، أو أستاذًا في جامعته، أو مسؤولًا في وزارته، فأقول: يا ليت هذه المقدمة النورانية تُجعل كمتطلبٍ جامعيّ في كلّ كلية شرعية بعدما تشرح شرحًا متوسّطًا، ففيها من بناء أصول البصيرة وحراستها ما لا يحيط به وصفٌ على إيجازها ووضوحها. ولو وضعت رسالته الأخرى العبودية كذلك لكان أحرى، فهي في ظني أسْبَكُ وأمتن ما كتبه الإمام من رسائله في هذا الباب، ولعله ألفها في أخريات حياته الحافلة المباركة، وليس في بابها مثلها فيما أحسب، فرسالة العبودية تُعنى بالبناء الإيماني الداخلي وإحسان التعبد لله تعالى، أما مقدمة الحموية فهي للتحصين العلمي الخارجي، فهما مُكمّلتان لبعضٍ. ففحوى رسالة العبودية أعمال القلوب، وتأصيل الاعتقاد في الأسماء والصفات الإلهية. فمضمون الرسالتين توحيد المعرفة والإثبات، أعني توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وعلى غِرارِهما كتاب التوحيد وكشف الشبهات للإمام المجدد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في توحيد الإرادة والقصد، أعني توحيد العبادة، فقد أُلِّفَ كتاب التوحيد لبناء ونَسْجِ عَقْدِ القلب على سلامة الإخلاص والاتّباعِ في الداخل، وأما رسالة كشف الشبهات فللتحصينِ من الخارج.

 وأما رسالة العقيدة الواسطية على إيجازها فهي جامعة، إذ هي واسطةُ عِقْدِ تأصيلاته العقدية، وزبدة مؤلفاته العلمية رحمه الله تعالى، وهي أوسع من الحموية وأشمل في تقرير توحيد المعرفة والإثبات، وإنما قصدتُ هنا مقدمة الحموية فقط، وكلّ مصنفات شيخ الإسلام جليلة النفع، غزيرة العلم، مباركة المأخذ، أينما وجّهتها وجدتَّ خيرًا فاضِلًا.

 تلك عشرة كاملة من أسباب تخصيص هذه المقدمة بمزيد عناية لدى أهل الشأن، (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب). وبالجملة؛ فمقدّمة الحموية تأصيلية بِنائِيّة فريدةٌ لا كالمقدمات.

نِبْرِاسُها العلمُ والتقوى تُؤَجِّجُها  ...  فُرْقَانُها سائقٌ إنْ صَاحتِ النُّوَبُ

فيا أهل السُّنةِ؛ إنّ المَدَّ الخُرافي والكلامي فضلًا عن الإلحادي الدَّهري آخذٌ في الانتشار شِبْرًا فذراعًا فباعًا فمِيلًا عبر قنوات رسمية مُنظّمة، سواء في ميادين العلم والدراسة، أو حِلَقِ الذكر والمساجد، أو المؤلفات واللقاءات والمواقع والمنتديات والتدوينات وقنوات التواصل الحديثة، فينبغي أن يُجابَهَ ذلك بالاعتصام بحبلِ الله المتين، والتوكلِ عليه، وتجريدِ القصدِ لوجهه، والقيامِ له برصِّ الصفوفِ السُّنّية المُؤسّسِيّة، حِفْظًا لبيضةِ الدين، وغزْوًا لِقِلاعِ التّمويهِ، ومَرَاقِدِ الفتن، وضَعَائِنِ ضَغَائِنِ الأهواءِ المُضلّة.

أَخُوكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ  ...  يُجِبْكَ، وَإِنْ تَغْضَبْ إِلى السَّيْفِ يَغْضَبِ (9)

ففرضُ الوقتِ الدعوةُ إلى الله تعالى بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، (إلا الذين ظلموا منهم). دون تهوّر، ولا طيش، ولا حظوظ النفس الأمارة، وذلك عبر رأب الصدوع، ورتقِ الخروقِ، ورَصِّ الصفوف العلمية، والدعوية، والتربوية، والإعلامية، والعِبادية، والتعاونِ على البر والتقوى، وتركِ الإثم بين الأقران، والعُدوان على هداياتِ فِلْذَاتِ الأجيالِ، وردْمِ الهُوَّةِ بين بعض أهل السنة، والتناصح بين أهل القبلة والإسلام، ويا بَعْضِي دَعْ بَعْضِي، وإطفاءِ ما استطعنا من حرائق الشيطان في أخبيِةِ اجتماعهم، وسدِّ ما وَهَى مِن أبنيةِ اعتصامهم بحبل الله جميعًا، فالشيطانُ يرقُصُ فرِحًا طَرِبًا فوقَ قلوبِ مَن جَرَّهُمْ للشحناء، وصدورِ مَن وَسوسَ لهم بالفُرْقةِ الرَّعْنَاءِ، لِإِحَنِ نفوسٍ كَرَعَتْ في خطيئةِ الهَجرِ والقطيعة، إمّا أَخْذًا بِظِنَّةٍ بلا تحقيقٍ، أو قبُول حَمَّالة حطب النميمة بلا تقوى، أو مسِّ حسدِ الأقرانِ، وما أدراك مَا ذَاك، أو طمعٍ في لُعَاعَةِ دنيا دنيئةٍ عن قريب يفارقها أو تفارقه.

 فالواجبُ المُحَتّم هو الاجتماعُ على السُّنّةِ، إرضاءً لله تعالى واتّبَاعًا للسُنَّة، فبذلك تفرحُ قلوبُ أهلِ الإخلاصِ والتوحيدِ، ويَنجابُ عن مُحَيَّاهُم قَتَامُ عَصْفِ البِيدِ، وينجَلِي الحقُّ لمُبتَغِيهِ وتقومُ الحُجَّةُ على أهل التنديد، وتُفْقَؤ عَيْنُ فتنةِ الشيطان، وتُقْشَعُ أسوِدَةُ غَيْنِ السَّخام. فالاجتماع لردِّ عادياتِ شياطينِ الإنسِ والجانِّ فرض الزمان، وقد يكون من فروض الأعيان في بعض المواطن والبقاع والأشخاص والمواقف عند تعذُّرِ القيام بالفرض هنالك. (10)

وتِلكَ حُروبٌ مَن يَغِبْ عَن غِمارِها … لَيسلَمَ، يَقرعْ بَعدَها سِنَّ نادِمِ

أرى أُمَّتي لا يَشرُعونَ إلى العِدى … رِمَاحَهُم، والدينُ واهي الدَعائِمِ

وليس المقصود طِعَانَ أهل الإسلامِ بالرِّماحِ، بل طِعَان الأهواء المُضِلَّةِ برماح الحُجَجِ القرآنية، وضرب وُجُوهِهَا بسيوف البراهين السُّنِّية، وخَطْم أنوفِها بمحكمات التنزيل، (لأنذركم به ومن بلغ)، خَلا مَن بَسَطَ الله يده من سلطانٍ، فلكلِّ حالٍ قدْرُه وأهْلُهُ.

مَنِ اِقتَضى بِسِوى الهِندِيِّ حاجَتَهُ  ...  أَجابَ كُلَّ سُؤالٍ عَن هَلٍ بِلَمِ

وهَلُمّ بنا الآن إلى المقدمة المقصودة: قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مقدمته للفتوى الحموية – وهي حروف في الغاية من العلم والحكمة والجودة والنفاسة والمتانة والعمق والبهاء والسموّ- وقد سئل عن مسألة في الصفات:

 "الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإنّ الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنّه بعثه داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: (قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).

 فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردّوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بُعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة. وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتمّ عليهم نعمته، محالٌ مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به مُلتبسًا مشتبهًا، ولم يميّز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.

 فإنّ معرفة هذا أصلُ الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصّلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يُحكِموا هذا الباب اعتقادًا وقولًا.

 ومن المحال أيضًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علّم أمته كل شيء حتى الخِراءة وقال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". (11) وقال فيما صح عنه أيضًا: "ما بعث الله من نبيٍّ الا كان حقًّا عليه أن يدلّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرّ ما يعلمه لهم". (12) وقال أبو ذر: "لقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يُقلِّبُ جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا". وقال عمر بن الخطاب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه". (13)

ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقّت؛ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربّهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية. فكيف يتوهّم مَن في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟ ثم إذا كان قد وقع ذلك منه؛ فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصّروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه.

 ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة القرن الذى بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضدّ ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.

 أما الأول: فلأنّ مَن في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، أعني بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته. (14)

 وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها الى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوَجْدِيَّة، فكيف يُتصوّر مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات؛ أن يتخلّف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدّهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.

 ولا يجوز أيضًا أن يكون الخَالِفُون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدّر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضّلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أُتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأمّيين الذين قال الله فيهم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أمانى)، وأنّ طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الاسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلّوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.

 وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلّت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلمّا اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى؛ بقوا متردّدين بين الايمان باللفظ وتفويض المعنى، - وهي التي يسمّونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معانٍ بنوع تكلّف، - وهي التي يسمّونها طريقة الخلف -. فصار هذا الباطل مركّبًا من فساد العقل، والكفر بالسمع. فإنّ النفي إنّما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بيّنات وهي شبهات، والسمع (15) حرّفوا فيه الكلم عن مواضعه.

 فلمّا ابتُنِىَ أمرُهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين؛ كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين، بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحّروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطّنوا لدقائق العلم الإلهي، وأنّ الخلَف الفضلاء حازوا قَصَبَ السَّبْقِ في هذا كله!

 ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيّما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول:

لعمري لقد طفتُ المعاهد كلَّها ... وسيّرت طرْفي بين تلك المعالمِ

فلم أرَ إلا واضعًا كفّ حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعًا سنّ نادمِ

 وأقرّوا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم:

"نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ ... وأكثرُ سعيِ العالمين ضَلالُ

وأرواحُنا في وحشةٍ من جسومنا ... وحاصلُ دنيانا أذًى ووبالُ

ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرِنا ... سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالوا

لقد تأملتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تَشفي عليلًا ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الاثبات: (الرحمن على العرش استوى)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، واقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء)، (ولا يحيطون به علما)، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". 

 ويقول الآخر منهم: "لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربى برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي". ويقول الآخر منهم: "أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام".

ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حُقّق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوّكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر اتباع الأنبياء فضلًا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟!

 ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضُلّال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!

 وإنما قدّمتُ هذه المقدمة لأن من استقرّت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أنّ الضلال والتَّهَوُّكَ (16) إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدًا من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة. وليس غرضي واحدًا معيّنًا، وإنما أصفُ نوع هؤلاء ونوع هؤلاء.

 وإذا كان كذلك؛ فهذا كتاب الله من أوّله الى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوّلها الى آخرها، ثم عامّة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو: إمّا نصّ وإما ظاهر في أنّ الله سبحانه وتعالى هو العليُّ الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء.. فلئن كان الحقّ ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يُفهم من الكتاب والسنة إما نصًّا وإما ظاهرًا؛ فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله صلى الله  عليه وسلم ثم على خير الأمة أنهم يتكلّمون دائمًا بما هو إمّا نصٌّ وإما ظاهر في خلاف الحق؟! ثم الحقّ الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلّون عليه لا نصًّا ولا ظاهرًا حتى يجيء أنباطُ الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبيّنون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلّف أو كل فاضل أن يعتقدها؟!

 لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أُحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يَدفَعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دلّ عليه الكتاب والسنة نصًّا أو ظاهرًا؛ لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضًا في أصل الدين! فإنّ حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفيًا وإثباتًا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقًّا له من الصفات فصفوه به سواء كان موجودًا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقًّا له في عقولكم فلا تصفوه به!

 ثم هم ههنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، ومنهم من يقول: بل توقّفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافًا أكثر من جميع من على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنّه الحق الذي تعبّدتكم به، وما كان مذكورًا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم فاعلموا أنّي امتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهُدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذّ اللغة ووحشيّ الألفاظ وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوّضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات! هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.

 وهذا الكلام قد رأيته صرّح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزومًا لا محيد عنه، ومضمونه: أنّ كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله! وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات مَنْ أرسله! وأن الناس عند التنازع لا يردُّون ما تنازعوا فيه الى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة وهم المشركون والمجوس وبعض الصابئين!

 وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدّة، ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أَمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: (ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا . واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا الا إحسانا وتوفيقا). فإن هؤلاء إذا دُعُوا إلى ما أَنزَلَ اللهُ من الكتاب وإلى الرسول، والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنّته؛ أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنّا قصدنا الإحسان علمًا وعملًا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية!

 ثم عامّة هذه الشبهات التي يسمّونها دلائل إنما تقلّدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين أو بعض ورثتهم الذين أُمروا أن يكفروا بهم مثل فلان وفلان، أو عمّن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). (17)

ولازمُ هذه المقالة ألا يكون الكتاب هدى للناس، ولا بيانًا، ولا شفاء لما في الصدور، ولا نورًا، ولا مردًّا عند التنازع؛ لأنّا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلّفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإنّما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: (ولم يكن له كفوا أحد)، (هل تعلم له سميا). وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دلّ الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: (هل تعلم له سميا) فقد أبعد النُّجْعَة، وهو إما مُلَغِّزٌ وإما مُدَلّسٌ لم يخاطبهم بلسان عربي مبين! ولازم هذه المقالة أن يكون ترْكُ الناس بلا رسالة خيرًا لهم في أصل دينهم، لأن مردّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنّما الرسالة زادتهم عمًى وضلالة!

 يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يومًا من الدهر ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلّت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنّه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه، وما لا فتوقفوا فيه أو أنفوه؟!

 ثم رسول الله قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة (18) فقد علم ما سيكون، ثم قال: "إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله". (19) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". (20)

 فهلّا قال: من تمسّك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضالّ، وإنّما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يُحْدِثُه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين.

 ثم أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل للصفات - إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضُلّال الصابئين، فانّ أوّل من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأنّ معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.

 وكان الجعد بن درهم هذا - فيما قيل - من أهل حرّان، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود، والكنعانيين الذين صنّف بعض المتأخرين في سحرهم، ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم عَلَمٍ. فكانت الصابئة إلا قليلًا منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة. وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركًا بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر، كما قال الله تعالى: (ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، لكن كثيرًا منهم أو أكثرهم كانوا كفارًا أو مشركين، كما أن كثيرًا من اليهود والنصارى بدّلوا وحرّفوا وصاروا كفّارًا أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفارًا أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل. ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس له إلا صفاتٌ سلبية أو إضافية أو مركّبة منهما، وهم الذين بُعث إليهم إبراهيم الخليل، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة. وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حرّان وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضًا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لمّا ناظر السَّمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسّيات. فهذه أسانيد جهم (21) ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين.

 ثم لما عُرّبت الكتب الرومية واليونانية في حدود المئة الثانية زاد البلاء مع ما أَلقَى الشيطان في قلوب الضُّلّال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان في حدود المئة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المرّيسىي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبى يوسف والشافعي وأحمد واسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمّهم وتضليلهم.

 وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر ههنا إلا قليلًا منه مثل: كتاب السنن للالكائي، والإبانة لابن بطة، والسنة لأبى ذر الهروي، والأصول لأبى عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، ولأبي عبدالله بن مَنْدَه ولأبي أحمد العسّال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلّال، والتوحيد لابن خزيمة، وكلام أبى العباس بن سريج، والردّ على الجهمية لجماعة مثل البخاري وشيخه عبد الله بن محمد بن عبدالله الجعفي، وقبل ذلك السنة لعبدالله بن أحمد، والسنة لأبي بكر بن الأثرم، والسنة لحنبل وللمروزي ولأبي داود السجستاني ولابن أبي شيبة، والسنة لأبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم. وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي، وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه ويحيى بن سعيد ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل لعبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة.

 وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، فإذا كان أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل والتأويل - مأخوذًا عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود؛ فكيف تطيب نفس مؤمن بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!". انتهى. (22)

ورحم الله الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني فقد أحسن حين قال: "وقد توسَّع من تأخَّر عن القرونِ الثلاثة الفاضلة في غالبِ الأمور التي أنكَرَها أئمّةُ التابعين وأتباعُهم، ولم يقتنِعوا بذلَك حتى مزَجوا مسائلَ الديانة بكلام الفلاسفةِ، وجعلوه أصلًا يرُدّون إليه ما خالَفَه من الآثار بالتأويل ولو كان مستَكرَهًا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأنّ مَن لم يستعمِل ما اصطَلحوا عليه فهو عامّيّ جاهل، فالسعيد من تمسَّك بما كان عليه السلف واجتَنَب ما أحدثه الخلف". (23)

وتدبر – رعاك مولاك - قول الله تبارك وتعالى: (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:80-82].

والحمد لله وحده على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن والرسول والسنة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي محمد وعلى آله ومن تبعهم بإحسان.

إبراهيم الدميجي

14 رمضان 1444

aldumaiji@gmail.com

...........................

1.              حلية الأولياء (٨/٢٠).

2.              الترمذي (2616) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.

3.              سير أعلام النبلاء (7/ 450).

4.              ويكون الدين كله لله، للكاتب. ص: (10).

5.              مسلم (2664).

6.              قطعة من مكتوب ابن مري الحنبلي. ص: (18).

7.              الأعلام العلية، للبزار. (35-36) باختصار.

8.              منهاج السنة (٢/ ٦٠١).

9.              وهي حميّةُ الدين العظيم، لا حميّة الجاهلية للدنيا الزائلة.

10.          وانظر في ذلك كتاب: (ولا تفرقوا) للكاتب.

11.          ابن ماجه ( 43 ) والحاكم ( 1 / 96 ) وأحمد ( 4 / 126 ) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2 / 648).

12.         مسلم 6/18 ( 1844 ) ( 46 ). تمامه: "إنّه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم. وإنّ أمتكم هذه جُعلَ عافيتها في أولها، وسيصيبُ آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة يرقّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه! فمن أحبَّ أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".

13.          البخاري (3192)

14.          لأن معرفة الكيفية مستحيلة في الدنيا، وإنما يعتقدون بالمعنى العام المتبادر من نصوص الوحي الشريف لصاحب الفطرة السليمة والعقل القويم.

15.          السمع: هو أدلّة الوحي ونصوص الشريعة كتابًا وسنّة.

16.          التهوّك: التحيّر.

17.          أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: (كان الناس أمة واحدة) قال: "على الإسلام كلهم". وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين" قال: وكذلك في قراءة عبد الله: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا". الدر المنثور (2 / 496)

18.          أحمد (2/332) وأبو داود (4596) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وصححه الألباني.

19.          الترمذي (3788) وقال: حسن غريب. وصححه الألباني.

20.          الترمذي (2641) وقال ابن تيمية: "حديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد". الفتاوى (3/345)

21.          وقد قيل فيه:

عجبتُ لمن يدعو الناس جهرةً  ...   إلى النارِ واشتُقَّ اسمُه من جهنّمِ

22.          الحموية، من ضمن مجموع الفتاوى (5/7 - 25) مختصرًا. واعلم أن التحريف يكون في النصوص، والتعطيل يكون في المعتقد، والتكييف والتمثيل يكونان في الصفة، إلّا أن التمثيل أخصّ، فكل ممثّل مكيّف ولا عكس. 

23.          فتح الباري (13 / 253).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق