إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

ويرحم الله عبدًا قال: آمين

وأسأل ربّي أن تكونَ منيّتي
بعيداً عن الأوطان للشّرك غازيا

ويا ربّ قطّعني وفرّق مفاصلي
بجوفِ طيورٍ أو بُطُونِ العَوَافِيا

فخذ من دمائي يا سميعاً لدعوتي
 فما أطيب الآلام إن كنت راضيا

لئن عَزّ ديني واستبيحت جوارحي
  فأين مقام العزّ إلا مقاميا؟

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

أصاحباه!

أصاحباه!
إن رمت السمو للعلى..
ثم العروج للذُّرى..
فسابق بقلبك الأُلى..
واصنع جميلًا لإنسان..
واسكب بروحك آية الإنسان:
"لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا"
جزاؤنا غدًا رضى الرحمن..
وشكرنا غدًا لدى المنان..
فثَمّٓ جَنَّة هناك..
وثمّ جنّةٌ هنا.

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

كفى تغافلًا واستغفالًا! _قراءة للمشهد الرافضي والباطني في المنطقة_

كفى تغافلًا واستغفالًا!
_قراءة للمشهد الرافضي والباطني في المنطقة_

الحمد لله, وبعد: فلم أستغرب تقرير معهد أمريكان إنتربرايز  American Enterprise المنشور عن الربيع الشيعي في السعودية القادم بقوّة وبدعم دولي، ومعلوم موقف هذا المعهد المعادي للسنة عمومًا والسعودية والبحرين بوجه خاص, ولقد كاد أن يتفوق في الآونة الأخيرة بحضوره الدائم وإلحاحه المزعج على غيره من مؤسسات البحث في خبايا وفتوق المسلمين ليلج منها لبيضتهم الفكرية, كمعهد الشؤون الخارجية، ومؤسسة كارينجي، ومعهد بروكنجز، ومؤسسة راند العريقة بتقاريرها التي بنت كثيرًا من سياسات المحافظين الجدد.
وعلى كلٍّ فليست قضيّة البكائية الشيعية في الخليج بالجديدة, وما تلوّن رؤوس الرافضة بين التيارات الصقورية والحمائمية عن ذهن أي مراقب بخافية المدى والهدف، ولا يُلام من سعى لمصالح قومه وملّته، إنما المُلام من رأى الذئب يسرح في حماه, فيكتفي بالصياح أو حذفه بالحجر من بعيد، أو الاكتفاء بحراسة عدوِّه له, أو الثقة بالذئب إذ لبس جلد الحمل!
يَعجب بعض الأخيار من تسهيل الغرب وعلى رأسه أمريكا للرافضة والباطنية في العالم الإسلامي، ودعمهم الوَلائي لهم وكأنهم ملّة واحدة! والمسألة لا تعدو في لبّها أن تكون تقاطع مصالح، ومِن أكبرها القضاء على العدو السنّي المشترك، مع عداء قديم - غير مؤثر – موجود في الخلفية التاريخية عند بعضهم بين الكسروية والرومية.
 فإيران عدوّةٌ لأهل الكتاب في الظاهر, لكنها صديقةٌ وفيّة لهم في الباطن، وتأخذ بشمالها من تحت الطاولة ما أنفقت مقابله من عنتريات صوتية! إن ساسة الغرب بأطيافهم ليعرفون من أثخنهم، وفتح حصونهم، وزلزلهم، ومكّنه الله من أرضهم وديارهم وأموالهم، وهل هم إلا السنة؟!
تأملوا: العراق السني التليد: لقد تم تسليمه على طبق من عظام وجماجم وأعراض أهل السنة للرافضة! واليوم نرى حكومة العراق ذات القالب الوطني والقلب الصفوي تطبّق الإعدامات الجماعية في رقاب السنة بحجة تطبيق القانون، والعالم بأطرافه الأربعة لا يحرّك ساكنًا سوى الشجب الظاهر, والإطراء المبطن, والدعم المفعّل!
ثم نرى الباطنية - أبطال القنيطرة! ومن مانعوا من تسليم هضبة الجولان للصهاينة! - قد أُطلقت أيديهم بكل وسائل الإبادة لأهل السنة بلا أي سقف كيفًا وكمًا! وبالطبع فمحور السلاح لسوريا ذو اتجاهين: خط أحمر في وجه المجاهدين، يقابله خط أخضر لبشار وجنده! ولْتَهْنِ قومي هيئة الأمم!
أما إن يممنا بصرنا نحو الأحواز فسنرى كيف تُقام في رقابهم المشانق عبر الرافعات سنين عددًا، بعد أن راموا الخروج من بوتقة ولاية الفقيه وشرنقته الفارسية، فمنهم سُنَّةٌ محضة ومنهم متشيّعة تنوّروا بنور إخوتهم السنة.. فكان الجلّادُ لهم بالمرصاد، ولا عزاءَ لهم من بَشَرٍ, فوا حرَّ قلباه, ووا فتَّ كبداه! إن مراجل الصدور لتغلي, وأفئدة الحنايا لتخفق, فاللهَ الله في إخوانكم!
دعونا - يا سادة -  نناقش القضية بهدوء. فالدوائر الاستخباراتية الغربية والشرقية كانت على مدى عقود ترصد بدقة المدَّ السني والشيعي, وتقارن بينهما، فقد علمهم عركُ الأيام أن تفكيك العدو, وإشغاله ببعضه, وتحييد ما استطاعوا من مواطن قوّته؛ خيرُ معينٍ لهم في حربهم ضده.
وقد استخدموا هذا التكتيك مع أمم كثيرة فأثبتت النهايات قوة تأثير هذا (الجينوم السرطاني) في تفكيك جسد الأمة المراد حربها.
فلمّا نزلوا ميدان الحروب مع الأمة المسلمة تفاجأوا أن فصيلًا كبيرًا وطائفة ضخمة منتسبة للإسلام ليست في حاجة لتلك الخطط التفريقية في أمة الإسلام، ذلك أنها - وأعني الرافضة والباطنية, دون المفضّلة - منسلخةٌ من كثير من أصوله, وإن ادّعت تمسكها بثوابت أهل بيت نبيه!
لقد قرأ ضباط دوائر توجيه القرار في المنظومة الغربية - بشقِّها الروسي - تاريخ الأمة المسلمة في صراعها التقليدي مع الحضارة الغربية بدءًا من مؤتة وما بعدها, مع وقفةٍ في اليرموك وما لحقها، مرورًا بتأمّلٍ ودراسة مستفيضةٍ للحروب الصليبية - بحكم بداية ظهور الدور المؤثر للمدّ المتشيّع بذراعيه الرافضي والباطني -.
التاريخ شاهِدُ صدقٍ - وإن كذبت بعض أقلامه - وسنقفُ متذكّرين لعنوانين فقط لما لهما من ثقل اعتباري, ومدًى رمزي في مسار المُراغمة الحضارية والمدافعة الأممية بين أقوى حضارتين على امتداد التاريخ المشهود، تينِكَ هما الحضارة الإسلامية وخصيمتها النصرانية، وهذه المدافعة مستمرة حتى الزمان القريب لنهاية الدنيا بقيام الملاحم الكبار في الشام وأكناف بيت المقدس.
الأول: بيع القدس للصليبيين من قبل الباطنية العبيديين - المتلقبين بالفاطميين زورًا - فبقيت ترسف في أغلال أهل الصليب تسعين سنة, حتى استنقذها الله بأهل السنّة بعدما طعن الحشاشون – الباطنية – ظهر السنّة مرارًا إبان حرب الصليب, ولكن الله سلّم.
الثاني: طعن الصفويين لظهر العثمانيين بدخولهم العراق في أحلك المواقف وأحرج الظروف, إبّان فتوحهم الإسلامية في شرق ووسط أوروبا، مما سبّب فك الحصار عن فيينا - وهي بالمناسبة عاصمة الإمبراطورية الرومانية البابوية حينذاك - ومن ثمّ بدأ انحسار المد الإسلامي الحنيف عن القارة التي قادت العالم للخراب الروحي والفكري والأخلاقي بعد ذلك، وإن تميّزت بإبداع لا نظير له في تفجير طاقات المادة الجامدة.
يا صاحبي: هل تتذكر حربًا واحدة، واحدة فقط، حارب فيها الرافضة والباطنية الصهاينة والصليبيين بصدق؟! اقرأ التاريخ وسيرتد بصرك بيقين أن كل ذلك لم يكن! ولا تهتف بحزب الله وحرب ٢٠٠٦ فلقد علِمْنا من كان يحارب حينها، ولقد علمنا لماذا كانت الكاتيوشا بعيدة كل البعد عن المصانع والمخازن والثكنات النوعيّة وهي قريبة على مرأى أبصارهم، ولكن لا بأس من قتل بضعة يهود - فالحرب خدعة! - هذا مع تسجيلي عدم تعميم ذلك على كل من حارب وقتها فلا بد لكل فئة من شرفاء، ولن يضرهم جهلنا بهم، إنما يضرنا ثقة الأعمى الغني باللص السفاح!
إن إشارات كبار الإيرانيين إلى أن الخليج – وبخاصة قلبه السعودي - يُعتبر عمقًا استراتيجيًا لطهران لهو مؤشر جدير بالملاحظة، فينبغي ألا يُمرّر كأي كلام عابر، فإن الحرب أولها كلام!
كما أنّ الأوان قد آن لفحص القيادات الشيعية في الخليج بعامة والسعودية بخاصة للتأكد من براءتهم من التلبس بما يهدم أصول الملّة أولًا, ثم مما يقطع أواصر اللُّحمة الوطنية ثانيًا, فالقائد اليوم يتبعه مئات وغدًا إن هتف بحربٍ تبعه مئات الألوف.. واعتبروا بالعراق يا من ذُبح وأنتم تنظرون!
لقد ذكر الدكتور الفاضل محمد المسعود – حفظه الله - قبل بضعة أشهر كلامًا مرسلًا مفاده أن غالبية الشيعة في الخليج لا تتعبّد بالمذهب الرافضي الضال، إنما هم من المفضلة دون السبابة، وهذا - لعمر الله - بشير خير ورائد إصلاح، ولكن: هل هذا صحيح؟ أتمنى ذلك, وأنتظر دلائله, وأخشى ألا يكون دقيقًا, فبعض كبار القيادات الدينية قد ثبت عنهم موبقات عقدية وسياسية في حسينياتهم بلا أدنى نكير من أقرانهم وأتباعهم إلا على استحياء!
 لذا أكرّر ما قلته سابقًا من ضرورة ترئيس من هم أقرب من غيرهم وهم المفضّلة أهل الولاء المعلوم, دون الغلاة السبّابة أهل التقيّة النفاقية. فمن الضروري إعادة النظر في بعض كبار القيادات حتى لا يحولوا بين الناس وبين الحق الذي أرادوا إشهاره, فكثير من عامتهم يكتم إيمانه خوفًا من بطش أولئك.
 ولستُ بداعية ظلمٍ وأخذٍ بالظِّنّة وعقوبة بلا بينة, فقد علمتُ ما جاء في الظلم, ولكني أدعو إلى التحرّز وتولية الأمر الثقات, فالرعايا الشيعة في أعناقنا جميعًا فلنأخذ بأيديهم لمحكمات الكتاب والسنة, ولنستنقذ مَنْ أطقنا من محبي الخير منهم, وليسوا بالقليل قطعًا, أما كونهم أغلبية فلا أظنّه!
هذا في الداخل، أما في الخارج فإنك لن تجني من الشوك العنب، وليعلم الساسة - وفقهم الله - أن المسلمين السُّنة في المشارق والمغارب هم عمق استراتيجي وامتدادٌ حقيقي لهم دينًا ودنيا، والله قد وعد من حفظ دينه بالحفظ, ومن نصره بالنصر, ولكن ما بال الأرض تُطوى من تحت أقدامهم لصالح الرافضة؟!
 أقول - ولدي شواهد متعدّدة - إن كثيرًا من المراكز الإسلامية التي أنشأتها هذه البلاد المباركة دعوةً إلى سبيل ربها ودينه؛ قد استولت عليها الأذرع الرافضية الإيرانية، فأين الخلل؟!
 أين دور وزارة الشؤون الإسلامية في خارج البلاد من كفالة الدعاة ونشر الكتب وإقامة الدورات؟!
 كذلك أين وزارة التعليم العالي عن استقبال الأعداد الكافية من طلاب الدول الإسلامية؟! إن ذلك لا يوازي ما تستقبله إيران من طلاب دولة إفريقية واحدة!
ثم ماذا قدّمت للسنة الملحقيات الثقافية بالسفارات السعودية؟! إن المرء ليخجل حين يرى النشاط الجاد المنظم لسفارات طهران, في وقتٍ لا تكاد ترى للسفارة السعودية أي حضور دعويٍ! قُصارى جهدها أمورٌ إدارية وأمنية.. وفاز باللذة الجسورُ.
أما المؤسسات الخيرية التي كانت كالغيث العميم على الأكباد العطشى في أركان الأرض الأربعة فقد أضحت كعيون الأفلاج والخرج! في حين صَفَّتْ مكانها مباشرة صفوفُ مبشّرةِ الرَّفض والوثنية! فيا دعاة التوحيد استيقظوا، ويا حملة الحنيفية الوَحا الوَحا!

إبراهيم الدميجي
20/12/1434
aldumaiji@gmail.com


الخميس، 17 أكتوبر 2013

الثقة بالله عمود نور المصلحين

"الثقة بالله عمود نور المصلحين"

يا صاحبي: هل تساءلت يومًا عن قحط صبر بعض الدعاة، أو تساقط بعض الصالحين، أو انتكاسات بعض العُبّاد؟
كذلك هل تعجّبت يومًا من عظيم ثبات المصلحين، ورسوخ يقين بعض الأخيار؟ 
أرعني ذهنك قليلًا رعاك الله بتوفيقه:

اعلم أن الثقة بالله هي السلك الناظم لأمور التديّن بعامّة, وهي الجدار الحافظ بإذن الله لقلب المؤمن من قواصف الشبهات وعواصف الشهوات, فهي الميدان الذي يجري فيه فؤاد المؤمن ويستن بطِوَلِه في أنحائه, ويستظلّ متنعمًا في أفيائه. إن الثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وحبل وصول المقربين, وسلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان.

 إن الثقة بالله هي حصن السابقين, ومنتجع العابدين, ومهيع السالكين, وهي مزيجٌ من قول القلب وعمله, ولها علاقة بأقوال وأعمال القلب الأخرى فهي ثمرة العلم بالله, ومن ثمارها حسن الظن والتوكل وبردُهَا باليقين.

إذا كان الإيمان تصديقٌ خاصٌّ وإقرار؛ فالثقة بالله هي أصله وصلبه, فعلى أساسها يقوم بنيانه, وكل آيةِ إيمانٍ مهما تصرّفتْ فهي متضمنة للثقة بالله سبحانه. ولقد آل أمر المنافق لأن يكون أرذل العالمين وشر ولد آدم أجمعين لخيانته وكذبه في الثقة بربّه ولقائه ووعده! "وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"

ولقد تدبّرتُ آي القرآن فرأيت أن منها آيات هي مثل قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون!
إنها آيات لها قرعُها الشديد لانتباه التالي والسامع, ففيها إيقاظ وتنبيه وإرشاد لقِبلة التوجّه القلبي, مع بلسم سكينة لا يصفه الواصفون, ووقودٌ تام لمحرّك مركبة المهاجر لربه, وزاد وافٍ لمن حمل همّ إصلاح نفسه وأمته, فهي شاطئ أمان العُبّاد والدّعاة والعلماء والمربين..وليس لمؤمن ولا مؤمنة غنية عن فقهها علمًا وعملًا.

 وكم من عامِّيٍّ لا يُؤبهُ له مدفوع بالأبواب يقف أمام عواصف فتن الدنيا وقواصف رغائبها بثبات يبزّ به الجبال الرواسي! بينما يقع حامل أسفار العلوم تحت جناح أهونِ فتنة! فأين ياتُراه الخلل؟!

 مرجع ذلك: أن العلم النافع هو العلم بالله قبل العلم بشرعه, وإن اجتمعا في قلب فواهًا! لذا فلم يكن الحبر الحكيم ابن مسعود رضي الله عنه مبالغًا حينما قال فيما رواه أحمد في الزهد: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية. وأولى بنا قول ربنا: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"

فإن مررت على تلك الآيات فردِّدْها وتدبرها وتفكّر فيها, ففيها نداء لروحك, وخطاب لفؤادك, وطوق نجاة لمصيرك, ومنشور فلاح لنشرك ومعادك.
تولاك مولاك في أولاك وعقباك.

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

أهل القرآن هم أولى الناس بالجهاد في سبيل الله

أهل القرآن هم أولى الناس بالجهاد في سبيل الله

  ألا وإن لأهل القرآن في مواطن الجهاد ما ليس لغيرهم من عظيم البلاء والنية والصبر والصدق. واعتبر ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس في حنين لما انكشف المسلمون أن ينادي: يا أصحاب سورة البقرة. فحملة القرآن قد تغذّت قلوبهم على التنزيل وارتوت من الذكر الحكيم. وقد صاح بها ثابت بن قيس في اليمامة لما انكشف المسلمون فنادى: يا أصحاب سورة البقرة, قال رجل من طيء: والله ما معي منها آيةٌ, وإنما يريد ثابتٌ يا أهل القرآن.

     وقد ذكرَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وقعة اليمامة, ومن قُتل فيها من المهاجرين والأنصار وحملة كتاب الله فقال: أَلَحَّتْ السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار, ولم نجدِ المُعَوَّلَ يومئذ إلا عليهم, خافوا على الإسلام أن يُكسرَ بابُه فيُدخَلَ منه أن ظهر مسيلمة _أي خافوا تبديل الدين بظهور مسيلمة الكذاب_ فمنعَ الله الإسلام بهم, حتى قتل عدوّه, وأظهر كلمته, وقدموا يرحمهم الله على ما يُسرُّون به من ثواب جهادهم مَنْ كَذَبَ على الله وعلى رسوله, ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به, وجعل منادي المسلمين _يعني يوم اليمامة_ ينادي: يا أهل القرآن, فيجيبون المنادي فُرادَى ومثنى, فاستحرّ بهم القتل. فرحمَ الله تلك الوجوه, لولا ما استدركَ خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَمْعِ القرآن؛ لَخِفْتُ أن لا يلتقي المسلمون وعدوَّهم في موضع إلا استحرّ القتل بأهل القرآن.

    قلت: وشهادة ذلك أن المسلمين في اليمامة لما انكشفوا بسبب اختلاط الأعراب بالمهاجرين والأنصار فيفرّون فيستحر القتل في أهل السابقة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى غلبت حنيفة على الرِّحَالِ, فجعل زيد بن الخطاب رضي الله عنه ينادي وكانت عنده راية خالد: أما الرِّحال فلا رحال, وأما الرجال فلا رجال, اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي, وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن طفيل, وجعل يشتدُّ بالرَّاية يتقدَّمُ بها في نحر العدو, ثم ضارب بسيفه حتى قُتِل رضي الله عنه, فلما قُتل وقعت الراية, فأخذها سالم مولى أبي حذيفة, فقال المسلمون: يا سالم, إنا نخاف أن نُؤتى من قِبَلِكَ! فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي. _وتأمل ذكره لحمل القرآن لا غير_. ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم: الزمها, فإنما مِلاكُ القوم الراية. ثمّ إن سالمًا تقدّم في نحر الكفرة براية المهاجرين,  ثم حفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه, وحفر ثابت بن قيس  لنفسه مثل ذلك, ثم لزما رايتيهما, وكان الناس يتفرّقون في كل وجه منهزمين, _قبل أن تخلُص الرايات لقومها_ وإن سالمًا وثابتًا لقائمان برايتيهما, حتى قُتِلَ سالمٌ, وقتل أبو حذيفة مولاه عليهما رضوان الله تعالى, فوُجِدَ رأسُ أبي حذيفة عند رجلي سالم, ورأسُ سالمٍ عند رجلي أبي حذيفة لقُرْب مصرع كل واحد منهما من صاحبه, وثباتهما مع شدة القتل.

إبراهيم الدميجي

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

اقبل البُشرى أيها التالي كتاب ربك

اقبل البُشرى أيها التالي كتاب ربك

 فقد قال سبحانه في سورة فاطر _وتدبر هذا الموضع جيدًا ففيه زاد أيّما زاد, وتلمّح تلك التجارة الرابحة_: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور . والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إنه بعباده لخبير بصير . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير . جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير . وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب" فهل بقيت بقية لمعتبر ومدّكر وبائع لهواه بفلاح الأبد بعد هذا؟!

بل إن الدين كلَّه مبني على وعدِ غيبٍ لم نره حِسًّا, وهنا يكون محكّ الإيمان وبرهان التصديق ودليل التسليم, وعلى قدر الثقة بالله تعالى, بوجوده وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله تكون الثقة به وبوعده, ومن هنا افترقت الخليقة, فأطيبُهم من يثق الثقة المطلقة التي لم تتزعزع ولم تضطرب مهما عصفت بها زلازل الخطوب وبلايا الفتن والرزايا وهذا مقام المرسلين, ثم الأمثل فالأمثل من الصالحين.

وتدبّر كلّ قصص الأنبياء بلا مثنوية؛ تجد أن عنوان الثقة بالله وبوعده موجود باضطراد في تضاعيف أحداث القصص, ولو تأملت السلك الناظم والخيط الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فمن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقة بوعد الله ولقائه, وتأمل المعنى المتردّد على ألسنة رسل الله في حِجاجهم لأقوامهم قد اتفقوا على إشهاره: "وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين" ثقةً به واستغناء, "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله" ولقد تكرر هذا المعنى الغني العزيز  وتصرّف في القرآن كثيرًا, مما يدل على أنه من أعظم موارد معاني بناء الثقة في قلوب الصالحين والمصلحين.

 وتأمّل تكرار الوعد الإلهي ووصفه بالحق في كثير من آيات الكتاب العزيز, كما في قول الحق تبارك وتعالى: "وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلا" وقوله: "ألا إن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون" وقوله جل في علاه: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" وقوله: "وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق" وقوله: "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" وقريب منه مع مسارٍ خطابي بطراز مختلف, وله وقع خاص جدًّا: "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" وكيف لا يوثق بالله وحده وهو القائل: "وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا"؟!

ثم تدبر آية يونس وكرر فيها نظر قلبك وافرح بالله وافرح بفضله وافرح برحمته: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"

وقبل الرحيل قف طويلًا مع آيتي سورة العنكبوت وحرّك بهما قلبك شوقًا لله وثقة به وشكرًا له على إنزال القرآن العظيم لك, وتأمل صدرك ما الذي حوى؟!: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون" وقوله: "أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون" بلى وعزتك يا ربنا, ومن لم يكن له في كتابك وسنة رسولك غُنية فلا أغنيتَه.

إبراهيم الدميجي

من أخبار الواثقين برب العالمين

من أخبار الواثقين برب العالمين

من ثقة الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى فيما ذكر أحد مرافقيه قال: كنا في اجتماع دوري في المساء فجاء أحد العاملين في مكتب الشيخ وهمس في أذنه يبلغه رسالة عاجلة ملهوفة من بضعة دعاة في دولة أفريقية قد صدر ضدهم حكم بالإعدام شنقًا عند فجر ذلك اليوم, فتكدّر الشيخ جدّا ثم طلب مهاتفة الملك فهد يرحمه الله فتمنّع مسئولو الاتصالات الملكية بحجة عدم مناسبة الوقت للملك لأنه وقت راحته, فألح الشيخ وقال: صلوني به وأيقظوه إن كان نائمًا وإلا ذهبت إليه بنفسي, فالأمر لا يحتمل التأخير. فوصلوه به فكلّمه وعظّم حرمة دم الدعاة ووجوب نصرتهم وتحتّم تدخل الملك بنفسه فورًا عند رئيس ذلك البلد فوعد الملك خيرًا, ثم أغلق الهاتف والشيخ مشتغل بدعاء الله تعالى والضراعة إليه في فكاكهم وكشف كربتهم, وتكرار أدعية الكرب, فما هي إلا لحظات حتى هاتفه الملك بنفسه يبشره بإنجاء الله تعالى لأولئك الدعاة, فشكره الشيخ ودعا له بخير, ثم رفع يديه وهو يردد: "ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون" فلا إله إلا الله ما أعظمها من ثقة بالله ويقين وحسن ظن بمعيّته سبحانه.

وذكر أحد مرافقي الشيخ عن أحد طلبة العلم فيما يذكر عن نفسه أنه دخل على الشيخ في إنكار منكرات متهمًا الحكومة بالتقصير في إنكارها, فأغلظ للشيخ القول, والشيخ يتلطف في الخطاب ويلين له الجواب ويعده بالكتابة للمسؤولين, ثم قام الشيخ ومشى, فلمّا أدبر قال ذلك الرجل كلمة وندم عليها فقال: أم أنك يا شيخ تخاف الحكّام؟
قال: فلمّا خرجت الكلمة من فمي وعلمت أني جرحت الشيخ أُسقط في يدي فخفضت رأسي فوقف الشيخ وقال: يا فلان, خمسة من الملوك عاصرتهم ولم أضيع حق الله فيهم, ولم أداهنهم ولم أخشهم بحمد الله, والمصلح الهادي هو الله.

وحينما زار الملك خالد رحمه الله العلامة المفسر الفقيه الزاهد محمد العثيمين في منزله الطيني المتواضع قال له: اطلب ما تشاء يا شيخ محمد. ولعلك تأذن لنا بتجديد بيتك. فقال الشيخ: أما لنفسي فلا, فلي بيت أبنيه في الصالحية -يقصد قبره- فإن كان من أمرك ولابد فجدِّد جامع ابن سِعدي _وقد كان الشيخ محمد يؤم المصلين فيه حتى موته رحمه الله_ وابنِ للطلاب المنقطعين لطلب العلم سكنًا يكون كالرباط لهم. فنظر الملك لأحد مرافقيه ممن كانوا يُغمزون فقال: إيهٍ يا فلان, هؤلاء هم مشايخ الآخرة!

إن الثقة بالله هي اتكاء إلى جدار عظيم, واستنادٌ إلى ركن شديد, والسعيد من جاوز بثقته طباق السماوات ووصل بها بين عالمي الغيب والشهادة, فصار يرى بحسن ظنه وعظيم ثقته بوعد ربه ما لا يراه المتزعزعون.


إبراهيم الدميجي

الأحد، 6 أكتوبر 2013

من وسائل الثبات للمحتسبين والدعاة

من وسائل الثبات للمحتسبين والدعاة

من الأسباب الجوهرية، وهي نابعة من الثقة بوعد الله: المحاسبة الجادة للنفس, ففي الدنيا دخان وغينٌ يحيط بالقلب، ولا تكاد النفوس تسلم منه, فتقع في غفلة وركون إلى الخسار وإخلاد إلى الأرض, فإن وفق الله عبده للمحاسبة استيقظ ونفض عن بصيرته وقلبه غبار الغفلة وقتار الظُّلمة.

 ولقد تكلم أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله في مداواة النفوس عن تغلّبه بعد مجاهدة شديدة على طباعه السيئة من الحقد والشهوة وغيرهما حتى ترقّى بها للطمأنينة والسكينة, فالأمر في متناول من وفقه الله, وإنما الحلم بالتحلم "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"
وفي الوقت الذي يُنتظر فيه من الدعاة المجاهدة لإدراك الكمالات؛ نجد بعض الدعاة لا يزال يجاهد نفسه ضد الموبقات كالزنا والخمر والربا! فضلًا عن بقية الكبائر والذنوب التي اصبحت كالعادات له, كالغيبة والنميمة غير المقصودة والكذب مازحًا وجادًّا, إلى شراسة الخلق والصَّلَفِ وتنفير عباد الله من دين الله, وإدخال الغم والحزن عليهم, وسوء ظنه بالمؤمنين, مع علمه بعيوبه واعترافه إلا أن السنين لم تزده في تيك الأخلاق الرذيلة إلا إيغالًا! فاين الثقة بالله وبوعده وبلقائه؟! ومتى يأتي اليوم الذي تطمئن فيه نفسه فتطبع على أخلاق المؤمنين وتدور بطبعها فيه فتكون من النفوس المطمئنة؟!

فيا صاحبي: إن طال زمانك وأنت تراوح المجاهدة دون تقدّم في مستوى إيمانك؛ فراجع مساقيَ قلبك, فلعل هناك دَغَل شهوةٍ خاطئة في حاجة لعصفٍ وتهذيب, أو شبهةٍ ردّتْ عنك بركة العلم والذكر والإيمان!

 إن المؤمن إذا تدبر قول العظيم سبحانه: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" لتهون في عينه الدنيا وما عليها, فأجلُ المعاد قريب, وهذي الدنيا القريبة الزائلة بمعالمها الفانية لن تلبث إلا أن تكون كسراب بقيعة، بل كطيف خيال أو كحلم منام, فتذهب مشقة الطاعة والمجاهدة ويبقى الأجر مبذولًا من خزائن الحميد الشكور.

إبراهيم الدميجي


القتال في سبيل الله جزء من الجهاد في سبيله

القتال في سبيل الله جزء من الجهاد في سبيله

الحمد لله وبعد: فإنّ القتال في سبيل الله جزءٌ من الجهاد في سبيله، فالجهاد أعمّ، قال جل وعز: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) وقال جل ذكره: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغال فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا) وقال سبحانه وبحمده: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشدّ بأسًا وأشدّ تنكيلًا).
وفي القرآن المجيد ثلاثة ألفاظٍ يحسُنُ التفريق بينها للخلط في فهمها عند بعض الناس؛ القتال والجهاد والشهادة:
فالأول: القتال، وهذا لا يكون إلا في سبيل الله، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، دون من قاتل حميّة أو شجاعة أو ليُرى مكانه أو للمغنم أو غير ذلك من حُطَامِهَا.
والثاني: الجهاد، وهو مطلقٌ ومُقيّد، فلفظ الجهاد إذا أطلق فالمراد به قتال الكفار بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله، ولا ينصرف إلى غير القتال إلا بقرينة، قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) وقال تعالى: (انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) وقال سبحانه: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون) فالجهاد هنا هو القتال في سبيل الله، وهو الأصل عند ذكر الجهاد، أما غيره كجهاد النفس والدعوة ونحو ذلك فيدخل تبعًا أو مقيّدًا، فاستفراغُ الجُهْدِ لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وهداية خلقه جهادٌ كما قال سبحانه: (وجاهدهم به جهادًا كبيرًا).
والثالث: الشهادة، وهي مطلقةٌ ومقيدة، فالمطلقة: هي ما استشهد صاحبها في القتال في سبيل الله تعالى، فهذا هو الأصل في الشهداء، أما المُقيّدة فهي: ما سُمي صاحِبُها شهيدًا في الشريعة، تفضّلًا من الله وتطوُّلًا على هذه الأمة المرحومة تكثيرًا لشهدائها.
وبينهما فرق كبير، قالمقيّدة بضعةُ أنواع كالغريق والحريق وصاحب الهدم وصاحب ذات الجنب _داء في البطن_ والمبطون _أي مات بداء البطن_ والمطعون _بالطاعون_ والقتيل ظُلمًا _عند بعض أهل العلم لذكر عمر وعثمان بالشهادة، وليس بظاهر فشهادتهم لأنهم في سبيل الله وليس لمطلق المظلوميّة_ وغير ذلك مما سُمّي صاحبُه شهيدًا، فكل هؤلاء لهم مسمّى الشهداء في الدنيا والآخرة، فواحِدُهُم شهيدٌ، له مطلق الشهادة دون الشهادة المطلقة، وهي دون الثانية بكثير، فهؤلاء شهداء، لكن لا يُقال لهم شهداء في سبيل الله إلا إن كان ذلك ونحوه بسبب جهادهم في سبيله، كما في الحديث الصحيح عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال: "ما تقولون في الشهيد فيكم؟" قالوا : القتل في سبيل الله. قال: "إن شهداء أمتي إذن لقليل. من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، و من مات في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والغرق شهيد" (صحيح الجامع: 5602) وقال صلى الله عليه وسلم: "الشهادةُ سبعٌ سوى القتل في سبيل الله: المقتولُ في سبيل الله شهيد، والمطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، و صاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمعٍ شهيدة" _والجمع هو النفاس_ رواه أحمد وغيره من حديث جابر بن عتيك وصححه الألباني في صحيح الجامع (3739) . فهؤلاء إنما وهبهم الله منزلة الشهادة فضلًا منه ورحمة دون قتال منهم في سبيله، فهم شهداءٌ إما لموتهم دفاعًا عن أنفسهم أو عرضهم أو مالهم، أو لميتةٍ شديدة أحلّت بهم رحمة الله تعالى كالطاعون والهدم والغرق ونحو ذلك.

أمّا الشهادة المطلقة _وهي الكمال_ فهي منصرفةٌ للشهيد قتيلًا في سبيل الله تعالى، صابرًا محتسبًا مُقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، فصاحبها هو الذي حاز مرتبةَ الشهادة الكاملة بخصالها السّتِّ، مع الحياة البرزخية الحقيقية، مع جَعْلِ روحه في حواصل الطير الخضر في جنات النعيم. وهذه المرتبة هي غاية آمال المقرّبين بعد مرتبة الصّدِّيقيّة نسأل الله الكريم من واسع فضله وعميم كرمه وجزيل هباته وعظيم إحسانه، إنه الحي القيوم ذو الجلال والإكرام.
إبراهيم الدميجي

السبت، 5 أكتوبر 2013

لنملأ قلوبنا بالثقة بالله وبوعده ولقائه..

لنملأ قلوبنا بالثقة بالله وبوعده ولقائه..

هلا تدبرنا قول الله جل وعز: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" نعم فالله حق ووعده حق, فلا يستخفنك أيها المؤمن ويزعزع ثقتك في مولاك أقوام مالهم في الآخرة من خلاق!

   وتأمل قول العلي الكبير سبحانه: "ذلك بأن الله هو الحق" فكل ما سواه مما يُتعلّق به باطل, وكل ما يوثق به دونه ضعيف زائل.

وتدبر قوله جل في عُلاه: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت" فلا إله إلا الله! كم في هذا الوعد الصادق الكريم من تثبيتٍ لعزائم المحبين, ورَوحٍ لأفئدةِ الموحّدين، وربطٍ على قلوب المجاهدين بألسنتهم وأيديهم.

إنها الثقة التي تثمر أعجب الثمار, وأحلى النتائج, وأبهى النهايات, وأسمى الغايات:

فالمجاهد يقبل بمهجته في أتون كبد الوغى رابطَ الجأش ثقةٌ بموعود ربه. "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون"
إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا العنا .. وصارُوا إلى موعودِ مَا في المصاحفِ

المنفق أمواله في مراضي ربه واثقٌ بموعوده، ولا يريد من الخلق جزاء ولا شكورًا, فلا ينتظر منهم حتى كلمة جزاك الله خيرًا, أو شكرًا! لأنه صدره مليء بالثقة بما عند ربه وبصدق وعده, دعْها فمعها حذاءها وسقاءها. "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت"

المريض المدنف ساكن النفس لاهج بحمد ربه بإِنعامه عليه بهذا البلاء! ولكن غير الواثقين لا يعلمون حقائق كنوز الرضى وذخائر الثقة! إنه يقرأ في منشور فلاحه وصفًا للمرضيِّ عنهم: "العابدون الحامدون السائحون" ويتدبر قول ربه: "والله يحب الصابرون" فتهفو نفسه الواثقة لمزيد من اليقين حتى يكون الخبر كالمعاينة!

 الفقير يكدح بيده قد اكتفى بقوت يومه وليلته له ولمن يعول، بلا استشرافٍ قلِقٍ لمستقبل مظلمٍ! ثقةً أن مَن خلقهم هو من تكفل برزقهم, وهو يعلم أن مِن أفضل العبادة انتظار الفرج "وفي السماء رزقكم وما توعدون"

الداعي إلى الله والمربي والمحتسب يقابل جيوش الهموم وكتائب الصعاب والغموم بابتسام وصبر ورضى, مهما تكالبت عليه العوائق وتحالفت على كبحه المنغصات  - رغَبًا ورَهَبًا وتعجيزًا - لأنه واثق بصدق وعد ربه, أنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا, كيف وهذا العمل هو وظيفة المرسلين! "ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله"

الشاب القابض على دينه، المستمسك بعروة ملّته، يلتفت يمنةً ويسرةً في أسراب المتساقطين في حبائل الشهوات وهياكل المنقلبين لحضيض الخطيئات فيهزّ رأسه متعجّبًا من سرعة تقلب القلوب، ويضع يده على فؤاده سائلًا ربه مزيدًا من لطفه، وتثبيتًا من لدنه، فيمشي واثقًا لا تسع روحه الدنيا شوقًا للقيا ربه، وفرحًا بالعلم بإلهه، "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"

الوالد المشفق يزرع ذريته في أرض أمهم الخصبة، ويسقيهم بأدعيته المباركة وإرشاده الصادق وقدوته الحسنة, ويعلم أن أبناءه وبناته هم مشروع حياته الأعظم, فيجعل لتحصيل هدايتهم وصلاحهم واستقامتهم أفضل أوقاته وأثمن ممتلكاته وأوفى جهده, واثقًا بأن المربي الحق والهادي الحق والحافظ الحق هو الله الحق, فجثمانه في إصلاح أجسادهم وروحُه معلّقة بالحافظ الهادي، استمطارًا لإصلاح فلذات كبده ومُهَجِ حياته, بزادٍ لا ينضب من الثقة بوعد الله وحكمته. فهو لَهِجٌ مُلِظٌّ بدعوة الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا ينام: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين"

المظلوم يتلوّى شِلْوُهُ مِن مرّارةِ قهْرِ الظالم, وحرارة سياط مقارِعِهِ النفسية والجسدية, لكن قلبه واثق بموعود ربه ونصره للمظلومين, ومهما طالت دولةُ ظالمِهِ وجولةُ قاهرِهِ ففوقه جبارُ السماوات والأرضين الذي يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, فلا تزال عين المظلوم باردةٌ قرّى إذ موعد المحكمة الإلهية لِظَالمه بالمرصاد, وخيرٌ للمظلوم لو أُخّر نكال ظالمه للآخرة! فما أقصر ليل الظالمين! "ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" إله الحق جنّبنا ظلم أنفسنا بشرك فما دونه و ظلم عبادك يا ذا الجلال والإكرام.

المبتلى في دنياه إن رزق الثقة فلا عليه ما يفوته من الحطام, وليعلم أن الفرج أقرب له من مارِنِ أنفه، وكفى بالإيمان حظًّا "أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى رحالكم؟!"

يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ  ...   أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارج اللهُ

اليأس يقطع أحياناً بصاحبه … لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي اللهُ

الله يُحدِث بعد العسر ميسرة … لا تجزعنَّ فإن القاسم اللهُ

إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ به … إنَّ الذي يكشف البلوى هو اللهُ

واللهِ ما لكَ غير الله من أحدٍ … فحسبُك الله في كلٍ لك اللهُ

إبراهيم الدميجي


الخميس، 3 أكتوبر 2013

صبرًا.. يا أهل الحُسْبَةِ!

صبرًا.. يا أهل الحُسْبَةِ!

الحمد لله الحق المبين, والصلاة والسلام على خاتم المرسلين, أما بعد:
فأتفهَّمُ النقد المنصف لأداء جهاز الهيئات كأي نقدٍ لأجهزة الدولة الأخرى، فحيث وجد البشر فثمّ أخطاء, ولا عصمة لغير الأنبياء. ولكن أن تكون الخصومة بفجور؛ سواء كان باختلاق الأقلام المسمومة لحوادث لا حقيقة لها, أو بزيادة تفاصيل تحرفُ فهم المتلقّي, أو ببتر حقائق كانت مكمّلةٌ لمشهد الحُكم، أو باستباق أحكام القضاء ونشر عرائض الاتهام بما فيها من حق أو زور؛ فما هذا من النَّصَفِ في شيء! "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعًا هو السميع العليم"
لِمَ كلّ هذا الاستيفاز لصناعة الوهم الإعلامي وشيطنة المصلحين عبر ضخِّ المقالات والتقارير والتصريحات التي ظاهرها بعين من يمكر الله بهم خفضٌ للمصلحين، وباطنها ومآلها خيرٌ عميم, وتلك سنة الله في الرسل وأتباعهم مع مخالفيهم. "يبتلون, ثم تكون لهم العاقبة"
عند العقلاء: التقويم غير التشفّي, والبناء ضدّ الهدم؛ لذا فالتركيز على أخطاء منسوبي الهيئة مع العمى المتعمّد عن بواقع غيرها – مع أنها في نفس مسار الخطأ – بل ضحايا أخطاء القطاعات الأخرى أكثر وأخطر, وهل من حاجة لدليلٍ في رائعة النهار؟!
وإنّ من أَسَفِّ قالاتِهم السيئة وطرائقِهم الباغية: الاتهام والتضخيم قبل التثبت, والنظر بعين واحدة حقود, حتى إذا ثبتت براءة ليوث الحسبة؛ اكتفوا – إن فعلوا – بذكر خبر جانبي صغير عن براءتهم, لا يوازي معشار ما استبقوه من فجور الخصومات, بعدما رسموا في خلفيّة المُتلقِّي نمطيةً رسمها إعلامُهم! وعند الله تجتمع الخصوم! وكيدهم لا يغيّر من ناصع الحق شيئًا, فالمحتسبون لسان حالهم: الفاضل من عُدَّتْ سقطاته, ومحاربوهم قد نجّسوا الأَبحُر في خفة الطير وأحلام السِّباع, كأنما وصفهم من قال:
مساوئُ لو قُسِمنَ على الغَوَاني   ...   لما أُمْهِرنَ إلا بالطلاق!
فهل من المروءات والشيم أن تَنشرَ ما قيل في خصمك مع تكميمك لقلمه عن إبداء دفاعه عن نفسه؟ أين الفروسية والنبل؟! ثم أين من يقف وراء ذلك المشروع الهادم, ومن المستفيد؟! "وربك أعلم بالمفسدين" وهل يراد للمحتسب أن تكون هيبته في صدور الفجرة سليبةً كصِنوِهِ المعلم؟! كفى فسادًا وإفسادًا! ولكن: "ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون"
ألا تعجبون من طبيعة عُبَّاد الرذيلة: فلكل جهازٍ أمنيٍّ خصوم ومبغضون؛ فحرس الحدود يخشاهم ويبغضهم مهربو المخدرات والممنوعات, والشُرَطُ يخشاهم ويكرههم السراق واللصوص.. أما أُسُود الهيئة فيخشاهم لصوص الأعراض وفجرة حدود الله. فتأمل الحالين وتلمّح الطريقين "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا".
وفي وقتنا العصيب الذي انتشر فيه وباء الخطايا كنا نأمل للهيئة بوزارة مستقلة ذات سيادة وكفاءة, ثم يأتينا مِنْ خُدُجِ الكتّاب من يطلب إلغائها أو ضمها للشرطة! يا لَله, أي حرب هذه؟!
ولكل من صَعدَ مدارج السموّ والعلوّ عبر أخذه بحبل الخيرية "الاحتساب" كما قال ربنا سبحانه: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" نقول:
أبشر واثبت ولا يستخفنّك ثناء مادحٍ, ولا يستفزنّك خَطَلُ قادحٍ, فمنهاج النبوّة واضح, وطريق أتباع المرسلين هو الابتلاء في ذات الله, والضربة التي لا تكسر ظهرك إنّما تزيده قوّة, وتذكّر أن مراتب الإنكار على حَسَبِ المصلحة الشرعية والطاقة البشرية, وتدبّر أهميّة العلم قبل الإنكار, والرفق في أثنائه, والحلم والصبر بعده, ولا تنسَ حُسْنَ العبادة, وصلاحَ القلب, وصدق الضراعة, والتعلّق بربك وحسن الظن به وعظيم الثقة بوعده ولقائه, والقنوتَ القنوتَ ورأسُه الصلاة الطويلة الخاشعة فهي جَنَّةُ المحتسبين وجُنَّتُهُم: "يا بني أقم الصلاة وأمُرْ بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" فتأمل سكينة وقوّة المحتسب وهو بين صلاة وصبر "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" إي وربي, ففي جوف صلاتك الخاشعة ستفوز بألطاف وفتوح لا يطيقها المِداد! وغدًا: "ومن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة"
واعلم أنَّ أولَ ما يُكافأُ به المحتسبُ المخلصُ المتّبعُ؛ زيادةٌ في إيمانه يذوق حلاوته بلسان قلبه, "إنا لا نضيع أجر المصلحين"  فهم ورثةُ المرسلين في أطْرِ الخلق على حسن العبودية للخالق؟! وإذا كان الصبر رأس الإيمان؛ فأعظم مراتبه صبر العبادة والتّعبيد.
لقد جعل الله الدنيا مُنَغَّصَةً لتتّعِظَ النفوسُ المطمئنة لوعد ربها في الآخرة الباقية, ببصائرَ ترى الدنيا الفانية ممرًّا ومعبرًا, إذ خُذِلَ المتهالكُ على الحطام الفاني.. وتأمل: "وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون . أفمن وعدناه وعدًا حسنًا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين"؟!
 لقد جعل الله بعض الشريعة على خلاف أهوية النفوس, ليمِيز المؤمن المستسلم لأمر ربه من المرتاب المتوثب المتفلّت، والناس بينهما, فمستقلٌّ ومستكثر. 
وفي أزمنة الغربة تُضاعفُ أجورُ المصلحين بحسَبِ وجود الأعوان على الحق, فلئن تنكّر لك الخلق فأكْرِمْ بمن هو في معيّة الخلاق! ويأتي على الناس زمانٌ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر, ولربَّما ترقَّى بالأجر حتى يُكرمَ بأجر خمسين صحابي! فضلًا من الله ونعمة.
هذا, ولمُنتسبةِ أثارةِ علمٍ ومشيَخة ممن رام تعطيل أو إضعاف فريضة الاحتساب بتأويلٍ أو تمحُّلٍ، فباع أخراه بدنيا غيره: نعظه بموعظة علام الغيوب: "قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون" "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين" وهي أشدُّ آية على العلماء! وكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟!
تدبّروا القرآن واكسروا به أقفال القلوب: "فخلف من بعدهم خلفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون . والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين"
سأل ربيعة الرأي الإمام مالك: من سِفْلة الناس؟ فقال: من أفسد دينه. قال: فمن سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بإفساد دينه! فاللهم غفرًا.
ومن لطف الله بأهل الحسبة أن يقيّض لهم من يدفع عنهم الأذى والسوء -كما نراه عيانًا من اجتماع قلوب وألسُن المؤمنين على نصرهم والدعاء لهم - بل قد يدفع الله عنهم الكيد والأذى بمحض اللطف الرباني بدون سبب ظاهر "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" لذلك فأقرب ما يكون المحتسب من معية ربّه إذا انقطعت علائق قلبه عن الخلق وتعلّقت بالثقة وحسن الظن بالخلاق العظيم "فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين"
وكذلك فحين ترى تَنَكُّرًا لأهل الاحتساب ممن يُظن فيهم حسن المدافعة وحزم الموعظة للظالمين؛ فاعلم أن هناك مَنْ خذله الله ورفع عنه توفيقه قبل أن يرفع الممكور به جاهه وسلطانه عن مدافعة المبطلين! والموفقُ من قام في حراسة أديان الناس وأعراضهم دون كيد الشيطان وحزبه, فالأول من هذا الركب الإيماني "أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الغالبون" والآخر المخذول من "أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" وأهل الإيمان مدحهم ربهم في القرآن بأنهم: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"  بينما ذم أهل النفاق بأنهم: "يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف"
الاحتساب ليس كغيره من فرائض الدين وشعب الإيمان فله مكانه الخاص العالي بينها, فهو فرع عن الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة السنام, لذا فقد عدّ بعض أهل العلم هذه الشعيرة الجليلة الركن السادس للإسلام لأنه لا يقوم إلا بها, فهي حصن الملّة, وهي الفريضة الغائبة بين كثير من الناس, فهل من مدّكر؟!
وإن المؤمن ليوجل قلبه ويخاف كلما سمع آية المائدة: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" وهو يرى الشرك والبدع والربا والمظالم والتغريب والمجاهرة بالمعاصي, ويعلم من داخلة نفسه أنه لم يقم لله في دفعها حق القيام! ولو اجتمع المصلحون لكان خيرًا لهم, ولقد حاول الشياطين ولم يزالوا في السعي بين الأخيار بالتحريش والحسد والحظوظ الفانية! وقد قال سفيان الثوري رحمه الله: «إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك, وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق» وكان بعض السلف إذا رأى منكراً ولم يطق تغييره بال الدم من الغضب لله والحزن مما رأى. فهل يا تُرى نُمتَّع حتى نرى أمثال أبي ذرّ وطاووس وابن جبير؟!
شاهد المقال: أن أوامر الله وحدوده لا بد أن يكون لها من البشر من يضيق بها ذرعًا ولا يطيق الإلزام بها، فنفسه الأمارة نزاعة دومًا لحضيض الخطايا ودنس المعاصي, فإن جاءها من يأخذ بيدها للطهارة والطيب؛ ضاقت واستوفزت ثم حاربته وفجرت, ولا يقرّ لها قرارٌ وهي ترى المصلحين يَهْدُونها ولو بالسلاسل, وبعض خبيثات النفوس على مذهب الهالكين: "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"
ومن الأهمية بمكان: أن يكون لدى عموم الناس ثقة مطلقة بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صِمَامُ أمان من العذاب العام والخاص، فهي سفينة النجاة كما مثل بها النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم, إذا كَثُرَ الخَبَث». ومما أُثِرَ عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قولُه: «كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم»
والجبار جل جلاله لم يعذر في هذا الأمر أحدًا فالتكليف به عام كلٌّ بحسَب طاقته وقوته وحاله, كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "من رأى منكم منكرًا فليغيّره.. الحديث" رواه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
ولما ذكر الله عذابه البئيس ونكاله العظيم بعصاة أهل السبت أثنى على المحتسبين المنكرين ولم يذكر نجاة الساكتين فاحذر يا من تظن أنه قد وسعك السكوت فالتبعة لا تسقط على المستطيع مادام المنكر فاشيًا, فتدبر - يا رعاك مولاك - قول الكبير المتعال: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" فالذي دعاهم للإنكار خشيتهم على أنفسهم من عذاب الله أولًا, ثم شفقتهم ورحمتهم بمن ركب المنكر من عذاب الجبار جل جلاله, فما لأحد بغضب العظيم من طاقة, ثم كانت نهاية المشهد المروّع لأولئك كما وصفه سبحانه وبحمده بقوله الأجل: "فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ثلاث فرق: فرقة العصاة، وفرقة الناهين وفرقة القائلين: "لم تعظون" فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم! فأصبح الذين نهوا ذات غداة في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم، وقد باتوا من ليلتهم، وغلقوا عليهم دورهم، فجعلوا يقولون إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم؟ فاطلعوا في دورهم، فإذا القوم قد مسخوا يعرفون الرجل بعينه، وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة. عياذًا بربنا من موجبات سخطه وموردات مقته! وفي رواية لهم عنه قال: نجا الناهون وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين. وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عنه قال: والله لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: "لم تعظون قومًا" نجوا مع الذين نهوا عن السوء أحبّ إلي من حمر النعم، ولكن أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً. وعن تلميذه عكرمة أنه راجعه في نجاتهم, والله أعلم. معشر المحتسبين: ما أجمل أن نبثَّ رُوحَ التفاؤل ورَوحَ الفرَجِ, وحسن الظن بالله وبوعده ولقائه, وحسن العاقبة, ثم حسن الظن بعباده, والمؤمن مأمور بحسن العمل وغير مكلَّف بإدراك ثمرته في دنياه, فالثمرة العظمى رضا رب العالمين, فمن أدركها فلا عليه ما فاته مِما سواها, والله المستعان.
وقبل الرحيل تدبّر آية يونس: "واتّبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".
فاصلة: لقد أحسن من قال: أسعدُ الناس رجلٌ موسّدٌ في قبره يردّد: ربّ أقم الساعة, ربّ أقم الساعة.

إبراهيم الدميجي
@aldumaiji

aldumaiji@gmail.com