إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

عدل ونصح وإنصاف

 

عدل ونصح وإنصاف

«يا قوم!! إنَّ الحق فوق الأشخاص، وإنَّ السنة لا تسمى باسم من أحياها، وإنَّ الوهابيين قوم مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميع المسلمين في هذا العصر بواحدة وهي أنهم لا يقرون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله وتيسر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟

 

أإذا وافقنا طائفة من المسلمين في شيء معلوم من الدين بالضرورة، وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندكم ـ والمنكر لا يختلف حكمه بحكم الأوطان ـ تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم وازدراءً بنا وبهم، وإن فرَّقت بيننا وبينهم الاعتبارات فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمِل في طريق الإصلاح الأقلامَ، وهم يُعمِلون فيها الأقدامَ، وهم يُعْمِلُونَ في الأضرحة المعاول ونحن نُعْمِلُ في بانيها المقاول».

 

[«آثار الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٣ ـ ١٢٤)]

الاثنين، 2 نوفمبر 2020

عشر ترجمات لرسالة: ستون لفتة للمسيحي الصادق الحر

 اضغط على اسم الكتاب المراد تحميله


أولًا: رسالة: ستون لفتة للمسيحي الصادق الحرّ (عربي)


مع التنبيه لعدم صحة التسمية بالمسيحية لمن لم يلتزموا وصايا المسيح عليه السلام في العقيدة والعبادة والأخلاق ومن ذلك وصيته باتّباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر تنزل مع من ظن صحة انتسابه للمسيح عليه السلام عن طريق تلك الديانة البولسية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.


ثانيًا: عشر ترجمات لرسالة ستون لفتة للمسيحي الصادق الحر:




















الأربعاء، 12 أغسطس 2020

إبطال شبهة وجود تعارض بين الكتاب والسنة



الحمد الله العليم الحكيم القائل: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه وأمينه القائل: " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ.. الحديث". (1) والقائل: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ". (2) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى يقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت السماوات والأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) ويقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
لقد عاشت البشرية قرونًا من الظلام والجهل والعماية حتى امتنّ الله اللطيف الرحيم عليهم أن بيّن لهم دينه الإسلام الذي رضيه ولا يقبل دينًا سواه الله، (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)  وأنزل إليهم كتابًا كاملًا (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، وابتعث لهم سيد المرسلين وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه وبركاته، وائتمنه على وحيه، فأنزل عليه الكتاب ومثله معه وهي السُّنة، وقال في محكم تنزيله مؤكدًا هذا الأمر الأصيل في الإسلام: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
ولا يزال أهل الكتاب يحسدوننا على ذينك الشرفين: القرآن الحكيم والسنة المطهرة، ذلك أن كتابهم قد ضيعوه، ثم حرفوا ما تبقى مما منه قد وجدوه، فأضحى حافلًا بالضلال والشرك والوثنية والتناقض ومحالات العقول ورذائل الأخلاق! فيمّم كثيرُهم وجهه عنه إلى مجاهل الإلحاد وأوحال الضياع، إلا من هداه الله سبيله فاتّبع العهد الأخير كتاب الله الخاتم المحفوظ، فآمنوا بالقرآن واتّبعوا سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وملائكتُه وصالحو عباده.
ولا يزال الأفّاكون مع تعاقب الأيام يتعاورون شبهًا يحاولون بها تشويه محيّا الحق الأصيل أو تغطية الوحي الجميل، ويأبى الله! (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
وقد وقفت على شُبَهٍ باردة سمجة روّج لها أشباه الأنعام ممن لا علم له يتبيّن به، ولا عقل له يرعوي به، لكنها شبهات الشيطان الرجيم. وهي حروف كتبتها يد آثمة تبتغى تشويه صورة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم والزعم بوجود التناقض بين القرآن والسنة. ولو تدبر الناس القرآن حقًّا وفهموه ما تناقض فهمهم لدين الله كتابا وسنة، ذلك أن المعين واحد، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
والله لو كانت من الرحمن ما اختلفت   ...   ولا انتقضت مدى الأزمان
شُبهٌ تهافت كالزجاج تخالها    ...  حقًّا وقد سقطت على صفوان
وهذه الشبهة المذكورة عبارة عن محاولة هزيلة للترويج للزعم الكاذب بوجود التناقض بين الوحي الواحد كتابا وسنة، فيزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالقرآن غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالسنة! ويخلص بذلك إلى أن السنة باطلة والرسول صلى الله عليه وسلم باطل، وبالتالي -بزعمه الفاجر-: فدين الله تعالى وتقدس باطل! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وشبهته كلها قائمة على أمر واحد يحاول به ختل ذهن القارئ حتى يزعزع به ما استطاع من يقينه بدينه أو يهزّ شيئًا من مسلّمات المسلمين، وهذا الأمر هو أن يأتي بآية لها معنى وسياق، ثم يفتش في دواوين السنة باحثًا عن نصٍّ يخالف ظاهر تلك الآية حتى لو كان سياقه مختلفًا تمامًا ومعناه غير مقصودِ المخالفةِ لغيره.
توضيح ذلك من غير ما نحن بصدده – ولله المثل الأعلى -: لو أن رواية طويلة الأحداث قال بطلها في فصل منها: أنا عطشان، أو قد سافرت للرياض، وفي فصل آخر وَحَدَثٍ آخر قال: قد ارتويت، أو قد سافرت لمكة. فيأتي متصيّد الأخطاء فيزعم أنّ الكاتب تناقض، وأن البطل إذا ذكر العطش فيستحيل أن يشرب أو يرتوي وإذا سافر للرياض فمحال أن يسافر واو في زمن مختلف لمكة ونحو ذلك! وما هذا بتناقض، فما التناقض إلا في فهمه، عوجًا في منطقه، ومناداة على بلادة عقله. وهذا من توضيح الواضحات.  وقديمًا قال المتنبي:
ومن البليّةِ عذلُ من لا يرعَوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهمُ
لقد جاء الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في نحو أربعين آية من كتاب الله تعالى كقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين) وقوله: (وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون) وقوله: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) ونحو تلك الآيات، وهذا كاف في إبطال دعواه، وبالجملة فجميع شُبّهِهِ تبطلها آية فاذّة من كتاب الله تعالى، قال سبحانه وبحمده: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
وهذه المقالة غيض من فيض من حملات ممنهجة ومغرضه وموجهة للمسلمين لصدهم عن دينهم وتشكيكهم بأصوله وثوابته. وهل هناك أخطر وأكبر وأصرح من مراكز الإلحاد التي تشكك في وجود الله تعالى وتبث بين شبابنا وشاباتنا؟! وتجد بأسف من يتلقفها ويتأثر بها.
وهذه المقالة الشنيعة هي من مقالات الطعن في السنة والتشكيك فيها، فالسنة هي المصدر الثاني للإسلام، والطعن فيها طعن في القرآن، لأن الله تعالى يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى). وهي من سلسلة حملات تجفيف منابع الخير والهدى والنور. 
وهذه سنة الله تعالى في خلقه، والصراع باق إلى قيام الساعة بين الحق والباطل، وما قيل وفعل بنبينا صلى الله عليه وسلم خير مثال على ذلك حتى قال له ربه تبارك وتعالى: (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) وقال – وتدبرها جيدًا - : (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وقال: (ولا تكن في ضيق مما يمكرون) وقال: (ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون  . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
ولا تقوى مثل هذه الحملات إلا حينما يرون قوة الإسلام وخوفهم من انتشاره وغزو ديارهم بالحجة والبيان. 
ولقد وعد الله - ووعده الصدق -: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) رغم أنوفهم (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
والواجب علينا ألا نستسلم ونقف ولكن: (كونوا أنصار الله) وهو الغني عنا، وحقيقة نصره التمسك بديننا، والعمل به، والدعوة إليه، ونشر العلم، وحصانة أبنائنا وبناتنا، وتقويه الإيمان في قلوبهم. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق حتى نلقاه.
ثم إن كلامه كله ساقط مرذول مردود، وسأورد كل شبهة له بين قوسين مزدوجين، ثم أتبعها بردّها باختصار واقتصار، لأن إظهار هذا التهافت كفيل بإبطاله.
 وقد عنونها بقوله: (كتابة مثيرة للغاية.... ولكن) ونقول: إنها مثيرة لغيظ المؤمنين، ومثيرة لاستهجان العقلاء، ومثيرة لاشمئزاز الأحرار، ومثيرة لانتباه الناس لتناقض الكاتب وكذبه وجهله وعدم احترامه لعقول القراء.
وسأنسخ كتابته كما هي تاركًا عليها أغلاطها العلمية والنحوية والإملائية والأدبية والأخلاقية..  وكفاك من شرٍّ سماعه!
قال الكاتب: ((مستحيل ان يكون محمد الذي في القران هو محمد الموجود في التراث وكتب الاحاديث
محمد في القران قد يدافع عن نفسه من الاعتداء ولكنه لا يعتدي على الآخرين (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين )
اما محمد السنه فيقول (امرت ان اقاتل الناس حتي يقولوا لا اله الا الله ) صحيح البخاري)).
والجواب: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي في القرآن يبلغ عن ربه تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) هو محمد الذي يقول له ربه في القرآن: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) وقال سبحانه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). فالقرآن كله متناسق يصدّق بعضه بعضًا ولا يتناقض في شيء البتة (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا). (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) بلى وعزةِ ربنا!
وقال الكاتب: ((ومحمد في القران لا يعرف ماذا سيحدث له او لغيره يوم القيامه (قل ما كنت بدعا من الرسل وما ادري ما يفعل بي ولا بكم )
اما محمد السنه فيعلم الغيب ولديه القدره علي ان يقول فلان في الجنه وفلان في النار بل بشر عشره بالجنه))
والجواب: أن الله تعالى قال في القرآن العظيم: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا. إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا). فالغيب علمه لله وحده، والله تعالى يفعل ما يشاء وله الأمر كله، وقد أخبر نبيّه ببعض الغيوب لحكم سامية؛ منها إقامة براهين نبوته صلى الله عليه وسلم، وهي ما تسمى ببراهين العلم. وقد كان صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله تعالى أخبره ولا ينسب لنفسه شيء من ذلك.
وقال: ((محمد في القران ليس من حقه ان يكره احد علي دخول الدين (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
اما محمد السنه فيقول (من بدل دينه فأقتلوه))
والجواب: ليس هنا تناقض، فقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فالمراد أنه لا يكره غير المسلم بالدخول في الإسلام ابتداء، أما أن دخله فيمنع من الخروج عنه لأن الخروج عنه هزء وسخرية به، وهدم للدين من داخل أسواره، لذلك وجب حسم مادة الفتنة بقطع دابرها والتشديد على من أراد هدمها من داخل أهلها.
والردة عن الدين الحق هي في الحقيقة اشد جرمًا مما يسمى بالخيانة العظمى عند الساسة الذين يحكمون بقتله تشريدًا عن متابعته، لأن حق الله تعالى أعظم مما سواه. ومع ذلك فقد حكم الإسلام باستتابته أولًا، فإن أصرّ فيقتل قتلة كريمة رحيمة وهي ضربةٌ بالسيف لا حرقًا ولا صعقًا ولا شنقًا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". (3)
وأما قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فالمراد هو الزجر والتهديد والوعيد، وليس الإباحة، بدليل سياق الآية وسباقها، قال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل!
وقال الكاتب الأفاك: ((ومحمد في القران امر ان يصفح عن من اساء
 في حقه (فاصفح الصفح الجميل)
اما محمد السنه فينتقم من شاعره اسمها أم قرفه بصوره وحشيه تتعارض من الرحمه والانسانيه لمجرد انها كانت تهجوه بشعرها فربطها بين فرسين وجري كل منهم في اتجاه فقطعت نصفين (فتح الباري بشرح صحيح البخاري في كتاب المغازي باب غزوه زيد ابن حارثه ))
والجواب: إن ناقل الكذب أحد الكاذبين، فقصة أم قرفه باطلة ولا تصح، وما بني عليها فهو باطل، وقد رواها الطبري في تاريخه وغيره ولا تثبت، وإسنادها واه. ومدار سندها على محمد بن عمر الواقدي وهو متهم بالكذب لدى علماء الحديث. قال البخاري: الواقدي متروك الحديث، تركه أحمد وابن نمير وابن المبارك وإسماعيل بن زكريا (4) وقال أحمد: هو كذاب. وقال يحيى: ضعيف. وفي موضع آخر: ليس بشيء. وقال أبو داود: أخبرني من سمع من علي بن المديني يقول: روى الواقدي ثلاثين ألف حديث غريب. وقال يحيى بن معين: لا يكتب حديث الواقدي، ليس بشيء. وقال إسحاق بن راهويه: كان ممن يضع الحديث.(5) وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: المعروفون بالكذب على رسول الله أربعة: الواقدي بالمدينة، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد بالشام. وقال الذهبي: مجمع على تركه.(6) وإذا كان هذا حال الواقدي فروايته باطلة مردودة، فلا ينبغي لمنصف عاقل أن يذكرها في معرض حجاج. وحتى لو تنزلنا وقبلنا الخبر فهذا تصرف فردي لجندي من جنوده في غيبة منه صلى الله عليه وسلم، فلم يك معهم صلى الله عليه وسلم، ومعلوم من سيرته عدم إقرار مثل تلك الأمور، بل كان نهيه عن قتل النساء والشيوخ والذرية شديدًا واضحًا في كل مغازيه صلى الله عليه وسلم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في الرحمة، ولا يُعلم في بني آدم أشد رحمة منه، وقد شهد على رحمته حتى من كانوا على غير ملته. قال المستشرق الإسباني جان ليك في كتابه (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) كان محمد رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".(7)
وقال الكاتب: ((محمد في القران لا يفرق بين رسل الله (لا نفرق بين احد من رسله) 
ومحمد في السنه يقول عن نفسه (انا سيد ولد ادم ولا فخر))
والجواب: أن الذي قال: (لا نفرق بين أحد من رسله) هو القائل: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) والقائل: ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) فنفي التفضيل إنما هو نفي التفضيل المفضي للانتقاص من أحد من الأنبياء،  أما ذات التفضيل فالله تعالى هو من  فضّله لا راد لحكمه ولا معقب لمشيئته تبارك وتعالى. وليس أخباره صلى الله عليه وسلم بسيادته ولد آدم لأجل العلو عليهم – حاشاه - ولكن تحدّثًا بنعمة الله الذي قال له: (وأما بنعمة ربك فحدّث). والراسخون في العلم يردّون متشابه الكتاب لمحكمه، ويقولون: (آمنا به كل من عند ربنا) أما أهل الزيغ: (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة).
وقال الكاتب الهاذي: ((محمد في القران لا يقتل الاسري في الحروب (فأما منا بعد واما فداء )
وعليه ان يعاملهم برحمه (ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما واسيرا)
محمد السنه يقتل اسراه بتوحش كما قتل يهود بني قريظه وسبي نسائهم))
والجواب: إن الحجاج ينفع من ذي علم أو عقل أو مروءة، ولكن أن يأتيك جاهل مركب فيرمي التهم جزافًا، ويظن أنه أتى بشيء جديد بينما حقيقته دجل أو جهل، وكلاهما هاوية ردى. ويعظم الخطب حين يتكلم في أصول الإسلام، فالجاهل البسيط دواؤه السؤال والتعلّم، وهو الذي لا يدري ويدري أنه لا يدري، أما المصيبة فهي في الجاهل المركب الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، هذا إن أحسنّا به الظن، مع عدم استحقاقه له.
قال حمار الحكيم توما    ...   يا ليتني كنت أَركَب
لأنني جاهل بسيط    ...  وصاحبي جاهل مركب
وعليه فأقول: لقد عاتب الله تعالى نبيه في القرآن حينما أسر الكفار في بدر ولم يقتلهم صبرًا، فقال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) فكيف يزعم هذا الكاتب أن الله منع في القرآن من ذلك، أما الآية التي استشهد بها على خطله ففيها إبطال باطله، ولكنه اجتزأ منها ما وافق هواه وترك هداه، والآية هي قول الله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) وتدبر: (فضرب الرقاب).
وقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين)، وقال سبحانه: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) وقال تبارك وتعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل).
أما قتله لبني قريضة فلأنهم نقضوا العهد المؤكد بينه وبينهم، بل زادوا على ذلك الغدر بأن كانوا هم من ألّب القبائل الغازية لاجتياح المدينة النبوية رغبة في إبادة خضرائها، ولكن الله سلّم. وهم مع ذلك يعلمون العقوبة من قبل غدرهم، فمن الملوم؟!
أما الآية الثانية التي استشهد بها فليست مما نحن فيه بسبيل، فهي في الترغيب في حسن معاملة الأسرى، ومعلوم أن الإسلام يحض على إحسان معاملة الأسير، ومن ثمار ذلك في الماضي والحاضر دخول كثير من أسرى المسلمين في الإسلام حين رأوا حسن التعامل ورقي الأخلاق وسمو السجايا للغالب المنتصر المسلم.
أما حكم الأسير المحارب في الشريعة فالإمام مخير فيه حسب المصلحة العامة للمسلمين، فله قتله – إن كانت المصلحة تقتضي ذلك – وله أسره وحبسه، وله استرقاقه، وله إطلاقه بفدية، وله إطلاقه مجّانًا بلا فدية. وكل هذه الخيارات منوطة بأمرين: الأول: المصلحة العامة وهي الحكمة. والثاني: الرفق والرحمة.
وقال الهارف بلا علم ولا هدى ولا أدب: ((محمد في القران ليس شهوانيا فكان يقوم الليل متعبدا (ربك يعلم انك تقوم ادني من ثلثي الليل ونصفه وثلثه)
اما محمد السنه فهو يجامع تسع زوجات في ليله واحده واوتي كما ذكرت كتب الاحاديث قوه ثلاثين في الجماع 
محمد في القران ليس مريض بمرض البيدوفيليا او معاشره الاطفال جنسيا فلا يقبل ان يتزوج الا بعد ان تبلغ المرأه الاجل المناسب (تكون ناضجه جسديا وذهنيا) (ولا تعزموا عقده النكاح حتي يبلغ الكتاب أجله ) (فأن أنستم منهم رشدا)
اما محمد السنه يتزوج طفله صغيره عنده ٦ سنوات ويعاشرها جسديا وهي في التاسعه))
والجواب: من الظلم الواضح الحكم على قضية معينة بقطعها عن سياقها التاريخي والبيئي والاجتماعي، والاكتفاء بتسليط الضوء عليها من خلال نافذة دقيقة لا تستطيع رؤية محيطها العام ولوحتها الكبرى.
فأما سخريته من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أعف العالمين وأرحمهم وأرفقهم- بعائشة رضي الله عنها حينما كانت بذلك السن فالجواب: أن نساء المناطق الحارة يبلغن سن النضج سريعًا، فقد يبدأ معهن الطمث عند السابعة والثامنة والتاسعة، وقد روى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه تعليقًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة". (8)
كما تقول الطبيبة الأمريكية "د. دوشني": "إن الفتاة البيضاء في أمريكا قد تبدأ في البلوغ عند السابعة أو الثامنة، والفتاة ذات الأصل الإفريقي عند السادسة. ومن الثابت طبيًّا أيضًا أن أول حيضة والمعروفة باسم (المينارك menarche) تقع بين سن التاسعة والخامسة عشرة".
هذا، ولم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أول الخاطبين لها، بل كانت مخطوبة لجبير بن مطعم، مما يدل على اكتمال نضجها. وأيضًا فلم تكن خطبته صلى الله عليه وسلم لها برغبة منه، بل كانت باقتراح لخولة بنت حكيم ام شريك على الرسول فأشارت عليه بذلك لاعتقادها أنها كانت صالحة للزواج في حينها وسدّ الفراغ بعد موت السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد وافقها صلى الله عليه وسلم لمحبته والدها رضي الله عنهما.
وهنا ملحظ مهم، فقد كانت قريش تبحث عن أدنى غميزة تصل بها للطعن في رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ومع ذلك فلم يذكروا ذلك ولو بأدنى إلماحة مما يدل على استقرار الأمر بمناسبة زواج البنت في ذلك السن لديهم.
أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فقد كان لغايات سامية ومقاصد شريفة تتقاصر دونها أفهام من ينظرون للأمر بسطحية وسذاجة دون الوقوف عند حالِهِ أولًا، ثم موقعه من قيادة سفينة المجتمع والدولة الفتية ثانيًا.
 فابتداءً ما عدّد صلى الله عليه وسلم الزوجات إلا بعد وفاة خديجة رضي الله عنها وكان قد بلغ سن الثالثة والخمسين، وهو وقت فتور رغبات الجسد بعد أن طوى خلفه سن الشباب الذي يكون عند الناس مظنة توقّد الشهوة.
 كما تزوج من ثيبات ليس منهن بكر سوى عائشة، بل كانت بعضهن كبيرات السن، فقد تزوج لاعتبارات اجتماعية وتشريعية وسياسية لصالح الأمة:
 فسودة رضي الله عنها كانت متقدمة في السن ولم تذكر بجمال، وزينب بنت خزيمة كانت قد بلغت الستين، وأم سلمة قد تجاوزت سن الشباب حين بنى بها، وتزوج حفصة بنت عمر بعد وفاة زوجها إكرامًا لأبيها، وتزوج زينب بنت جحش لإبطال عادة أهل الجاهلية بالتبني؛ لأن زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه كان قد تزوجها وطلقها. وتزوج جويرية بنت الحارث زعيم قبيلة بني المصطلق فدخل قومها الإسلام ببركة ذلك الزواج، كذلك فقد تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان سيد قريش، تزوج صفية بنت حيي بن أخطب ليصاهر سلالة هارون عليه السلام تأليفا ليهود..  إلى غير ذلك من الحكم السامية والغايات النبيلة؛ كنقلهن لتفاصيل الشريعة التي لا يطلع عليها في العادة سوى نساء الرجل. وانظر ما ذكرته المستشرقتان آن بيزيت في كتابها "حياة وتعاليم محمد" ولورا فاغليري في كتابها "دفاع عن الإسلام" (9) فقد أكدتا سموّ تلك الزيجات النبوية ونقاءهما مما وصمه به أعداؤه المغرضون الكاذبون.
وقال الكاتب: ((ومحمد في القران ارسله الله رحمه للعالمين
ومحمد السنه قال في الحديث جئتكم بالذبح))
والجواب: أنه أرحم أنسان أظلّته السماء وأقلّته الأرض، بل شملت رحمته الحيوان والطير وأخبار ذلك كثيرة جدا، أما قوله: "جئتكم بالذبح" فهو خبر عن مصير بضعة أعيان بخبر الله له، وحتى لو قلنا لقريش فهو خبر صدق لما سيصيبهم في بدر حينها. وقد قالها حينما وضعوا السلا على ظهره وهو ساجد لربه في فناء الكعبة فتمايلوا من الضحك والسخرية فغضب غضبة دينية لأجل دين ربه، فكسر طغيان لحظتهم الفاجرة بقوله الصادق المعجز، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحزم الذي أجمع عليه العقلاء، فالرحمة والعفو في موضع الحزم والعقوبة ليست من الحكمة في شيء، وقد قال الأول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
ومع هذا فالأصل المستمر في حياته صلى الله عليه وسلم هو الرفق والرحمة، أما الاستثناء النادر فهو الشدة في حدها ووقتها ومكانها وحينها.
وقال الكاتب: ((ومحمد في القران ليس من حقه ان يشفع لاحد يوم القيامه (يا أيها الذين امنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه ولا خله ولا شفاعه) بل سوف يشتكي امته يوم القيامه ويقول (وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا)
اما محمد السنه فيقول (امتي امتي) ويشفع لامته يوم القيامه وينقذهم من النار (أفأنت تنقذ من في النار))
والجواب: أن الشفاعة قد جاءت في القرآن الكريم على قسمين: شفاعة مثبتة بشرطي إذنه تعالى للشافع أن يشفع ورضا سبحانه عن المشفوع له، قال تبارك وتعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقد جمع الشرطين في قوله الأجل: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا ألا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) ثم هي ليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الرسل والملائكة والصالحون والشهداء والأفراط يشفعون كذلك. ولكرامته صلى الله عليه وسلم على ربه فشفاعته أعظم الشفاعات، ولكل نبي دعوة مستجابة فاستعجل كل نبي دعوته، وقد ادّخر رسولنا صلات الله وسلامه وبركاته عليه دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة، جعلنا الله تعالى ووالدينا وأحبابنا والمسلمين من أهلها، آمين إله الحق.
ثم ختم الكاتب مقالة الساقط بقوله الآثم: ((يا تري من نصدق
هل نصدق وصف محمد في القران الذي وصفه الله بكل الاخلاق العظيمه
ام نصدق محمد السنه الذي كان يقتل ويغتصب ويسب ويلعن ويتغر بنفسه
قارن واحكم سوف تعرف لماذا تركت كل انواع كتب الاحاديث التي حكت عن الرسول وعرفت كل شيء عنه من القران.))
والجواب: أن هذه الحروف دالة على كثافة طبع وضعف علم وخطل أدب وخبل عقل، فكيف يقبل حرٌّ يحترم نفسه وعقله أن ينطق أو يكتب مثل هذا؟!  ونذكره بقول الجبار جل جلاله: (إنا كفيناك المستهزئين) وقوله الأعز الأجل: (إن شانئك هو الأبتر) وندعوه للدخول في دين الله تعالى، ليكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وليعلم أن الإسلام يهدم ما قبله والتوبة تجبُّ الحوبة.
ختاما أقول حامدًا ربي شاكرًا ممتنًّا معترفًا بالقصور والتقصير سائله سبحانه العفو والرحمة والغفران والرضوان: الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وملائكتُه والصالحون على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
.................................................
1.    أحمد (17174)، واللفظ له، وأبو داود (4604)، والترمذي (2664) وحسنه.
2.    أحمد (23861)، والبخاري في التأريخ الكبير 7 /288، وابن ماجه (13)، وأبو داود (4605)، واللفظ له، والترمذي (2663) وحسنه.
3.    رواه مسلم (1955)
4.    تهذيب الكمال (26/ 185-186)
5.    الجرح والتعديل (8/ الترجمة:92)
6.    انظر مغني الضعفاء (2/ الترجمة 5861)
7.    العرب (43)
8.    الترمذي (3 / 409)
9.    ص: (99- 100)

السبت، 25 يوليو 2020

--من هدايات سورة الشعراء--

من هدايات سورة الشعراء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه وسلم، أما بعد؛ فهذه وقفات تدبّرية لبعض آيات سورة عظيمة مكّية هي الشعراء.
ذكر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بأخبار جميلة وأوصاف حميدة، فهو من وصفه ربّه تعالى في سورة النعم بكونه أمّة: (إن إبراهيم كان أمة)، وتأمل كيف كانت صفة الرضا بالله وعن الله معلمًا واضحًا من معالم شخصيته وآثار سيرته عليه السلام، وكيف كان إمام المستسلمين لأمر الله تعالى، قال سبحانه  في سورة البقرة: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وكيف أتمّ الكلمات الي ابتلاه الله بها (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، وكيف سلّم أمره وابنه تمامًا لربّه تعالى (فلما أسلما وتله للجبين)، ثم جاهد في الله حق جهاده في الدعوة والجهاد باللسان والحجة واليد – بكسر الأصنام – والصبر العظيم والرضا العجيب والحمد الكبير لربه حينما كان يُبتلى فيه فيرضى ويسلّم ويجاهد لوحده أمّة كافرة جائرة لوجه ربه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين).
وقال الأمام المجدد رحمنا الله وإيّاه في الكلام على هذه الآية الكريمة: (إن إبراهيم كان أمّة): "لئلّا يستوحش سالكُ الطريق من قلّة السالكين، (قانتا لله)، لا للملوك ولا للتّجار المُترفين، (حنيفًا)، لا يميل يمينًا ولا شمالًا كفعل العلماء المفتونين، (ولم يك من المشركين)، خلافًا لمن كثّر سوادهم وزعم أنّه من المسلمين". (1)
وتدبّر كيف نسب الله كل نبي في سورة الشعراء لقومه (إذ قال لهم أخوهم نوح)، (إذ قال لهم أخوهم هود)، (إذ قال لهم أخوهم صالح)، (إذ قال لهم أخوهم لوط)، خلا ثلاثة أنبياء ولكل منهم سبب، الخليل وموسى وشعيب عليهم السلام.
أما موسى عليه السلام فلعل من الأسباب؛ ابتداءُ خبرِه بنداء ربه تعالى له فقال جل شأنه: (وإذ نادى ربك موسى) وهذه التَّقدُمة الهائلة شرف ما بعده شرف، وبهذا فكأنّه خرج عن هذا العالم إلى عالم الملكوت السماوي الربّاني برفعه لرتبة أن يكلّمه الله تعالى بلا واسطة مع وجود الحجاب، أما بدون حجاب فهو الكِفَاح، وهو الكلام مع المواجهة والرؤية ومنه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُهْتَمّ، فقال: "ما لي أراك مُنكسرًا؟" قلتُ: اسْتُشْهِدَ أبي يومَ أُحُد، وترك عيالًا ودَيْنا، فقال: "ألا أُبَشِّرُكَ بما لقي اللهُ به أباك؟" قلتُ: بلى، قال: ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وإنه أحيَى أباك، فكلَّمه كِفاحًا، فقال: يا عبدي؛ تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قال: يا ربِّ، تُحييني فأُقتل ثانية، قال سبحانه: قد سَبَقَ منّي أنَّهم إليها لا يرجعون، فنزلت: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أمْوَاتا بَلْ أحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون}. (2)
وأما شعيب عليه السلام فلعل ذلك راجع إلى وصف الله تعالى لأمته بأصحاب "لئيكة" والأيكة هي الشجر الملتفّ وهي الغيضة، وقيل إنها من الدّوم، وهو شجر كالنخيل لكن ثمره قليل النفع، ويكثر في السباخ. وقيل من المَقْل، وهو السّدر ويسمّى كذلك النّبق. فلمّا عبدوا الشجرة من دون الله ونسبهم الله إليها نزّه الله رسوله عن الانتساب إليهم وإليها، صيانة لاسمه عن فعلهم ووصفهم. قال ابن جزي رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: ( إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ): "لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره، وقيل: إنّ شعيبًا بُعث إلى مدين، وكان من قبيلتهم، فلذلك قال: { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ، هود : 84 ، العنكبوت : 36 ]، وبُعث أيضًا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيبًا - على هذا - مبعوثًا إلى القبيلتين.  وقيل: إنّ أصحاب الأيكة مدين، ولكنه قال: (أخوهم) حين ذَكرهم باسم قبيلتهم، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهًا لشعيب عن النسبة إليها". (3)
شاهد المقال أنه قد جاء في نفس السياق وذات السورة كذلك ذكر الله تعالى تكذيب الأمم بأعيانها، فقال سبحانه: (كذبت قوم نوح المرسلين)، (كذبت عاد المرسلين)، (كذبت ثمود المرسلين)، (كذبت قوم لوط المرسلين)، (كذب أصحاب الأيكة المرسلين)، أما إبراهيم عليه السلام فلم يذكر ذلك في قومه، كذلك موسى عليه السلام، أمّا موسى عليه السلام فلعل السبب إرساله إلى أمتي القبط وبني إسرائيل، فأصالة لبني إسرائيل وتبعًا لمن تيسّر له من الفراعنة كما في دعوته للملأ من قوم فرعون: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين)، ولسحرة فرعون: (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى) وقد أسلموا – بحمد الله على يديه -.
أما خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام فله شأن آخر في ذلك كلّه، فابتداء لم ينسبه ربه إلى قومه كبقية إخوته الأنبياء، كما لم يذكر قومه بنفس ذكر بقية الأقوام وتكذيبهم المرسلين، والله أعلم بمراده من ذلك، ولعل من الأسباب أنّه كان أمّة وحده تقتدي به من بعده جميع الأمم برسلهم وأنبيائهم وإليه تنسب الملّة الحنيفيّة، فهو لهم إمام حتى ختم الله أنبياءه ورسله بالنبي الرسول الأمّة الحنيف الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صلّى بجميع الأنبياء إمامًا في المسد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، وقد أخذ الله على جميع الأنبياء والمرسلين عهدًا باتّباعه ولم يستثن في الآية أحدًا، فقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). والإصْرُ: هو العهد والميثاق.
وقد قال على بن أبى طالب، وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمدًا وهو حيٌّ ليؤمننّ به ولينصرَنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه". (4) وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسولَ الله بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأُ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيّر، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله، ومن غضب رسوله، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيًّا وأدرك نبوّتي لاتّبعني". (5)
وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بأبيه إبراهيم عليهما السلام خلْقًا وخُلُقًا. فمحمدٌ مجدِّدٌ لدين إبراهيم وزيادة، صلى الله عليهما وآلهما وسلّم وبارك.
والمقصود؛ أنّ الله تعالى قد وصف الله خليله عليه السلام بقوله: (إنّ إبراهيم كان أمة) فإبراهيم عليه السلام معروفٌ نسبه في أُمّته وقد بُعث فيهم رسولًا عظيمًا، ولكن لمّا كان إبراهيم عليه السلام بهذه المثابة في التأسّي بملّته وإمامته صار انتساب خيارِ الأمم إليه بدلًا من مجرد قومه.
ثمّ تأمل كيف طلب الخليل أن يلحقه الله بالصالحين فقال: (رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين) والحكم هو النبوّة، ولم يُذكر أنْ قد سبقه أصلح منه، فلا أخير منه سوى ابنه رسولنا محمد صلى الله عليهما وسلم، فلاحظ تواضعه، ولاحظ محبته للصالحين.
ولاحظ أنّ الأمم القديمة كنوح وعاد وثمود قد وصفهم الله بتكذيب جميع المرسلين، فـ"أل" في المرسلين استغراقية فتعمّ جميع الرسل، وسبب نسبة كفرهم برسلٍ لم يخلقوا أصلًا إلا بعد قرون من فناء تلك الأمم لأنّ من كفر بنبيّ واحد فهو كافر بجميع الأنبياء والمرسلين.
ومن هدايات سورة الشعراء تواضع الكليم عليه السلام للحق، فحينما ذكّره فرعون بقتله القبطي بقوله: (وفعلت فعلتك التي فعلن وأنت من الكافرين) وكان المقام مقام حٍجاج وإفحام خصم، لم يتلكّأ عليه السلام أو ينكر أو يحيد بل قال بكل ثبات ورباطة جأش على الحق: (فعلتها إذن وأنا من الضالين). ومن وضوح حجته أن أقرّ بالفعل لكنه لم يقرّ فرعون على وصفه بالكفر، فقد أقرّ على نفسه أنّه لم يُفّق للصواب بقتله القبطي، وكان قصد فرعون كفر النعمة، ولكن لِعلم موسى عليه السلام أنّ المُنعِم على الحقيقة هو الله تعالى، وأنّ فرعون مجرّد سبب إن شاء الله أمضاه وإن شاء ردّه؛ فلم يكن لفرعون إذلال موسى بذلك، ولمّا أقرّ بالخطأ ولم يتكبّر على الاعتراف به دُهش فرعون بهذا الجواب المليء بالثقة والتواضع. ثم قلبها موسى عليه حينما وسّع ميدان النظر كثيرًا بقوله: (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)؟! أي هل لأنّك غذوت واحدًا نسيت استعبادك واستسخارك قومه! أهذه نعمة تعدّها مع علمك بأنّك إن وضعت الأمرين في الميزان استبان الفرق لكل ذي عينين.
 فلُطم فرعون بذلك لدرجة أن فتح باب التساؤل والمناظرة في الربوبية، فزعم أنّه لا يعرف الله مع أنّه على يقين من وحدانية الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف عاقبة المفسدين)، فليس مجرد علم بوحدانيّة الله ألوهيّةً وربوبية، بل يقينٌ مستقر في قلوبهم، لكن ردّهم الظلم وإرادة العلوّ في الأرض.
قال فرعون متسائلًا مستبعدًا مكذّبًا: (وما رب العالمين)؟! وهنا تظهر العظمة الرساليّة لموسى عليه السلام، ويتجلّى عظيم صبره ووافر حلمه وغزير علمه وإحكام منطقه وجميل منطوقه، فقال: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) موقنين بعقولكم وبالسماء التي تُظلكم والأرض المقلّةِ لكم، فابدؤا بهذه اليقينيات التي تبنون عليها الحجة الدامغة والسلطان العلميّ الواضح، فاستدلّ على وجود الله وربوبيته بمخلوقاته العظام وهزّ يقينياتهم وحرّكها علّها أن تثور من عقال كفرها وكبرها لفطرتها الأولى وتوحيدها السابق، فاستهزأ فرعون به قائلًا لملئه: (ألا تستمعون)، أي ألا تعجبون للعجب العُجاب من هذا الإنسان الذي يقول كلامًا ليس تحته حقائق. فأجابه الكليم مباشرة مُصرّا على مبدئه القويم وحجته المستقيمة وبرهانه الساطع، غير آبهٍ بتُرّهات الخصم الذي ذهب لأوديةٍ شتّى من سخرية وتشتيتٍ وإخراجِ محلّ الخلاف عن دائرة تركيز النظر، وكلُّ هذا خلاف ما أقيمت المناظرة لأجله، فقال: (ربكم ورب آبائكم الأولين) فعاد إليهم بعبارة أشدّ وحجة أدحض، وخلاصتها: أنّك يا فرعون مربوب لست بربّ، وأنت ولدٌ لآباءٍ سبقوك، إذن فلست بخالق ولا مالك ولا مُدبّر ولا ربّ ولا إله، وكذلك حال الملأ الذين يسمعون هذه المناظرة.
هنا غضب فرعون واشتدّت غطرسته وتيهها وكبره فلجأ إلى حيلة الجهلة ضعفاء العقول والعلوم والنفوس على مر الأزمان وهي اتّهام المُصلحين في عقولهم وعلومهم وأديانهم فقال: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون)! أي أنه يقول ما لا يُعقله العقلاء. وهل استُفزَّ الكليم الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بذلك؟ كلّا، بل كان رابط الجأش ثابت الفؤاد شديد الشكيمة وافر الحلم رَحْبَ الخُلُق والفطنة والعلم والحكمة، فقال بعدما اتّهم بالجنون: (رب فعاد إلى نفس الحجّة المباركة ونفس الهدف الدعويّ الرساليّ ونفس المعنى، لكن بعبارات أخرى ومعنًى أوسع، فقال: (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون)، فأراد تحريك ذلك الشيء في قلوبهم ورؤوسهم الذي اتهموه بفقدانه وهو العقل، فاستفزّ قريحتهم بقوله: (إن كنتم تعقلون) فإن كنت يا فرعون تتهمني بالجنون فأولى بك أن تتأكد من سلامة عقلك وصحة ذهنك وملئك كذلك  أما هذه  المناظرة لإقامة التوحيد لله رب العالمين وحده لا شريك له.
هنا سقطت حجة فرعون في الأرض وأُسقط في يده وعاد خاسئًا في مقام الحجاج، فعاد لجُحْرِ أخلاق الجبابرة فأعلن الوعيد بالعذاب لمن خالفه، فقال كقول من سبقه ولحقه من أزواجه وأشباهه وأقرانه: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين). فهل استفزّ ذلك موسى أو أخافه؟ كلّا، لم يستفزّه طيشه ولم يهزّ شيئًا من كيانه ولا قلبه ولا إيمانه ولا علمه بربه وتعلقه به، فكان خوفه من الله لا من غيره، فهو مُحقّق للتوحيد، ومن حققه فلا يخاف إلا ربّه، كما قال تعالى في شأنهم: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا).
فلمّا توعّده هذا الطاغية الجبار بالسجن طوى ما مضى من سجلّات الحجاج ثم عرض عليه بألطف أسلوب وأجمل بيان وأحسن أداء وأقرب بلاغ فقال عارضًا مُشدّدًا: (أولو جئتك بشيء مبين)، فطوى حِجاج المعاني الذهنيّة للبراهين الحسّية، والمعاني الذهنية هي الأقوى لدى العقلاء، لأنها مبنيّة على قطعيّات يقينية مُركّبة على مرّ عمر عقل المرء وتأمّلاته لعلاقة الأشياء ببعضها، وأكثر براهين القرآن من ذلك القبيل، فدلائله وبيّناته وتوجيهاته تشحذ القريحة العقلية للنظر والتفكّر التدبر والتفكر، كذكر ابتداء الخلق، وأنّ من خلقهم من عدم قادر على بعثهم بطريق الأولى، ثم تُثنّي بحفز نظرات حسّية ومآلاتها عقليّة ذهنية عقلية من التفكّر في عظمة المخلوقات وكِبَرها واتّساعها واتّساقها وجودة صنعها وإحكام تدبيرها ونحو ذلك، وتردفها بمثال حسّي نافذٍ للذهن السليم وهو التفكّر في المطر والنبات ومراحله وهشيمه، ومقارنة نبتةِ الزرع ومراحلها بنبتةِ الجنين، وأنّ خالق الاثنين واحد وهو الرب القادر المدبر والإله العظيم العليم، ثم تثلّث بالشعور والعاطفة بالتذكير بالفطرة التوحيديّة الأولى ، ثم بعد ذلك بشحن عواطف بني الإنسان بجنة الوعد ونار الوعيد.
وبالجملة؛ فقد أحسن موسى عليه السلام أيّما إحسان في المناظرة بجميع مراحلها، فقال بعد إتمام المقاصد التي يغلب عليها العقل إلى المقاصد البرهانيّة التي يغلب عليها الحسّ الذي قد استبطنه العقل، لأنّ ذاته حقيقة لا خيال. فقال عليه السلام: (أولو جئتك بشيء مبين) أي آية حسّية واضحة لكل أحد، غير ما أسلفت لك من الكلام النظري البرهاني الصحيح. فالقسم الأول من المناظرة مفتقر لقياس عقليّ، مع ما استودع في الفطرة من معانٍ صالحة وأصول توحيدية مستقيمة. أما القسم الثاني فهو ملموس حسّا فيراه بجارحة عينه ويسمعه بأذنه بل ويلمسه بيده إن شاء، فالأولى تُدرك بالتأمل والتفكّر والقياس، والثانية بالمشاهدة والسماع والحس، فانتقل من تغليب المعنى لتغليب الحسّ حتى يُفرَغَ على عدوّ الله كلّ الحجج الكبار، ويُبطل عذره بالجهل، ولا يبقى سوى العناد والاستكبار.. وهو ما كان!
(أولو جئتك بشيء مبين) واضح على صدق دعوتي وثبات كلمتي واستقامة حجّتي، فأجابه الفرعون: (فأت به إن كنت من الصادقين) ولاحظ استمرار التكذيب والسخرية من هذا الطاغية الجبار. (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناضرين) فعاد فرعون لشبهة من سبقه ولحقه من سفهاء الرؤساء فزعم قائلًا: (إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره).. الآيات.
ولاحظ ما ورد في قصة فرعون وطبّقها على الطغاة الجبابرة في كل مكان وزمان إذ بضاعة المفسدين واحدة وزاملة المبطلين واحدة، وقد قال ربنا تعالى فيهم في سورة مريم: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا).
 فتأمل كلام فرعون وهتافه الشقيّ بقوله وهو على سرير غفلته وعرش طغيانه وأُبَّهة جبروته وراحلة خُذلانه وحفرة سوء منقلبه: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون) فوصف الصالحين والمُصلحين بالشرذمة، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، وخصّها بعضهم بالحُقراء والأخسَّاء والسّفلة منهم، وقصد بذلك أنهم بمنزلة العبيد والخدم لي ولكم. وذُكر عن مجاهد رحمه الله قال: "هم يومئذ ستّ مئة ألف، ولا يُحصى عدد أصحاب فرعون. وأظهر فرعون غيظه وغضبه وألزم أتباعه بفعل فعله ولبس لأمة الحرب للصالحين فقال: (وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون) آخذين أُهبتنا مستعدّين لتدميرهم، فما هي نتيجة ذلك الطغيان: أنها الاستئصال!
قال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل) فساق الله مال أعدائه لبني إسرائيل، سنة ماضية وآية باقية الله وناموس ثابت: (استكبارا في الأرض ومكر السيّء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا . أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا . ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا).
ومن هدايات سورة الشعراء كذلك أن البلاء موكل بالمنطق، بيان ذلك أن قوم شعيب عليه السلام لما كذبوه تعنّتوا عليه بقولهم: (ما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين . فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين) أي قِطَعًا من السماء، فانظر كيف يتحيّنون عذابهم ويستجلبون هلكتهم بألسنتهم، فأحالهم الرسول الكريم إلى علّام الغيوب ومن بيده مقاليد الأمور قائلًا: (ربي أعلم بما تعملون)، فماذا كان جواب الله تعالى لهم: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم). وأخرج ابن المنذر عن السُّدّي قال: "فتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فغشيهم من حرِّه ما لم يطيقوه، فتبرَّدوا بالماء وبما قدروا عليه، فبينما هم كذلك إذ رُفعت لهم سحابة فيها ريح باردة طيبة، فلما وجدوا بردها ساروا نحو الظُّلّة، فأتوها يتبرّدون بها، فخرجوا من كل شيء كانوا فيه، فلما تكاملوا تحتها؛ طبَّقتْ عليهم بالعذاب"! (6)
وقد فعلت فعلهم قريش فعلهم، فلمّا التقى القوم في بدرٍ قال أبو جهل: "اللهم أقطَعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة"، فكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، أي النصر، لكنّه عليكم لا لكم! فأُحنوا وقُتلوا وأسروا وهُزموا، نعوذ بالله من النار وحال أهل النار.
وتأمل حسن الخطاب وجمال الردّ الرسولي، فقوم نوح عليه السلام لما قالوا له: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) ووصفوا أتباعه بذلك؛ لم يسكت على الباطل، بل وصف أتباعه بأحسن وصف وهو الإيمان بالله، فقال: (وما أنا بطارد المؤمنين) أما من سبّوهم وسخروا منهم فقد ضرب صفحًا عن مبادلتهم السيئة بمثلها. ومن ذلك: (يا قوم ليس بي ضلالة)، (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) فشخصنة القضية وسبّ الأشخاص مُحيلة للموضوع عن هدفه الأسمى وغايته السامية.
وتدبّر قوله تعالى: (والشعراء يتّبِعُهم الغاوون) نعوذ بالله من الغواية عن الهداية، ومن الجهل بعد الحلم، ومن الحَوْرِ بعد الكور، وقد ذكر الله تعالى في ذات السورة – الشعراء- جزاء الغاوين فقال: (وبُرِّزَت الجحيم للغاوين)، فالشعر دحض مزلّة إلا من حفظ الله ممن خافوه ورجوا لقاءه، لهذا استثنى سبحانه أولئك الثُلة بقوله الأعز الأكرم: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
4/ 12/ 1441
....................................................................................
(1)             تيسير العزيز الحميد (1 / 78)
(2)             رواه الترمذي (3010) وابن ماجه (190) وحسنه الألباني وأيمن صالح شعبان.
(3)             التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (1 / 1305)
(4)             جامع البيان (6/555)، وتفسير القرآن العظيم (2/56)، والدر المنثور (2/252)
(5)             الدارمي (1/126) (435)، وأحمد (3/387)، وابن أبي عاصم (1/27) (50) وصحح إسناده الحافظ ابن كثير من رواية أحمد، وقال: "تفرّد به أحمد، وإسناده على شرط مسلم". البداية والنهاية (2/123)
(6)             الدر المنثور (11 / 292)