مسألة
تلبّس الجانّ بالإنسان
الحمد لله، وبعد؛ فلقد كثر خوض الناس
في هذا الزمان في مسألة تلبّس الجانّ بالإنسان، وهذه المسألة مبنيّة على أُسّين:
أولاهما: وجود الجن، فهذا أمر معلوم
متيقن منه، ومُنكِرُ الجنِّ كافرٌ لتكذيبه صريح القرآن والسنة المتواترة، فقد
ذكرهم الله تعالى في آيات عديدة، كقوله عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ٥٦) بل أنزل سورة سميت باسمهم، قال تعالى: ( قُلْ أُوحِىَ
إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْءَانًا عَجَبًا ١) وعدم رؤيتنا لهم لا ينفي وجودهم، فقد جعل الله لهم خاصية
الاختفاء عن أعيننا، قال سبحانه وتعالى: ( إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ
مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) وذكر سبحانه وتعالى أصل خلق الجن فقال تعالى: (وَٱلْجَآنَّ
خَلَقْنَٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٢٧) وقال النبي ﷺ: "خُلِقَتْ
الملائكةُ من نور، وخُلِقَ الجانُّ من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصف لكم"،
رواه مسلم (5314)
ولا يوجد في طوائف المسلمين من ينكر
وجود الجن، بل حتى الكفار من اليهود والنصارى يؤمنون بوجودهم.
الثاني: دخول الجنّ لجسد الآدمي، ومنه
التلبّس، فهذا ثابت، لكنه ليس كثبوت وجود الجن، وعليه من أنكر التلبّس فقد أخطأ
وضلّ وكذّب ما ثبت في الأدلة الشرعية والواقع المتكرر وجوده. ولكن لخفاء هذه
المسألة لا يُكَفَّرُ المخالف فيها، ولكن يُخَطَّأ ويُضلّل؛ لأنه لا يعتمد في
إنكار ذلك على دليل، ولم يتعمّد تكذيب الوحي، وإنما يعتمد على عقله القاصر عن فهم
كثير مما يحيط به في حياته، وهذا خذلان وضلال، مع أن العقل الصحيح لا يتعارض البتة
مع النص الصحيح الصريح.
وقد ذُكر تلبس الجان للإنسي في سورة
البقرة فقال تعالى: (ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا
كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ) أي: لا يقومون
من قبورهم يوم القيامة إلا على هيئة المصروع الممسوس. وقد جاء في السنة ذكر المسّ
كذلك ـــ وهو التلبّس ـــ فعند ابن ماجه وصححه الألباني عن عثمان بن أبي العاص ؓ
قال: "لما استعملني رسول الله ﷺ على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما
أدري ما أُصلّي! فلمّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله ﷺ، فقال: "ابن أبي
العاص؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما جاء بك؟" قلت: يا
رسول الله، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: "ذاك الشيطان.
ادنُه"، فدنوت منه، فجلستُ على صدور قدمَيّ. قال: فضرب صدري بيده وتفل في
فمي وقال: "اخرج عدوَّ الله"! ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "الحق
بعملك". قال: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد". وفي رواية: فقلت: يا
رسول الله، إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: "يا شيطان، اخرج
من صدر عثمان". فما نسيت شيئًا أريد حفظه" وورد في ذلك أيضًا أحاديث
كثيرة.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت
لأبي: إن قومًا يقولون: إن الجنّ لا يدخل في بدن المصروع من الإنس، فقال: "يا
بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في
"الرد على المنطقيين" (407): "إن دخول الجني بدن الإنس، وتكلّمه
على لسانه بأنواع الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة..".
وقد عالج ابن تيمية الإنسان المصروع بسبب الجني مرات كثيرة، وحدَّث عن نفسه في ذلك
فقال: "كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق
كثيرين". (مجموع الفتاوى (19 / 60) وبنحوه قال الحافظ ابن حجر، وقبلهما ابن
حزم في كثير من أهل العلم. وبالجملة: فإنكار الجن كفر، أما إنكار التلبّس فضلال.
ولله تعالى أعلم.
إبراهيم
الدميجي
aldumaiji@gmaiji.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق