سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ
(9)
وَلَيلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ
طوت المركبة بنا البيداء
ضحى اليوم التالي, ونحن نغوص في تنوفةٍ غبراء لا نهاية لها على مرأى العين. ترابها
يابسٌ ومرعاها عابسٌ, وقد ذكّرتني هذه الصحاصح الأماليس مُؤْيِسَةَ معروف الرصافي:
وما المرءُ إلا دَوْحةٌ في تَنُوفَةٍ ...
مُلَوَّحةُ أغصانها بالسمائمِ
لها ورَقٌ قد جفّ إلا أقلّه ... وعيدانها بين النُّيوب العواجمِ
ولا بد أن تُجْتَثَّ يوما جُذورُها ... وتَقلعها
إحدى الرياح الهواجمِ
أرى العمر مهما ازداد يزداد نقصُهُ ... إذن
نحن في نقصٍ من العمر دائمِ
ثم لاحت
لنا أطلال قرية عتيقة مهجورة, فاسترحنا ساعة في ظل أثلة في طَرَفِهَا ظليلة شامخة
باسقة, وحفيف الأثلات من فوقنا يشوق المشوق ونحن ننشد مع ابن طالب الحنفي:
ألا يا أثلات
القاع من بطن تُوضِحٍ ... حنيني إلى أطلالكنّ طويلُ
ويا أثْلاتِ القاع قلبي مُوكَّلٌ ... بكنَِّ وَجدْوَى
خيركنّ قليل
ويا أثلاتِ
القاع قد مَلَّ صُحبتي ... وقوفِيِ فهلْ في ظلِّكُنَّ مَقِيلُ
ثمّ أشملنا جهة الشام ولم نُلقِ العصا إلا
بعيد العصر في ظل جبلي أجا وسلمى في حائل الشمّاء العذيّة. التي قال فيها امرؤ
القيس:
أبتْ أجاءُ أن تُسْلِمَ اليوم جارَها ... فمن شاء فلينهض لها
من مقاتلِ
تبيتُ لبوني بالقُرَيَّةِ أُمَّناً ... وأسرحها
غِبّاً بأكناف حائلِ
وقد
مشينا من حين فتحت الشمس جفنها إلى أن كادت تغمض طرفها, نطوي الفدافد ونَرْهَجُ
البِيد, فوصلنا ونحن ننشد لراشد بن عبد ربه:
وخبّرها الركبان أنْ ليس بَيْنها ... وبين
قُرى بُصرى ونَجران كافرُ
فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى ... كما
قَرَّ عيناً بالإياب المُسافرُ
أصلحنا الرواق بعد الصلاتين المجموعتين, وكانت
الريح تخفقه برفق, لكنها كانت شديدة البرودة, وكان نبتُ الربيع حينها مزهراً في الغاية,
وقد أنخنا في شعبٍ دَمْثٍ قد سال منذ أيام فغسل السيل كلَّ شائبة تركها البشر,
فأوقدنا النار واصطلينا, ثم قمت لرأس الشعب واشتريت جدياً رضيعاً من أحد الرعاة,
فما هي إلا ساعة حتى كانت أبخرة الطعام في الصحفة تفوح بيننا, ذلك أن قِدْرَ الضغط
قد قام باللازم, ثم اضجعنا من الإرهاق في فُرُشٍ معدّة لمثل حالنا من
الرَّحالة..ورزقنا الله بالسكون والهدَأة. وصاحبي يردّد:
ألا إن نومات الضحى تورثُ الفتى ...
خبالاً ونومات العصير جنونُ
فأجبته موافقاً بقول الآخر:
إذا رام الفتى بَرَقَ المعالي ...
فأول فائتٍ طيب الرَّقادِ
ولكن لا خيار, إن أردت سمرةً على جمر الغضى.
فقال: إني سائلكَ: أيهما أقضى للحاجة دموعه أم دموعها؟ قلت: دموعها أمضى ودموعه
أمرّ, فلا أمرّ من بكاء الرجال, ولا أمكر من دموع النساء, وعقل المرأة في جمالها، وجمال
الرجل في عقله, وكما قال امرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلا لتضربي ...
بسهميك في أَعشَار قلبٍ مُقَتَّلِ
ثم خاط كرى النوم أعيننا, فرقدنا رقدةً حتى
انتبهتُ لأذان صاحبي لصلاة المغرب, ورفعت رأسي الثقيل, إذ النوم في غير وقته يزيد
الإرهاق ويشتت التركيز, فقمت وأنا أتأمل بقايا مشاعل الشفق خلف الجبل الأشمّ.
مدَّ صاحبي كأس الحليب المُفعم بالفلفل
والهيل والزنجبيل وهو يقول: ألا توافقني أن الإسلام كسر سَوْرَةَ الشعر عند العرب؟
قلت: لا أوافقك في ذلك, فالإسلام هذَّب الشعر
ولم يكسره, فعاب مجونيات الملك الضلِّيل امرئ القيس وأشباهه, واطَّرح خمريات
الأعشى وابن كلثوم وأمثالهما, كذلك المدائح التي تُراد لغير الحق أو كانت في غير
حق, فأمر بملء أفواه أهلها بالتراب, أما ما كانت بحق ولإحقاق حق فلم يمنع
منها. وفي المقابل رفع من كاهل أشعار
الحرب والحماسة والجهاد ومنها الهجاء الجهادي, واحتفى بأشعار الحكمة والتأمل, كذلك
الوعظ والتزهيد, أما غرضك الأثير وهو الغزل والنسيب فلم يحفل به منعاً أو طلباً,
بل تركهم على سجيّتهم وعذريتهم. فهزّ رأسه وقال: زدني ومثّل لقولك بما نَدَّ
لصائدة خواطر الذاكرة.
فقلت بعدما تلفَّفْتُ بالكساء الغليظ من لفح
رياح الشمال_وأنا أقرأ بعض الشواهد من ورقات زوَّرتُها سلفاً_:
يكفيك مثالاً شاهداً حسان بن ثابت الأنصاري
الخزرجي وهو من خؤولة النبي صلى الله عليه وسلم بني النجار, أحد شعراء النبي صلى الله
عليه وسلم، وكان من شعره على قريش أشد من وقع السيوف عليهم, وكان يقول عن لسانه:
والله ما سرَّنِي به مِقْوَلٌ من مَعَدٍّ, وهو الذى شفى صدر رسول الله صلى الله
عليه وسلم من قريش وشعرائها, وقد كان فصيح اللسان حلو البيان. قال أبو عبيدة: فَضلَ
حسان الشعراء بثلاث: كان شاعرَ الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم
في الإسلام، وشاعر اليمن كلها، وكان أشعر أهل المَدَرِ. وكان في الهجاء مُهاباً لا يُجارى غير أنه
لا يظلم ولا يتجنى, وهو القائل:
أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها ... أن
لست هاجيها إلا بما فيها
ومن تهديده:
ودع السؤال عن الأمور وبحثها ... فلرُبَّ
حافرِ حفرةٍ هو يصرعُ
وقد كان شجاعاً رضي الله عنه, وكفى بمن
استعدى الفرسان والشعراء شجاعة وجَلَداً, ولو كان جبانا _كما وصفه بعض من لم يخبر
حاله_ لم يكن له في الهجاء والفخر قدمُ صدقٍ, ولقوَّضَ عليه أعداءه مجده الشعري,
فما من خُلَّتين هما أرذل وأحقر عند العرب من الجبن والبخل, وإن صح ما زعموه من أنه
لم يشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك راجع لكبر سنه, ولأنه كان
مصابا بالأكحل رضي الله عنه.
ومن المهمات كذلك أنه صحابي, فبما أنه من
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فله الحصانة الخاصة بالصحبة "لا تسبوا أصحابي"
مع ضميمة حصانة الإسلام, فلنجعلها منا على ذكر.
وفي
الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجُوا قريشاً، فإنه أشدُّ عليها
من رَشْقِ النَّبل" فأرسل إلى ابن رَوَاحةَ،
فقال : اهّجهُمْ ، فلم يُرْضِ، فأرسلَ إلى كعب ابن مالك فلم يُرْضِ، ثم أرسل إلى حسان
بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسانُ: قد آن لكم أن تُرْسِلوا إلى هذا الأسدِ الضَّاربِ
بِذَنَبِهِ، ثم أدْلَعَ لسانه، فجعل يُحرِّكُه، فقال: والذي بعثك بالحق، لأفرينَّهُمْ
بلساني فرْيَ الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَعْجلْ, فإن أَبا
بكر أعلمُ قريش بأَنسابها، وإن لي فيهم نَسَباً، حتى يُخْلَصَ لك نسَبي" فأتاه
حسان، ثم رجع، فقال: والذي بعثك بالحق، لأسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين،
قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: "إن
رُوحَ القُدُس لا يزال يُويِّدُكَ ما نَافحتَ عن الله ورسوله" وقالت عائشة: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَجاهُم حسان، فشَفى واشْتَفى" ومن منافحته عن رسول الهدى صلوات الله عليه
وسلامه وبركاته قوله:
هَجَوْتَ محمدا فأجبْتُ عنه ... وعندَ
الله في ذاكَ الجَزَاءُ
هَجوتَ محمداً برّاً تقياً ... رسولَ الله شيمتهُ الوَفَاءُ
فإن أَبي وَوَالدَهُ وعِرضي ...
لِعِرْضِ محمد منكم وقَاءُ
عدِمنا خيلنا إن لم تَرَوْهَا ...
تُثِيرُ النَّقْعَ من كَنَفي كَداءُ
يُبَارِينَ الأعنَّةَ مُصْعِدَات ...
على أَكتافِها الأسَلُ الظِّماءُ
تَظَلُّ جِيَادُنا مُتَمَطِّرَات ...
تُلَطِّمُهُنَّ بالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فإنْ أَعْرَضْتُمُ عنا اعْتَمَرنا ...
وكَان الفَتْحُ وَانكَشَف الغِطَاءُ
وإلا فَاصْبِرُوا لِجِلادِ يَوْمٍ ...
يُعِزُّ الله فيه من يشاءُ
وقال الله قد أرْسَلْتُ عبداً ... يقولُ الحقَّ ليس به خفاءُ
وقال الله قد يَسَّرتُ جنداً ... هُمُ الأنصارُ عُرْضتها اللِّقَاءُ
لنا في كلَّ يوم من مَعَدٍّ ... سِبَاب أَو قتال أو هِجاءُ
فَمَنْ يَهْجُوا رَسولَ الله منكم ... ويَمدَحُه وَينصُرُهُ سَوَاءُ
وجبريل رسولُ الله فينا ...
وروُحُ القُدْسِ ليس له كِفاءُ
ولما أُنشدَتْ قريش شعر حسان قالت: إن هذا الشتم
ما غاب عن ابن أبي قحافة! لعلمهم بتفوّقه في الأنساب والأيام. وجعل بعضهم يقول: لقد
قال أبو بكر الشعر بعدنا.
وفي المستدرك بسنده عن ابن عمر رضي الله
عنهما وصححه, قال: لما دخل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة رأى
النِّسَاء يلطمن وُجُوه الْخَيل بِالْخمرِ, فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أبي بكر فَقَالَ: "كَيفَ قَالَ حسان بن ثَابت يَا أَبَا
بكر" فأنشده أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ:
عدمت بنيتي إِن لم تَرَوْهَا ... تثير النَّقْعَ
من كَتِفي كداء
ينازِعْن الأعِنَّةَ مشعفات ... يلطمهن بِالْخمرِ
النِّسَاء
فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حَيْثُ قَالَ حسان" فَدخل رَسُول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كداء أَعلَى مَكَّة.
وفي الصحيحين أن حسان قال: يا رسول الله ائذن
لي في أبي سفيان. قال "كيف بقرابتي منه" قال: والذي أكرمك لأسُلَّنَّكَ منهم
كما يُسل الشَّعر من الخمير, فقال حسان يهجو أحدهم:
وإن سنام المجد من آل هاشمٍ... بنو بنتِ مخزومٍ ووالدُك العبدُ
وأنت هَجِينٌ نِيطَ في آل هاشمٍ ... كما
نِيطَ خَلْفَ الرَّاكب القَدَحُ الفَرْدُ
وورد أنّه حينما جاء لمفاخرة تميم برسول الله
صلى الله عليه وسلم والإسلام, أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه، وقال: والله يا رسولَ
الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلَقَهُ، أو على شَعَر لحَلَقَهُ.
وقيل: إن الحارث بن عوف أتى رسول الله فقال: أجرني
من شعر حسان، فلو مزج البحر بشعره مزجه.
وأخرج
البخاري تعليقاً من حديث أبي الزناد عن أبيه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد, يقوم عليه فإما يُفاخر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإما يُنافح. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم"
"إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله".
وفي الترمذي أن عائشة رضي الله عنها سُئلت: هل
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَمثَّل بشيء من الشِّعْر؟ قالت: كان يتمثَّلُ بِشِعْرِ
ابنِ رَواحَةَ, وَيَتَمثَّلُ ويقول: ويأتيكَ بالأخبَارِ مَن لم تُزَوِّد. وروى مُسلم
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَانَ يَقُول فِي قصصه يذكر رَسُول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِن أَخاً لكم لَا يَقُول الرَّفَث - يَعْنِي بذلك
عبد الله بن رَوَاحَة- قَالَ:
وَفينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابه
... إِذا انشقَّ مَعْرُوفٌ من الْفجْر سَاطِعُ
أرانا الْهدى بعد الْعَمى فَقُلُوبنَا
... بِهِ مُوقِنَات أَن مَا قَالَه وَاقعُ
يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا
اسْتَقَلت بالكافرين الْمضَاجِعُ
ويُذكر أن ابن رواحة أنشد أبياته هذه لما
غاضبته امرأته حينما رأته خارجاً عن جاريته, واتهمته بجماعها فأنكر, فقالت: إذن
فاتلُ من القرآن _لأن الجنب ممنوع من تلاوته_ فأنشدها الأبيات الآنفة فزال ما بها.
وخرَّج مُسلم عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه
قَالَ: أردفني رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: "هَل مَعَك من
شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَيْء؟" قَالَ: نعم. قَالَ: "هيه". قَالَ:
فَأَنْشَدته بَيْتا فَقَالَ: "هيه" قَالَ: فَأَنْشَدته حَتَّى بلغت مائَة
بَيت. وَفِي رِوَايَة أنشدت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة قافية من قَول
أُميَّة بن أبي الصَّلْت كل ذَلِك يَقُول: "هيه, هيه". ثمَّ قَالَ: "إِن
كَاد فِي شعره ليُسْلِم".
وزعموا أن حسان قد عاش مئةً وعشرين سنة، ستين
منها في الجاهلية, وستين منها في الإسلام. ومن فاخر مديحه قوله يمدح الغساسنة وهم
أبناء عمومته:
أولادُ جَفْنةَ عند قبر أبيهمُ ... قبرِ
ابن ماريَةَ الكريمِ المُفْضِلِ
يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ
... بَرَدَى يُصفَّق بالرَّحيق السَّلْسَلِ
بِيضُ الوجوهِ كريمةٌ أنسابُهم ... شُمُّ
الأنوفِ من الطَّرازِ الأوّلِ
يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كِلابُهم ... لا
يَسألون عن السَّواد المُقْبِلِ
ومن جزيل قوله, ولعمر الله لقد صدق في فخره
بأنصار الله:
لمنْ منزلٌ عافٍ كأنَّ رسومَهُ ... خياعلُ
ريطٍ سابرِيٍّ مرسَّمِ
خلاءُ المبادِي ما بهِ غيرُ ركدٍ ... ثلاثٍ
كأمثالِ الحمائمِ جثمِ
وغيرُ شجيجٍ ماثلٍ حالفَ البِلَى ... وغيْر
بقايا كالسَّحِيقِ المنمنَمِ
يعلُّ رياح الصيْفِ بالِي هشيمهِ ... على
ماثلٍ كالحوضِ عافٍ مثلَّمِ
كستْهُ سرابيلَ البلَى بعدُ عهدِهِ ... وجونٌ
سرَى بالوابلِ المتهزمِ
وقدْ كانَ ذا أهْلٍ كثيرٍ وغبطَةٍ ... إذا
الحَبْلُ حبلُ الوصْلِ لمْ يتصرَّمِ
وإذْ نحنُ جيرانٌ كثيرٌ بغبطَةٍ ... وإذْ
ما مضَى منْ عيشنا لمْ يصرَّمِ
وكلُّ حثيثِ الودْقِ منبثقِ العُرَى ...
متى تزجهِ الريحُ اللواحقُ يسجمِ
ضعيفُ العرَى دانٍ منَ الأرضِ بركهُ ...
مسفٌّ كمثلِ الطودِ أكظَمَ أسحَمِ
فإن تكُ ليلَى قدْ نأتكَ ديارُها ... وضنتْ
بحاجاتِ الفؤادِ المتيَّمِ
وهمتْ بصرْمِ الحبلِ بَعدَ وصالهِ ... وأصغَتْ
لقول الكاشِحِ المتزعمِ
فما حبلُها بالرَّثِّ عندِي ولا الذي
... يغيرُهُ نأيٌ ولوْ لمْ تكلَّمِ
وما حُبُّها لوْ وكَلَتْنِي بوَصْلِهِ
... ولوْ صرَمَ الخلانُ بالمتصرَمِّ
لعمرُ أبيكِ الخيرِ ما ضاعَ سرُّكُمْ
... لدَيّ فتجزِينِي بعاداً وتصرِمِي
ولا ضقْتُ ذرعاً بالهوى إذْ ضمنتهُ ... ولا
كظَّ صدْرِي بالحديثِ المكتمِ
ولا كانَ ممّا كانَ ممّا تقولُوا ... عليَّ
ونثُّوا غيرَ ظنٍّ مرجَّمِ
فإنْ كُنْتِ مما تجبُرِينا فسائِلِي ...
ذَوِي العلْمِ عنا كيْ تُنَبَّى فتعْلَمِي
متى تسألِي عنّا تنبَّى بأنَّنا ... كِرامٌ
وأنّا أهْلُ عزٍّ مقدَّمِ
وأنّا عرانِينٌ صقورٌ مصالتٌ ... نهزُّ قناةً
متنُها لمْ يُوَصَّمِ
لعمرُكَ ما المعتَرُّ يأتِي بلادَنا ...
لنمْنَعَهُ بالضائِعِ المتهضَّمِ
ولا ضيفنا عندَ القرَى بمدفَّعٍ ... وما
جارُنا في النائباتِ بمسْلَمِ
وما السيدُ الجبارُ حينَ يريدُنا ... بكيدٍ
على أرْماحنا بمحرَّمِ
نبيحُ حمَى ذِي العزِّ حينَ نكيدُهُ ...
ونحمِي حمانا بالوشيجِ المقومِ
ونحنُ إذا لمْ يبرمِ الناسُ أمرهُم ... نكونُ
على أمرٍ منْ الحقِّ مُبْرَمِ
ولوْ وزنَتْ رَضْوَى بحلْمِ سراتِنا ...
لمالَ برَضْوَى حِلْمُنا ويرَمْرمِ
ونحنُ إذا ما الحربُ حلَّ صرارُها ... وجادَتْ
على الحُلاَّبِ بالموتِ والدَّمِ
ولمْ يُرْجَ إلاَّ كلُّ أرْوَعَ ماجدٍ
... شديدِ القوَى ذي عزةٍ وتكرُّمِ
نكونُ زِمامَ القائِدِينَ إلى الوَغَى
... إذا الفشِلُ الرعديدُ لمْ يتقدَّمِ
فنحنُ كذاكَ الدهرَ ما هبَّتِ الصَّبا
... نعودُ على جهالِهِمْ بالتحلُّمِ
فلوْ فهمُوا ووفقُوا رُشدَ أمرِهمْ ... أخذْنا
عليهمْ بعدَ بؤسى بأنعُمِ
فإنّا إذا ما الأفْقُ أمْسَى كأنَّما
... على حافَتَيْهِ ممْسِياً لوْنُ عندَمِ
لنطعمُ في المشتى ونطعنُ بالقنا ... إذا
الحربُ عادتْ كالحريقِ المضرَّمِ
وتلقَى على أبياتِنا حينَ نجتَدَى ... مجالسَ
فيها كلُّ كهلٍ معمَّمِ
رفيع عمادِ البيتِ يسترُ عرضَهُ ... منَ
الذمِّ ميمونُ النقيبةِ خضرِمِ
جوادٍ على العلاتِ رحبٍ فناؤُهُ ... متى
يسألِ المعروفَ لا يتجهمِ
أشَمَّ طويلِ الساعدَيْنِ سميْدَعٍ ... معيدِ
قراعِ الدارِعينَ مكلَّمِ
وقد كان يهجو المشركين ثلاثةٌ من الأنصار؛ حسان
بن ثابت, وكعب بن مالك, وعبد الله بن رواحة, فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع
والأيام والمآثر, ويعيرانهم بالمثالب, ويرميهم كعب بتخويفهم بالحرب, ويثلمهم حسان
بالقدح في أنسابهم, وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر. فكان في ذلك الزمان أشد
القول عليهم قول حسان وكعب, وأهون القول عليهم قول ابن رواحة, فلما أسلموا وفقهوا الإسلام
كان أشد القول عليهم.
وفي المسند بسنده عن سعيد بن المسيب, أن عمر مر
بحسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله, فانتهره عمر, فقال حسان: قد أنشدت فيه من
هو خير منك _يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم_ فانطلق عمر. وعنه كذلك بسنده عن
مسلم بن يسار, أن عمر مرّ بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله, فأخذ بأذنه وقال:
أرغاء كرغاء البعير؟! فقال حسان: دعنا عنك يا عمر, فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا
المسجد من هو خير منك فلا يغيّرُ عليَّ. فصدَّقَهُ عمر.
وخبر المفاخرة مع بني تميم في عام الوفود من
السنة التاسعة يُظهر منزلة الشعر والخطابة في العهد النبوي, وأصل الخبر عند ابن
إسحاق وابن سعد وغيرهما بأسانيدهما, وأعجبني سياق أبي الفرج في أغانيه بسنده عن محمد
بن الضحاك عن أبيه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفدُ بني تميم وهم سبعون
أو ثمانون رجلاً, فيهم الأقرع بن حابس, والزبرقان بن بدر, وعطارد بن حاجب, وقيس بن
عاصم, وعمرو بن الأهتم, وانطلق معهم عيينة بن حصن فقدموا المدينة, فدخلوا المسجد فوقفوا
عند الحجرات فنادوا بصوت عالٍ جافٍ: أخرج إلينا يا محمد, فقد جئنا لنفاخرك! وقد جئنا
بشاعرنا وخطيبنا. _وتأمل وزن الشعر الفخري في ذلك العهد_ فخرج إليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فجلس. فقام الأقرع بن حابس فقال: والله إن مدحي لزَيْنٌ وإن ذمِّي لشين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاكَ اللهُ" فقالوا: إنا أكرم العرب. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
عليه السلام".
فقالوا:
ائذن لشاعرنا وخطيبنا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس, وجلس معه الناس, فقام
عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً, وجعلنا
أعزَّ أهل المشرق, وأتانا أموالاً عظاماً, نفعل فيها المعروف, ليس في الناس مثلنا,
ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا, ولو نشاء لأكثرنا
ولكنا نستحي من الإكثار فيما خولنا الله وأعطانا, أقول هذا فأتوا بقول أفضل من قولنا,
أو أمر أبين من أمرنا. ثم جلس.
فقام
ثابت بن قيس بن شماس _خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم_ فقال: الحمد لله الذي السموات
والأرض خلقه, قضى فيهن أمره, ووسع كرسيه علمه, ولم يقض شيئاً إلا من فضله وقدرته, فكان
من قدرته أن اصطفى من خلقه لنا رسولاً أكرمهم حسباً, وأصدقهم حديثاً, وأحسنهم رأياً,
فأنزل عليه كتاباً وائتمنه على خلقه, وكان خيرة الله من العالمين. ثم دعا رسول الله
إلى الإيمان, فأجابه من قومه وذوي رحمه المهاجرين, أكرم الناس أنساباً, وأصبح الناس
وجوهاً, وأفضل الناس فعالاً. ثم كان أول من اتبع رسول الله من العرب واستجاب له نحن
معشر الأنصار, فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله, نقاتل الناس حتى يؤمنوا ويقولوا لا إله
إلا الله, فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه, ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في
الله, وكان جهاده علينا يسيراً, أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
فقام الزبرقان فقال:
نحنُ الملوكُ فلا حيٌّ يُقَارِبُنا ... مِنّا
الملوكُ وفينا يُؤْخَذُ الرُّبَعُ
تلك المكارمُ حُزْنَاها مُقَارَعةً ... إذا
الكرامُ على أمثالها اقترعوا
كَمْ قد نَشَدْنا مِنَ الأحياءِ كُلِّهمُ
... عند النِّهاب وفضلُ العِزِّ يُتَّبَعُ
ونَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً في مَنازلنا
... للنازلين إِذا ما اسْتَطْعَموا شَبِعوا
ونحن نُطْعِم عند المَحْلِ ما أكلوا ...
من العَبِيطِ إذا لم يَظْهَرِ القَزَعُ
وننصر الناسَ تأتينا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ
كُلِّ أوْبٍ فتَمْضِي ثم تُتَّبَعُ
فأرس
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان بن ثابت فجاء فأمره أن يجيبه,_وقيل بل كان
جالساً فقال: "قُم فأجبِ الرَّجلَ" وهذا أليق وأظهر, فأنَّى لحسان أن
يتخلَّف عن مثلها؟!_ فقال حسان _وتأمل كيف أتى بها على البديهة وبنفس الوزن
والرويّ, وتذكَّر تأييد الروح القدس له_:
إنّ الذوائبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهمْ
... قد بَيَّنُوا سُنَّةً للنّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بها كلُّ مَنْ كانت سريرتُه ...
تَقْوَى الإِلهِ وبالأمرِ الذي شَرَعُوا
قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ
... أو حاولوا النَّفْع في أَشياعهم نَفَعُوا
سجِيَّةٌ تلك منهم غيرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ
الخلائقَ فاعلَمْ شَرُّها البِدَعُ
لا يَرْقَعُ النّاسُ ما أوهتْ أكُفُّهُمُ
... عند الدِّفاع ولا يُوهُون ما رَقَعوا
إنْ كان في الناسِ سَبَّاقون بعدَهُمُ
... فكُلُّ سَبْقٍ لأدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
أعفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْيِ عِفَّتُهمْ
... لا يَطْمَعون ولا يُزْري بهم طَمَعُ
ولا يَضِنُّونَ عن جارٍ بِفَضْلِهِمُ
... ولا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
يَسْمُون للحرب تبدو وهي كالحةٌ ... إذا
الزَّعَانِفُ من أظفارِها خَشَعُوا
لا يَفْرَحون إذا نالوا عَدُوَّهُمُ ...
وإنُ أصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ
كأنَّهم في الوَغَى والموتُ مُكتَنِعٌ
... أُسُودُ بِيشَةَ في أرساغها فَدَعُ
خُذْ منهمُ ما أتى عَفْواً وإنْ مَنَعُوا
... فلا يَكُنْ هَمُّكَ الأمرَ الذي مَنَعُوا
فإِنّ في حَرْبِهم فاتْرُكْ عداوتَهم
... سُماًّ يُخَاض عليه الصَّابُ والسَّلَعُ
أَكْرِمْ بَقْومٍ رسولُ الله قائدُهُمْ
... إذا تَفَرّقَتِ الأهواءُ والشِّيَعُ
أَهْدَى لهم مِدَحِي قلبٌ يؤازِرُهُ ...
فيما أراد لسانٌ حائِكٌ صَنَعُ
فإِنّهم أفضلُ الأحياء كلِّهِمُ ... إنْ
جَدّ بالناس جِدُّ القولِ أو شَمَعُوا
فقام
عطارد بن حاجب فقال:
أتيناك كيما يعلمَ الناسُ فضلنَا ... إذا
اجتمعوا وقتَ احتضارِ المَوَاسِم
بأنّا فُروعُ الناسِ في كلِّ موطنٍ ... وأنْ
ليس في أرض الحجاز كَدَارِمِ
فقام حسان
بن ثابت فقال:
مَنَعْنا رسولَ الله من غَضَبٍ له ... على
أَنْفِ راضٍ من مَعَدٍّ وراغمِ
هَلِ المجدُ إلاّ السُّؤْدُدُ العَوْدُ والنَّدَى
... وجاهُ الملوكِ واحتمالُ العظائِم
قال:
فقال الأقرع بن حابس: والله إنّ هذا الرجل لمؤتىً له, والله لشاعره أشعر من شاعرنا,
ولخطيبه أخطب من خطيبنا, ولأصواتهم أرفع من أصواتنا, أعطني يا محمد, فأعطاه, فقال:
زدني, فزاده. فقال: "اللهم إنه سيد العرب"_ولعله أراد أهل البادية_ فنزلت
فيهم "إِنَّ الَّذينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ"
ثم إن القوم أسلموا, وأقاموا عند النبي يتعلمون القرآن, ويتفقهون في الدين. ثم أرادوا
الخروج إلى قومهم, فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم.
ومن مآثر الشعر ما ذكره ابن سيرين رحمه الله
بقوله: بلغني أنّ دَوْساً إنما أسلمتْ فَرقاً من كعب بن مالك صاحب النبيّ صلى الله
عليه وسلم حيث يقول:
قَضينا من تِهامة كُلّ رَيْبٍ ... وخَيْبرَ
ثم أَجْمَمْنا السيوفَا
نُخيِّرُها ولو نَطقتْ لقالت ... قواضبُهنَّ
دَوْساً أو ثَقِيفاً
وفي التاريخ الكبير للبخاري عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك : "أيا كعب ما نسي
ربك, وما كان ربك نسياً, بيتاً قلتَهُ"
قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أنشده يا أبا بكر" فأنشده أبو بكر:
زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ
مُغالِبُ الغَلاّبِ
والسخينة: هي طعام حارٌّ يتخذ من دقيق وسمن،
وقيل: دقيق وتمر, أغلظُ من الحساء, وأرقّ من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها فعُيّرتْ
بها _إذ لم يجدوا سواها_ حتى سموا سخينة.
وذكر ابن عبد ربه في عَقْدِه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رَواحة: "أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله؟"
قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: "فأَنْشِدني" فأَنشده
شعره الذي يقول فيه:
فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ ... تثبيتَ
موسى ونصراً كالَّذي نُصروا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
"وإياك ثَبَّت الله، وإياك ثَبت الله" روى الطبراني آخره.
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ،
أحدَ بني كَعب، خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت
خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده، فلمّا انتقضت عليهم
قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال
_وتأمل تماثل قافيتي الصدر والعجز في اشتراك راقص بديع, وهذا ما ميّز الأراجيز
واستحلاها من أفواهِ الحُدَاة_:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً ... حِلْفَ أَبينا
وأَبيه الأتْلدَا
قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ... ثمّت
أسلمنا فلم ننزع يدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك
المؤكّدا
وجعلوا لي في كَداء رَصداً ... وزعموا أن
لست أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقل عدداً ... هُم بيّتونا بالوتير
هُجَّدا
وقَتّلونا رُكعّا وسُجّدا ... فانصرُ هَداك
الله نَصْراً أَيِّدا
وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا ... فيهِم
رسولُ الله قد تجرّدا
إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا ... في فَيْلق
كالبَحر يَجْري مُزْبدا
قال ابن هشام: فقال رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم: "نُصرت يا عمرو بن سالم". ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء، فقال رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم: "إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب" وأخرجه
البيهقي في الكبرى.
لقد كان الشعر ميسوراً على سليقة العرب
وسجيتهم وصفاء قريحتهم, وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعراً، وعُمر شاعراً،
وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ولما نظم حسان قوله:
نسوِّدُ ذا المالِِ القليلِ إذا بدتْ
... مروءتهُ فينا وإنْ كانَ مُعدَماٍ
أعجب به، فصعد أطمةً، ونادى:
واصاحباه، فاجتمع قومه إليه، وقالوا: ما وراءك؟ فأنشدهم البيت!
وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه
وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول
الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة؟ قال: وأنا.
هذا ومِن تأثير الشعر في النفوس النبيلة ما رواه
ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابن هشام قالا: لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفراء
- وقال ابنُ هشام: الأثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة
بن عبد مناف، صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أُختُه قُتيلة بنت
الحارث ترثيه:
يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة ... من صُبحِ
خامسة وأنت مُوفَّقُ
أَبْلِغ بها مَيْتاً بأنَّ تحيةً ... ما
إن تزال بها النجائبُ تخفقُ
مني عليك وعَبرة مَسْفوحة ... جادت بواكِفها
وأًخرى تَخنُق
هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف
يَسمع مَيت لا ينطقُ
أمحمد يا خيرَ ضِنْءِ كَريمة ... في قَومها
والفحلُ فحلٌ مُعْرِقُ
ما كان ضرك لو مَننت وربما ... مَنّ الفتى
وهو المَغيظ المُحنقُ
فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً ... وأحقُّهم
إن كان عِتْق يُعتقُ
ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه ... للهّ أرحام
هناك تمزّقُ
صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً ... رَسْفَ
المُقيّد وهو عانٍ مُوثَقُ
قال ابن هشام: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم،
لمّا بلغه هذا الشعر: "لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ".
وأرسل
الأصمعي قال: جاء رجُل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول اللّه؟ قال:
نعم. فأنشده:
تركتُ القِيان وَعزْف القِيان ... وأدمنتُ
تَصليةً وابتهالا
وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمةٍ ... وشَنِّي
على المُشْركين القِتالا
فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ ... فقد بِعْت
مالي وأهلي بدالا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رَبح البَيع،
ربح البيع". وقدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فانشده شعرَه الذي يقول فيه:
بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا ... وإِنا
لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال له النبيّ صلى الله عليه
وسلم: "إلى أين يا أبا ليلى؟" فقال: إلى الجنة يا رسول الله . فقال النبيّ
صلى الله عليه وسلم: "نعم, إن شاء اللّه" فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له ... بوادرُ
تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له ... حَلِيم
إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
"لا يفْضُضِ اللهُ فاكَ" فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية.
رواه أبو نعيم وابن منده. ولهما كذلك بسنديهما عن بجير بن بجرة قال: كنت في جيش خالد
ابن الوليد حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر ملك دومة الجندل فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك تجده يصيد البقر" قال فوافيناه في ليلة مقمرة،
قد خرج كما نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذناه وقتلنا أخاه كان قد حاربنا وعليه
قباء ديباج، فبعث به خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتينا النبي صلى الله
عليه وسلم أنشدته:
تباَركَ سائقُ البقرات إن ... رأيت الله
يهدي كل هادِ
فمن يك عائداً عن ذي تبوكٍ ... فإنّا قد
أُمرنا بالجهادِ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفضض
الله فاك" قال: فأتت عليه تسعون سنة ما تحركت له سن ولا ضرس.
وفي صحيح البخاري عن البراء
بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وأرى شعر
صدره وهو يرتجز بكلمة بن رواحة:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدَّقنا
ولا صلّينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن
لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا ... وإن
أرادوا فتنة أبينا
ويمد بها رسول الله صلى الله عليه و سلم صوته.
وروى مسلم عن جابر بن سمره رضي الله عنه في
وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكان طويل الصمت, قليل الضحك, وكان الصحابة
يذكرون عنده الشعر وأشياء من أمورهم فيضحكون, وربما يتبسم رسول الله صلى الله عليه
و سلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم إذا اسْتَرَاثَ الخبر تمثل فيه ببيت طرفة ... ويأتيك بالأخبار من لم
تزوِّدِ. وعن سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكَلمة نبيّ. يَعني
قولَ طرفة:
ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً ... وَيأتيك
بالأحبار مَن لم تُزودِ
وعند
أبي نعيم عن يزيد بن عمرو بن مسلم الخزاعي قال: حدثني أبي عن أبيه قال كنت عند النبي
صلى الله عليه و سلم فأنشدته قول سويد بن عامر المصطلقي:
لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ ... إن المنايا
بجنبي كل إنسانِ
واسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ
ما يُمني لك الماني
وكل ذي صاحب يوماً مفارقه ... وكل زاد وإن
أبقيته فاني
والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك
يأتيك الجديدانِ
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم" "لو أدركت هذا لأسلم" فبكى أبي, فقلت: يا أبتاه ما يبكيك من مشرك
مات في الجاهلية, فقال أبي: ما رأيت من مشركة تلقفت من مشرك خيراً من سويد بن عامر.
وعند ابن ماجه وغيره بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه
وسلم على جواري من بني النجار _وهم خؤولة عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه
وسلم_ وهن يضربن بالدف ويقُلْن:
نحن جواري من بني النجار ... يا حبّذا محمد
من جار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله يعلم
أني لأحبُّكنّ"
وفي مصنف ابن أبي شيبة بسنده عَنِ الأَسْوَدِ
بْنِ سَرِيعٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي مَدَحْت اللَّهَ مَدْحَةً,
وَمَدَحْتُك أُخْرَى، قَالَ: "هَاتِ, وَابْدَأْ بِمَدْحِكَ اللَّهَ".
وبسنده عن أَبِي الْحَسَنِ الْبَرَّادِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمَ الْغَاوُونَ" جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ, وَكَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ, وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَبْكُونَ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّا
شُعَرَاءُ، فَقَالَ: "اقَرَؤُوا مَا بَعْدَهَا: "إلاَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وذَكروا الله كثيراً" أَنْتُمْ "وَانْتَصَرُوا"
أَنْتُمْ". وبسنده عن عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ:
أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا
وعبد الله يقول:
يَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ:
َيَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَهُمْ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ.
وعند أبي يعلى بسند صحيح عن الأَعْشَى الْمَازِنِي
أنه أَنْشَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجوزة ومنها:
غَدَوتُ أَبْغِيهَا الطَّعَامَ فِي رَجَبْ
... فَخَلَّفَتْنِي بِنِزَاعٍ وَحَرَبْ
أخْلَفَتِ الْعَهْدَ وَلَطَّتْ بِالذَّنَبْ
... وَهُنَّ شر غَالِبٌ لِمَنْ غَلَبْ
قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه
وسَلَّم بيتمَثَّلهَا، وَيَقُولُ: "وَهُنَّ شر غَالِبٌ لِمَنْ غَلَبْ".
وعند
أحمد وأبي يعلى بسند حسن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه
وسَلَّم صَدَّقَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِهِ ، قَالَ:
رجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ
... وَالنِّسْرُ لِلأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله
عَلَيه وسَلَّم : "صَدَقَ" قَالَ:
وَالشَّمْسُ تَطْلَعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ
... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
تَأْبَى فَمَا تَطْلُعْ لَنَا فِي رِسْلِهَا
... إِلاَّ مُعَذَّبةً وَإِلاَّ تُجْلَدُ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله
عَلَيه وسَلَّم: "صَدَقَ".
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ
: تَمَثَّلْت بِهَذَا الْبَيْتِ ، وَأَبُو بَكْرٍ يَقْضِي:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
... ثِمَالَْ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأََرَامِلِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَاكَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وعند أبي شيبة في مصنّفه عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ إلاَّ قَدْ قِيلَ
له إلاَّ هَذَا:
هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالُ خَيْبَرْ
... هَذَا أَبَرَّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وله كذلك أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْشَدَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْيَاتًا _وقيل إنها لابن رواحة_ فَقَالَ:
شَهِدْت بِإِذْنِ اللهِ أَنَّ مُحَمَّدًا
... رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مِنْ عَلُ
وَأَنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلاَهُمَا
... لَهُ عَمَلٌ فِي دِينِهِ مُتَقَبَّلُ
وَأَنَّ أَخَا الأَحْقَافِ إذَا قَامَ فِيهُمُ
... يَقُولُ بِذَاتِ اللهِ فِيهِمْ وَيَعْدِلُ
وله بسنده عن عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي
الله عنه قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَيَجْلِسُ أَحَدُنَا
حَيْثُ يَنْتَهِي، وَكَانُوا يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَحَدِيثَ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَنْهَاهُمْ، وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ. وله
عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
مُتَحَزِّقين، وَلاَ مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ فِي مَجَالِسِهِمْ،
وَيَذْكُرُونَ أمْرَ جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
دِينِهِ دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ.
وقال: حدثنا يزيد بن هارون أَخْبَرَنَا هِشَامٌ،
قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مُحَمَّدًا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَالرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ
يُصَلِّيَ: أَيَتَوَضَّأُ مَنْ يُنْشِدُ الشِّعْرَ؟ وَيُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ؟
قَالَ: وَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ ذَلِكَ الرَّقِيقِ، ثُمَّ افْتَتَحَ
الصَّلاَةَ.
وله بسنده
عَنْ أَبِي الضُّحَى، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَنْشَدَ مَعْدِي كَرِب فَأَنْشَدَهُ،
وَقَالَ: مَا اسْتَنْشَدْت فِي الإِسْلاَمِ أَحَدًا قَبْلَك.
وقد
كان عمر رضي الله عنه معدودٌ من نُقَّادِ الشعر فعند أبي شيبة بسنده عن رِبْعِيِّ
بن حِرَاشٍ أنه أَتَى عُمَرَ فِي نَفَرٍ مِنْ غَطَفَانَ فَذَكَرُوا الشِّعْرَ, فَقَالَ
عُمَرُ: أَيُّ شُعَرَائِكُمْ أَشْعَرُ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: مَنِ الَّذِي يَقُولُ:
أَتَيْتُك عَارِيًّا خَلِقًا ثِيَابِي
... عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِي الظُّنُونُ
فَأَلْفَيْت الأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا
... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لاَ يَخُونُ
قُلنا النَّابِغَةُ, ثُمَّ قَالَ: مَنِ الَّذِي
يَقُولُ:
حَلَفْت فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً
... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ
قلنا: النابغة, ثُمَّ قَالَ: مَنِ الَّذِي يَقُولُ:
إلاَ سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الإِلَهُ لَهُ
... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَازْجُرْهَا عَلى الْفَنَدِ
قلْنَا: النَّابِغَةُ، قَالَ: هَذَا أَشْعَرُ
شُعَرَائِكُمْ. وله عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ عُمَرُ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُعْترِضًا
فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا
وله بسنده عَن عِكْرِمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ
مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْنُ مُنْطَلِقُونَ إلَى عَرَفَاتٍ، فَكُنْت أُنْشِدُهُ الشِّعْرَ،
وَيَفْتَحُهُ عَلَيَّ. وله وللبيهقي وغيرهما بأسانيدهِم عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ:
تَمَثَّلَ ابنُ عبّاسٍ بِهَذَا الْبَيْت وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إِنْ
تَصْدُقَ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: تَقُول هَذَا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ،
فَقَالَ: إِنَّمَا الْفُحْشُ مَا وُوْجِه بِهِ النِّسَاءُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. زاد
بعضهم: وجعل راجزٌ لعبد اللّه بن عبّاس يسوق له في الطريق ويقول:
صَبّحتُ من كاظمةَ القَصرَ الخَرِبْ ...
مع ابن عبّاس بن عبد المُطّلبْ
وجعل ابن عبّاس يرتجز ويقول:
آوِي إلى أهلِكِ يِا رَباب ... آوِي فقد
حان لكِ الإيابُ
وفي المُصَنَّفَينِ عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه
قال: قالت عائشة، رَضِي الله عَنهَا: رحم الله لبيدًا قال:
ذهب الذين يُعَاشُ في أكنافهم ... وبقيت
في خُلْفٍ كجلد الأجربِ
يتأكَّلُونَ مغالةً وخِيَانَةً ... ويُعابُ
قائلُهم وإنْ لم يَشْغَبِ
قال: فكان أبي يقول: رحم الله عائشة، فكيف لو
رأت زماننا هذا؟!
ولابن أبي شيبة بسنده عَن مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ
اللهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إلَى الْكُوفَةِ، فَكَانَ لاَ
يَأْتِي عَلَيْهِ يَوْمٌ إلاَّ أَنْشَدَنَا فِيهِ الشِّعْرَ. وله عَن كَثِيرِ بْنِ
أَفْلَحَ، قَالَ: كَانَ أخِرُ مَجْلِسٍ جَلَسْنَا فِيهِ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَجْلِسًا
تَنَاشَدْنَا فِيهِ الشِّعْرَ.
وله عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: مَا سَمِعت الْحَسَنَ
يَتَمَثَّلُ بِبَيْتٍ مِنْ شِعْرٍ قَطُّ إلاَّ هَذَا الْبَيْتَ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ
... إنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ،
إِنَّهُ لَيَكُونُ حَيًّا وَهُوَ مَيِّتُ الْقَلْبِ. وله عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ، قَالَ:
مَرَّ عَامِرٌ بِرَجُلَيْنِ عِنْدَ مَجْمَعِ طَرِيقَيْنِ وَهُمَا يَغتَبَانه وَيَقَعَانِ
فِيهِ فَقَالَ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءِ مُخَامِرٍ
... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
وتدبّر فعل الشعر الحماسي الجهادي بصاحبه,
فعند ابن إسحاق : كان جعفر بن أبي طالب يقاتل
وهو يقول:
يا حَبَّذَا الجنةُ وآقترابها . . . طيِّبةٌ
وباردٌ شرابُهَا
والرُّومُ رومٌ قد دنا عذابها . . . كافرةٌ
بعيدة أنسابُهَا
على إن لاقيتها ضِرَابُهَا
وفي
السنن الكبرى للبيهقي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ حِينَ أَخَذَ الرَّايَةَ
يَوْمَ مُؤْتَه:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسِ لَتَنْزِلِنَّهْ ... طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ ... مَا لِى أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّة
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ إِلاَّ نُطْفَةٌ فِى شَنَّة
وَقَالَ أَيْضًا:
يَا نَفْسِ إِلاَّ تُقْتَلِى تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ ... إِنْ
تَفْعَلِى فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَدْ شَقِيتِ
يُرِيدُ
جَعْفَرًا وَزَيْدًا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدَّمَ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ خَرَجَ غَازِيًا إِلَى
بَلَدِ الرُّومِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَلَمَّا
رَكِبَ رَاحِلَتَهُ؛ أَنْشَأَ يَقُولُ:
إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي
... مَسِيرَةَ أَرَبِعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فَزَادَكِ أَنْعُمًا وَخَلَاكِ ذَمٌّ
... وَلَا أَرْجِعْ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَآبَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي ...
بِأَرْضِ الرُّومِ مُحْتَبَسَ الثِّوَاءِ
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي نَخْلَ بَعْلٍ
... وَلَا سقي وَإِنْ عَظُمَ الْإِتَاءِ
يَقُولُ: إِذَا اسْتُشْهِدْتُ؛ لَمْ أُبَالِي
بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عِذْيِ النَّخْلِ وَسَقْيِهِ, والحِساء جمع حسي، وهو موضع رمل
تحته صلابة، فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء، فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنع
الرمل السمائم أن تنشفه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء، يقال: حسي وأحساء وحساء.
ومنه أحساء المنطقة الشرقية. وعن زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في
حجره فخرج في سفرته تلك مردفي على حقيبة راحلته ووالله إنا لنسبر ليلة إذ سمعته يتمثل
ببيته هذا:
إِذَا بَلَّغْتَنِي وَحَمَلْتَ رَحْلِي
... مَسِيرَةَ أَرَبِعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فلما سمعته
منه بكيت فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لُكَع أن يرزقني الله الشهادة وترجع من شعبتي
الرحل!
وبالجملة, فهذا الشعر في المكان الأرفع في العصر
الذهبي للأمة كما رأيت, ولكن يا صاحبي: أذكِّرك ونفسي أن يكون لنا حزبٌ يوميٌّ من
القرآن الكريم, فلا بارك الله في شعرٍ يصرف عن كلام الله تعالى, وقد كان لكثير من
السلف ختمة أسبوعية لا يتركونا حتى رحلوا. فمن رام التوفيق والفلاح فليتعلق بالله
وليعظم كلامه حفظاً وتلاوة وتدبراً وعملاً واستشفاء, وليحذر هجره فإن الخذلان كل
الخذلان في هجر القرآن "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً".
وأقول وليس في قولي مثنوية: المحروم من حرم التلذذ بتدبر وتلاوة كلام الرحمن. فحامل
القرآن العامل به لا يبلغه شرفُ أمثاله وإن عظم, ولا مجدُهُم وإن قدم. فأَوْلِهِ _يا
رعاك الله_ شدّة عنايتك وفرط اكتراثك، وتفقد أخابيره وعجائبه.
هذا,
والقرآن العظيم الكريم المجيد لا هو بالشعر ولا بالنثر, بل هو عمود قولٍ لم تعرفه
العرب قبلاً, فقد حوى جملاً موزونة على لسان العرب, وفواصل تذكّرهم بقوافيهم, مع
ذلك فهو إبداعٌ قاهر مُعجِزٌ جبّار قد قامت به الحجة وظهر به التحدي, فأعجز
الخلائق أن يأتوا بمثله, ولو آية! وحيثما ضَرَبْتَ في معانيه وألفاظه وهداياته
وعلومه خرجت بفوائد في قلبك ونفسك وعقلك وعلمك لم تكن معك أول الحال, وكلّما كررت
التلاوة والتدبّر عُدتَ بكنوزٍ لا تعدِلها الدنيا وما فيها, وإني لك ضامن. فهو
كلام الله وكفى. "تنزيل من رب العالمين".
وقد روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "ما من نبيِّ إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته
وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
والقرآن ذو معانٍ إذا صارت في الصدور عمرتها
وأصلحتها, وما أحسن قول أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه حين قال فيما رواه
الترمذي مرفوعاً والأصح وقفه: كتاب الله, فيه نبأ من قبلكم, و خبر من بعدكم, وحكم ما
بينكم, هو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, و من ابتغى الهدى في غيره
أضله الله, وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, هو الذي لا
تزيغ به الأهواء, ولا تشبع منه العلماء, و لا تلتبس به الألسن, ولا يخلق عن كثرة الرد,
ولا تنقضي عجائبه, هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنا سمعنا قرآنا
عجباً . يهدي إلى الرشد" من قال به صدق, ومن حكم به عدل, ومن عمل به أجر, ومن
دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
وقد ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره كلاماً
جامعاً في منزلة الشعر في الإسلام في كلام مؤصلٍ متين, ومعان منتخبة, وبألفاظ عذبة,
وسبك جيد, عند تفسير قول الله تعالى في سورة الشعراء: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى
مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ" قال
رحمه الله _وسأُلَخِّصُ مهامَّها_:
إنما قال: "تَنَزَّلُ" لأن الجنّ أكثر
ما تكون في الهواء، وأنها تمر في الريح. "يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
كَاذِبُونَ" "يُلْقُونَ السَّمْعَ"صفة الشياطين "وأكثرهم"
يرجع إلى الكهنة. وقيل: إلى الشياطين.
"وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لا يَفْعَلُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ
كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" قوله تعالى: "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ" فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: "وَالشُّعَرَاءُ"
جمع شاعر, مثل جاهل وجهلاء, قال ابن عباس: هم الكفار "يَتَّبِعُهُمُ" ضلال
الجن والإنس. وقيل "الْغَاوُونَ" الزائلون عن الحق، ودل بهذا أن الشعراء
أيضا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة "النور"
أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه
قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي
الصلت شيء؟" قلت: نعم. قال: "هيه" فأنشدته بيتاً. فقال: "هيه"
ثم أنشدته بيتا. فقال: "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح
روايته. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت
الحكم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من
شعر أمية؛ لأنه كان حكيماً؛ ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: "وكاد أمية بن
أبي الصلت أن يسلم" فأما ما تضمّن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه،
كقول القائل:
الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في
رؤوس العيدان
أو ذكْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه
كقول العباس:
من قبلها طِبْتَ في الظلال وفي ... مستودعٍ
حيث يخصف الورقُ
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة
ولا علقُ
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم ... نسراً
وأهله الغرقُ
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا
طبقُ
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يفضض
الله فاك". أو الذب عنه كقول حسان:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في
ذاك الجزاءُ
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم.
أو الصلاة عليه؛ كما روى زيد بن أسلم؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحاً في بيت، وإذا
عجوز تنفش صوفاً وتقول:
على محمدٍ صلاةُ الأبرار ... صلى عليه الطيبون
الأخيار
قد كنت قوّاماً بكّاء الأسحار ... يا ليت
شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
تعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجلس عمر يبكي.
وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إني رضيتُ علياً للهدى علماً ... كما رضيتُ
عتيقاً صاحب الغارِ
وقد رضيتُ أبا حفص وشيعتِهِ ... وما رضيتُ
بقتل الشيخ في الدارِ
كل الصحابة عندي قدوةٌ علَمٌ ... فهل عليّ
بهذا القول من عارِ
إن كنتَ تعلم إني لا أحبهمُ ... إلا لأجلك فاعتقني من النارِ
وقال آخر فأحسن:
حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابه
نور ببرهانِ
من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمينّ
أبا بكر ببهتانِ
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة
عثمان بن عفانِ
أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي
إلا بأركانِ
قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون
فيها, وإن استغرقت الحدّ وتجاوزت المعتاد؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل،
وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ ... متيّم
إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن
غضيض الطرف مكحولُ
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل
بالراح معلولُ
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات
والتشبيهات بكل بديع، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح.
وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
فقدنا الوحيَ إذ ولَّيتَ عنَّا ... وودَّعَنَا
من الله الكلامُ
سوى ما قد تركت لنا رهيناً ... توارثه القراطيس
الكرامُ
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية
والسلامُ
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه
وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا؟!
وقال
أبو عمر_أي ابن عبد البر_: ولا يُنكر الحَسَنَ من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي
النهي، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّلَ
به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحاً، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلمٍ أذى،
فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله. وروى أبو هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : "أصدق كلمة - أو أشعر كلمة
- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" أخرجه مسلم وزاد :
"وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعراً, فقال
له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال : ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام
لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال: وقد كانوا يتذاكرون
الشعر, وكان ابن عمر يمزح وينشد الشعر وسمعته:
يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن تفارقه
الفلوسُ
وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد
فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعراً مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي
في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها، وله
فيها أشعار كثيرة منها قوله:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي
يسيرُ
تغلغل حيث لم يَبْلُغْ شرابٌ ... ولا حزن
ولم يبلغ سرورُ
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لوَان
إنسانا يطيرُ
وقال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك!
فقال : إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية: وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه
وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم،
وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء؛ رغبة في
تسلية النفس وتحسين القول؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختامِ
فقال: قد وجب عليك الحد. فقال:
يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا
يَفْعَلُونَ" . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب رضي
الله عنه فقال:
من مبلغ الحسناءِ أن حليلَهَا ... بميسان
يُسقي في زجاج وحنتمِ
إذا شئت غنَّتني دهاقينُ قرية ... ورقّاصة
تجذو على كل منسمِ
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ... ولا تسقني
بالأصغر المتثلّمِ
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق
المتهدّمِ
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم
عليه. وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك. فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما
قلت؛ وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ
مَا لا يَفْعَلُونَ" فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد؛ ولكن لا تعمل لي
عملاً أبداً وقد قلت ما قلت.
وذكر الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بن عثمان
أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص,
فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث, فإذا أتاك كتابي
هذا فاشدد عليهما واحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر، فقال:
هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظرٍ ... ولا كليالي
الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح
نحو الجمرة البيض كالدّمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم
تنظر إلى شيء غيرك؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه.
فقال : يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك؟ فقال: ما هو؟ قال: أعاهد الله أني لا أعود
إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبداً، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل؟ قال:
نعم، فعاهد الله على توبته وخلّاه؛ ثم دعا بالأحوص، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتَّبع
بل الله بين قيمها وبينك! ثم
أمر بنفيه؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى، وقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان،
فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في
مسجد ولا غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسن
الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه
عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه
كقبيح الكلام".
الثالثة: روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه
خير من أن يمتلئ شعراً" وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ
شعرا" قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما
علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب،
فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم.
ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله
من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه؛ فإن لم يكن ذلك لمن
خاف من لسانه قطعاً تعيّن عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له
أن يعطي شيئاً ابتداء، لأن ذلك عون على المعصية؛ فإن لم يجد من ذلك مندوحة أعطاه بنيّة
وقاية العِرْض؛ فما وَقَى به المرءُ عرضه كُتِبَ له به صدقة.
قلت: قوله عليه الصلاة والسلام: "لأن يمتلئ
جوف أحدكم قيحا حتى يريه" القيح المدة يخالطها دم. يقال منه: قاح الجرح يقيح وتقيح
وقيح. و"يريه" قال الأصمعي: هو من الوري على مثال الرمي, وهو أن يدوي جوفه. وهذا الحديث
أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه, دون علمٍ سواه
ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط
والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة
الدنية، لِحُكْمِ العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه
لما بوب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر".
الرابعة: قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه
كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمّناته،
وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم:
وجُرْحُ اللسان كجُرْحِ اليدِ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي
يَرُدُّ به حسان على المشركين: "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم.
وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء
وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم
على تنزيلِهِ
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل
عن خليلِهِ
فقال عمر: يا ابن رواحة! في
حرم الله, وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خَلِّ عنه يا عمر, فلهو أسرع فيهم من نضح النبل".
الخامسة: قوله تعالى: "وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ" قال الضحاك: تهاجى رجلان, أحدهما أنصاري والآخر مهاجري
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع كل واحد غواة قومه _وهم السفهاء_ فنزلت,
وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم
ضلال الجن والإنس, وقد ذكرناه. وروى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث
هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه" وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
افتتح مكة رنّ إبليس رنة, وجمع إليه ذريته؛ فقال ايئسوا أن تردّوا أمة محمد على الشرك
بعد يومكم هذا, ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر.
السادسة: قوله تعالى : "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ
فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ" يقول: في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق؛ لأن
من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائماً يذهب على وجهه لا يبالي
ما قال. "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ" يقول: أكثرهم يكذبون؛
أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
ثم استثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبد الله
بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق؛ فقال: "إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً" في
كلامهم "وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا" وإنما يكون الانتصار بالحق،
وبما حده الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد. لما
نزلت: "والشعراء" جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى
الله عليه وسلم _فذكره وفي آخره:_ قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً ولا تذكروا الآباء والأمهات"
فقال حسان لأبي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك
الجزاءُ
وقال كعب
يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم
به نضح النبل".
وقوله تعالى: "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" في هذا تهديدٌ لمن انتصر بظلم. قال شريح: سيعلم
الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل؛ فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر
النصرة. ومعنى: "أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" أي مصير يصيرون وأي مرجع
يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق
بين المنقلب والمرجع؛ أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال
هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلباً، وليس كل منقلب مرجعاً؛ والله أعلم".
قال صاحبي هازّاً رأسه موافقاً: رحم الله
الأئمة الأعلام, إذن فمراد الإمام الشافعي بقوله:
ولولا الشعر بالعلماء يُزرِي ...
لكنتُ اليوم أشعَرُ من لبيدِ
قلت:
صدقت ومراده من جعل الشعر ديدنه وهجّيراه, دون من استملح منه الفوائد والعواذب,
فالشعر كالمِلْحِ لا بد منه لصقل العارضة وتفكيك مغاليق الفهم, فهو ديوان العرب
الذين نزل بلغتهم التنزيل. ولا نعلم إماماً إلا وله معرفة بالشعر والعربية. وهذا
الملح إذا زاد عن حدّه أزرى بصاحبه إن كان طالب علم, وقد كان حكيم الصحابة أبو الدرداء
رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون أقوى لها على الحق, وكقول الشعبي
إن القلوب تمل كالأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة, فالأدب يا سادة مطيّة لا غاية.
بل وتحتاج هذه الراحلة لحسن سياسة وإلا عطبت وأعطبت, وقد يجر إنباتُها للحُتوف.
وإنه
ليعزّ علي إزراء بعض طلبة العلم بأنفسهم في كورها بعد حورها, فينتقل أحدهم من
محراب العلم لنادي الشعر, فيرغب عن ثني الركب للدرس طلباً وتعليماً إلى إنشاد
القصائد وقرض الأبيات حتى يُعرف به, فيمضي به ربيع في عقب شتاء, وخريف في ذيل صيف,
حتى يحصد الخيبة. فغضّ انقلابه من بهائه وأخلق من روائه وأقفر مزودته من زاده, وهذا
لعمر الله من الخذلان, وهل عالم كشاعر؟!
بالمِلْحِ نصلحُ ما نخشى تغيّرهُ ...
فكيف بالملح إن حلَّتْ به الغِيَرُ
هذا, ولا بد للأديب من حسنِ سياسة لوقته وحسن
تقلُّبٍ في أعطاف عمره, وأنى ذاك إلا بقياد العقل الحازم للنفس الجامح الحرون! والعقلُ
مركب صعب على طريق وعر, لكن النُّجح غايته والهوى بخلافه, ولا بد من رياضة النفس
حتى تتذلل على الأمور المحمودة, فأن محامد الأمور مستثقلات النفوس, وشجرُ المكاره
يثمر المكارم.
ألا إن أسعد أهل الأرض طُرًّا هم الصالحون,
فاقرن نفسك بحبلهم, واركب مركب سفرهم تنل ما نالوا, فالكريم واحد.
والأدب النظيف للنفوس كالفواكه للأجساد, وكالزهور
للنفوس, نُعَطِّرُ بأرجه مجالس أُنْسِنَا, ونعرف به مزيّة يومنا عن أمسنا, خاصة إن
علا قدره ورقّ جرسُه وتنوعت حِكمه.
ولبشار بن برد وحقّ له قول مروان ابن أبي حفصة
فيه: أنت باز والشعراء غرانيق:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ...
برأي نصيح أو مشورة حازمِ
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ...
فإن الخوافي قوّةٌ للقوادمِ
وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ...
نؤوماً فإن الحُرَّ ليس بنائمِ
وللإمام الشافعي ونُسبت للزمخشري, وهي في
الغاية من الحكمة والنصح, وأدركت من يحفِّظها تلامذته:
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لي
... مِنْ وَصْلِ غَانِيةٍ وَطيبِ عِنَاقِ
وصريرُ أقلامي على صفحاتها ... أحلى منَ الدَّوكاءِ والعشاقِ
وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الفتاة لِدُفِّهَا
... نقري لألقي الرَّملَ عن أوراقي
وتمايلي طرباً لحلِّ عويصةٍ ... أَشْهَى لقلبيَ مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي
أَأَبِيتُ سهرانَ الدُّجا وتبيتهُ ... نَوْماً
وَتَبْغي بَعْدَ ذَاكَ لِحَاقِي
وعلى سابلتها قال أبو إسحاق الألبيري:
لئن رفع الغنيُّ لواءَ مالٍ ... لأنت لواءَ
علمِكَ قد رفعتا
وإن جلس الغنيُّ على الحشايا ... لأنت على
الكواكب قد جلستا
وإن ركب الجيادَ مسوّماتٍ ... لأنت مناهج
التقوى ركبتا
ومهما افتضّ أبكار الغواني ... فكم بكرٍ
من الحكم افتضضتا
وليس يضرّك الإقتار شيئاً ... إذا ما أنت
ربَّك قد عرفتا
فماذا عنده لك من جميل ... إذا بفناء طاعته
أنختا
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com