بشِّروا
ولا تنفِّروا
الحمد لله، وبعد؛ فدين الله تعالى هو دين
الفرح والسرور والمحبة والرجاء والعطاء والعدل والإحسان. والشريعة قد أنزلت بالعدل
والإحسان في كلّ أمرها، وبالتوازن والاتساق في كل شأنها، ومن الخطأ الدعوي ميل
ميزان الخطاب بالتركيز على الترهيب دون المحبة والترغيب، وكذلك العكس، والجادّة الرسولية
هي الموازنة بذكر أبواب المحبة والرجاء والتخويف بلا تقصير في أحدها حتى تغتذي
القلوب على حاجتها من وحي ربها العظيم.
وقد يحتاج الناس في وقت الترف والغفلة
لزيادة جرعات التخويف، أما في حال شيوع القنوط واليأس فيحسن فتح أبواب الرجاء والرَّوح،
وهي راجعة إلى تقدير الواعظ لحال المخاطبين.
ويكثر عند بعض المصنِّفين في الرقائق والوعظ
وكذلك القصاص ذكرُ المخاوف أكثر من المحابّ والمراجي، وبعضهم يزيد في ذكر القصص المخوفة
والأوصاف المرعبة والألفاظ المفزعة مما لم يثبت، ويسوق الناس إلى التوبة عن طريق إفزاع
قلوبهم بذكر الأهوال والأفزاع، فيقصد تتويبهم بذلك دون فتح باب نسيم الرغبة والرجاء،
بل والتقصير في تبيان الباب الأعظم الحب.
فيحاول الواعظ
الناصح أن يتوّبهم بالخوف فقط دون المحبة والرجاء، وهذا خللٌ أدّى لفهمٍ مغلوط لدى
بعض النسّاك، فدخلوا باب العبودية بفزع أشبه بالقنوط، وبيأسٍ أشبه اليأس من رحمة
الله تعالى التي وسعت كل شيء، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: (ما يفعل الله بعذابكم
إن شكرتم وآمنتم)، والقرآن هو الموعظة الكبرى للعالمين، ومقصود الموعظة تعبيدُ
الناس لله تعالى عبر أيسر طريق وأرفق نهج وأحسن طريقة وأهدى سبيل، فأنفع المواعظ
هي مواعظ القرآن العظيم، (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم).
فمن
الناس من يمتلئ قلبه بحب الله تعالى لجميل صفاته وأفعاله وكريم نواله وعظيم آلائه،
فيحبه بكلّ قلبه، ويرجوه رغبًا لما وعد به، ويفرح به كل الفرح، ويخافه ويستحيي منه
لعظيم جنابه وجلاله وشديد عذابه وعقابه، فمثل هذا قد وصلت الموعظة سويداء قلبه؛ فصار
حيًّا طيّبًا راشدًا مهديًّا سعيدًا، فانتفع بالوحي العظيم (يا أيها الناس قد
جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله
وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
ومن الناس من تجثم على قلبه غفلةٌ شديدة،
ورقدةٌ طويلة، ومظاهرُ أمنٍ من مكر الله تعالى، فهو محتاج لمزيد قرع فؤاده
بالمخاوف حتى لا تهلكه فيما يستقبل، وقد أحسن إليك من أخافك حتى تأمن، فتُتلَى على
الغافل آياتُ الوعيد وأحاديثُ التخويف وأخبار المصارِعِ، مع ذكر الحب والرجاء، حتى
تنفخَ في قلبه حياة التوبة والإنابة، فيقلع عن الخطيئة لصالحات الأعمال، وتنقلب
الحوبة لديه توبة، فنفعته الموعظة في إبّانها، إذ أيقظت
سبات رقداته، ونبّهت شديد غفلاته، مع حراسة قلبه من قنوط مُتلف، ويأس مهلك.
ومن الناس من تهبّ على فؤاده عواصف وساوس
الهلكات، وتجثم على قلبه ثقيلات خواطر القنوط، وقتَلات اليأس، وسيئات الظنون بمن
لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع الشرّ سواه، تبارك وتعالى، فهذا محتاج لبثّ آيات رجاء
ورغائب الوحي الطهور على قلبه المريض بسوءات الظنون ومتالف الخواطر، فتُتلي عليه
آيات سعة رحمة أرحم الراحمين، الذي سبقت رحمتُه غضبَه وعفوُه مؤاخذتَه، وأنّه يحب
التوابين ويحب المتطهرين. وأنّ من الضلال والكفران اليأس من رحمته والقنوط من عفوه
وغفرانه.
فهي مسألة حكمة وموازنة وسعةٍ ورفق، فليس
كل خبر يحتمله ويعقله كلّ أحد، وليس كل دواء يصلح لكل مريض، ومن الشرع عام وخاص،
ومطلق ومقيد. مع التنبّه إلى أنّ البشارة تسبق النذارة، والتيسير يسبق التشديد،
فرسول الرحمة ﷺ قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا
ولا تنفِّروا» ([1])
والجادّة؛
أنّ المؤمن يسير إلى الله تعالى بالحب العظيم والرجاء الكبير مع الخوف والهيبة والوجل
والحياء، فالدين دين سعادة وسرور ومحبة، والعبادة التي تؤدَّى بمحبةٍ لله تعالى، وعظيمِ
رجاءٍ بما لديه، وحسنِ ظنٍّ به مع حياء وتوقير وهيبة وإجلال وخشية، أجملُ وأروح وألذّ
وأطيب وأروحُ وأثبت من العبادة التي يسوقها الخوف فقط، أو أن يزيد على منسوب الحب والرجاء،
فالسوداوية ذريعة لسوء الظن بمن لا يأتي الخير إلا منه تبارك وتعالى، والنبي ﷺ هو أخشانا
لله تعالى وأخوفنا منه وأحيانا منه وأوقرنا له وأعلمنا بما يتقي، وهذا لا يعني أن نُعْنَا
فقط بالمخوف دون المحبوب والمرتجى، والميزان المستقيم هو عبادة الله تعالى بالحب والرجاء
والخوف معًا.
ومراد من قال من السلف بزيادة الخوف على الرجاء
وقت النشاط هو لجم النفس عن الطيش والخبط في الخطيئة، وعن الأمنِ في الغفلة، وعن التساهل
في المعصية، وليس مقصودهم أن يعيش المؤمن في خوفٍ وقلقٍ، وعدم استمتاع بالحياة في تقوى
الله تعالى، والسرور بالإيمان به، والسعادة بطاعته، والفرح به غاية الفرح وتمام السرور،
وهذه وصايا القرآن وجادّة المرسلين.
وإنّ
نصوص التشويق والفرح والسرور وحسن الظن والرجاء والرغبة - وفوق ذلك المحبة العظيمة
- تجدها مُلحّة متوافرة مجملة ومفصلة في الوحي العظيم بشقّيه كتابًا وسنّة.
وبالجملة؛ فمن عرف الله بحقٍّ: أحبّه ورجاه
وخافه واستحيا منه وعبده حتى يأتيه اليقين.
والواعظ الحكيم هو من عرف حاجة القلوب التي
أحضرت أسماعها لخطابه، وألقت أزمّة عقولها لحديثه، فيسوقها لعبودية ربها بحسب جوعتها
وحاجتها، فهو كالمُطعِمِ والطبيب، فإن رأى منها غفلة عن الآخرة وركونًا للدنيا أرخى
لها زمام الخوفِ بقدرٍ مما صحّ من نصوص الوحي وأخبار الناس حتى تستقيم لمنهاج ربها
تعالى، وإن رأى منها نوع انقباض فإنّه يروحها بحكمته ورحمته بآيات الرجاء وأحاديث
حسن الجزاء ونحو ذلك.
وفي رؤيا لابن القيم في شيخه رحمهما الله
وقد ذكر له شيئًا من أعمال القلوب التي يقدّمها؛ فأخبره شيخه أنّه لا يعدل شيئًا
بالفرح بالله تعالى. وصدق رحمه الله، فالفرح بالله بالعلم به وبدينه وآلائه لا
يعدلها شيء، ولا أسرع لطاعة وأقوم لعبودية القلب مثلها وهي ثمرة محبته تبارك
وتعالى.
وإلى ما ذكرنا من الموازنة نبّه المجدّد وأئمة
الدعوة، وهو المذهب الحسن، فلا يطغى الخوف حتى يصل بصاحبه للقنوط واليأس، ولا ينقص
حتى يُفضي للأمن من مكر الله تعالى، والمحبة من وراء ذلك كله.
والمقصود؛ أنّ باب الرجاء في الشرع أوسع من
باب الخوف مع أهميتهما جميعًا، وذلك لأمرين:
الأول: أنّ رحمة الله تعالى قد سبقت غضبه، وعفوه
مؤاخذته، ورحمته قد وسعت كل شيء، ووسع كل شيء رحمة وعلمًا.
الثاني: أنّ نظَرَنا للرجاء ليس لأنّنا أهل له؛ بل
لأن الله تعالى أهل له، وإن قصرت أعمالنا عن إدراك أطرافه، والحمد لله رب العالمين.
وقد حدثني أحد الإخوة في الله تعالى أن استقامته
- قياسًا بما مضى من غفلته - قد مرت بطبَقين:
الأول: أنّه قد غلب عليه الخوف الشديد حتى أفضى
به لسوداوية ورعب وفزع حتى في دعائه وسجوده حتى كاد أن يتلف فزعًا وخوفًا من سوء
العاقبة، حتى أنه لم يجد للعبادة حلاوة ولا للتلاوة طلاوة ولا للذكر حضور قلب إلا
بفزع وفَرَقٍ يقلقل ما بقي من شوارد فكره، فكان على الدوام يترقّب أسوأ الأمور، ويتوقع
أقبح الأحوال، ويتنظر شرّ العواقب في الدنيا والآخرة، لأنه لا يرى إلا نصوص الوعيد
ولا يسمع إلا أخبار الهلاك حتى كاد أن يكون حرَضًا أو هالكًا!
فهذا مريضٌ مدنف كاد أن يُوْدِي به الخوف
للمتالف لولا أن تداركه الله تعالى بلطفه، بعلم وسكينة وأمنٍ وطمأنينة وراحة وسعادة.
والطبق الثاني: أنّ الله تعالى قد فتح على قلبه أبواب الفرح
والرجاء وحسن الظن والثقة بموعود ربه تعالى مع الخوف منه وخشيته والحياء منه، فصارت
عبادته مُحبّبة إليه، لذيذة لروحه، ومستراحًا من لأواء حياته، فيشتاق لها، ويلتذ
ويسعد.. فسعد وفرح وسُرَّ واطمأن بربه بعد ما كان مرعوبًا مفزوعًا غافلًا عن سعة رحمته،
وأنّه ارحم به من الوالدة بولدها، وهو القائل محمودًا كريمًا: (ما يفعل الله بعذابكم
إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا).
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني إذا قرأت
كتاب الله وتدبرته، كدت أن آيس، وينقطع رجائي! فقال: "إنّ القرآن كلام الله، وأعمال
ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل، وأبشر". وقال المغيرة بن مخارش للحسن: يا
أبا سعيد؛ إنَّ لنا علماء ومذكِّرين يخوّفونا حتى يكادوا يخلعون قلوبنا، وآخرين في
حديثهم سهولة.
فقال الحسن: أيها الرجل؛ إنّ مَن خوّفَك حتى
تلقى الأمن خير لك ممّن أمّنك حتى تلقى المخافة. ([2])
ولما ساق الإمام الزهري خبر الرجل الذي
أوصى ذريته بحرقه وذرّه بعد موته ثم ذكر بعده خبر المرأة التي عذبت في هرة حبستها
حتى ماتت قال: "ذلك، لئلا يتّكل رجل، ولا ييأس رجل". ([3])
وهذا من فقهه العظيم رحمه الله تعالى.
ولمّا
صنّف المحاسبي كتابه الرعاية وفصّل وساوس النفوس في شأن تحقيق الإخلاص اشتدّ ذلك
على كثير من العُبّاد والنّسّاك، وشكّوا في تديّنهم وصلاحهم وإخلاصهم، فأصابهم
انتكاس وقنوط ويأس، وقد زجر الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ذلك.
ومما يتبع ذلك: أنّ بعض التوجيهات والوصايا
والمواعظ إنما تحسن لقوم دون قوم، فما كلّ ما يُعلم يقال، وما كل ما
يقال حان وقته، وما كل ما حان وقته حضر أهلُهُ. ومن فقه الدعوة إلى الله فقه أحوال
الناس.
وبالجملة؛ فلا يسع امرأً الغفلة عن سعة رحمة
رب العالمين مهما كان حاله، لأنه من سوء الظن به، وسوء الأدب معه، ونقص توقيره
وتعظيمه.
وإنّ من دلائل
رحمة الرحيم تعالى أنْ ذكر أخطاء أنبيائه ورسله في كتابه، فإذا كان هذا صفوة خلقه
وهم أحبهم إليه؛ فما سواهم خطّاؤون كذلك، قال ﷺ: «كلُّ بني آدم خطاءٌ، وخيرُ الخطائين
التوابُون» ([4])، وقال ﷺ: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا
لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم» ([5])،
وقال ﷺ: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهمَّ اغفر لي ذنبي، فقالَ تعالى: أذنب عبدي ذنبًا
فعلم أنَّ لهُ ربًا يغفرُ الذنب ويأخذُ بالذنبِ، ثمَّ عادَ فأذنبَ، فقال: ربِّ اغفر
لي ذنبي، فقال تعالى: أذنبَ عبدي ذنبًا فعلم أنَّ له ربًا يغفرُ الذنب ويأخذُ بالذنب،
ثمَّ عاد فأذنب، فقال: ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال تعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أنَّ له
ربًا يغفرُ الذنبَ ويأخذُ بالذنبِ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك» ([6])،
وقال ﷺ: «قال الله تعالى: يا ابن آدمَ، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما
كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماءِ ثمَّ استغفرتني غفرتُ
لك ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنَّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني
لا تشرك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً» ([7])،
وعن جندب
رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ «حدَّثَ أن رجلًا قال: والله لا يغفرُ الله لفلانٍ،
وأنَّ الله تعالى قال: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألّا أغفر لفلانٍ، فإنِّي قد غفرتُ
له وأحبطتُ عملك» ([8])
والمقصود؛ أنّ بعض الوعّاظ والقصاص يكثرون
على الناس أخبار الخوف وبخاصة ما يتعلّق بأحوال القبر وأهواله مما صح ومما لم يصح،
وبرؤى كثيرها مرسل لا يُعرف صاحبه، وبعضه لا يعقل، وبعضه سوداويٌّ مسيئ الظن بتدبير
الله وأفعاله، مخالف ليسر الإسلام وبهجته بالإيمان، وسعادته وسروره بأنواع العبادات،
والحكيم هو من وازن الأخبار وفحص النصوص ونصح الناس بما يصلحهم، وليس بالضرورة أن ما
يناسبه يناسبهم.
واعلم أنّ في كتاب الله تعالى وسنة نبيه غُنية
وكفاء لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والأمثلة والشواهد لهذا كثيرة، ومقصودنا:
أنْ يسيرَ الناس إلى الله تعالى بفرح ورجاء وخوف وحياء، وليس كإحساس العبد الذي يُقاد
إلى سيده الذي لا يعفو ولا يرحم ولا يحلم ولا يعتب، فهو أرحم الراحمين وخير الغافرين،
وهو البر الرحيم، وبالله تعالى العصمة والهدى والتوفيق.
ونختم
بكلام نفيس جدًّا في هذا الباب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، قال في الداء
والدواء: "وإذا كان
النبي ﷺ أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها، أفليس الربّ ﷻ، وتقدّست أسماؤه، وتبارك
اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره- أولى بمحبّيه وعباده من أنفسهم؟
وكلُّ ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته،
مما يحبّ العبد أو يكره. فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله،
وإماتته وإحياؤه، ولطفه وبرّه، ورحمته وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده،
وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته -من غير حاجة منه إليه، بل
مع غناه التامّ عنه من جميع الوجوه - كلُّ ذلك داع للقلوب إلى تألّهه ومحبته.
بل تمكينُه عبدَه من معصيته، وإعانتُه عليه
وسَترُه حتى يقضي وطره منها، وكلاءته وحراسته له وهو يقضي وطره من
معصيته، بعينه، ويستعين عليها بنعمه؛ من أقوى الدواعي إلى محبته.
فلو أنّ مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك
لم يملك قلبَه عن محبته، فكيف لا يحبّ العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام
بعدد الأنفاس، مع إساءته؟ فخيره إليه نازل، وشرّه إليه صاعد، يتحبّب إليه بنعمه وهو
غنيّ عنه، والعبد يتبغّض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه ([9])،
فلا إحسانُه وبرّه وإنعامه عليه يصدّه عن معصيته، ولا معصيةُ العبد ولؤمُه يقطع إحسانَ
ربّه عنه!
فأَلْأمُ اللؤم تخلّفُ القلوب عن محبة مَن
هذا شأنه، وتعلّقُها بمحبة سواه!
وأيضًا فكلّ من تحبّه من الخلق ويحبّك إنّما
يريدك لنفسه وغرضه منك، والله يريدك لك، كما في الأثر الإلهي: «عبدي، كلٌّ يريدك
لنفسه، وأنا أريدك لك» فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة، وهو مُعرِض
عنه، مشغول بحبّ غيره، قد استغرق قلبَه محبةُ سواه؟
وأيضًا فكلّ من تُعامله من الخلق إن لم يربح
عليك لم يُعاملك، ولا بدّ له من نوع من أنواع الربح. والربّ تعالى إنّما يعاملك لتربحَ
أنت عليه أعظمَ الربح وأعلاه. فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة،
والسيئة بواحدة، وهي أسرع شيء محوًا.
وأيضًا فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كلَّ
شيء لك في الدنيا والآخرة. فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟
وأيضًا فمطالبك، بل مطالب الخلق كلهم جميعًا
لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمّله.
يشكر القليل من العمل وينمّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه. ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ لا يشغله سمع عن سمع، ولا
يغلّطه كثرة المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملِحّين، بل يحبّ الملحّين في الدعاء. ويُحِبّ
أن يُسألَ، ويغضب إذا لم يُسال. يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث
لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه. دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه،
فأبى. فأرسل رسله في طلبه، وبعث إليه معهم عهدَه. ثم نزل سبحانه إليه بنفسه، وقال:
«من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟» ([10])
وكيف لا تحبّ القلوبُ من لا يأتي بالحسنات
إلا هو، ولا يذهب بالسيّئات إلا هو، ولا يجيب الدعَوات إلا هو، ولا يُقيل العثَرات
ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكرُبات ويُغيث اللهفات ويُنيل الطلَبات سواه؟
فهو «أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقّ من شُكِر، وأحقّ
من عُبد، وأحقّ من حُمِد، وأنصَر من ابتُغِي، وأرأف من ملَك، وأجود من سئلَ، وأوسع
من أعطى، وأرحم من استُرْحِم، وأكرم من قُصِد» ([11])،
وأعزّ من التُجئ إليه، وأكفى من تُوُكِّل عليه. أرحَمُ بعبده من الوالدة بولدها ([12])،
وَأشدّ فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض
المهلكة، إذا يئس من الحياة ثم وجدها ([13]).
وهو الملِك لا شريك له، والفرد فلا ندّ له.
كلّ شيء هالك إلا وجهه. لن يُطاع إلا بإذنه، ولن يُعصى إلا بعلمه. يُطاع فيَشْكرُ،
وبتوفيقه ونعمته أطِيعَ. ويُعصَى فيغفر ويعفو، وحقُّه أضِيعَ.
فهو أقرب شهيد وأجلّ حفيظ. وأوفى وفيّ بالعهد،
وأعدل قائم بالقسط. حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال. فالقلوب
له مفضية، والسرّ عنده علانية. والغيب لديه مكشوف، وكلّ أحد إليه ملهوف.
عنَتِ الوجوه لنور وجهه، وعجزت القلوب عن
إدراك كنهه، ودلّت الفِطَر والأدلّة كلّها على امتناع مثله وشبهه. أشرقت لنور وجهه
الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات. «لا ينام، ولا
ينبغي له أن ينام. يحفظ القسط، ويرفعه. يُرفَع
إليه عملُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور، لو كشفه لأحرقتْ
سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ([14])
ما اعتاض باذلُ حبّه لسواه ... مِن عوضٍ ولو
ملَكَ الوجودَ بأسرِهِ" ([15])
والحمد
لله رب العالمين.
إبراهيم الدميجي
28/ 5/ 1446
([11])
هذا لفظ حديث أخرجه الطبراني في الكبير وفي الدعاء عن أبي أمامة الباهلي أن النبي ﷺ
كان إذا أصبح قال: .... وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/ ١١٧): رواه الطبراني وفيه
فضالة بن عبيد مجمع على ضعفه.
([15])
الداء والدواء (١/٥٣٦ – ٥٣8).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق