إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 10 فبراير 2025

الافتقار وشهود القدر

 

الافتقار وشهود القدر

الحمد لله تعالى، وبعد؛ فإنّ المؤمن إذا شهد ضرورته وفاقته لرحمة ربه فإن لا بدّ مارّ بالقدر، الذي هو سرّ الخلق ونظام التوحيد، وهذا الباب العظيم هو ركن من أركان الإيمان، وقد ظلت فيه أفهام وحارت في تفصيله ألباب، فهدى الله من شاء من عباده فيه وبصّرهم ووفقهم.

واعلم أنه يكفيك في باب القدر أن تعلم التالي:

كل مخلوق لا يخرج عن قَدَرِ الله تعالى ولا قُدرته طرفة عين، والله سبحانه قد علم كل شيء بتفاصيله وكلياته وجزئياته، كما أنه قد كتب كل شيء من هذه الدنيا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه لا يخرج شيء عن مشيئته وإرادته البتّة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد أعطى عبده مشيئة وإرادة حقيقية يحاسبه على وفقها، وهي لا تخرج في النهاية عن مشيئته سبحانه بتوفيق من شاء بإمداده بأسباب تحصيل الخير، وخذلان من شاء بمنع أسباب الخير عنه، وأن مشيئة الله الكونية القدرية شاملة لكل شيء، فقد يشاء قدَرًا وكونًا ما لا يحبّه دينًا وشرعًا لكنه مقتضى حكمته العليّة، وهذا هو أمره القدري، فهو واقع لا محالة فلا يتخلف ولا يتأخر، أما إرادته الشرعية فهي أمره الشرعي ولا تكون إلا فيما يحبه ويرضاه، وقد تُوافق القدر الكوني والمشيئة الكونية رحمة بعبده وإكرامًا، وقد تتخلف عنها ابتلاء من الله تعالى لعبده وخذلانًا. وأن كل شيء هو مخلوق لله، فالله خالق كل شيء.

فمراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.

ولما كان فهمُ القَدَر على وفق مذهب السلف الصالح شرطًا لسلامة المعتقد وصحة الإيمان واستقامة المسلك رأيت أن يكون الحديث فيه منبسطًا مفصّلًا على قدر حاجة القارئ الكريم، بدون دخول في مذاهب المبتدعة المضلّة، مع الإجابة عن بعض الإشكالات التي ترد ذهن بعض من طرق علمُ القدر سمعه وقلبه. وقد كفانا ابن القيم كثيرًا من تلك المؤنة فجزاه عنا خيرًا.

قال ♫: «فإن أصررت على اتهام القدر، وقلت: فالسبب الذي أصبت منه وأتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بد منه على الرغم مني، وكيف لي أن أنفك منه وقد أودع الكتاب الأول قبل بدء الخليقة، والكتاب الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم، وأنا في ظلمات الأحشاء حين أُمر الملك بكتب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، فلو جريت إلى سعادتي ما جريت حتى بقي بيني وبينها شبر لغلب عليّ الكتاب، فأدركتني الشقاوة، فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاء، ويصرفه كيف أراد، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وهو الذي يثبت قلب العبد إذا شاء، ويزلزله إذا شاء، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه، لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته؟

قال أعلمُ الخلق بربه: «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» ثم قال: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»([1]) وكان أكثر يمينه: «لا ومقلب القلوب»([2]).

وقال بعض السلف: «مثل القلب مثل الريشة في أرض فلاة، تقلبها الرياح ظهرًا لبطن»([3]).

فما حيلة قلب هو بيد مقلّبه ومصرّفه، وهل له مشيئة بدون مشيئته؟ كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٩﴾ [التكوير: 29].

وقال طاووس: «أدركتُ ثلاثمئة من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر»([4]).

وقال أيوب السختياني: «أدركت الناس وما كلامهم إلا إن قُضِيَ، إن قُدِّرَ»([5]).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾ [القمر: ٤٩]: «خلق الله الخلق كلهم بقدَر، وخلق الخير والشر، فخيرُ الخيرِ السعادة، وشرُّ الشرِّ الشقاوة»([6]).

وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الديلي قال: «قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أشيء قُضيَ عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال: قلت لا بل فيما قضي عليهم ومضى.

قال: أفيكون ذلك ظلمًا؟ قال: ففزعت فزعًا شديدًا، وقلت: إنه ليس شيء إلا خلقُه وملكُه، لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون. فقال: سدّدك الله، إنما سألتك لأُحرز عقلك([7])، إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال: «فيما قُضي عليهم ومضى» فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول الله ﷺ: «من كان خَلَقَهُ الله لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: ٧ - ٨] ([8]).

وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: ٣٠] قال: «عَلِمَ من إبليس المعصية، وخَلَقَهُ لها»([9]).

وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} [الأعراف: ٣٠] قال ابن عباس: «إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} [التغابن: ٢] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمن وكافر»([10]).

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: ٢٤] قال: «يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله»([11]).

وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السلف في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ١١٨، ١١٩] قالوا: «خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف»([12]).

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} [البقرة: ٢٥٣]، وقال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: ٣٧] أي نصيبهم مما كتب لهم. وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)} [الشعراء: ٢٠٠] قال الحسن وغيره: «الشرك والتكذيب»([13]).

وقال ابن عباس في قوله تعالى:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قال: «أضله في سابق علمه»([14]).

وقال عمر بن عبد العزيز: «لو أراد الله أن لا يُعصى لم يخلق إبليس، وقد فصّل لكم وبيّن لكم ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قُدِّر له أن يصلى الجحيم»([15]).

وقال وُهيب بن خالد: أنبأنا خالد قال: قلت للحسن: ألهذه خُلِق آدم ــ يعني السماء ــ أم للأرض؟ فقال: «لا، بل للأرض» قال: قلت: أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها، أكان تُرك في الجنة؟ قال: «سبحان الله، كان لا بد له من أن يعملها»([16]).

وفي صحيح مسلم عن طاووس: «أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ يقول: «كل شيء بقدر، حتى العَجْز والكَيْس»([17]).

وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»([18]).

وفي صحيحه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، فاحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»([19]).

وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن النذر لا يُقَدِّرُ لابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره، ولكن النذر يوافق القَدَرَ، فيُخرِج ذلك من البخيل مالم يكن يريد أن يخرجه»([20]).

وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبي ﷺ عن الإيمان قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه»([21]).

وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق وفيه: «فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل النار، فيدخل النار. وإن أحدَكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها»([22]).

وفي الصحيحين حديثُ عليّ عن النبي ﷺ: «ما منكم من أحد إلا كُتِب مقعده من النار ومقعده من الجنة» فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتّكل على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: «اعملوا، فكلّ ميسّر لما خُلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فيُيسّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة» ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: ٥ - ١٠]([23]).

وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ سُئِل: أَعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟ قال: «نعم» قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: «نعم، كلٌّ ميسّر لما خلق له»([24]).

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: دُعِيَ رسول الله ﷺ إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يُدرك السوء، ولم يعمله. قال: «أو غيرَ ذلك، إن الله تعالى خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»([25]).

وفي الصحيحين عن ابن عباس وأبي بن كعب عن النبي ﷺ قال: «الغلامُ الذي قتله الخضر، طُبِعَ يوم طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا»([26]).

وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله خَلَقَ الخلق في ظُلْمة، ثم ألقى عليهم من نوره» وفي لفظ: «فجعلهم في ظلمة واحدة، فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة، فمن أصابه النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ. فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله»([27]).

وذكر راشد بن سعد عن أبي عبدالرحمن السلمي أن أبا قتادة سمع النبي ﷺ يقول: «خلق الله آدم، وأخرج الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» قال قيل: علامَ نعمل: قال: «على مواقع القدر»([28]).

في صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقيّ أم سعيد؟ فيُكتبان، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه. ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيهاه ولا ينقص»([29]).

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُنفخ([30]) فيه الروح، ويُبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»([31]).

وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهلُ والحَزَنُ، والخبيث والطيب» قال الترمذي حديث حسن صحيح([32]).

وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ردفتُ رسول الله ﷺ يومًا فقال: «يا غلام، ألا أعلّمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. رُفعت الأقلام، وجفّت الصحف. لو جَهَدت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا»([33]).

وقال عكرمة عن ابن عباس: «كان الهدهد يدل سليمان على الماء» فقلت له: وكيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال: «أعضَّك اللهُ بِهَن أبيك([34]) إذا جاء القضاء ذهب البصر»([35]).

وصح عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر قال له: إن ناسًا يقولون: لا قَدَر، وإن الأمر أُنُفٌ([36]) فقال: «إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر بريء منهم، وأنهم براء منه»([37]).

وقد تقدم قول أبي بن كعب وحذيفة وابن مسعود وزيد بن ثابت([38]): «لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبًا في سبيل الله، ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وإن مت على غير ذلك دخلت النار»([39]).

وقال أبو الدرداء: «ذروة الإيمان أربع: الصبر للحُكْم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب»([40]).

والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر، وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة.

فالجواب([41]): أن ههنا مقامين: مقامَ إيمان وهدى ونجاة، ومقامَ ضلال وردى وهلاك، زلت فيه أقدام، فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء.

فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس. وهذه الآثار كلها تحقق هذا المقام، وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه. وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله.

وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك، فهو الاحتجاج به على الله، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء، وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضرّ على العباد من إبليس، كما صرح به بعضهم!

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراد، فأي شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون، وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت وليًّا للمحبوب أو عدوًّا له؟ قال: فكأنما أُلقم حجرًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته([42]):

ويُدعى خصوم الله يوم معادهم
سواءٌ نفَوه أو سعوا ليخاصموا

 

إلى النار طُرًّا فرقةُ القدريةِ
به اللهَ أو مارَوا به للشـريعةِ

وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة على لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نُفاتُه وهم القدرية المجوسية. والمعارضون به للشريعة، الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: ١٤٨] وهم القدرية المشركية. والمخاصمون به الرب سبحانه، وهم أعداء الله وخصومه، وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: ٣٩] ولم يعترف بالذنب ويبوء به، كما اعترف به آدم. فمن أقر بالذنب، وباء به، ونزه ربه، فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برّأ نفسه، واحتج على ربه بالقدر، فقد أشبه إبليس([43]).

ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة، فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو الله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: ١٤٨] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: ٣٥] وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف: ٢٠] وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} [يس: ٤٧].

فهذه أربعة مواضع في القرآن، بيّن سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق، وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد. وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصليًا، والمتّقي متّقيًا. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار. وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها. وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وأنه هو الذي وفّق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه، ولو شاء لخذلهم فعصوه. وأنه حال بين الكفار وقلوبهم، فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به، ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه. وأنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعًا، إيمانا يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم. وأنه لو شاء ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: ١١٢].

والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى:

الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.

الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.

الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.

الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. فالخالق عندهم واحد، وما سواه فمخلوق. ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق. ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمةٍ تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقَه. وأن حكمته حكمةُ حقٌّ، عائدة إليه، قائمه به كسائر صفاته. وهذه الحكمة هي الغاية المحبوبة له، المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده. ولأجلها خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى. وهذه الحكمة هي الغاية، والفعلُ وسيلة إليها.

والمقصود: أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد والوعيد. فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب. فصدّقوا بالخلق والأمر.

واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواصّ الخلق ولبِّ العالم.

والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: «القدر قُدرةُ الله»([44]) واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان، وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر.

ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين من هذه الثلاثة كثيرًا كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل: 6] وقال بعد ذكر تخليق العالم:{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} فصلت: 12] وذكر نظير هذا فقال: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: ٩٦].

فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه. وكذلك ارتباط أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره، حكيم في خلقه وأمره، عزيز في خلقه وأمره.

ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلى. والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول ﷺ، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والخبر عنه، والأمر به. فكل هذا يسمى حكمة.

فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقُه وأمرُه، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة.

وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به، وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه. وأنّه من تلك الإضافة خيرٌ وحكمة، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال في دعاء الاستفتاح: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك»([45]) فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته منزّهة عن كل شرّ، وصفاته كذلك، إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه. وأسماؤه كلها حسنى، ليس فيها اسم ذمّ ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل، لا تخرج عن ذلك البتة. وهو المحمود على ذلك كله. فيستحيل إضافة الشر إليه.

وتحقيق ذلك: أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، كما في خطبته ﷺ: «الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا»([46]) فتضمن ذلك الاستعاذة من شرور النفوس، ومن سيئات الأعمال، وهي عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى اللام من باب إضافة المتغايرين، أو يقال المراد السيئات من الأعمال، فعلى هذا الإضافةُ بمعنى «من» وهي من باب إضافة النوع إلى جنسه.

ويدل على الأول قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: ٩] قال شيخنا([47]): «وهذا أشبه إذا أريد السيئات من الأعمال. فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنما تكون من عقوباتها. إذ الواقع لا يمكن رفعه، وإن استعاذ منها قبل وقوعها لئلا تقع، فهذا هو الاستعاذة من شر النفس».

وإذا عرف هذا، وأنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل، وهما من نفس العبد، كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى، وهي أمور ذاتية للرب، وذات الرب سبحانه مستلزمة للحكمة والخير والجود. وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه. فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل، فصدر منه الإحسان والبر والطاعة. ومن أراد به شرًّا أمسكه عنه، وخلّاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح. وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه، فإنّه فضله، وليس من مَنَع فضله ظالمًا، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه، ولا يليق به.

وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله. وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: ٥٣] فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها. فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلًا بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابّه وطاعته فهذا هو الشاكر لها. فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة»([48]) فقوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ» يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته، فإن المباءة هي التي يبوء إليها الشخص، أي يرجع إليها رجوع استقرار، والمباءة هي المستقر، ومنه قوله ﷺ: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»([49]) أي ليتخذ مقعده من النار مباءَةً يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه.

فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا، رجوع مطمئن إلى ربه، منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه، بل لا يزال مقبلًا عليه إذ كان لا بد له منه. فهو معبوده، وهو مستغاثه، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبوده هلك وفسد. ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته.

فقوله: «أبوء» يتضمن أني وإن جُلْتُ كما يجول الفرس إما بالذنب، وإما بالتقصير في الشكر، فإني راجع منيب أواب إليك، رجوع من لا غنى له عنك.

وذكر النعمة والذنب، لأن العبد دائمًا يتقلب بينهما، فهو بين نعمة من ربه، وذنب منه هو. كما في الأثر الإلهي: «ابن آدم، خيري إليك نازل، وشرّكَ إلي صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي. ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح»([50]).

وكان في زمن الحسن البصري شاب لا يُرى إلا وحده، فسأله الحسن عن ذلك، فقال: إني أجدني بين نعمة من الله، وذنب مني، فأريد أن أُحدث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا. فذلك الذي شغلني عن الناس. أو كما قال، فقال له: أنت أفقه من الحسن([51]).

فالخير كله من الله، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣] فالنعم كلها من نعم الله وفضله على عبده، وهو سبحانه وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين. لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جودُه ورحمتُه وفضلُه حكمتَه وعدلَه، ولو رأى العقلاء واحدًا منهم قد وضع المسك في الحشوش والأخلية، ووضع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة؛ لاشتد نكيرهم عليه، والقدح في عقله، ونسبوه إلى السّفه وخلاف الحكمة. وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، والإحسان موضع العقوبة؛ لسفّهوه وقدحوا في عقله، كما قال القائل([52]):

ووضع الندى موضع السيف بالعلا

مضر كـــــوضع السيف في مـــــوضع النــــدى

وكذلك لو وضع الدواء موضع الغذاء، والغذاء موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه، والإمساك حيث يليق الاستفراغ. وكذلك وضع الماء موضع الطعام، والطعام موضع الماء، وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة. بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه مالم يخلق له من العلوم والصنائع. فمن بهرت حكمته العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها.

ومن المعلوم أن أجلَّ نعمه على عبده الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتزام عبوديته.

ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه، ومنها الطيب، وبين ذلك. وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي، والقلب الخسيس الخبيث. وهو سبحانه خلق الأضداد، كما خلق الليل والنهار، والبرد والحر، والداء والدواء، والعلو والسفل. وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر، فليس من الحكمة أن يبذر البر في الصخور والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم، فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال.

فالله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته أصلًا وميراثًا([53])، فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته، فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة، وتعظيمِ الـمُرْسِلِ، والقيام بحقه، والصبر على أوامره، والشكر لنعمه، والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك.

وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلغوه عن ربهم، قال عبدالله بن مسعود: «إن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد ﷺ خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبته»([54]) وفي أثر إسرائيلي: «أن الله تعالى قال لموسى: أتدري لم اخترتك لكلامي؟ قال: لا يا رب. قال: إني نظرت في قلوب العباد، فلم أر فيها أخضع من قلبك لي»([55]) أو نحو هذا.

فالرب سبحانه إذا علم من المحل أهليةً لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده؛ حبب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، ووفقه له، وأعانه عليه، ويسر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك. ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه، فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه، ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به، فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلًا، ولا يتولى معه غيره، ولا يعبد معه سواه. وهذا هو الذي عرف قدر النعمة، وعرف المنعم، وأقر بنعمته، وصرفها في مرضاته.

واقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أَنْ بَذَرَ في هذا القلب بذرة الإيمان والمعرفة، وسقاه ماء العلم النافع والعمل الصالح، وأطلع عليه من نوره شمس الهداية، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة؛ فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم. كما في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها طائفة أجادبُ، أمسكت الماء، فسقي الناس وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلًا. فذلك مَثَلُ من فَقُهَ في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([56]).

فمثّل القلوب بالأرض التي هي محل النبات والثمار، ومثّل الوحي الذي وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماء الذي ينزله على الأرض. فمِن الأرض أرضٌ طيبة قابلة للماء والنبات، فلما أصابها الماء أنبتت ما انتفع به الآدميون البهائم وغيرهم، وهذه بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه، المستعد لزكائه وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين.

ومن الأرض أرضٌ صلبة منخفضة، غير مرتفعة ولا رابية، قابلة لحفظ الماء واستقراره فيها، ففيها قوة الحفظ، وليس فيها قوة النبات. فلما حصل فيها الماء أمسكته وحفظته، فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم وسقوا منه زروعهم. وهذا بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وضبطه، وأداه إلى من هو أفهم له منه، وأفقه منه فيه، وأعرف بمراده. وهذا في الدرجة الثانية.

ومن الأرض أرض قيعان، وهي المستوية التي لا تُنبت، إما لكونها سبخة أو رمالًا، ولا يستقر فيها الماء، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعًا، لم تمسكه لشرب الناس، ولم تنبت به كلأ، لأنها غير قابلة لحفظ الماء، ولا لنبات الكلأ والعشب. وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأسًا. ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين، بل لا بد لكل مسلم أن يزكو الوحي في قلبه، فينبت من العمل الصالح والكلم الطيب ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته، فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير البتة؛ فهذا من أشقى الأشقياء. فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله.

والمقصود: أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ومن لا يصلح، وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا، وجعله أهلًا وقابلًا، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمُسَبَّب.

ومن اعترض بقوله: فهلّا جعل المحالَّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد؟ فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأضداد، وهلّا جعلها كلّها سببًا واحدًا، فلِمَ خلق الليل والنهار، والفوق والتحت، والحر والبرد، والدواء والداء، والشياطين والملائكة، والروائح الطيبة والكريهة، والحلو والمرّ، والحسن والقبيح؟ وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها.

وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأعداء؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها إليه؟ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزاقًا وغفارًا وعفوًّا وحليمًا ورحيمًا ولم يوجد من يرزقه ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه، فممّن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويُري أولياءه كمال نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟

وهل في الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شرّ جزئي يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصَّار، ويهدم من بناء، ويعوق من مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كقطرة في بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجبًا لأعظم المفاسد والهلاك؟

وهذه الشمس التي سخّرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها، كم تؤذي مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة، وكم تعطّش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تنشّف من مورد، وتحرق من زرع! ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية والمكمّلة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كبير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه.

قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد، مشتملة على المصلحة الخالصة. فقال: خَلْقُ هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خُلقتْ على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولَكَانَ عالَمًا آخر غير هذا.

قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه، كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى، فإذا قيل لِمَ لَمْ تُخلقِ الحركة المعيّنة باقية؟ قيل: لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان، والتحوّل من حال إلى حال، فإذا قدّر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفسُ الإنسان هي في ذاتها جاهلةً عاجزةً فقيرةً، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: ٧٨] وإنما يأتيها العلم والقدرة والغنى من الله بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمِنَ الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشرّ فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدميّة، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال، والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو جُعلت على غير ذلك لم تكن هي هذه النفس الإنسانية، بل مخلوقًا آخر([57]).

فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشرّ الذي يحصل لها نوعان: عدمُ ووجودُ.

فالأول: كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات، وعدمِ العمل بها. وهذا العدم ليس له فاعلٌ، إذ العدم المحض لا يكون له فاعل، لأن تأثير الفاعل إنما هو في أمر وجودي. وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإن العدم ليس بشيء أصلًا، وما ليس بشيء لا يقال إنه مفعول لفاعل. فلا يقال إنه من الله، إنما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية. ولهذا من قول المسلمين كلهم: «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن» فكل كائن فبمشيئته كان، وما لم يكن فلعدم مشيئته.

والمقصود: أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها، فإنها لا تقتضي إلا العدم، أي عدمُ استعداد نفسه، وقوَّتها هو السبب في عدم هذا الكمال. فإنه كما يكون أحاد الوجودين سببا للآخر فكذلك أحد العدمين يكون سببا لعدم الآخر. والموجودُ الحادث يضاف إلى السبب المقتضي لإيجاده، وأما المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يُحدِث العدم، بل يكفي في استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لانتفاء مشيئته، فانتفاء مشيئةِ كونِه سببُ عدمه، فظهر استحالة إضافة هذا الشر([58]) إلى الله عز وجل.

وأما الشر الثاني: وهو الشر الوجودي ــ كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة ــ فهو من لوازم ذلك العدم. فإنه متى عُدِمَ ذلك العلم النافع والعمل والصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهلُ وموجبُهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح؛ اشتغلت بالضد الضار الفاسد.

وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى، إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء. لكن كلّ ما خلقه الله فلا بد أن يكون له في خلقه حكمة لأجلها خَلَقَهُ، لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.

وليس من الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكم والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعًا لغيره. وحينئذ فقد يكون هدي هذه النفوس الفاجرة وسعادتها مشروطًا بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضداد لم تنتف.

فإن قيل: فهلّا حصلت تلك اللوازم، وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو السؤال الأول، وقد بينّا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بد منها، فلو قُدِّر عدمها لم يكن هذا العالم، بل عالمًا آخر، ونشأة أخرى، وخلقًا آخر.

وبينّا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقالك هلّا تجرّد الغيث والأنهار عمّا لا يحصل به من تغريق وتخريب وأذى؟ وهلّا تجردت الشمس عما يحصل منها من حرّ وسموم وأذى؟ وهلّا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلّا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلّا تجردت فصول العام عما فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذي؟

فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيرًا محتاجًا، والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها، وخلعت عليه خِلْعة الغنى المطلق، والكمال المطلق، فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًّا غنى مطلقًا، ومعلوم أن لوازم الخلق لا بد منها فيه؟

ولا بد للعلو من سفل، والسفل من مركز([59]). ولوازمُ العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات، وما هناك من الأرواح العلوية النيّرة المناسبة لمحلها، وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوة، والتجرد من علائق المواد السفلية لا بد منها. ولوازمُ السفل والمركز من الضيق والحصر، ولوازم ذلك من الظلمة والغلظ والشر، وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة، وأعمالها وآثارها لا بد منها.

فهما عالمان علوي وسفلي، ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خلق كلا من المحلين معمورًا بأهليه وساكنيه، حكمة بالغة وقدرة قاهرة. وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها، قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)} [الإسراء: ٨٤] أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به. كما يقول الناس: كل إناء بالذي فيه ينضح.

فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين. ولو أنّ ملِكًا من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سِفْلَةَ الناس وسَقَطُهم وغَرْثَهم([60]) الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة، لقَدَح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك. فما الظن بمجاوري الملِك الأعظم مالك الملوك في داره، وتمتّعهم برؤية وجهه وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم؟

أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روحٌ سفليّة أرضيّة، قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما يشاركها فيه بل قد يزيد عليها الحيوان البهيم، وقصرت همتها عليه، وأقبلت بكليتها عليه، لا ترى نعيمًا ولا لذة ولا سرورًا إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق. فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلبُ والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها، وربما كانت طباع الحيوانات خيرًا من طباع هؤلاء وأسلم وأقبلَ للخير. ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: ٢٢ - ٢٣].

فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حالة واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: ٣٥ - ٣٦] فأنكر عليهم الحكم بهذا، وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار، لينبه العقول على أن هذا مما تحيله الفطر، وتأباه العقول السليمة. {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: ٢٨].

بل الواحد من الخلق لا تستوي أعاليه وأسافله، فلا يستوي عقبُه وعينُه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر. والله عز وجل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع، وهذه أجزاء الأرض: منها ما يصلح جلاء للعين، ومنها ما يصلح للأتون والنار.

وبهذا ونحوه يُعرَف كمال القدرة وكمال الحكمة، فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة تنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه. والعالِمُ من لا يُلقي الحرب بين قدرة الله وحكمته، فإن آمن بالقدرة قَدَحَ في الحكمة وعطّلها، وإن آمن بالحكمة قدح في القدرة ونقصها، بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولهما لجميع ما خلقه الله ويخلقه، فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته، فكذلك لا يكون إلا بحكمته.

وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلًا، فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه، ثم تستدل على الغائب بالشاهد، وتعتبر ما علمت بما لم تعلم. وقد ضرب الله الأمثال لعباده في كتابه، وبين لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذي به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب، وما خلقه لهم من النار التي بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم، من الشر الجزئي المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك، فقال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد: ١٧].

فأخبر سبحانه أن الماء بسبب مخالطته الأرض إذا سال فلا بد من أن يحمل السيل من الغثاء والوسخ وغيره زبدًا عاليًا على وجه السيل. فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه، ولا يرى إلا غثاءً ووسخًا ونحو ذلك، ولا يرى ما تحته من مادة الحياة. وكذلك ما يُستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها، إذا أوقد عليها في النار لتتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا يُنتفع به. وهذا لا بد منه في هذا وهذا.

وقد ذم تعالى من ضعفت بصيرته من المنافقين، وعمي عما في القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصلاح وخير في الدنيا والآخرة، ولم يجاوز بصرُه وسمعُه رعودَ وعيده وبروقَها وصواعقها، وما أعد الله لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه، الذي هو ــ بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح، ومن المعارف الإلهية، وتبين طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد ــ يسيرٌ، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه.

قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: ١٧ - ٢٠] فهكذا حال كل من قَصَرَ نظرَه في بعض مخلوقات الرب سبحانه على ما لا بد منه من شر جزئي جدًّا بالإضافة إلى الخير الكثير.

ولو لم يكن في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرًا ومصلحة، ومن عداهم ــ وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم ــ فهم كالقشّ والزّبالة وغثاء السيل، لا يعبأ بكثرتهم، ولا يقدح في الحكمة الإلهية. بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه آلاف مؤلفة من النوع الآخر، فإنه إذا وجد واحد يوازن البرية ويرجح عليها، كان الخير الحاصل بوجوده والحكمة والمصلحة أضعاف الشر الحاصل من وجود أضداده، وأثبت وأنفع وأحب إلى الله من فواته بتفويت ذلك الشر المقابل له.

وهذا كالشمس، فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها، من نفع الرسل وصلاح الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟

وقد ضُرب للنفس الإنسانية وما فيها من الخير والشر مثلًا بدولاب أو طاحون شديد الدوران، أي شيء خطفه ألقاه تحته وأفسدَه، وعنده قيِّمُه([61]) الذي يديره، وقد أحكم أمره لينتفع به ولا يضر أحدًا، فربما جاء الغرُّ الذي لا يعرف فيقترب منه فيخرق ثوبَه أو بدنه أو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه: لِمَ لَمْ تجعلْه ساكنًا لا يؤذي من اقترب منه؟ قال: هذه صفته اللازمة التي كان بها دولابًا وطاحونًا، ولو جُعل على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه.

وكذلك إذا أوقدنا نار الأتون التي تُحرق ما وقع فيها، وعندها وقَّادٌ حاذق يحشُّها([62])، فإذا غفل عنها أفسدتْ، وإذا أراد أحد أن يقرب منها نهاه وحذّره، فإذا استغفله من قَرُبَ منها حتى أحرقتْهُ لم يقل لصاحب النار: هلّا قلّلت حرّها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه؟ فإنه يقول: هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تحرق أحجار الِكْلس([63]) ولم تطبخ الآجُرّ، ولم تنضج الأطعمة الغليظة ونحو ذلك.

فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون نارًا إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارًا. وكذلك النفس فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها، وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك.

فأما الأمور العدميّة فهي باقية على ما كانت عليه من العدم، والإنسان جاهل ظالم بالضرورة، كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: ٧٢] فإن الله أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وهي ظالمة نفسها، فهي الظالمة والمظلومة، إذ كانت منقوصة من كمالها بعدم بعض الكمالات أو أكثرها منها. وتلك الكمالات التي عدمت كان وجودها سببًا لكمالات أخرى، فصار عدمها مستلزمًا لعدم تلك الكمالات التي لا سعادة لها بدونها.

وتأمل أول نقص دخل على أبي البشر وسرى إلى أولاده، كيف كان من عدم العلم والعزم. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: ١١٥] والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أو عدم الصبر كما فسر بهما ههنا فهو أمر عدمي، ولهذا قال آدم لما رأى ما دخل عليه من ذلك: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: ٢٣] فإنه اعترف بنقص حظ نفسه بما حصل لها من عدم العلم والصبر بالنسيان الذي أوجب فوات حظه من الجنة. ثم قال:{وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: ٢٣] فإنه سبحانه إن لم يغفر السيئات الوجودية فيمنع أثرها وعقابها ويقِ العبدَ من ذلك؛ وإلا ضرّته آثارها ولا بدّ، كآثار الطعام المسموم إن لم يتداركه المداوي بشرب الترياق ونحوه؛ وإلا ضره ولا بد.

وإن لم يرحمه سبحانه بإيجاد ما تصلح به النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به؛ وإلا خسر، فالمغفرة تمنع الشر، والرحمة توجب الخير، والرب سبحانه إن لم يغفر للإنسان فيقيه السيئات، ويرحمه فيؤتيه الحسنات؛ وإلا هلك ولا بد، إذ عاد كما كان ظالمًا لنفسه ظلومًا بنفسه، فإنّ نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهي متحركة بالذات، فإن لم تتحرك للخير تحركت إلى الشر فضرّت صاحبها، وكونها متحركة بالذات من لوازم كونها نفسًا، لأن ما ليس حسّاسًا متحركًا بالإرادة فليس نفسًا، ففي الصحيح([64]) عن النبي: «أصدق الأسماء حارث وهمّام»([65]) فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهمّ، والهم مبدأ الإرادة، فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وإلا وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار.

وقد قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: ١٩ - ٢٢] فأخبر سبحانه أن الإنسان خلق على هذه الصفة، وإنّ من كان على غيرها فلأجل ما زكّاه الله به من فضله وإحسانه.

وقال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: ٢٨] قال طاووس ومقاتل وغيرهما: «لا يصبر عن النساء»([66]) وقال الحسن: «هو خلقه من ماء مهين»([67]) وقال الزجاج: «ضعف عزمه عن قهر الهوى»([68]) والصواب: أن ضعفه يعمّ هذا كله، وضعفه أعظم من هذا وأكثر. فإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور. فبالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.

وخلْقُه على هذه الصفة هو من الأمور التي يُحمد عليها الرب سبحانه، ويثنى عليه بها. وهو موجب حكمته وعزته، فكل ما يحدث من هذه الخلْقَة وما يلزمُ عنها فهو بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة، إذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته. وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبرًّا وفجورًا، بل أخص من ذلك مثل كونها صلاة وصيامًا وحجًّا وزنىً وسرقة وأكلًا وشربًا، إذ ذاك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجب أمر الله له ونهيه. فلله سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى مالم يخلقه مما لو شاءه لخلقه، وعلى توفيقه الموجب لطاعته، وعلى خذلانه الموقع في معصيته.

وهو سبحانه سبقت رحمته غضبه، وكتب على نفسه الرحمة، وأحسن كل شيء خلَقًهُ، وأتقن كل ما صنع. وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله في ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبة، وتلك الحكمة إنما تحصل على الوجه الواقع المقدّر بما خلق لها من الأسباب التي لا تنال غاياتها إلا بها، فوجود هذه الأسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة.

ولهذا يقرن سبحانه في كتابه بين اسمه الحكيم واسمه العليم تارة، وبينه وبين اسمه العزيز تارة، كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} [النساء: ٢٦]، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} [البقرة: ٢٢٨] فإن العزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعًا.

يقال عَزَّ يعَزّ ــ بفتح العين ــ إذا اشتد وقوي، ومنه الأرض العزاز للصلبة الشديدة، وعزّ يعِزّ ــ بكسر العين ــ إذا امتنع ممن يرومه، وعزّ يعُزّ ــ بضم العين ــ إذا غلب وقهر. فأعطَوا أقوى الحركات وهي الضمة لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفها وهي الفتحة لأضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبًا ولا يلزم من ذلك أن يمتنع عمن يرومه، والحركة المتوسطة وهي الكسرة للمعنى المتوسط وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره ويغلبه. فأعطوا الأقوى للأقوى، والأضعف للأضعف، والمتوسط للمتوسط([69]).

ولا ريب أن قهر المريد عما يريده من أقوى أوصاف القادر، فإن قهره عن إرادته وجعله غير مريد كان أقوى أنواع القهر. والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة، ولهذا يوصف به المؤمن ولا يكون ذمًّا له، بخلاف الكبر. قال رجل للحسن البصري: إنك متكبر، فقال: «لست بمتكبر، ولكني عزيز» وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: ٨].

وقال ابن مسعود: «ما زلنا أعزّةً منذ أسلم عمر»([70]) وقال النبي ﷺ: «اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام»([71]).

فالقدرة إن لم يكن معها حكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله؛ كان فعله فسادًا، كصاحب شهوات الغيّ والظلم الذي يفعل بقوته ما يريده من شهوات الغيّ في بطنه وفرجه، ومن ظلم الناس، فإن هذا وإن كان له بقوّة وعزّة، لكن لما لم يقترن بها حكمة؛ كان ذلك معونة على شره وفساده.

وكذلك العلم كماله أن تقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه؛ سفيهٌ غاوٍ، وعلمه عون على الشر والفساد.

هذا إذا كان عالمًا قادرًا مريدًا له إرادة من غير حكمة، وإن قّدر أنه لا إرادة له بحال؛ فهذا أولًا ممتنع من الحي، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنع، كوجود إرادة بدون الشعور. وأما القدرة والقوة إذا قدّر وجودها بدون إرادة؛ فهي كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعية التي هي مبدأ الفعل والحركة لا إرادة لها.

والمقصود: أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه الحكيم يتضمن حكمته في خلقه وأمره، في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به.

وبالجملة: فالموفقون المهديّون هم من آمنوا بخلق الله وأمره بقدره وشرعه، وأنه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنه على كل شيء قدير، فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أعيانها وأفعالها وصفاتها، كما لا يخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلّقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا مع ذلك بأن لله الحجة على خلقه، وأنه لا حجة لأحد عليه، بل لله الحجة البالغة. وأنه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلًا منه وحكمة، لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة.

ولا يجعلون القدر حجة لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به. ويعلمون أن الله سبحانه أنعم عليهم بالطاعات، وأنها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأن المعاصي من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأنهم هم جُناتُها، وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاء والقدر، مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خير وشر، وطاعة وعصيان، وكفر وإيمان. وأن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به. وأنه لو شاء ألا يُعصى لما عُصي، وأنه تعالى أعزّ وأجل من أن يُعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون. وأنه ما شاء الله كان، وكل كائن فهو بمشيئته، ومالم يشأ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته. فله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة.

ولا يستكثر تكرار هذه الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها، وضرورة النفوس إليها([72])، فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة والله المستعان.

ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصل ثالث، هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته على وجهه يتم بناء هذين الأصلين، وهو إثبات الحمد كله لله رب العالمين، فإنه المحمود على ما خَلَقَه وأمر به ونهى عنه. فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين، وعلى خلق الرسل وأعدائهم. وهو المحمود على عدله في أعدائه، كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه.

فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبّحت بحمده السموات السبع الأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده. وكان في قول النبي ﷺ عند الاعتدال من الركوع: «ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد»([73]) فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين السماوات والأرض، ويملأ ما يقدَّر بعد ذلك مما يشاء الله أن يملأ بحمده.

والمعنى أن يملأ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، أي: لك الحمد ملء ما خلقتَه وملء ما تخلقه بعد ذلك.

وأسماء الرب تعالى كلّها حسنى، ليس فيها اسم سوء. وأوصافه كلّها كمال، ليس فيها صفة نقص. وأفعاله كلّها حكمة، ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. موصوف بصفات الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزَّه عن الشبيه والمثال، ومنزَّه عما يضاد صفات كماله. فمنزه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِّنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيّوميّة. وموصوف بالعلم، منزّه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه. وموصوف بالقدرة التامة، منزه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء. وموصوف بالعدل، المنزه عن الظلم. وموصوف بالحكمة، منزه عن العبث. وموصوف بالسمع والبصر، منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم. وموصوف بالعلوّ والفوقية، منزه عن أضداد ذلك. وموصوف بالغنى التام، منزّه عما يضاده بوجه من الوجوه.

ومستحق للحمد كله، فيستحيل أن يكون غير محمود، كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي. وله الحمد كله واجب له لذاته، فلا يكون إلا محمودًا، كما لا يكون إلّا إلهًا وربًّا وقادرًا.

فإذا قيل: «الحمدُ كلّه لله» فهذا له معنيان:

أحدهما: أنه محمود على كل شيء، وبكل ما يُحمد به الحمد التام. وإن كان بعض خلقه يُحمد أيضًا، كما يُحمد رسلُه وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات، وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده، فهو المحمود أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. وهذا كما أنه بكل شيء عليم، وقد علم غيرُه من علمه مالم يكن يعلمه بدون تعليمه.

المعنى الثاني: أن يقال: «لك الحمد كلّه» أي: الحمد التام الكامل، فهذا مختص بالله، ليس لغيره فيه شركة.

والتحقيق: أن له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله. وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال، وعلى كل شيء، أكملَ حمد وأعظمَه، كما أن له الملك التام العام، فلا يملك كل شيء إلا هو، وليس الملك التام الكامل إلا له. وأتباع الرسل يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد. فإنهم يقولون: إنه خالقُ كل شيء وربُّه ومليكُه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة. فله الملك كله.

والمقصود: بيانُ شمولِ حمدِه سبحانه وحكمته لكل ما يُحدثه من إحسان ونعمة، وامتحان وبليّة، وما يقضيه من طاعة ومعصية. والله تعالى محمود على ذلك مشكور، حَمْدَ المدح وحمْد الشكر([74])، أما حمدُ المدح فالله محمود على كل ما خلق، إذ هو رب العالمين، والحمد لله رب العالمين. وأما حمد الشكر فلأنّ ذلك كلّه نعمة في حق المؤمن إذا اقترن بواجبه.

والإحسانُ والنعمة إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والبلية إذا اقترنا بالصبر كانا نعمة، والطاعة من أجلِّ نِعَمه. وأما المعصية فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمةٌ أيضًا، وإن كان سببها مسخوطًا مبغوضًا للرب سبحانه، ولكنه يحبّ ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار. وهو سبحانه أفرحُ بتوبة عبده من الرجل إذا أضلّ راحلته بأرض دوية([75]) مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فأيس منها ومن الحياة، فنام ثم استيقظ، فإذا بها قد تعلّق خطامها في أصل شجرة، فجاء حتى أخذها، فالله أفرحُ بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته.

فهذا الفرح العظيم الذي لا يشبهه شيء أحبُّ إليه سبحانه من عدمه، وله أسبابُ ولوازم لا بد منها. وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبًا له، فهذا الفرح أحب إليه بكثير، ووجوده بدون لازمه ممتنع. فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة، ونعمة سابغة.

هذا بالإضافة إلى الرب سبحانه، وأما بالإضافة إلى العبد فإنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفًا على أسباب لا تحصل بدونها. فتقدير الذنب عليه إذا اتصلت به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يُعقِبه، وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه، والرب سبحانه محمود على الأمرين، فإن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من التوبة والإنابة والذل والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.

وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خبث نفسه، وشرّه، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ الأعلى. ومعلوم أن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل، ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحل الأسفل، فإن هذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك فمن الحكمة أن تُستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه.

والرب سبحانه محمود على ذلك أيضًا، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلًا لنعمته تعالى، فحمده وحكمته يقتضي أن لا يُودع نعمه وإحسانه وكنوزه في محل غير قابل لها.

ولا يبقى إلا أن يقال: فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غير قابلة لنعمته؟ فقد تقّدم من الجواب عن ذلك ما فيه كفاية، وأن خلق الأضداد والمتقابلات وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزته، وأن تقدير عدم ذلك هضم من جانب الربوبية.

وأيضًا فإن هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنها إذا وقعت فهو مأمور أن ينكرها بقلبه ويده ولسانه، أو بقلبه ولسانه فقط، أو بقلبه فقط، ومأمور أن يجاهد أربابها بحسب الإمكان. فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك.

والمقصود بالقصد الأول: إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية الحكمة. وكان في تمكين أهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إيصال أوليائه إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإن تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنما تكون المحبة صادقة إذا بَذَل فيها المحبُّ ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبة والتقرب إليه، فإنْ بَذَلَ له روحَه كان هذا أعلى درجات المحبة.

ومن المعلوم أن من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أن يخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها. فكلّ أحد يُحب الإحسانَ والراحة والدعة واللذة، ويحب من يوصل إليه ذلك ويحصّله له، ولكن الشأن في أمر وراء هذا، وهو محبتُه سبحانه ومحبةُ ما يحبه مما هو أكرهُ شيء إلى النفوس، وأشقُّ شيء عليها مما لا يلائمها. فعند حصول أسباب ذلك يتبينُ من يحب اللهَ لذاته ويحب ما يحب، ممن يحبه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإن أعطي منها رضي، وإن مُنعِها سخط وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته.

فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد أعدائه ونصرته، ولا عبودية مفارقة الناس أحوج ما يكون إليهم عبده لأجله في مرضاته. فلا يتحيز إليهم، وهو يرى محابَّ نفسه وملاذها بأيديهم، فيرضى مفارقتهم ومشاققتهم وإيثار موالاة الحق عليهم. فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار.

وأيضًا فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإيثارًا لمرضاته وطلبًا للزلفى لديه والقرب منه.

وأيضًا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية، بل كانت ملكيّة، فإن الله سبحانه خلق خلقه أطوارًا، فخلق الملائكة عقولًا لا شهوات لها([76])، ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد منها، فخلقها من مادة نوريّة لا تقتضي شيئًا من الآثار والطبائع المذمومة. وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها، وخلق الثقلين الجنّ والإنس، وركّب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة، بحسب موادها وصورها وتركيبها، وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء، وهم المعرّضون للثواب والعقاب. ولو شاء سبحانه لجعل خلقه على طبيعة خلق واحد، ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية.

أيضًا فإن تنويع المخلوقات واختلافها هو من لوازم الحكمة والربوبية والملك، وهو أيضًا من موجبات الحمد، فله الحمد على ذلك كله أكمل حمد وأتمّه.

أيضًا فإن مخلوقاته هي مُوجَباتُ أسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أثرٌ لا بد من ظهوره فيه واقتضائه له، فيمتنع تعطيل آثار أسمائه وصفاته، كما يمتنع تعطيل ذاته عنها. وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد، كما تقدم التنبيه عليه.

وأيضًا فإن تنويع أسباب الحمد أمر مطلوب للرب محبوبٌ له، فكلما تنوعت أسباب الحمد تنوّع الحمد بتنوعها، وكثر بكثرتها، ومعلوم أنه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة، كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان، فهو محمود على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد. فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذي عفا عنه، وأنه لو عاجلهم بعقوبته وأخذهم بحقه لقُضِيَ إليهم أجلُهم، ولما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوُه انتقامَه، ومغفرتُه عقابَه، فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه. ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبّر، وليعطه حقَّه يُطلِعْه على أبوابٍ عظيمة من أسرار القدر، ويهبطْ به على رياض منه معشبة وحدائق مؤنقة([77])، والله الموفق الهادي للصواب.

وأيضًا فإن الله سبحانه نوّع الأدلة الدالة عليه، والتي تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرّف الآيات، وضرب الأمثال، ليقيم عليهم حجته البالغة، ويتمّ عليهم بذلك نعمته السابغة، ولا يكون لأحد بعد ذلك حجة عليهم سبحانه. بل الحجة كلها له، والقدرة كلها له. فأقام عليهم حجته، ولو شاء لسوّى بينهم في الهداية، كما قال تعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: ١٤٩] فأخبر أن له الحجة البالغة، وهي التي بلغت إلى صميم القلب وخالطت العقل واتحدت به، فلا يمكن للعقل دفعها ولا جحدها، ثم أخبر أنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأبى ذلك، وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة، فأقام الحجة وصرّف الآيات وضرب الأمثال ونوّع الأدلة. ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور، ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال، ولا ظهرت عزته سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله، ولا كان للناس{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} [آل عمران: ١٣] ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا في شأن موسى وقومه، وفرعون وقومه، وفلق البحر لهم، ودخولهم جميعًا فيه ثم إنجاء موسى وقومه ولم يغرق أحد منهم، وأغرقَ فرعونَ وقومَه لم ينج منهم أحد. فهذا التعرّف إلى عباده، وهذه الآيات، وهذه العزة والحكمة، لا سبيل إلى تعطيلها البتة، ولا توجد بدون لوازمها.

وأيضًا فإن حقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز وإذلال من يليق به الذل، قال تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: ٢٦، ٢٧] وقال تعالى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: ٢٩] يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويكشف غمًّا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفكّ عانيًا، ويغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا، ويشفي مريضًا، ويُقيل عثرة، ويستر عورة، ويعز ذليلًا، ويذلّ عزيزًا، ويعطي سائلًا، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، ويداول الأيام بين الناس، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين. يسوقُ المقاديرَ التي قدّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمُه، وسبق به علمُه. فهو المتصرف في الممالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرفه عن ذلك.

وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث أبي الدرداء أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿ [الرحمن: ٢٩] فقال: سئل عنها رسول الله ﷺ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين»([78]).

فالملك والحمد في حقّ الله تعالى متلازمان، فكلّ ما شمِله ملكُه وقُدرتُه شملهُ حمدُه، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته؛ يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، لينبّه عباده إلى أن مصدر خلقه وأمره عن حمده وحكمته. فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمدَين: حمدَ شكر وعبودية، وحمدَ ثناء ومدح، ويجمعهما التَّبَارُك، فتبارُكَ الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: ٥٤].

فالحمد أوسع الصفات، وأعمّ المدائح، والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًّا، لأن جميع أسمائه تبارك وتعالى حمدٌ، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد. والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووُجد بحمده، وظهر بحمده، وكان لِغايةٍ هي حمده. فحمده سبب ذلك، وغايته، ومظهره، وحامله. فحمده روحُ كل شيء، وقيامُ كل شيء بحمده، وسريانُ حمده في الموجودات وظهورُ آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر.

فمن الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات: معرفةُ أسمائه وصفاته، وإقرارُ العبد بأن للعالَم إلهًا حيًّا جامعًا لكل صفة كمال واسم حسن وثناء جميل وفعل كريم، وأنه سبحانه له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسع الأصوات، والبصر الذي أحاط بجميع المبصَرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملك الأعلى الذي لا تخرج عنه ذرة من الذرات، والغنى التام المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات، والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلمات التامات النافذات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات.

واحدٌ لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته، ولا شبيهَ له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس له من يَشرَكه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلُفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب، كما يكون بين الرعايا وبين الملوك. ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود، وفسد العالم بأسره، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: ٢٢] ولو كان معه آلهة أخرى ــ كما يقوله أعداؤه المبطلون ــ لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبت معه حال، ولا يصلح عليه وجود.

ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب به حمدَ عباده له أن جعلنا عبيدًا له خاصّةً، ولم يجعلنا نهْبًا منقسمين بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلنا عبيدًا لإله نحتته الأفكار، لا يسمع أصواتنا، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ضرًّا ولا نفعًا، ولا وموتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا تكلَّم قطّ ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح([79]).

فله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل إذ لم يجعلْنا عبيدًا لمن هذا شأنه، فنكون مضيعين، ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إليه ونعبده، ولا إلهَ نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه»([80]).

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

 



([1])   أحمد (176) وصححه الأرناؤوط، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (166) والوادعي في الصحيح المسند (1195).

([2])   البخاري (6617).

([3])   ذكره أحمد في المسند (19757) موقوفًا على أبي موسى ؓ.

([4])   شرح أصول اعتقاد اهل السنة لللالكائي (535).

([5])   البيهقي في القضاء والقدر (213).

([6])   تفسير الطبري (27/111).

([7])   أي أختبر عقلك هل يقوم لهذا السؤال أم لا؟

([8])   مسلم (2650).

([9])   تفسير الطبري (1/477).

([10])     الطبري (12/382).

([11])     الطبري (13/468).

([12])     الطبري (15/535).

([13])     الطبري (19/115).

([14])     الطبري (25/151).

([15])     الطبري (23/109).

([16])     اللالكائي في أصول الاعتقاد (1006).

([17])     مسلم (2655).

([18])     مسلم (2653).

([19])     مسلم (2664).

([20])     مسلم (1640) وانظر البخاري (6694).

([21])     مسلم (8).

([22])     البخاري (6594) ومسلم (2643).

([23])     البخاري (1362) ومسلم (2643).

([24])     البخاري (6596) ومسلم (2649).

([25])     مسلم (2662).

([26])     مسلم (2661) ولم يروه البخاري بهذا اللفظ.

([27])     أحمد (6644) وصححه أحمد شاكر والأرناؤوط، والترمذي وحسنه (2642) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

([28])     أحمد (17660) وابن حبان (338) والحاكم (1/31) وصححاه. وصححه الألباني في السلسلة (48) وحسنه الوادعي في الصحيح المسند (1052).

([29])     مسلم (2644).

([30])     الغالب تذكير الروح، والأقل تأنيثها، وكلاهما صحيح، والتذكير أصح.

([31])     البخاري (6594) ومسلم (2643).

([32])     (2955) ورواه أبو داود (4693).

([33])     أحمد (2669) والترمذي (2516) وصححه الترمذي وابن رجب.

([34])     وهي مما تقولها العرب ولا تريد حقيقة معناها.

([35])     الللالكائي (1228) وصحح سنده زائد النشيري، مع التنبيه إلى استفادتي من كثير من تخريجه لكتاب طريق الهجرتين، جزاه الله خيرًا.

([36])     أي مستأنف من غير سابق قضاء، وهو قول القدرية النُّفاة.

([37])     مسلم (8).

([38])     ورفعه زيد إلى النبي .

([39])     أبو داود (4699) وأحمد (21589) وغيرهما.

([40])     الللالكائي (1238).

([41])     أي جواب قوله في تصدير كلامه: «فإن أصررت على اتهام القدر... ».

([42])     وهذه شهادة من تلميذه ابن القيم في نسبة التائية إليه، وهي كافية، فهو من أعلم الناس بمصنفات شيخه، وقد نسب إليه أبياتًا أخرى في مواضع من مصنفاته، وقد يكون إغفال بعضهم لذكرها مع مسرد مصنفاته قد سقط سهوًا، أو قد رأوها قصيرة بالنسبة لمصنف مستقل، فهي أشبه بفتوى أو نحوها.

([43])     قسم شيخ الإسلام الضُّلّال في باب القدر لثلاثة أقسام، ولقّب كل قسم بما يلائمة، ومن ثمّ أخذت عنه هذه القسمة الثلاثية:

الأولى: القدرية المشركية. وهم المحتجون بالقدر على المعاصي.{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] وقال عنهم في الاستقامة (2/ 139):

«وأكثر ما يُبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركيّة، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدريّ، وعند المعصية جبريّ، أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به!

وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل، ويشكره عليها بعد الفعل، ويجتهد ألا يعصي، فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار».

الثانية: القدرية المجوسية: وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع الكائنات. فشابهوا المجوس في القول بخالقَين، فالمجوس يعتقدون بإله النور وإله الظلام، وهؤلاء اتخذوا مع الله خالقًا هو العبد، إذ قالوا: إنه يخلق فعل نفسه، وأن مشيئة الله ليست عامة في المخلوقات! تعالى الله عما يقولون.

الثالثة: القدرية الإبليسية: وهم الذين يقرّون بوجود الأمر والنهي من الله، ويقرون مع ذلك بوجود القضاء والقدر منه، لكنهم يقولون: هذا تناقض منه، وفيه جهل وظلم، ورئيسهم إبليس الذي قال لربه مخاصمًا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر: ٣٩]. نعوذ بالله من الضلال.

وقال ؒ في تائيته:

ويُدعَى خصومُ الله يوم معادهم

 

إلى النار طُرًّا معـشرَ القدرية

 

([44])     مسائل ابن هانئ (2/155).

([45])     مسلم (771).

([46])     أحمد (4116) وأبو داود (2118) بإسناد صحيح.

([47])     وإذا اطلقه فهو تقي الدين ابن تيمية، وانظر قوله في الفتاوى: (18/289).

([48])     البخاري (6323).

([49])     البخاري (110) ومسلم في المقدمة (3).

([50])     أبو نعيم في الحلية (4/31).

([51])     ابن أبي الدنيا في الشكر (196).

([52])     وهو أبو الطيب المتنبي.

([53])     أي ميراث العلم والإيمان عن الرسول .

([54])     أحمد (3600) والبزار في كشف الأستار (130) بسند حسن.

([55])     سير الأعلام (15/498) ولا حرج في التحديث عن بني إسرائيل فيما لم يخالف الإسلام، لحديث أبي هريرة ؓ قال: قال رسول : «حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» رواه أحمد (10130) وأبو داود (3664) وصححه الألباني.

قال الخطابي: «ليس معناه إباحةَ الكذبِ في أخبار بني إسرائيل، ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب، ولكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد، وذلك لأنه أمر قد تعذَّر في أخبارهم لبعد المسافة وطول المدة، ووقوع الفترة بين زماني النبوة».

([56])     البخاري (79) ومسلم (2282).

([57])     وهذا الكلام من أجود ما قيل في تفسير قوله  في ثنائه على رب العالمين سبحانه: «والشر ليس إليك» فشرّ الإنسان من نفسه لأن الله تعالى قطع عنه مدد التوفيق والهدى، فرجع إلى حاله الظالم الجاهل العاجز.

([58])     أي الشرّ العدمي.

([59])     وهذا بناءً على أن الكون مقبب مستدير كالكرة، فكلما صعد اتسع وكلما نزل ضاق حتى يصل إلى مركز الضيق والسفل.

([60])     الغرث: الجوع والفاقة، وتصح بفتح الراء وهو الأكثر، وبتسكينها وهو الأصح، كما قال حسان: وتصبح غرْثى من لحوم الغوافلِ.

([61])     أي المسؤول عن تشغيله وإدارته.

([62])     أي يزيد إشعالها ويعتني بها.

([63])     وهو الجير.

([64])     لفظ (في الصحيح) عند الإطلاق يراد به أحد الصحيحين البخاري ومسلم، ولعل ابن القيم أطلقه هنا بمعنى (في الحديث الصحيح) وهذا تصحيح منه للحديث بكل حال ولكنه خارج الصحيحين.

([65])     أحمد (19032) والبخاري في الأدب المفرد (813) وأُعلّ بالإرسال. وصححه ابن تيمية في جامع الرسائل (2/201).

([66])     زاد المسير (2/60).

([67])     زاد المسير (2/60).

([68])     زاد المسير (2/60).

([69])     انظر منهاج السنة (3/238).

([70])     البخاري (3884).

([71])     الترمذي (3681) وأحمد (5696) بسند جيد.

([72])     وصدق فيما قال ؒ، ومن يعاني سؤالات الحيارى، والتباس دينهم عليهم من جهة ضعف بصيرتهم بالقدَر، وما ينتج عن ذلك من ضلال وقلق وحيرة واضطراب، بل وانسلاخ من الدين جملة لقدّر هذا الكلام النفيس حق قدره.

([73])     مسلم (476).

([74])     فالحمد هو الثناء على ذي الصفة الجميلة، والشكر هو الثناء على ذي المنّة الحميدة.

([75])     الدوية: هي الصحراء الواسعة التي ليس فيها نبات.

([76])     ولا يعني بذلك نفي الجسمية عن الملائكة، فهم وإن كانوا قد خُلقوا من نور فإن لهم القدرة بإذن الله على التشكل والتجسّم، إنما يقصد نفي الشهوة المؤدية للمخالفة والعصيان.

([77])     ومما يعين على ذلك: التفقّه في معاني أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وآثارها في مخلوقاته، والربط بين كل اسم وصفة مع ما يشاهده ويطالعه ببصره وسمعه وقلبه، ويعتبر بذلك كله في تفكّره وتذكّره، وهذا علم شريف عزيز.

([78])     ابن ماجه (202) وابن حبان (689) وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة، وله شواهد، وقد روي موقوفًا.

([79])     وسبق الكلام في موضع سابق بحمد الله على طريق تحصيل الافتقار بمشاهدة الأسماء والصفات للحميد سبحانه.

([80])     طريق الهجرتين للإمام ابن القيم (1/ 239- 237) (1/137-310) باختصار واقتصار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق