بالله أبدأ، وبه أستعين،
وعليه أتوكل، وإياه أحمد، وإليه أتوجّه، فنعم المولى ونعم الرب ونعم الإله، وكفى
بربك هاديًا ونصيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها
ليوم لقياه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم في المبدأ والمنتهى، وإليه ربنا
المنتهى.
اللهم لك الحمد كله، ولك
الشكر كله، وعليك الثناء الحسن كله، أوله وآخره، علانيته وسره، أحَقُّ مَن ذُكِر،
وأحق من شُكِر، وأحق من حُمِد، وأحق من عُبِد. عز وجل وتقدس وتعالى عن النظير وعن
الند وعن الشريك، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك،
خلقتنا ولم نك شيئًا، ورزقتنا من غير حول منا ولا قوة، وجعلتنا من خير أمة،
وخصصتنا بأعظم نبي، وأنزلت إلينا خير كتاب، وهديتنا للإسلام والإيمان. اللهم قد
عجزنا عن إحصاء نعمك فكيف بشكرها؟! فلك الحمد والشكر.
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله
ورسوله، وخيرته من خلقه، وصفوته من أوليائه، له المقام المحمود، واللواء المعقود،
والحوض المورود، والوسيلة العالية، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، أرسله الله
تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا،
فهدى به من الضلالة، وأنقذ به من الهلكة، وبصّر به من العمى، وفتح به أعينًا
عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
إلى يوم الدين.
اللهم إني أشهد أنه قد بلَّغ الرسالة وأدَّى
الأمانة ونصح الأمة وعَبَدَك حتى أتاه اليقين، اللهم فاجزه عنا خير ما جزيت نبيًّا
عن أمته، اللهم واملأ قلوبنا من محبته، وارزقنا اتباع سنته، والثبات على شرعته،
والموت على ملته، والثبات عند السؤال على حجته، والحشر تحت لوائه وفي زمرته،
والريّ من حوضه، وأسعدنا بشفاعته، وأدخلنا معه أعلى الجنة برحمتك ومنتك وكرمك
وجودك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام يا كريم يا وهاب، يا رازق يا رزاق يا
ربنا يا الله!
أخي في الله، إن أعظم
الأعضاء خطرًا وأشدها أهميةً، وأنفعها إن صلح، وأضرها إن فسد، هو القلب؛ ففي
الحديث المتفق على صحته([1]) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «ألا
إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي
القلب». فحقيق بكل ناصح لنفسه بصير بغاية خلقه، مريد لحسن معاده وحشره، أن
يُولي هذه المضغة غاية الأهمية، وأن يحرسها ويراقبها ويغذيها وينقيها؛ حتى تصفو
وتزكو وتكون مضغة مرضية، فهي محل نظر الرب تعالى، ومنها وإليها مبدأ ومنتهى
العقائد والأعمال، فالسعيد من كان قلبه سليمًا مؤمنًا خالصًا، لذا فلمّا كان لهذا
القلب من أهمية وخطر أحببت أن أجلو لنفسي وإخوتي بعض أقواله وأعماله، عسى أن يصح
القلب بعد السقم، ويتوب بعد اللمم، وإلى الله المشتكى وهو المستعان والمستغاث
والمستعاذ وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
وسمّيت هذه الموسوعة:
(تعظيم علام الغيوب بتوضيح أعمال القلوب)، كتبت فيها عن أعمال القلب، وأدخلت فيه
بعض أقواله كاليقين والثقة بالله لأهميتها في صلاحه، وتأثيره المباشر على أعماله،
إضافة إلى بعض ثمرات تلك الأقوال والأعمال القلبية كالحياة والسكينة والطمأنينة،
وبما أنّ الكتاب ضخم وصفحاته بالألوف
فاخترت بعد استخارة ربي تبارك
وتعالى أن أجعل أبوابه كُتبًا مستقلّة مُشيِّدة لتفاصيل مبانيه، جامعة لشوارد
معانيه، سائلاً ربي السداد والتوفيق والهدى والإخلاص، إنه خير مسؤول وهو حسبي ونعم
الوكيل، وصلى الله وسلَّم وبارَكَ على محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد؛ فقد تقدّم الكلام على
معنى القلب وحده والمراد به، أما الآن فإلى بيان قوله وعمله.
اعلم رحمني الله تعالى
وإياك أنّ أهل السنة والجماعة يدخلون الأعمال في مسمّى الإيمان وهذا بإجماعهم([2]) وهو الحق الذي لا مرية فيه.
ويجعلون القسمة رباعية
فيقولون: إن الإيمان قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله
تعالى: «فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملاً قلبيًّا، لزم
ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث:
قول وعمل، باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تبع للباطن لازم له، متى صلح صلح
الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: لو خشع قلب
هذا لخشعت جوارحه...»([3]).
إذن فالقول قولان والعمل
عملان، فالقول الأول: قول القلب، وهو إقراره وتصديقه بالله تعالى وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر والقدر.
والقول الثاني: هو قول
اللسان، أي: نطقه، كالشهادتين.
وأما العملان: فعمل القلب؛
كالمحبة والرجاء والخوف والتوكل ونحو ذلك. وفرقها عن قول القلب أن قول القلب فيه
سكون وقرار، أما الأعمال ففيها حركة وانبعاث، والله أعلم.
والعمل الثاني: هو أعمال
الجوارح كالصلاة والحج والجهاد ونحوها.
فالإيمان يشمل هذا كله يزيد
بزيادتها وينقص بنقصانها، وهي شعب وأجزاء، منها ما يزول الإيمان بزوالها كالإيمان
بالله وملائكته، أو الشهادتين مع القدرة عليهما، أو محبة الله تعالى أو رسوله ﷺ،
أو جنس العمل.
ومنها ما لا يزول الإيمان
بزوالها لكن ينقص ويضعف كإماطة الأذى عن الطريق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله
تعالى: «فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق
بالقلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا: قول القلب. قال الجنيد بن محمد: التوحيد: قول
القلب. والتوكل: عمل القلب، فلابد فيه قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد
فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله ﷺ، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله،
وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده،
وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله، وجعلها من الإيمان.
ثم القلب هو الأصل، فإذا
كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما
يريده القلب، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»([4])([5]).
وقال رحمه الله تعالى: «والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالاً هو الأصل،
والأعمال الظاهرة هي الفروع وهي كمال الإيمان.
فالدين أول ما يُبنى من
أصوله ويكمل من فروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التي هي
المقاييس العقلية، والقصص والوعد والوعيد، ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوّة فروعه
الظاهرة من الجمعة والجماعة... فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها،
فإذا وقع نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة فروعه، لهذا قال ﷺ: «أول ما تفقدون
من دينكم الأمانة وآخره الصلاة»([6]). وروي عنه أنه قال: «أول ما يرفع الحكم بالأمانة»([7]) والحكم هو عمل الأمراء وولاة الأمور...»([8]).
ولا يعني هذا أن القلب هو
المحرك الوحيد للجوارح، بل قد يكون العكس، فأعمال الجوارح لها أثر مباشر في صلاح
القلب وفساده. قال شيخ الإسلام ♫: «والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل
أثره في الخارج، فصلاحها عدل لها، وفسادها ظلم لها.
قال تعالى: (من عمل صالحًا
فلنفسه ومن أساء فعليها) [فصلت: 46]، وقال تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) [الإسراء: 7].
قال بعض السلف: إن للحسنة
لنورًا في القلب، وقوة في البدن، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب
الخلق، وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في
الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق»([9]).
إبراهيم بن عبد الرحمن
الدميجي
21/6/1431
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق