هل الخلافة وسيلة أم
غاية؟
الحمد لله، وبعد؛ فإنّ الخلافة وسيلة لإقامة الغاية، فالغاية هي إقامة
دين الله تعالى في أرضه، فإذا أقيم الدين، وأمنت السبل، وحُكِّمَ القرآن العظيم،
وقام للمؤمنين ولاية؛ فقد حققت الغاية، حتى ولو لم تكن لهم خلافة بالمعنى العرفي
الحالي.
فالخلافة الراشدة قد انقطعت بملك معاوية رضي الله عنه، وهو أفضل ملوك
الإسلام طرًّا. ثم اجتمع الناس على معاوية رضي الله عنه عام الجماعة، وتوالى
اجتماعهم على إمام واحد مع بعض الافتراق والتعدد، حتى تفرقوا في عهد بني العباس،
وتوالى ذلك التعدد والافتراق حتى زماننا، مع بعض الاجتماع لأقاليم عديدة في أزمان
تحت إمام للمسلمين في تلك البقاع واحد.
إذن؛ ما هي الغاية من إقامة الخلافة، ولماذا هذا الكلام الكثير حول
إقامتها؟
الجواب: أن هذا الأمر الفاضل الشريف قد بشر به رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما في حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكونُ النُّبُوَّةُ
فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ
النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا
عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا
جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةً
على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ». ثم سَكَتَ. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد
بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو
أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر
بن عبد العزيز فسر به، وأعجبه ().
إذن فلا يُلام من انتظر بشارة الحبيب صلى الله عليه وسلم في واقع أمته
الحَمَّادة المختارة المرحومة، فالخلافة التي على منهاج النبوة تعني أن دين الناس
في زمانها قائم صالح، وهم على جادته مستقيمون، وشريعة الله تعالى قائمة لهم وبهم
وفيهم، ولهم إمام واحد جامع يسوسهم بالشرع الحنيف. فهو زمان رغيب لكل مؤمن، ولكن ذلك
لا يبيح حرق المراحل السياسية لإقامتها على حساب السنن الإلهية التي مِن أعظمها
تمكين دين الله في القلوب والأعمال، فلا بد من البدء بدعوة الناس لتوحيد الله
تعالى وإقامة كتابه في أنفسهم قبل اجتماعهم على ما سواه، فمتى استقام الناس على
الشرع؛ أقام الله لهم الدين والدنيا ومكّنهم واستخلفهم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ
ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ
فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ
خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ
بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥﴾ [النور:
55].
وأيضًا: لا بد لنا من تحديد معنى الخلافة الواردة في الحديث أولًا، فقد
يكون تأويل الحديث قد تمّ بخلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وهو وجيه
جدّا، وفي بعض الروايات ذكر الملك العاضّ دون الجبرية، وفي أخرى: «ثم تكونُ مُلكًا
وجبريةً»
وهما متقاربان فالملك العضوض يكون بالإجبار، والإجبار لا يكون إلا
عاضًّا، ولكن بينهما فروق فالعاضّ أرفق، والجبري أشق، لذلك جاء ترتيبها الزماني
على حسب حقيقتهما، وهما قد تحققا في ملك بني مروان حتى زمن الخليفة المبارك عمر بن
عبد العزيز، فبهذا يكون تأويل البشارة قد تم وانقضى.
ومنهم من يمدّ البشارة إلى آخر الزمان، بلا تحديد وقت، إنّما بتلمّس أوصاف
واقعة، وهو بالجملة من الأحاديث التي يفيد منها المؤمنون البشارات دون التزام
تطبيقها على زمن بعينه، والله أعلم.
والخلافة في اللغة: مصدر خَلَفَ يخلف خلافة، أي بقي بعده أو قام مقامه،
والخلافة: اسم للمنصب الذي يتبوؤه من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم في إجراء الأحكام
الشرعية ورئاسة المسلمين في أمور الدين والدنيا().
والخلافة بمعناها العرفي لدى أكثر من كتب من المعاصرين هي توحيد ما
استطعنا من دول الإسلام تحت راية دولة واحدة وإمام واحد، دون التأكيد على اشتراط استقامة الدولة والناس على الشرع، سواء أكان الناس على
الشريعة رعاة ورعية كما كان الحال إبان العصور الأولى الطرية للإسلام، كما في عهد
الخلفاء الراشدين()،
ثم مع بدايات النقص مع بني أمية، ثم زيادة الانحدار في عهد كثير من بني العباس، إلى
زمان اختلاف الحال، وتفشي الجهل والجهالة، وغلبة البدع والمنكرات، بل وفشو الشرك إبّان
الدولة العثمانية المسماة حينها بالخلافة العثمانية، وبخاصة في ثلثها الأخير، (ولا مشاحة في الاصطلاح
فاللغة تقبلها، فقد خلفت من سبقها ويخلفها من يليها) حتى هزمت في الحرب العامة
(الأوروبية) الأولى، إلى أن تقاطع النصارى أغلب أراضيها الإسلامية فيما بينهم تحت
مسميات الانتداب أو الاحتلال الصريح.
ومع أن احتلال دول النصارى لديار الإسلام ليس أمرًا طارئًا كما فعلوا
باحتلال بعض أقاليم الشام عقودًا طويلة إبان الحروب الصليبية، إلا أن تقسيم أسلاب
دولة الخلافة العثمانية بحسب اتفاقية سايكس بيكو كان ثقيلًا شديدًا مروّعًا؛ فمن
هنا كثرت نداءات بعض الكتاب والخطباء الإسلاميين برد الخلافة من جديد، ومع تكرارهم
وتبني بعض الجماعات لتلبية هذا النداء صارت إقامة الخلافة الإسلامية أصلًا وغاية وهدفًا
أسمى لدى قلّة من المتعجّلين، حتى ولو أحرقوا في سبيل إقامتها الأصول المِلّية القرآنية الحقيقية
كتحقيق التوحيد، واتّباع حذافير السُنّة، وحفظ عقود الولاء والبراء الإيمانية، وما
يلي ذلك كترك التحزب لسوى الإسلام! فمن هنا صارت الوسيلة (وهي إقامة الخلافة)
أصلًا وغاية مقدمة على ما سواها، وتتكسر عند أعتابها كل شعب الإيمان.
وهذا هو مكمن الخطأ الفاحش الذي لا بد من تصحيحه في الأذهان
والميادين. فإقامة دولة تحمل الإسلام الصافي النقي هي الغاية السياسية لمغازي
المسلمين، أما توسيعها على حساب صفاء الحنيفية فليس من التوفيق في شيء. ومن هنا
نقول: إنه لا تنبغي لنا شِدة المبالغة في المطالبة بإعادة الخلافة السياسية ما لم تقم
الخلافة الإيمانية السنية الحنيفية في قلوب الناس أوّلًا، فالتوحيد أوّلًا لو
كانوا يعلمون، وتدبر سورة هود عليه السلام تجد أن رسالة كل نبيّ التي لا يتقدمها
شيء هي: ﴿أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ﴾ [هود: 2]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بنى الدين في القلوب إبّان الفترة
المكية قبل بناء أوطان الدين في المدينة، وعليه فإن تيسر حكم رشيد يختصر الأمر
فتوفق الأمة لولي أمر رشيد يأخذ بها للهدى فنعمّا، أما أن يكون الحكم والرئاسة هي
الهدف الأسمى ولو على حساب البدء بتحقيق التوحيد وإحسان الاتّباع في حياة الناس فهذا
خطأ منهجي كبير.
وبالجملة؛ فموضوع الخلافة محمود مشكور مشروع من حيث الأصل، لكن لا بد
من معرفة أن هذا المشروع هو بحد ذاته وسيلة لإقامة دين الله تعالى في الأرض، لا
أنه هو دين الله في نفسه، ومتى انقلبت الوسيلة أصلًا؛ انتقص حينها من الغايات بقدر
ذلك.
ومن ذلك أن بعض الناس قد تساهلوا في دعوة الناس لأصل التوحيد والسنة
ومنهج السلف في أصول الاعتقاد وتهوين أصل الولاء والبراء، كل ذلك في سبيل الاجتماع
بحبل واهنٍ سمّوه الاجتماع في الجماعة لإقامة الخلافة.. ثم كان ماذا؟!
إنّ الذي أمرنا بالاجتماع وترك التفرّق وإقامة أخوة الإسلام وإعداد
العدة لإرهاب أعداء الله هو الذي أمرنا بعبادته وتحقيق دينه، فإن اجتمعنا في الدين
وأصوله فقد اجتمعنا على الحقيقة شرعًا حتى وإن تفرقنا في الأجساد أو اختلفت البقاع
واختلفت الألوان الجنسيات ونحو ذلك، لهذا نكرر القول بأن الاجتماع السياسي لجميع
المسلمين تحت ظل دولة واحدة هو حسن طيب مشروع، ولكن لا بد أن نعلم أن هذا الاجتماع
السياسي هو في ذاته وسيلة لإقامة الاجتماع الديني الذي هو الغاية، وإنما يأتي
الخلل لدى من جعل اجتماع السياسة غاية؛ فيضحّي على مذبحه بقربان اجتماع الدين!
فيتعاون بعضهم فيما اتفقوا عليه (من السعي لإقامة الخلافة) ويعذر بعضهم بعضا فيما
اختلفوا فيه من اختلاف أصول الملة، حتى ولو كان من بينهم من يستغيث بالأموات ويعبد
آل البيت أو يجحد علوّ الله تعالى، فأيُّ دين هذا، وأيّةُ دعوة تلك! وتدبر قول
ربنا الأعلى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ
رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ
هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ
فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٣٦﴾ [النحل: 36] وقال رسول صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، ليكن أول ما تدعوهم إليه
أن يوحدوا الله تعالى» ().
فمن أراد إحسان الاتّباع فليبدأ من هنا.
وحتى لا يتوسع بنا
البحث فيتشعب الكلام ويضيع المقصود يحسن بنا ذكر مثال يتضح منه مقصود المقال وهو كالتالي:
فلو افترضنا وجود
ولايتين متجاورتين كل منهما على الإسلام ومذهب أهل السنة والجماعة وقائمتان بالشرع؛
فهل يشرع ضمّ أحداهما للأخرى بالسيف بحجة توسيع رقعة الإسلام (وهي دعوى لتوسيع الولاية،
وما ذكر الإسلام حينها إلا ذريعة موصلة للغنيمة، لأن الإسلام قائم في تلك البقعة أصلًا).
إنّ إقامة الولاية المقيمة للشريعة فرضٌ، ولكن توسيع هذه الولاية على
حساب ولايات إسلامية أخرى قائمة فهذا هو محلّ النقاش. والي يظهر ويترجح هو القول
بأن الولايتان إن كانتا على الإسلام، وعلى السنة، وعلى المعروف والخير، وليست إحداهما
مانعة من نشر الإسلام على من يليها بكل طريق مشروع؛ فلا يشرع حينها غزوها
واحتلالها وتوسيع نفوذ الولاية الأخرى على حسابها إذا كان ذلك لا يكون إلا بالحرب
والقتل وفتن الدماء، والأمر بحرمة قتال المسلم لأخيه قد ذُكر بوصف الكفر تشنيعًا
وإعظامًا لحرمة الدم المسلم، مهما كانت ذرائع أهل الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم:
"سبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ"(). وقال تبارك
وتعالى في ذكر وعيده الشديد لمن قتل مسلمًا متعمدًا: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا
فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ
وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣﴾ [النساء: 93] فما من نقطة دم أهريقت
بحرام إلا كان لها من الله طالبًا، وغدًا إعتاق أو إيباق، ومعلوم من فقه الفتن أنه
عند الاشتباه يتعيّن الكفّ عن القتال حتمًا.
أما إن كانتا ستتحدان بدون فتن ودماء فهذا طيب محمود، وأنّى يكون هذا
فشهوة السلطة والرئاسة لا تعلوها شهوة عند مَن ملكها، سوى شهوة الربوبية عند أمثال
فرعون! وأنّى زمّها إلا بدين عظيم وإيمان عالٍ وزهد كبير، والله المستعان. وعليه؛ فإن
اتفقتا على الاتحاد فيما بينهما؛ فهذا حسن جميل ومشروع ومحمود ومشكور، ولكن إن
امتنعت إحداهما فهل لعاقل أن يقول بجواز حرب الولاية أو الدولة الثانية، وسفك الدم
المعصوم، وأخذ المال الحرام، وتخويف السبل، وترويع المؤمنين، والتسبب في مفاسد
الفتن العميّة؟!
أما إن كانت حقيقة التوسع هو أن البلاد الإسلامية المتاخمة لا تقيم
شرع الله تعالى، وليس الدين فيها لله؛ فحينها يشرع ذلك بشرطه. أما غزو المشركين
فمشروع، وهي الشعيرة الغائبة في الأمة منذ أزمان، وهو جهاد الطلب لإعلاء كلمة الله
تعالى، والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ
يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ
أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣﴾ [التوبة: 123] وقال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ
حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ﴾ [الأنفال: 39]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن ماتَ ولَمْ
يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ» ().
لذلك فكثير من حروب الدول الإسلامية عبر التاريخ إنما هي في الحقيقة
قد أقيمت لتوسيع الملك لا لإقامة الدين، بدليل حالهم وقت الحرب وبعد الحرب، والله
المستعان.
وبالجملة؛ فإن السعي لإعادة الخلافة لا بد أن يُحسَن تصوّره أوّلًا:
بأنّ حقيقته ليست محصورة بإقامة دولة إسلام، بل بتوسيع دولة الإسلام، فهذا التصور
الصحيح ينتج عنه إحكام التكييف الفقهي للمسألة، لأن بعض من يكتب في هذه المسألة
يختِلُ القارئ بمقدّمات يختمها بموجِبات، كي يصل لجعلها أولى المهمات، فيتحدث عن
فضل الجماعة (وهذا حقٌّ، وهو حاصل بإقامة أي دولة إسلامية في الأرض، ولو تعددت تلك
الدول، فإن تيسر اجتماعها فخير وحسن، وهو واجب عند توفر أسباب إمكانه بلا مفاسد
أعظم، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)، وفضل الاعتصام بحبل الله جميعًا وعدم
التفرّق (وهذا حق أيضًا، وهو حاصل بالاعتصام بالقرآن والاجتماع عليه حتى وإن تعددت
الدول اضطرارًا، أما توسيع دولة الإسلام فستأتي تبعًا في حينها ما دام المسلمون
معتصمون بالقرآن العظيم)، فمتى أقمنا الإسلام في أنفسنا؛ أقامه الله تعالى لنا في
أرضه، ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ
١٢٨﴾ [الأعراف: 128]. فالغاية إقامة الدين،
فلو تعارضت غاية إقامة الدين مع غاية توسيع البلاد فالمقدّم المحتّم هو إقامة الدين،
فهي غاية قد حصلت، وكل ما يغامر بها لأجله فباطل، حتى ولو بحجة إقامة الدين.
علمًا بأن كلامنا هذا ليس في معرض تجويز تعدد الأئمة من عدمه، فالأصل وجوب
إقامة إمام واحد للمسلمين كافة مع الإمكان، وحرمة تعدد الأئمة حتى وإن تباعدت
الأقطار، والإجماع منعقد على ذلك، وقد نقل الإجماع الماوردي()
وابن حزم()
وأبي المعالي الجويني()
وابن القطان()
وغيرهم، وعليه المذاهب الأربعة.
إنما كلامنا هنا هو في حكم التعامل مع واقع الحال الذي تعددت فيه
الدول والأئمة لبلاد الإسلام، لا إنشاء واقع آخر ابتداء، لهذا فلا ترد علينا مسألة
حكم تعدد الأئمة، والذين جوزوها اشترطوا الضرورة دفعًا لمفسدة أعظم، فيصح في
الاضطرار تعدد الأئمة، ويأخذ كل إمام في قُطرِه وبلده حكم الإمام الأعظم، حتى يجمع
الله تعالى المسلمين على إمام واحد يسوسهم بالقرآن العظيم، والله أعلم.
وقد نبه لهذا
المعنى شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: «وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلَاّ منهما
ينفذ حكمه في أهلِ ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء
فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كلٌّ من الطائفتين لإمامين،
ولكن كل طائفة إْمّا أن تُسالِمَ الأخرى، وإما أن
تحاربها، والمسالمةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررُها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه
الآراء والأهواء» (). وقد بسط الشوكاني رحمه الله الاستدلال لجواز تعدد الأمة عند الضرورة
في السيل الجرار().
لذلك نقول في الخاتمة كما قلنا في الابتداء: إنّ إقامة الخلافة التي
بمعنى توسيع رقعة ولاية الإسلام بإدخال بقية دول الإسلام تحت راية دولة إسلامية
واحدة هو هدف طيب نبيل مشروع، لكنه في الحقيقة سببٌ لا غاية، فلا يجوز بحال
التضحية بالغاية وهي تحقيق الدين في الفرد والجماعة لأجل هدف إقامة تلك الوسيلة،
فشرف الوسيلة لا يبيح معصية الله لتحقيقها، وكما قالت أم المؤمنين الصديقة رضي
الله عنها: «كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤُم دونه شرف فالشرف أولى به»
().
وقال الشاعر في مثل هذا:
ومن يكُ ذا لؤم ومجدٍ يعدهُ ... فأولى
به مِن ذاكَ ما كان أقربا
فلا لؤم عودًا بعد مجدٍ يهدُّه ... ولا
مجدَ معدودًا إذا اللؤم عَقّبا
وبالله التوفيق، والحمد لله رب
العالمين.
إبراهيم الدميجي
30 شوال 1447