إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 14 أبريل 2013

"وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيْدًا" بينَ الأحزابِ, وشَقْحَب, ومَلَاحِدَةِ الزَّمَانِ!


"وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيْدًا"
بينَ الأحزابِ, وشَقْحَب, ومَلَاحِدَةِ الزَّمَانِ!

    الحمد لله معزّ من أطاعه ومذلّ من عصاه, هو أهل التقوى وأهل المغفرة, أقسَم بالعاديات الموريات المغيرات تعظيمًا لشأن القتال لإعلاء كلمته, وجَعَلَ الجهاد في سبيله ذروة سنام دينه, وكتب الذل على من رضي بالدُّونِ دون سُبُحُاتِ العُلَى من ذُرَى معالِي مراضِيه وسياحة أوليائه, بالقتال لإعلاء كلمته وإعزاز دينه وهداية خليقته وإغاضة أعدائه.وأشهد أن لا إله إلا الله, جعل أرواح الشهداء عنده في حواصل طير خضر, تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش, فيقول لهم عز وجل: ما تريدون؟ فيقولون: ما نريد شيئا، ويقولها ثلاثا، إلا أن نرد إلى الدنيا فنقتل. حديث صحيحٌ رواه الطيالسي والترمذي. وصلى الله وسلم وبارك على الضحوك القتال, نبي الرحمة والملحمة, من أُنزلت عليه سُوَرُ القتال والأحزاب والأنفال والتوبة. جاهد في الله حق جهاده بجَنَانِه ولِسانه وسِنانه, بيقين وثبات وشجاعة وصدق ونصح, فأكمل كلّ مراتب الجهاد في سبيل ربّه, وأتمَّ كلّ شعب الإيمان بلا مثنوية, فلا كان ولا يكون في الخليقة مثله في عبوديته لربه تبارك وتعالى. أما بعد:
    فقد قال الله تبارك وتعالى: :ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل: 89)  وقال سبحانه وبحمده: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها" (الزمر: 41) وقال تعالى جَدُّهُ: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" (الإسراء: 82) وقال جل شأنه: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين , قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا هو خير مما يجمعون" (يونس: 57_58) وقال تقدّس اسمه: "أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون" (العنكبوت: 51) ففي القرآن العظيم كل الهدى, وعلى قدر القرب من الهداية يكون التوفيق والرشاد.
   وقال جل وعز: "وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم" وقال جل ذكره: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغال فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا" وقال سبحانه وبحمده: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشدّ بأسًا وأشدّ تنكيلًا" وقد ذكرت نصوص الوحي ثلاثة ألفاظٍ يحسُنُ التفريق بينها للخلط في فهمها عند الناس؛ القتال والجهاد والشهادة:
   فالأول: القتال, وهذا لا يكون إلا في سبيل الله, فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله, دون من قاتل حميّة أو شجاعة أو ليُرى مكانه أو للمغنم أو غير ذلك من حُطَامِهَا.
   والثاني: الجهاد, وهو عامٌّ وخاصٌّ, فالعامّ هو استفراغُ الجُهْدِ لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وهداية خلقه كما قال سبحانه: "وجاهدهم به جهادًا كبيرًا" وقال سبحانه: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" أما الخاص منه فهو الجهاد في سبيل الله في ميادين الوغى, وذلك يكون بالنفس والمال كما قال سبحانه: "انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم  في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" وقال سبحانه: "لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون"
   والثالث: الشهادة, وهي مطلقةٌ ومقيدة, فالمطلقة: هي ما سُمي صاحِبُها شهيدًا في الشريعة, تفضّلًا من الله وتطوُّلًا على هذه الأمة المرحومة تكثيرًا لشهدائها, والمُقيّدة: هي ما استشهد صاحبها في القتال في سبيل الله.
 وبينهما فرق كبير, فالمُطلقةُ بضعةُ أنواع كالغريق والحريق وصاحب الهدم وصاحب ذات الجنب _داء في البطن_ والمبطون _أي مات بداء البطن_ والمطعون _بالطاعون_ والقتيل ظُلمًا _عند بعض أهل العلم لذكر عمر وعثمان بالشهادة, وعندي أن شهادتهم لأنهم في سبيل الله وليس لمطلق المظلومية_ وغير ذلك مما سُمّي صاحبُه شهيدًا, فكل هؤلاء لهم مسمّى الشهداء في الدنيا والآخرة, فواحِدُهُم شهيدٌ, له مطلق الشهادة وهي دون الثانية بكثير, فهؤلاء شهداء, لكن لا يُقال لهم شهداء في سبيل الله, إلا إن كان ذلك ونحوه بسبب جهادهم في سبيله, كما في الحديث الصحيح عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال: "ما تقولون في الشهيد فيكم؟" قالوا : القتل في سبيل الله, قال: "إن شهداء أمتي إذن لقليل, من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد, و من مات في سبيل الله فهو شهيد, والمبطون شهيد, والمطعون شهيد, والغرق شهيد" (صحيح الجامع: 5602) وقال صلى الله عليه وسلم: "الشهادةُ سبعٌ سوى القتل في سبيل الله: المقتولُ في سبيل الله شهيد, والمطعون شهيد, والغريق شهيد, وصاحب ذات الجنب شهيد, والمبطون شهيد, و صاحب الحريق شهيد, والذي يموت تحت الهدم شهيد, والمرأة تموت بجمعٍ شهيدة" _والجمع هو النفاس_ رواه أحمد وغيره من حديث جابر بن عتيك وصححه الألباني في صحيح الجامع (3739) . فهؤلاء إنما وهبهم الله منزلة الشهادة فضلًا منه ورحمة دون قتال منهم في سبيله, فهم شهداء إما لموتهم دفاعًا عن أنفسهم أو عرضهم أو مالهم, أو لمصبية حلّت بهم رحمة الله, كالطاعون والهدم والغرق ونحو ذلك. 
    أمّا الشهادة المطلقة _وهي الكمال_ فهي منصرفةٌ للشهيد قتيلًا في سبيل الله, صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا, فصاحبها هو الذي حاز مرتبة الشهادة الكاملة بخصالها السّتِّ, مع الحياة البرزخية الحقيقية, مع جعل روحه في حواصل الطير الخضر في جنات النعيم. وهذه المرتبة هي غاية آمال المقرّبين بعد مرتبة الصّدِّيقيّة نسأل الله الكريم من واسع فضله وعميم كرمه وجزيل هباته وعظيم إحسانه, إنه الحي القيوم ذو الجلال والإكرام.
    ألا وإن لأهل القرآن في مواطن الجهاد ما ليس لغيرهم من عظيم البلاء والنية والصبر والصدق. واعتبر ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس في حنين لما انكشف المسلمون أن ينادي: يا أصحاب سورة البقرة. فحملة القرآن قد تغذّت قلوبهم على التنزيل وارتوت من الذكر الحكيم. وقد صاح بها ثابت بن قيس في اليمامة لما انكشف المسلمون فنادى: يا أصحاب سورة البقرة, قال رجل من طيء: والله ما معي منها آيةٌ, وإنما يريد ثابتٌ يا أهل القرآن.
     وقد ذكرَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وقعة اليمامة, ومن قُتل فيها من المهاجرين والأنصار وحملة كتاب الله فقال: أَلَحَّتْ السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار, ولم نجدِ المُعَوَّلَ يومئذ إلا عليهم, خافوا على الإسلام أن يُكسرَ بابُه فيُدخَلَ منه أن ظهر مسيلمة _أي خافوا تبديل الدين بظهور مسيلمة الكذاب_ فمنعَ الله الإسلام بهم, حتى قتل عدوّه, وأظهر كلمته, وقدموا يرحمهم الله على ما يُسرُّون به من ثواب جهادهم مَنْ كَذَبَ على الله وعلى رسوله, ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به, وجعل منادي المسلمين _يعني يوم اليمامة_ ينادي: يا أهل القرآن, فيجيبون المنادي فُرادَى ومثنى, فاستحرّ بهم القتل. فرحمَ الله تلك الوجوه, لولا ما استدركَ خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَمْعِ القرآن؛ لَخِفْتُ أن لا يلتقي المسلمون وعدوَّهم في موضع إلا استحرّ القتل بأهل القرآن.
    قلت: وشهادة ذلك أن المسلمين في اليمامة انكشفوا بسبب اختلاط الأعراب بالمهاجرين والأنصار فيفرّون فيستحر القتل في أهل السابقة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى غلبت حنيفة على الرِّحَالِ, فجعل زيد بن الخطاب رضي الله عنه ينادي وكانت عنده راية خالد: أما الرِّحال فلا رحال, وأما الرجال فلا رجال, اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي, وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن طفيل, وجعل يشتدُّ بالرَّاية يتقدَّمُ بها في نحر العدو, ثم ضارب بسيفه حتى قُتِل رضي الله عنه, فلما قُتل وقعت الراية, فأخذها سالم مولى أبي حذيفة, فقال المسلمون: يا سالم, إنا نخاف أن نُؤتى من قِبَلِكَ! فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي. _وتأمل ذكره لحمل القرآن لا غير_. ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم: الزمها, فإنما مِلاكُ القوم الراية. ثمّ إن سالمًا تقدّم في نحر الكفرة براية المهاجرين,  ثم حفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه, وحفر ثابت بن قيس  لنفسه مثل ذلك, ثم لزما رايتيهما, وكان الناس يتفرّقون في كل وجه منهزمين, _قبل أن تخلُص الرايات لقومها_ وإن سالمًا وثابتًا لقائمان برايتيهما, حتى قُتِلَ سالمٌ, وقتل أبو حذيفة مولاه عليهما رضوان الله تعالى, فوُجِدَ رأسُ أبي حذيفة عند رجلي سالم, ورأسُ سالمٍ عند رجلي أبي حذيفة لقُرْب مصرع كل واحد منهما من صاحبه, وثباتهما مع شدة القتل.
    وتأمل حرص هؤلاء على الشهادة, إذ كان أبو بكرٍ قد دعا زيد بن الخطاب ليولّيه إمرة الجيش فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم أرزقها, وأنا أرجو أن أرزقها في هذا الوجه, وإن أمير الجيش لا ينبغي أن يباشر القتال بنفسه, فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة, فعرض عليه ذلك فقال مثل ما قال زيد, فدعا سالمًا مولى أبي حذيفة ليستعمله فأبى عليه, فدعا أبو بكر خالد بن الوليد فأمّره على الناس, وكان خالد للمسلمين فتحًا رضي الله عنه.
    وعن أبي سعيد الخدري قال: قُتلت الأنصار في مواطن أربعة سبعين, سبعين: يوم أحد سبعين, ويوم بئر معونة سبعين, ويوم اليمامة سبعين, ويوم جسر أبي عبيد سبعين. ألا ما أصبرهم وأصدقهم رضي الله عنهم.
    قال شريك الفزاري: لما التقينا والقوم _أي بني حنيفة_ صَبَرَ الفريقان صبرًا لم أر مثله قطّ, ما تزول الأقدامُ فتُرَى! واختلفت السيوف بينهم, وجعل يُقبل أهل السوابق والنّيّات, فيتقدّمون فيُقتلون حتى فنوا, وذَلَقَتْ فينا سيوفهم طويلًا.
    وتأمل حسن بلاء وصدق حامل القرآن عبّاد بن بشرٍ الأنصاري رضي الله عنه, قال ضمرة سعيد المازني وذكر ردّة بني حنيفة: لم يلق المسلمون عدوا أشد لهم نكاية منهم, لقوهم بالموت النّاقع, وبالسيوف قد أصلتوها, قبل النبل وقبل الرماح! وقد صَبَرَ المسلمون لهم, فكان المعوّل يومئذ على أهل السوابق, ونادى عبَّادُ بن بشرٍ يومئذٍ وهو يَضرب بالسيف قد قُطِّعَ من الجراح, وما هو إلا كالنمر الجريح, فيلقى رجلًا من بني حنيفة كأنه جمل صَئُول فقال: هَلُمَّ يا أخا الخزرج, أتحسب قتالنا مثل من لاقيت؟! فيعمد له عبّادٌ, ويبدره الحنفي ويضربه ضربة بالسيف فانكسر سيفه ولم يصنع شيئًا, وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينوء على ركبتيه, فناداه: يا ابن الأكارم اجهز عليّ, فكرّ عليه عبّادٌ فضرب عنقه, ثم قام آخر في ذلك المقام فاختلفا ضربات وتجاوَلَا, وعبّادٌ على ذلك كثير الجراح, فضربه عباد ضربة أبدى سحره وقال خذها وأنا ابن وقش, ثم جاوزه يَفْرِي في بني حنيفة ضربًا فريًّا, فكان يقال: قتل عبّادٌ يومئذ من بني حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلًا, وأكثَرَ فيهم الجراح حتى إن حنيفة لتذكرُ عبّاد بن بشر, فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مُجَرِّبِ القومِ عبّاد بن بشر. وقال رافع بن خديج الأنصاري رضي الله عنه: شهدنا اليمامة, فكنّا تسعين من النبيت _قلت وهم من بني عبد الأشهل من الأوس_  فلاقينا عدوًّا صُبُرًا لوقع السلاح, وجماعة الناس أربعة آلاف, وحنيفة مثل ذلك أو نحوه, فلما التقينا أذنَ اللهُ للسيوف فينا وفيهم, فجعلتِ السيوفُ تختلي هام الرجال وأكفهم, وجراحًا لم أر جراحًا قط أبعد غورًا منها فينا وفيهم, إني لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه مِنْجَل, فيقيمه على ركبته! فيعرضُ له رجلٌ من بني حنيفة, فلما اختلفا ضربات, ضربه عبَّادُ بن بشر على العاتق مستمكنًا, فوالله لرأيت سَحْرَه باديًا _أي رِئَته_ ومضى عنه عبّاد, ومررت بالحنفيّ وبه رمق فأجهزت عليه, وأنظر بَعْدُ إلى عبَّاد وقد اختلفت السيوف عليه, وهو يُبضع بها ويُبعج بطنُه فوقع, وما أعلم به مصحًّا, وكانوا حنقوا عليه لأنه أكثر القتل فيهم, قال: وحرضت على قتلته فناديت أصحابنا من النبيت, فقمنا عليه وقتلنا قتلته, فرأيتهم حوله مقتّلين فقلت: بعدًا لكم. (الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء: (3 / 55).
     ولقد أنزل الله سبحانه سورة الأحزاب مُجليةً لِأوجهِ حِكِمٍ باهرة غزيرة, إذ وصف سبحانه حال المؤمنين باختلاف درجاتِ إيمانهم ويقينهم وتوكّلِهِم وتسليمهم, وبيّن آثار رحمته بهدايتهم وتثبيتهم ونصرهم, وزلزلةِ أعدائِه أعدائِهم, وهزيمتهِم وخذلانهم.
    ولا تزال الأمة مرميّة عن قوس واحدة من جموع الكفرة باليوم الآخر, مهما اختلفت مشاربهم وتنوّعت طرائقهم, من منافقة وملاحدة وأهل أوثان وأهل كتاب, فمن أفغانستان إلى العراق والشام ومالي وغيرها, في سلسلةٍ لن تنتهي إلا بالملاحم الكبار, "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
    فتلك معركة الأحزاب, وتلكَ معركة شَقْحَبٍ ثمَّ اليوم بتسلُّطِ جموعِ الأحزاب الباطنية والصليبية والملاحدة والمشركة والمنافقة ...كلُّهم على استئصال روح الإسلام المجاهد لإعلاء كلمة الله, ويأبى الله!
    ومن ذلك ما جرى للمؤمنين في القرن الثامن من تسلّط التتار على ديار الإسلام في كرّتهم الثانية, وحربهم لدين المرسلين, وقتالهم أهل ملة محمد وإبراهيم عليهما الصلوات والتسليم. وكان في ذلك الزمان والمكان شيخ للإسلام شهير, ومحبّ للرحمن كبير, ذاكُمْ هو العلَمُ العلّامة والبحر الفهّامة, من جمع الله له بين العلمِ والعملِ, والجهادِ لله وبالله وفي الله بالنفس واللسان والقلم, أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام ابن تيمية الحراني النُّميري, جمعنا الرحمن به ووالدينا والمؤمنين في جنات النعيم. وصدق ابن الزَّمْلَكاني إذْ قال:
ماذا يقول الواصفونَ له   ...  وصفاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ
هو حُجَّةٌ لله قاهرةٌ   ...   هو بيننا أُعجوبةُ العَصْرِ
هو آية في الخلق ظاهرةٌ    ...   أنوارهُها أربتْ على الفجرِ
    وابن تيمية هو بطل شقحب وكسروان بلا مدافع, بشهادة الصناديد البواسل الذين شهدوا تلك الغزاة الرهيبة. ولازالت الثانية _أعني كسروان وهي جبال الباطنيّة النصيريّة الذين سمّتهم فرنسا زورًا العلويين_ في الذاكرة النُّصيريِّة الثأرية الحقود, إذْ ثَلَّ الله بشيخ الإسلام وبمن معه من جند الحقِّ عروش الملاحدة النصيرية, وأنزلوهم من صياصيهم الكسروانية, والزموهم ظواهر الملة المحمدية, بحمد ربِّنا ربِّ البرية.
 ولشيخ الإسلام رحمه الله رسالة كتبها بعد وقعة شَقْحَب العظيمة ضد المغول في الشام, التي أبلى فيها المؤمنون بلاء حسنًا, وكان لابن تيمية فيها مواقف جليلة, من اليقين والشجاعة والثبات وحسن الظن بالله, وحسن تثبيت المؤمنين وتذكيرهم بالله, وحثّهم على إحسان الظن بالله, وتحذيرهم من ظن السوء به تعالى وتقدّس, وقد شبّهها رحمه الله تعالى بغزوة الأحزاب وما فيها من عبرٍ للموحدين, وآياتٍ لله رب العالمين, حريّ بالمجاهدين في سبيل في زماننا أن يطّلعوا عليها, وينهلوا من معين عِلْمها الثرّ وحِكَمِها العالية, فقد جمع الله لهذا الإمام من العلم والفقه والعبادة والنصح والتجربة ما لا يجاريه أحد من عصره إلى عصرنا بشهادة الأكابر الأفذاذ.
    كما أن له رحمه الله موقف جليل مشهور مع قازان (غازان) وذلك عندما زحف جيش غازان التتري من وسط آسيا وإيران نحو حلب, والتقى جيش غازان بجيش الناصر في وادي سلمية يوم 27 ربيع الأول سنة 699 للهجرة, وبعد معركة عنيفة هُزم جيش الناصر, وانهزم الجند وأمراؤهم, ونزح أعيان دمشق إلى مصر يتبعون سير الناصر حتى خلت دمشق من حاكم أو أمير! لكن شيخ الإسلام بقى صامداً مع عامة الناس واجتمع مع كبارهم, واتفق معهم على تسيير الأمور, وأن يذهب هو بنفسه على رأس وفد من الشام لمقابلة غازان, فقابله في بلده النبك _بين دمشق وحمص_ ودارت بينهما مناقشة شديدة, ووعظ فيها ابن تيمية وقرّع وعنّف غازان على ظلمه العباد, ونكثه للعهود.
    وقال شيخ الإسلام لغازان _وكان هناك ترجمان يترجم كلام الشيخ_: أنت تزعم أنك مسلم, ومعك قاض وإمام, وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا, فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا كافرين, وما غزوا بلاد الإسلام بعد أن عاهدونا, وأنت عاهدت فغدرت, وقلتَ فما وفيت!
     وجرت لابن تيمية مع غازان أمور قام بها ابن تيمية كلّها لله تعالى متجرّدًا للحق لا تأخذه فيه لومةُ لائم _ولا نزكيه على الله_ وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل. ثم قرّب غازانُ إلى الوفد طعاماً فأكلوا إلا ابن تيمية, فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم, وكلُّه مما نهبتم من أغنام الناس, وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس؟!
     وغازان مصغٍ لما يقول, شاخصٌ إليه لا يُعرض عنه, وبسبب ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والإعجاب بالشيخ  سأل: من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله أثبت قلباً منه, ولا أوقع من حديثه في قلبي, ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه! فأُخبر بحاله, وما هو عليه من العلم والعمل.
     ثم طلب منه غازان الدعاءَ, فدعا الشيخ قائلًا: اللهم إن كان عبدك هذا إنما يُقاتل لتكون كلمتك هي العليا, وليكون الدين كلَّه لك؛ فأنصره وأيّده, وملّكه البلاد والعباد, وإن كان قد قام رياءً وُسمعة, وطلبًا للدنيا, ولتكون كلمته هي العليا, وليذلّ الإسلام وأهله؛ فاخذُلْهُ, وزلزله, ودمّره, واقطع دابره! وغازان يُؤمّن على دعائه, ويرفع يديه!
    قال الشيخ الصالح الناسك الفقيه أبو عبد الله محمد البالسي: فجعلنا نجمعُ ثيابنا خوفًا من أن تتلوّث من دم ابن تيمية إذا أمرَ بقتله, فلما خرجنا من عنده, قال كبير القضاة وغيره ممن كان معه: كِدْتَ أن تُهلكنا وتهلك نفسك, والله لا نصحبك من هنا. فقال : وإني لا أصحبكم. فانطلقوا عصبة, وتأخّر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه, فتسامعت به الخواتين والأمراء أصحاب غازان فأتوه يتبرّكون بدعائه, وهو سائر إلى دمشق, ووالله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمئة فارس في ركابه, وكنت أنا من جملة من كان معه, وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه, فخرج عليهم جماعة من التتار فشلّحوهم - أي سلبوهم ثيابهم وما معهم .
    قال البالسي _وكان ابن تيمية يحبه_: وجرت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل. البداية والنهاية (14 / 101_104).
    وقال العلّامة أحمد بن يحيى العُمَري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار, في ذكره لبعض مواقف ومناقب شيخ الإسلام: وحكي من شجاعته في مواقف الحرب نوبة شَقْحَب ونوبة كسروان _قلت: والأولى ضد التتار, والثانية ضد الباطنية وبخاصة النصيرية_ ما لم يُسمع إلا عن صناديد الرجال, وأبطالِ اللقاء, وأحلاسِ الحرب, تارةً يُباشِرُ القتال, وتارةً يحرِّضُ عليه.
    وركب البريد إلى مهنا بن عيسى _شيخ العرب_ واستحضره إلى الجهاد, وركب بعدها إلى السلطان واستنفره, وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره _قلت: ومما قاله للسلطان وأمرائه: إن لم يكن لكم حاجة في أرض الشام في زمن الحرب, فسنضعُ لهم من يقوم عليهم غيركم في أيام السلم (ولمّا قال له السلطان فيما بعد _بعد علماء السوء_: إنهم يقولون إنك طامع في الرئاسة والملك! فأجابه بكل عزة وغنى بالله تعالى: إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فِلسين! فابتسم السلطان لعلمه بزهده وورعه وعلمه ودينه)_
      ولمّا جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرّة, وجعل يشجّعه ويُثبته _قلت: فقال له السلطان كُنْ معنا, فقال: بل تحت راية أهل الشام فالسنة أن يكون كل مقاتل تحت راية قومه_ فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لَخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا, وقل: يا الله, واستغث بالله ربك, ووحّده وحدَهُ تُنصر, وقل: يا مالك يوم الدين, إيّاك نعبد وإياك نستعين. _قلت: وذكرني هذا ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه لما صاف جيش طليحة في حروب الردّة وحمل جيش طليحة على الممسلمين حتى صار في ميمنة المسلمين كسرة صاح رجلٌ من طيء بخالد: يا خالد, عليك سلمى وأجأ, فصاح فيه خالد مجيبًا: بل إلى الله الملجأ, وضرّس خالدٌ في القتال, فجعل يُقحِم فرسه وأصحابه يقولون له: الله الله! فإنك أمير القوم, ولا ينبغي لك أن تقدم. فيقول: والله إني لأعرف ما تقولون, ولكني والله ما رأيتني أصبر, وأخاف هزيمة المسلمين, وقاتل بسيفين حتى قطعهما, حتى تراد الناس بعد هزيمة كثيرهم, فحمل المسلمون على المرتدين فاقتلعوهم وأنزل الله نصره على عباده. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نظرتُ إلى راية طليحة يومئذٍ حمراء, يحملها رجل منهم لا يزول بها فِتْرًا, فنظرت إلى خالد وقد أتاه فحملَ عليه فقتله, فكانت هزيمتهم, فنظرتُ إلى الراية تطؤها الإبل والخيل والرجال حتى تقطعت. وعنه قال: يرحم الله خالد بن الوليد, لقد كان له غناء وجرأة, ولقد رأيته يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم في ذلك, ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشد القتال, إن كان مكانه ليتّقي حتى يطلع إلينا منبهرا! فلله در صحابة رسول صلى الله عليه وسلم, وبخاصة المهاجرين والأنصار, ولله هُمْ مِن كُماةٍ بَواسِلَ, قد اعتَجَرُوا البأسَ تحت عجاجِ قصف الرماح وقطع السيوف, لهم في جمرةِ الوَغَى تكبيرٌ وتهليلُ, تجولُ بهم المُغيراتُ  ضربًا على هامة كلّ ظلومٍ كفّارِ_ ثم ما زال يُقبلُ تارة على الخليفة_ أمير المؤمنين الخليفة العباسي أبو الربيع سليمان المستكفي بالله_ وتارة على السلطان  _ أي السلطان المملوكي الملك الناصر_ ويُهدّئهما, ويربط جأشهما, حتى جاء نصرُ الله والفتحُ. وحُكي أنه قال للسلطان: اثبُتْ, فأنت منصورٌ, فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله تعالى, فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا, فكان كما قال. مسالك الأبصار, للعُمري (302_303) وملخص وقعة شقحب باختصار عن البداية والنهاية للحافظ العماد ابن كثير (14 / 27_32):
    لما قدم التتر الشام, قدمت لحربهم مع الشاميين طائفة كبيرة من جيش المصريين, فيهم الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير حسام الدين لاجين، والأمير سيف الدين كراي، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى. فقويت القلوب, واطمأن كثير من الناس، ولكن كان الناس في خوف عظيم في بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر, فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقلق الناس قلقًا عظيمًا، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش.
    وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدّث الناس بالأراجيف, فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان, وتحالفوا على لقاء العدو، وشجّعوا أنفسهم، ونودي بالبلد: أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس, وجلس القضاة بالجامع, وحلّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة, فاجتمع بهم في القطيعة, فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله" [ الحج:60 ].
    وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر, من أي قبيل هو؟ فإنهم يُظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقتٍ ثم خالفوه؟
    فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحقّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطّن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار, وقويت قلوبهم ونيّاتهم ولله الحمد.
    ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين؛ فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال, فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان!
    فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة, فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة، و قيل إنهم وصلوا إلى القطيعة _قلت: لعلّها: القطيفة_ فانزعج الناس لذلك شديدًا, ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلات القلعة والبلد, وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس, وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنّوا إنما خرج هاربًا, فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا: أنت منعتنا من الجَفل وها أنت هارب من البلد؟! فلم يرد عليهم. وبقي البلد ليس فيه حاكم، وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة, وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينًا وشمالًا، وإلى ناحية الكسوة, فتارة يقولون: رأينا غبرةً فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم،  فانقطعت الآمال, وألح الناس في الدعاء والابتهال, وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.
    وكان الناس في خوف ورعب لا يعبّر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبًا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين عند ابن ماجه " عجب ربك من قنوط عباده وقرب غِيَرِهَ ينظر إليكم أزلين قنطين فيظلّ يضحك يعلم أن فرجكم قريب ".
    فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشّر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل, وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا: إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به، ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة, فعلقت القناديل, وصليت التراويح, واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في همّ شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.
    فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعًا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض.
    أما عن صفة وقعة شقحب: _ وهي قرية في الشمال الغربي من جبل غباغب من أعمال حوران من نواحي دمشق_ فقد  أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سوادًا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة, وكشفوا رؤوسهم, وضجّ البلد ضجةً عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطرٌ عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قُرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة. والتحرّز على الأسوار, فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يومًا مزعجًا هائلًا. وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلًا قليلًا حتى اتّضحت جملة. ولكن الناس لما عندهم من شدّة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون. فلما كان بعد الظهر قُرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها: أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلًا ونهارًا, وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج.
   وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر. وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنّأوه بما يسّر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق, فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم. وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر, وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
    وأفتى الناسَ بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده, ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم "إنكم ملاقوا العدو غدًا، والفطر أقوى لكم " فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي.
    وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتًا عظيمًا، وأمر بجواده فقيّد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المتقدمين معه, وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل, وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم, ولله الحمد والمنة.
    فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم, ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.
    وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في العقود الدريّة في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية:
     وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة, وحصل للناس شدة عظيمة, وظهر فيها من كرامات الشيخ, وإجابة دعائه, وعظيم جهاده, وقوة إيمانه, وشدة نصحه للإسلام, وفرط شجاعته, ونهاية كرمه, وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت, ويتجاوز الوصف.
    قال: ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم المصري صحبة أمير المؤمنين والسلطان الملك الناصر, ووُلاة الأمر, وزعماء الجيش, وعظماء المملكة, والأمراء المصريين عن آخرهم, بجيوش الإسلام سوقًا حثيثًا للقاء التتار المخذولين, فاجتمع الشيخ المذكور  _أي ابن تيمية_ بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم, وكلُّهم بمَرْجِ الصّفر, قِبْلِيِّ دمشق المحروسة, وبينهم وبين التتار أقل من مقدار ثلاث ساعات مسافة. ودار بين الشيخ وبينهم ما دار بينه وبين الشاميين _أي من التذكير, والتثبيت, وحسن الظن بنصر الله, وتعليق القلوب بالله دون سواه_ واتفق له من اجتماعهم ما لم يتفق لأحد قبله من أبناء جنسه, حيث اجتمعوا بجملتهم في مكان واحد, في يوم واحد على أمر جامع لهم وله, مهمّ عظيم يحتاجون فيه إلى سماع كلامه هذا توفيق عظيم كان من الله تعالى له لم يتفق لمثله.
   ثم ساق شهادة لأحد أمراء الأجناد عن شجاعة الشيخ وبأسه عند قتال الكفار فقال: ولقد أخبرني أمير من أمراء الشاميين, ذو دين متين, وصدق لهجة, معروف في الدولة قال:
     قال لي الشيخ يوم اللقاء, ونحن بمرج الصفر, وقد تراءى الجمعان: يا فلان, أوقفني موقف الموت!
    قال: فسقتُهُ إلى مقابلة العدوِّ, وهم مُنحدرون كالسيل, تلوحُ أسلحتهم من تحت الغبار المنعقدِ عليهم. ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت! وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة, فدونك وما تريد.
     قال: فرفع طرْفَهُ إلى السماء, وأشخص بصره, وحرّك شفتيه طويلًا, ثمَّ انبعث وأقدم على القتال. وأمّا أنا فخُيِّلَ إليَّ أنه دعا عليهم, وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام, وما عدت رأيته, حتى فتح الله ونصر, وانحاز التتار إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة, وكان آخر النهار.
     قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضًا على القتال, وتخويفًا للناس من الفرار. فقلت: يا سيدي لك البشارة بالنصر, فإنّه قد فَتح الله ونَصَرَ وهاهم التتار محصورون بهذا السفح, وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم. قال: فحمد الله تعالى, وأثنى عليه بما هو أهله, ودعا لي في ذلك الموطن دعاء وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده.
    قَالَ رحمه الله تعالى في بيان العبر والدروس من تلك الغزاة, واستعرض أحداثها على ضوء أحداث غزوة الأحزاب بنور سورة الأحزاب, مع انتظام الغزاتين في سنن الله الكونيّة والشرعية, وهذا شأن أهل العلم والإيمان, وأن على المؤمن إحسان الظن بربّه, وأن عليه أن يحذر من ظن السوء باختصار واقتصار من مجموع الفتاوى (28 / 424_467) وهو بطوله مذكور في العقود الدرية لابن عبد الهادي (173_224):
   بسم الله الرحمن الرحيم
    إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو, وهو للحمد أهل, وهو على كل شيء قدير, ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد:
    فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا" والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله : "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا" (الأحزاب: 26_27).
    فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام: قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه وابتلى بها نبيه والمؤمنين, مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة, فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي. وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها. وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا. فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها. فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين. ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء, ثم قال : "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى" (يوسف: 111) أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة, كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة. وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" (النازعات: 25_26) وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" (آل عمران: 13) وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر: 2)
     فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الأمم. وذكر في غير موضع: أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة, فقال تعالى: "لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا . ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الأحزاب: 60_ 62) وقال تعالى: "ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا . سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الفتح: 22_23) وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين.
     فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده. ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها, واستطار في جميع ديار الإسلام شررها, وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه, وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه, وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم. وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم. _أي يستأصل_ وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار. وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار! وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا. وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا.
    ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران, وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران, وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان, وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان, حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان! وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان. ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية, كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية, وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة. وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى. فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود. وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه. كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال. وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.
    كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا. وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون. وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون, كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون.
     وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين, الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة. حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين, وآخر خاذل له, وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور. وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما "ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما" (الأحزاب: 24)
    ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وشرع له الجهاد, إباحة له أولا, ثم إيجابا له ثانيا لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله, فغزا بنفسه صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بدار الهجرة وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة. أولها غزوة بدر, وآخرها غزوة تبوك. أنزل الله في أول مغازيه سورة الأنفال, وفي آخرها سورة براءة, وجمع بينهما في المصحف؛ لتشابه أول الأمر وآخره. كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة. وكان القتال منها في تسع غزوات, فأول غزوات القتال: بدر وآخرها حنين والطائف. وأنزل الله فيها ملائكته, كما أخبر به القرآن, ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا؛ فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة ما بين المدينة ومكة شامي مكة, وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة. وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة. ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائمها بالجعرانة, واعتمر من الجعرانة. ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا, وإنما قاتلوه من وراء جدار. فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا هي غزوة حنين. وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار. وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر, ليس معهم إلا فرسان, وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد. وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء. فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحو من ربع الكفار, وتركوا عيالهم بالمدينة, لم ينقلوهم إلى موضع آخر. وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم, ثم صارت للكفار. فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرا قليلا حول النبي صلى الله عليه وسلم, منهم من قتل ومنهم من جرح.
     وحرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم! حتى كسروا رباعيته, وشجوا جبينه, وهشموا البيضة على رأسه. وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله : "وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال" (آل عمران: 121) وقال فيها: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم" (آل عمران: 155) وقال فيها: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين" (آل عمران: 152) وقال فيها: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير" (آل عمران: 165) وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل, فمنهم من تزلزل لذلك فهرب. ومنهم من ثبت فقاتل. فقال الله تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" (آل عمران: 144)
    وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي. وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة؛ من فساد النيات, والفخر, والخيلاء, والظلم, والفواحش, والإعراض عن حكم الكتاب والسنة, وعن المحافظة على فرائض الله, والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم. وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة شارعا في الدخول في الإسلام, وكان مبتدئا في الإيمان والأمان, وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان.
    فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا, وينيبوا إلى ربهم, وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام, فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر, وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام. فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير, ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف. كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة, وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له, وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له" رواه مسلم (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه.
     فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد. وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق. كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الخندق, وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب, وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده صلى الله عليه وسلم, وأعز فيها جنده المؤمنين, وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم.
    ذكر فيها خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته, لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال. كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء. وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق. وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق.
    وكما أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بعض المنافقين ولا يعلم بعضهم كما بينه قوله تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم" (التوبة: 101) كذلك خلفاؤه بعده وورثته, قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم.
    وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام؛ بل يتركونهم وما هم عليه.
    وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها, ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد, فإنه من خصال المنافقين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز, ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق"  _رواه مسلم (1910) قلت: وقال ابن باز رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: أي أن على المؤمن أن يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله, وأنه إن قام الجهاد فلن يتخلف ويقعد, ونحو ذلك_ وقد أنزل الله " سورة براءة, التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه في الصحيحين (17) عن ابن عباس قال: هي الفاضحة؛ ما زالت تنزل (ومنهم, ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها. وعن المقداد بن الأسود قال: هي سورة البحوث؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين. . وعن قتادة قال: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين. وعن ابن عباس قال: هي المبعثرة. والبعثرة والإثارة متقاربان. وعن ابن عمر: أنها المقشقشة؛ لأنها تبرئ من مرض النفاق, يقال: تقشقش المريض إذا برأ. قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الإخلاص: المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق (18).
    وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك, عام تسع من الهجرة, وقد عز الإسلام وظهر. فكشف الله فيها أحوال المنافقين, ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد. ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال. وهذان داءان عظيمان الجبن والبخل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شر ما في المرء: شح هالع, وجبن خالع" حديث صحيح _ رواه أحمد (8010) وغيره_لهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" (آل عمران: 180) وقال تعالى: "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير" (الأنفال: 16)
     وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: "ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون . لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون" (التوبة: 56_57) فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ "لو يجدون ملجأ" يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو "مغارات" لولوا عن الجهاد "وهم يجمحون" أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء, كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
    وكذلك قال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: "فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم" أي فبعدا لهم "طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم" (محمد: 20_21) وقال تعالى: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وا لله عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون" (التوبة: 44_45) فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد؛ وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن فكيف بالتارك من غير استئذان؟! ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى. وقال في وصفهم بالشح: "وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون" (التوبة: 54) فهذه حال من أنفق كارها, فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟!
     وقال سبحانه: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله . والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك. وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة ويستحقها مصالحهم أولى وأحرى.
    فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق, فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب, وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك وجد مصداق ما ذكرنا. وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة كما انقسموا في تلك. وتبين له كثير من المتشابهات.
    افتتح الله السورة بقوله: "يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين" (الأحزاب: 1) وذكر في أثنائها قوله: "وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . ولا تطع الكافرين والمنافقين" (الأحزاب: 47_48) ثم قال: "واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا . وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا" (الأحزاب: 2_3)  فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة - التي هي سنته - وبأن يتوكل على الله . فبالأولى يحقق قوله: "إياك نعبد" وبالثانية يحقق قوله: "وإياك نستعين" (الفاتحة: 4) ومثل ذلك قوله: "فاعبده وتوكل عليه" (هود: 123) وقوله: "عليه توكلت وإليه أنيب" (هود: 88)
     وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين؛ فإن ذلك في الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين؛ وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل, وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة.
    ففيه سنام المحبة كما في قوله: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" (المائدة: 54)
   وفيه سنام التوكل, وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون" (النحل: 41_42) وقال: "قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" (الأعراف: 128)
    ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم, كما دل عليه قوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"(العنكبوت: 69) فجعل لمن جاهد فيه هدايته جميع سبله تعالى, ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" (العنكبوت: 69)
     وفي الجهاد أيضا: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا. وفيه أيضا: حقيقة الإخلاص. فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله, لا في سبيل الرياسة, ولا في سبيل المال, ولا في سبيل الحمية, وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله, ولتكون كلمة الله هي العليا. وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود, كما قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون" (التوبة: 111).
   ثم إنه تعالى قال: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا" (الأحزاب: 9) كان مختصر القصة:
     أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم, وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين. فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد. واجتمعت أيضا اليهود من قريظة والنضير, فإن بني النضير كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذلك كما ذكره الله تعالى في سورة الحشر, فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة, وهم معاهدون للنبي صلى الله عليه وسلم ومجاورون له قريبا من المدينة, فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد ودخلوا في الأحزاب, فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة, وهم بقدر المسلمين مرات متعددة. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة وهي مثل الجواسق, ولم ينقلهم إلى مواضع أخر. وجعل ظهرهم إلى سلع - وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام - وجعل بينه وبين العدو خندقا, والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة. وكان عدوا شديد العداوة لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات.
     وفي هذه الحادثة _أي شقحب_ تحزب هذا العدو من مغول وغيرهم من أنواع الترك ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة ومن نصارى الأرمن وغيرهم, ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين, وهو بين الإقدام والإحجام مع قلة من بإزائهم من المسلمين. ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها, كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين. ودام الحصار على المسلمين عام الخندق - على ما قيل - بضعا وعشرين ليلة . وقيل : عشرين ليلة. وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر -عسكر المسلمين- إلى مصر المحروسة, واجتمع بهم الداعي (21) وخاطبهم في هذه القضية.
     وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم؛ ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف. وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة, بها صرف الله الأحزاب عن المدينة كما قال تعالى: "فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها" (الأحزاب:9)
     وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات, حتى كره أكثر الناس ذلك. وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة. وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله بها العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله, وهلك أيضا منهم من شاء الله, وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال, حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره, ونحن قعود لا نأخذهم؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة.
    وقال الله في شأن الأحزاب: "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا" (الأحزاب: 10_11) وهكذا هذا العام؛ جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات, وهو قبلي الفرات, فزاغت الأبصار زيغا عظيما, وبلغت القلوب الحناجر لعظم البلاء, لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر, وبقرب العدو وتوجهه إلى دمشق, وظن الناس بالله الظنونا:
     هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام.
     وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر.
     وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن, ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام!
    وهذا يظن إنهم يأخذونها, ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها, فلا يقف قدامهم أحد, فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها.
    وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام, كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين, ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام, وهذا ظن خيارهم!
     وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث  والمبشرات أماني كاذبة, وخرافات لاغية! وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت عنده الأمارات, وتقابلت عنده الإرادات, لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب, ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب, ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء. بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر, ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية, ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
     فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء, وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء, "هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا" (الأحزاب: 11) ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم, ويرفع به درجاتهم. وزلزلوا بما حصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات, قال الله تعالى: "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" (الأحزاب: 12)
     وهكذا قالوا في هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية, والخلافة الرسالية, وحزب الله المحدثون عنه, حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الأحزاب: 21)
    فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم, وأما الذين في قلوبهم مرض فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة, فذكروا هنا وفي قوله: "لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة" الأحزاب: 60) وفي قوله: "فيطمع الذي في قلبه مرض" (الأحزاب: 32) وذكر الله مرض القلب في مواضع فقال تعالى: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا" (البقرة: 10) وقال تعالى: "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم" (الأنفال: 49)
    والمرض في القلب كالمرض في الجسد, فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت, فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب, سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه, أو أفسد عمله وحركته.
    ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه, كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحدا. أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك. ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين" (آل عمران: 175) أي يخوفكم أولياءه. وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: "وإياي فارهبون" (البقرة: 40) وقال: "فلا تخشوا الناس واخشون" (المائدة: 44) وقال: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني" (البقرة: 150) وقال: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله" (الأحزاب: 39)
    فدلت هذه الآية _وهي قوله تعالى: "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" (الأنفال: 49)_ على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة التي توجب أمن الإنسان من الخوف, حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم, كما وقع في حادثتنا هذه سواء.
     ثم قال تعالى: "وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " (الأحزاب: 13) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سلع, وجعل الخندق بينه وبين العدو, فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا لكثرة العدو, فارجعوا إلى المدينة. وقيل: لا مقام لكم على دين محمد, فارجعوا إلى دين الشرك! وقيل: لا مقام لكم على القتال, فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
     وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم (27) فينبغي الدخول في دولة التتار. وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن, وإما إلى مصر. وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء, كما قد استسلم لهم أهل العراق, والدخول تحت حكمهم. فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة, كما قيلت في تلك!
     وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض. ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام, وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا _قلت: قرأها عاصم بالضم (مقام) والبقية بالفتح (مقام)_ فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به؟ قال الله تعالى: "ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا" وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي صلى الله عليه وسلم عند سلع داخل الخندق, والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة. أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل. وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر. يقال: اعور مجلسك, إذا ذهب ستره, أو سقط جداره. ومنه عورة العدو. وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو فلا نأمن على أهلنا فأذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان. قال الله تعالى: "وما هي بعورة" لأن الله يحفظها "إن يريدون إلا فرارا" فهم يقصدون الفرار من الجهاد, ويحتجون بحجة العائلة.
     وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة. صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون وإلى الأماكن البعيدة كمصر, ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال, وما يمكن إرسالهم مع غيرنا. وهم يكذبون في ذلك, فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو, كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد. فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟!
    قال الله تعالى: "ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا" (الأحزاب: 14) فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة, وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق, لأعطوا الفتنة ولجاءوها من غير توقف!
     وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم, ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام - وتلك فتنة عظيمة - لكانوا معه على ذلك! كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا, ما بين ترك واجبات, وفعل محرمات, إما في حق الله, وإما في حق العباد, كترك الصلاة, وشرب الخمور, وسب السلف, وسب جنود المسلمين, والتجسس لهم على المسلمين, ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم, وأخذ أموال الناس, وتعذيبهم, وتقوية دولتهم الملعونة, وإرجاف قلوب المسلمين منهم, إلى غير ذلك من أنواع الفتنة.
     ثم قال تعالى: "ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا" (الأحزاب: 15) وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة . فإن في العام الماضي وفي هذا العام في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر, ثم فر منهزما لما اشتد الأمر .
     ثم قال الله تعالى: "قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا" (الأحزاب: 16) فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل. فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" متفق عليه,  والفرار من القتل كالفرار من الجهاد. وحرف "لن" ينفي الفعل في الزمن المستقبل. والفعل نكرة, والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها. فاقتضى ذلك أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا. وهذا خبر الله الصادق, فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.
    والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن؛  فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم؛ بل خسروا الدين والدنيا, وتفاوتوا في المصائب. والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا, حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم, وقل في المقيمين! فمات من  الهرب من شاء الله. والطالبون للعدو, والمعاقبون لهم لم يمت منهم أحد ولا قتل؛ بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون, وهكذا سنة الله قديما وحديثا.
     ثم قال تعالى: "وإذا لا تمتعون إلا قليلا" يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون, فإن الموت لا بد منه. وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل! وهذا جهل منه بمعنى الآية, فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلا, لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا, ثم ذكر جوابا ثانيا, أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل, ثم ذكر جوابا ثالثا, وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة, فقال: "قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا" (الأحزاب: 17) ونظيره قوله في سياق آيات الجهاد: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" (النساء: 78) وقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير" (آل عمران: 156) فمضمون الأمر أن المنايا محتومة, فكم ممن حضر الصفوف فسلم, وكم ممن فر من المنية فصادفته, كما قال خالد بن الوليد لما احتضر: لقد حضرت كذا وكذا صفا, وأن ببدني بضعا وثمانين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم, وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير, فلا نامت أعين الجبناء!
     ثم قال تعالى: "قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا" (الأحزاب: 18) قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة, فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج, ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم, يثبطونهم عن القتال. وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا, فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم, فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة, فانصرف بعضهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ, فقال: أنت ههنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؟! فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك!
     فوصف المثبطين عن الجهاد وهم صنفان بأنهم: إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره, فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما. وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد. كما جرى في هذه الغزاة. فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو, وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا, قال الله تعالى فيهم: "ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم" (الأحزاب: 18) أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله. وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة. وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله, أو شح عليهم بفضل الله من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره, فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله, وهم الحساد.
     ثم قال تعالى: "فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" (الأحزاب: 19) من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع, فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف, فكذلك هؤلاء ؛ لأنهم يخافون القتل "فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد" ويقال في اللغة صلقوكم وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي, ومنه الصالقة, وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة, يقال: صلقه وسلقه - وقد قرأ طائفة من السلف بها ؛ لكنها خارجة عن المصحف -  (30) إذا خاطبه خطابا شديدا قويا, ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته؛ لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير, كما قال: "بألسنة حداد أشحة على الخير" وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه:
     تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتموهم, فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة. وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت, وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا. وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو, وقد غركم دينكم. كما قال تعالى: "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" (الأنفال: 49). وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم! تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم. وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي الشديد.
    وهم مع ذلك أشحة على الخير, أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم. قال قتادة: إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم, يقولون: أعطونا فلستم بأحق بها منا. فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق, وأما عند الغنيمة فأشح قوم. وقيل: أشحة على الخير, أي بخلاء به, لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم.
     وأصل الشح: شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم, من منع الحق وأخذ الباطل, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والشح, فإن الشح أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالظلم فظلموا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا" رواه أحمد (6487) فهؤلاء أشحاء على إخوانهم, أي بخلاء عليهم, وأشحاء على الخير, أي حراص عليه فلا ينفقونه, كما قال: "وإنه لحب الخير لشديد" (العاديات: 8)
     ثم قال تعالى: "يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا" (الأحزاب: 20) فوصفهم بثلاثة أوصاف:
     أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد. وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض, فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
    الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة؟ وإيش جرى للناس؟
     والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا.
     وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة, كما يعرفونه من أنفسهم, ويعرفه منهم من خبرهم.
     ثم قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب: 21) فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو كما ابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلهم فيه أسوة حسنة, حيث أصابهم مثل ما أصابه, فليتأسوا به في التوكل والصبر, ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له, فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلائق؛ بل بها تنال الدرجات العالية, وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا, كالكفار والمنافقين.
     ثم قال تعالى: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما" (الأحزاب: 22)  قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" (البقرة: 214) فبين الله سبحانه منكرا على من حسب خلاف ذلك أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـالبأساء: وهي الحاجة والفاقة, والضراء: وهي الوجع والمرض, والزلزال: وهي زلزلة العدو. فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم قالوا: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله" وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال, وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم, وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره. وهذه حال أقوام في هذه الغزوة قالوا ذلك.
    وكذلك قوله: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه" (الأحزاب: 23) أي عهده الذي عاهد الله عليه فقاتل حتى قتل أو عاش, والنحب: النذر والعهد, وأصله من النحيب: وهو الصوت, ومنه: الانتحاب في البكاء: وهو الصوت الذي تكلم به في العهد .
     ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء, ومن صدق في اللقاء فقد يقتل, صار يفهم من قوله "قضى نحبه" أنه استشهد . لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت. وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد, كما قال تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه" أي أكمل الوفاء, وذلك لمن كان عهده مطلقا بالموت أو القتل "ومنهم من ينتظر" قضاءه إذا كان قد وفى البعض فهو ينتظر تمام العهد. وأصل القضاء الإتمام والإكمال
    "ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما" (الأحزاب: 24) بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم حيث صدقوا في إيمانهم كما قال تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" (الحجرات: 15) فحصر الإيمان في المؤمنين المجاهدين, وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا, والإيمان لم يدخل في قلوبهم, بل انقادوا واستسلموا. وأما المنافقون فهم بين أمرين: إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة.
     وأيضا: فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ليجزي الصادقين بصدقهم, وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله, ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم, والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات, وقد "فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة, لا يغلقه حتى تطلع الشمس من قبله" رواه أحمد (18100) والترمذي (3536) وصححه.
    وقد ذكر أهل المغازي _منهم ابن إسحاق _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخندق: "الآن نغزوهم ولا يغزونا" رواه البخاري (4109), فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها؛ بل غزاهم المسلمون, ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة.
     كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا _قلت: وقد غزا المسلمون بعد هذه الغزاة جبال كسروان وطهروها من الباطنية, بحمد الله_  ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم, ويحسن ظنهم بالإسلام, وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم, فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار, كما قال: "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا" (الأحزاب: 25)
    فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ريح شديدة باردة, وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم ولم ينالوا خيرا. إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة, كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين, فردهم الله بغيظهم, حيث أصابهم من الثلج العظيم, والبرد الشديد, والريح العاصف, والجوع المزعج ما الله به عليم. وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام حتى طلبوا الاستصحاء  غير مرة. _أي صلاة الاستغاثة لطلب الصحو وكف المطر, وهو ضد الاستسقاء_ وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة, وفيه لله حكمة وسر, فلا تكرهوه. فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم, وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم. وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه, ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه.
     وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى يوم دخلت مصر واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين, وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه. فلما ثبت الله قلوب المسلمين؛ صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها, وإن لم يقع الفعل, وإن تباعدت الديار.
   وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا, كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود. كما ذكر ذلك أهل المغازي . فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق, بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي, مثل عروة بن الزبير, والزهري, وموسى بن عقبة, وسعيد بن يحيى الأموي, ومحمد بن عائذ, ومحمد بن إسحاق, والواقدي وغيرهم.
     ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم, مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك. وثبت المسلمون بإزائهم, وكانوا أكثر من المسلمين بكثير؛ لكن في ضعف شديد, وتقربوا إلى حماة, وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط. وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره, فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين. كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون, مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين. وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم.
    وكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب فيهربون, لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل تيزين والفوعة ومعرة مصرين  _هذه الثلاث قرى من ريف حلب_ وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي. وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم بسبب الرفض, وأن عند بعضهم فرامين _جمع فرمان وهو الكتاب, وهو لفظ مولد, ولعل أصل الكلمة من لغة الترك_ منهم؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به. والله تعالى يقول: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون" (الأنعام: 129)
     وقد ظاهرهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل  سيس _ قلت: سيس من أعظم مدن الثغور الشامية وهي واقعة بين أنطاكية وطرسوس. وقد رابط فيها الإمام أحمد رحمه الله إذ كانت في وقته من أعظم الثغور. وكذلك كانت طرسوس  ثغرا عظيما_ والإفرنج. فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهي الحصون - ويقال للقرون: الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب, وقد فعل, ويفتح الله تلك البلاد , ونغزوهم إن شاء الله تعالى, فنفتح أرض العراق وغيرها, وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.
     فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس, وخرجت عن سنن العادة, وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين, وعنايته بهذه الأمة, وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن, وكر العدو كرة فلم يلو عن, وخذل الناصرون فلم يلووا على, وتحير السائرون فلم يدروا من ولا إلى؟ _قلت: وهذه الجمل الأربع كلها من باب كلام البليغ, وهو هنا بحذف الخبر إذا كان معلوما كقول الله الأجل: "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى"  (الرعد: 31)_ وانقطعت الأسباب الظاهرة, وأهطعت الأحزاب القاهرة, وانصرفت الفئة الناصرة, وتخاذلت القلوب المتناصرة, وثبتت الفئة الصابرة, وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة, واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة, ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة, وأظهر على الحق آياته الباهرة, وأقام عمود الكتاب بعد ميله, وثبت لواء الدين بقوته وحوله, وأرغم معاطس _أي  الأنوف, وتأمل الفخامة والجزالة والعزة في هذه الجمل التيمية_ أهل الكفر والنفاق, وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق.
     فالله يتم هذه النعمة _قلت: وهذا أسلوب دعاء بما ظاهره الخبر, وهو شائع في العربية كقولهم رحم الله فلانا, وغفر الله لك ونحو ذلك, كذلك المرحوم على الصحيح_ بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان, ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة, وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة, ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم, ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
    وأسأل الله تبارك وتعالى أن  يعزّ دينه, ويعلي كلمته, ويظهر الهدى ودين الحق على الدين كله, وأن يستعملنا في طاعته, ويستغرسنا في مراضيه, وأن يكلنا في كل أمورنا إليه, هو حسبنا فنعم الوكيل, ونعم المولى, ونعم النصير, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على السراج المنير والنذير والبشير, وآله وصحبه.
إبراهيم الدميجي
4/6/ 1434
aldumaiji@gmail.com

هناك تعليق واحد: