إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 12 أبريل 2013

"يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبِي"


"يَا خَيْلَ الله ارْكَبِي"

   الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلًا وأجلٌ مسمّى عنده ثم أنتم تمترون . وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون " "وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير" أحمده سبحانه وأشكره, وأستعينه وأتوب إليه وأستغفره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومُختارُهُ وصفيُّه, إمامُ المجاهدين, وقائدُ الغرّ المحجلين, صاحبُ الحوضِ المورود, واللواءِ المورود, وعلى آله وصحبه الهُداةِ الميامين. أما بعد:

    إن المتأمل لتعاقب أحداث زماننا الكبرى وتسارعها ليتفرّس _والعلمُ عند الله وحده_ أن لهذا الزمان موعدٌ مع أحداثٍ كونيّة عُظمى, وأن الحكيم القدير سبحانه يستغرسُ عبادًا له في طَيِّ غيبه, يُصنَعون على عينه: أخلصَ دينهم, وهذَّب أخلاقَهُم, وجرّد مطلوبهم, وأصحّ فِقهَهُم, وأقام لهم عبادتهم. لأن اشتداد طَلْقِ الفرجِ يستسقي المُقَرَّبين, ويستقدِمَ الشهداءَ والصدِّيقين, وإذا أراد اللهُ _في العادةِ_أمرًا هيّأ له أسبابه, وهذه الأمة المرحومة كالغيث, لا يُدرى أوّله خير أم آخره؟ ولَكم اشتاق نبي الرحمة والملحمة لإخوانه الذين للواحد منهم أجر خمسين من صحابته المرضيين, فأعظِمْ بها من كرامةٍ لمن هداه الله ذيّاكَ السبيل!  "وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء" "ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم . ويدخلهم الجنة عرفها لهم . يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبت أقدامكم" 

   إنّ هذه الأحداث العِظام لها أبعادٌ ودلالاتٌ ومآلاتٌ اللهُ وحدَهُ يعلمُ حجمها وحقيقتها ومكانها من أحداث الإنسانية جمعاء في المستقبل المنظور!

   ولئن اختزلها عُبّادُ الصليبِ وعُزير بثورةِ مادّة؛ فلعمر الحق إنها لفوقَ ذلك, وأسمَى وأجلّ مما هُنالك, وأكرم وأجلى من كل ما يدّعونه ويُزيّفونه.

   إنها دمشق! الملاحمُ من أكنافها تقدحُ شررَها, والالويةُ من غوطتها تعقد بيارقها, والكتائبُ من هضابها تنحدر كالسيل لموعود ربها! فيا لله كم من أملاك ربي لأجنحتها على الشام باسطة, ويا لله كم من رَضِيٍّ مرْضِيٍّ بحالِهِ ولسانِهِ وسلاحِهِ "وعجلتُ إليك ربِّ لترضى"

   ولا تصحّ بحالٍ مقولة: التاريخُ يُعيد نفسه! فالتاريخ  ظرفُ زمانٍ, ومحلُّ قضاء وقدر الرحمن, والله سبحانه  هو الذي يُجري الزمان ويُقدِّرُ ويقضي "إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر"

   إخوتي في الله: إن من ضرورات هذه المرحلة ومُحَتّماتها؛ أن يُوحّد المجاهدون كلمتهم, ويجمعوا راياتهم, ويرصّوا صفّهم, ويُفردوا عصاهم, وأن يحذروا التفرّق والاختلاف وذهاب الريح, ولْيعتبروا بافغانستان المجاهدة؛ إذْ عادتْ حِرابُ المجاهدين لِصُدُورِ الفاتحين! والمؤمنُ كيّسٌ فطن, لا يُغدر من جحرٍ مرتين. فعلى كتائب الجهاد وفصائله أن لا يفرحوا بتعدّد الألويةِ, فكَدَرُ الجماعة خيرٌ من صفوِ الفرقة, ولْيعظّموا أمر الشورى, والله جلّ وعز يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" والكَيْسَ الكَيْسَ.

   فيا إخوتاه, أروا اللهَ منكم خيرًا, واعلموا أن الله لا يُخلف الميعاد, وأن سُننه لا تتبدّل, فلا أكرَم عليه من رسوله صلّى عليه وسلم وصحابته مع ذلك أقامَ نواميس كونه وشرعه معهُم لما أطاعوا رسوله وصدقوا التوكل على ربهم, فلمّا خالفوا في أُحِدٍ وحنين أُديلَ عليهم عدوّهم حتى كاد أن يستأصلهم لولا لطف اللطيف البر الكريم الذي ألقى في قلوبهم الإيمان والصبر واليقين, فتنزّلت أمدادُ اللطف والنصر والفتح!

   فهذه سُنَّتُه الماضية سبحانه وبحمده, فإن رأى منكم ذلك هداكم سبلكم, ووقاهم شر أنفسكم, ووكلكم إليه وحده, لا إلى الناس, ولا إلى أنفسكم "وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا"

 كما لابد أن تتّسعَ صدوركم لخلافكم, وأن يرحم بعضكم بعضًا, وأن تنظروا بقلب واحد للخطر الماحق من عدوكم بكافة أحزابه وأمدادِه, الذي يكيد كيدًا كُبَّارًا "وإن كان مكرهم لِتزول منه الجبال" ولكن إن اتقينا الله وأخلصنا له الوجوه فلا نخاف مخلوقًا"إنهم يكيدون كيدًا . وأكيد كيدًا . فمهّل الكافرين أمهلهم رويدًا""فلا تخشوهم واخشوني" "ألا تُقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءُوكم أوّل مرة أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصرْكم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين . ويُذهب غيض قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم . أم حسبتم أن تًتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون" والوليجة: هي البطانة من المشركين.

    فعلى المجاهدين في سبيل الله أن يتدبّروا القرآن, ومهما أجلب أولياء الطاغوت فرب العزّة جل جلاله يقول: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط" إذْ لا بدّ لمن رام استنزالَ معونة الله ونصره وتأييده من تحقيق هذين الأمرين: الصبر, والتقوى. ومجاهدٌ لا يتّقي الله لا خلاق له في الفتح والظفر"الله ولي الدين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات".

    وبالجملة؛ فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله, وليبشر بموعود الله "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبّت أقدامكم" "كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله قويٌّ عزيز" "قال الذين يظنّون أنّهم ملاقو الله كم من فئة قليلةٍ غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبرًا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله""وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين" ولْتكثروا ذكر الله تعالى على كل أحوالكم, فهو من أعظم أسباب النصر والثبات "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون" وأبشروا معشر المجاهدين فإنما هي إحدى الحسنيين, فإما نصرٌ وظفرٌ يشفي الصدور ويشرح النفوس, وإما صُعودٌ لعلّيّين, وارتقاء لجنات النعيم, قد أفلحَ وجهُه, وثبتَ عند الله أجرُه.  وفي سنن النسائي عن رَشْدِين بنِ سعد عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا قال: يا رسول الله, ما بالُ المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلّا الشهيد؟ فقال بأبي هو وأمي وولدي ونفسي: "كفى ببارقةِ السِّيوف على رأسه فتنة" قال ابن القيم في الروح: معناه _والله أعلم_ أنه قد امتُحِنَ نفاقُه من إيمانه ببارقةِ السيف على رأسه, فلم يفرّ, فلو كان منافقًا لما صَبَر ببارقة السيف على رأسه, فدلّ على أن إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه لله, وتسليمها له, وهاج من قلبه حميّةُ الغضب لله ورسوله, وإظهار دينه, وإعزاز كلمته. فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للقتل, فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره.

    وعن المقدام بن معدي كَرِبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أول دفعة من دمه, ويَرى مقعده من الجنة, ويُجار من عذاب القبر, ويأمَنُ من الفزع الأكبر, ويُوضع على رأسه تاجُ الوقار, الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها, ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه" رواه الترمذي وصححه, وكذلك صحّحه الألباني.

ويا إخوتاه, احذروا شؤم المعاصي ومساقط الخطايا ودركات الذنوب, وحظوظ النفس الأمارة من رئاسة أو رياء أو غلول وغيرها, فَلَرُبَّ معصيةٍ أدالتْ الأعداء على أهل الهدى, واعتبروا بالأسلاف, ولله في تدبيره وتقديره حِكَمٌ باهرة, لا تُحيطها الأفهامُ, ولا تدركها العقول! "فاعتبروا يا أولى الأبصار" قال شيخ الإسلام في الفتاوى (18 / 295):  وكثيرٌ من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام؛ جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب, وهو منهيٌّ عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر, والتوكل, والثبات على دين الإسلام, وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون, وأن العاقبة للتقوى. وأن ما يصيبه فهو بذنوبه, فليصبر إن وعد الله حقٌّ, وليستغفر لذنبه, وليسبّح بحمد ربه بالعشيِّ والإبكار .

ولقد قال الشيخ المجاهد عدنان العرعور ختم الله لي وله وللمؤمنين بالحسنى, والشيخ خبيرُ بساحات الجهاد السوري وحاجاته, عليمٌ بكثيرٍ من خفايا ميادين مغازيه التي يُظهرها الإعلام على غير ما هي عليه!

   وقد قال الشيخ مِرارًا: إن المجاهدين هناك ليسوا بحاجة إلى رجالٍ يَنفروا لهم, إنّما هم بحاجةٍ مُلِحَّةٍ للسلاح والعتاد والمال والدعاء. وهذا كله ميسور بحمد الله تعالى. خاصّة مع ما يكتنف الذهابَ إلى هناك في هذه الحقبة من أمورٍ لا تخفى على متأمّل.  وبحمد ربنا فمن جهّزَ غازيًا فقد غزا, ومن خلف غازيًا في أهله بخيرٍ فقد غزا. ولْنحذر جميعًا من مغبّة خلافنا لحديث المجاهد الأعظم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إذ قال: "من مات ولم يغزُ, ولم يُحدّث نفسه بغزو؛ مات على شعبة من نفاق" رواه مسلم, فهلّا غزَوْنا بمالنا, علَّ الله أن يكتبنا مع الغزاة في سبيله المجاهدين لإعلاء كلمته؟

   شاهدُ المقال ومقصودُ الخطاب أمران, لا غِنى لكلّ مجاهدٍ عنهما, حتّى وإن عزَّ فيهما الرفيق والأخ والشريك. على كل جَاهدٍ مُجاهدٍ تحقيقهما طاقته ووسعه, ولْيعلم أنّ التوفيق واللطف والقبول دائرٌ معهما حيث دارا, وعلى قدر تحقيقهما يتنزّل الفَرَجُ, ويتتابعُ النصر, وتعظمُ الفُتوح, ذانك الأمران يا طالب الرضوان هما:

   الإخلاص والمتابعة. فبإخلاص الدين لله, وتحقيق توحيده, وإفراده بالعبودية, ثمّ بتوحيد اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم, وتعظيم سنته, والصدور عنها مهما نازعت النفس الجموح, أو حَرَنَتِ أُختَهَا القَعُود! وقد كتبت سابقًا في فضائل الشام:  يا طوبى للشام:  http://www.saaid.net/arabic/558.htm

   ولقد فتح الله تعالى على ابن القيم يوم كتب مستخلصًا الدروس والعبر من غزوة أحد على ضوء آيات سورة آل عمران إذ بيّن الفرقان بين أولياء الرحمن الذين أحسنوا الظن بربهم وبين من كان في قلوبهم مرض نفاق وسوء ظن, في سِفْرِهِ النفيس الباهر زاد المعاد فقال باختصار واقتصار (3 / 218_239):

    ونذكر بعضَ الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد, وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها في سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: "وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ" [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.

   فمنها: تعريفُهم سوء عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذي أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ" [آل عمران: 152]. فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.

   ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته في رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.

   ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.

   ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم في الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم في هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أنّ لهم عدواً في نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: "مَاَ كانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ" [آل عمران: 179] أى: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذى يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومُهُ الذي هو غيبٌ شهادةً. وقوله: "وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ" [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ" [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيبِ الذي يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.

   ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه في السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حَرْفٍ واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.

   ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم في كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا في الحال التي يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِبادَهُ إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ بحكمته، إنه بهم خبير بصير.

   ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة؛ ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلْعَةَ النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ" [آل عمران: 123] وقال: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً" [التوبة: 25] فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.

   ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ في دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التي تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفّقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

   ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها في سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.

   ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم في محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.

   ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيَّضَ لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحّص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.

   وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: "وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" [آل عمران: 139-141] فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: "إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ" [آل عمران: 140] فقد استويتُم في القرح والألَمِ، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: "إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ" [النساء: 104] فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.

   ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسِ.

   ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.

   وقوله: "واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين في ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.

   ثم ذكر حِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.

   ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد في سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه.

   فقال: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [آل عمران: 142] أى: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.

   فقال: "وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" [آل عمران: 143].

   قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: "ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" [آل عمران: 143].

   ومنها: أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدي موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حيٌّ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغي لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال: "وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ" [آل عمران: 144] والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم.

   ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير،

   ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقيَ منهم لِما أصابهم في سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.

   ثم أخبر سُبحانه عما استنصرت به الأنبياءُ وأُممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم، أن يُثَبِّت أقدامَهم، وأن ينصُرَهم على أعدائهم فقال: "وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ" [آل عمران: 147-148] لما علم القومُ أن العدو إنما يُدَالُ عليهم بذنوبهم، وأن الشيطانَ إنما يستزِلُّهم ويهزِمُهم بها، وأنها نوعان: تقصيرٌ في حقّ أو تجاوزٌ لحد، وأن النصرةَ منوطة بالطاعة، قالُوا: ربنا اغفِرْ لنا ذنوبَنا وإسرافَنَا في أمرنا، ثم عَلِمُوا أن ربَّهم تبارك وتعالى إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم ويَنْصُرْهم، لم يَقْدِرُوا هُم على تثبيتِ أقدامِ أنفسهم، ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنَّهُ بيده دُونهم، وأنه إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم وينصرهم لم يثبتُوا ولم ينتصِرُوا، فَوَفَّوا المقَامَيْنِ حقَّهما: مقامَ المقتضى، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقامَ إزالةِ المانع من النصرة، وهو الذنوبُ والإسرافُ.

    ثم حذَّرهم سبحانه مِن طاعة عدوِّهم، وأخبر أنَّهم إن أطاعوهم خَسِرُوا الدنيا والآخِرَة، وفي ذلك تعريضٌ بالمنافقينَ الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفِروا يومَ أُحُد.

   ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمَن والاه فهو المنصور.

   ثم أخبرهم أنه سيُلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهُجُومِ عليهم، والإقدام على حربهم، وأنَّه يُؤيِّد حزبَه بجند مِن الرعب ينتصِرونَ به على أعدائهم، وذلك الرعبُ بسبب ما في قلوبهم مِن الشركِ باللهِ، وعلى قدرِ الشركِ يكون الرعبُ، فالمشركُ باللهِ أشدُّ شيءٍ خوفاً ورُعباً، والذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بالشِّرْكِ، لهم الأمنُ والهُدى والفلاحُ، والمشركُ له الخوفُ والضلالُ والشقاءُ.

   ثم أخبرهم أنه صَدَقَهُمْ وعدَه في نُصرتهم على عدوهم، وهو الصادقُ الوعد، وأنهم لو استمرُّوا على الطاعةِ، ولزوم أمر الرسول لاستمرَّت نُصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقُوا مركزهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة، ففارقتهم النصْرَةُ، فصرفهم عن عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقِب المعصيةِ، وحُسنِ عاقبة الطاعة.

   ثم أخبر أنه عَفَا عنهم بعد ذلك كُلِّه، وأنه ذو فضلٍ على عباده المؤمنين. قيل للحسن: كيف يعفو عنهم، وقد سلَّط عليهم أعداءَهم حتى قتلُوا منهم مَن قتلوا، ومثَّلُوا بهم، ونالُوا منهم مَا نالوه؟ فقال: لولا عفوُه عنهم، لاستأصلَهم، ولكن بعفوه عنهم دَفَعَ عنهم عدوَّهم بعد أن كانوا مُجمعين على استئصالهم.

   ثمَّ ذكَّرهم بحالهم وقتَ الفرارِ مُصعدينَ، أي: جادِّين في الهربِ والذهاب في الأرضِ، أو صاعدين في الجبلِ لا يَلْوونَ على أحدٍ من نبيهم ولا أصحابهم، والرسولُ يدعوهم في أُخراهم: "إلىَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رسُولُ اللهِ" فأثابهم بهذا الهرب والفرارِ، غمَّاً بعدَ غَمٍّ: غمَّ الهزيمة والكسرةِ، وغمَّ صرخةِ الشيطان فيهم بأن محمداً قد قُتل. وقيل: جازاكم غمَّاً بما غممتُم رسولَه بفراركم عنه، وأسلمتمُوه إلى عدوِّهِ، فالغمُّ الذي حصل لكم جزاءً على الغمِّ الذي أوقعتموه بنبيه، والقولُ الأولُ أظهر لوجوه:

   أحدها: أن قوله: "لِكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلى مَا فَاتَكُم وَلا مَا أَصَابَكُمْ" [آل عمران: 153] تنبيهٌ على حِكمة هذا الغم بعدَ الغمِّ، وهو أن يُنسيَهم الحزنَ على ما فاتهم مِن الظفر، وعلى ما أصابهم مِن الهزيمةِ والجِراحِ، فنسُوا بذلك السبب، وهذا إنما يحصُل بالغمِّ الذي يعقُبُه غمٌ آخر.

   الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنَّه حَصَلَ لهم غمُّ فواتِ الغنيمة، ثم أعقبه غمُّ الهزيمةِ، ثم غمُّ الجراح التي أصابتهم، ثم غَمُّ القتلِ، ثم غَمُّ سماعِهم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قُتِلَ، ثم غَمُّ ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمَّين اثنين خاصة، بل غمَّاً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.

   الثالث: أن قوله: "بِغَمٍّ" [آل عمران: 153] من تمام الثوابِ، لا أنه سببُ جزاء الثواب، والمعنى: أثابكم غمَّاً متَّصِلاً بغمٍّ، جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيَّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وترك استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتهم له في لزومِ مركزهم، وتنازعهِم في الأمر، وفشلهم، وكُلُّ واحد من هذه الأمور يُوجب غمَّاً يخصُّه، فترادفت عليهم الغمومُ كما ترادفت منهم أسبابُها وموجباتُها، ولولا أن تداركهم بعفوِه، لكان أمراً آخَرَ.

   وَمِن لطفه بهم، ورأفته، ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم، كانت من موجبات الطباع، وهى من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيَّض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل، فترتَّب عليها آثارُها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبةَ منها والاحترازَ مِن أمثالها، ودفعها بأضدادها أمرٌ متعيَّنٌ، لا يتم لهم الفلاحُ والنصرةُ الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشدَّ حذراً بعدها، ومعرفة بالأبوابِ التي دخل عليهم منها.

لعَلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقِبُهُ   ...   ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بِالعِلَلِ

   ثم إنه تداركهم سُبحانه برحمته، وخفَّف عنهم ذلك الغَمَّ، وغيَّبه عنهم بالنُّعاسِ الذي أنزله عليهم أمناً منه ورحمة، والنعاسُ في الحرب علامةُ النصرة والأمنِ، كما أنزله عليهم يومَ بدر، وأخبر أن مَن لم يُصبْه ذلك النعاسُ، فهو ممن أهمته نفسُه لا دِينُه ولا نبيُّه ولا أصحابُه، وأنهم يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية.

   وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذي لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففسر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذي ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى في سورة الفتح حيث يقول: "وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيراً" [ الفتح:5]

   وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنَّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِهِ العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ بحكمته وحمدِه، وتفرُّدِهِ بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذي لا يُخلفُهُ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هُمُ الغالبون، فمَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله، وكذلك مَن أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمتَه، وكذلك مَن أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة، وغايةٍ مطلوبة هي أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، "ذَلِكَ ظَنُّ الذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ"[ ص: 27]

   وأكثرُ النَّاسِ يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوءِ فيما يختصُّ بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا يسلَمُ عن ذلك إلا مَن عرف الله، وعرف أسماءَه وصفاتِهِ، وعرفَ موجبَ حمدِهِ وحكمته، فمَن قَنِطَ مِن رحمته، وأيسَ مِن رَوحه، فقد ظن به ظنَّ السَّوء.

   ومَن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقربِ إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السَّوْءِ.

   ومَن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يُعوِّضه خيراً منه، أو مَن فعل لأجله شيئاً لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.

   ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.

   فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّى، ومنعني ما أستحقُه ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟

فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّي لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً

   فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذي له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى.

فَلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ... فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيلِ

وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْرَاً ... وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ

وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ... أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ

وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ... كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ

وَمَا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ... فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ

وَلَيْسَ بِهَا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ... مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ

   والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام مِن قوله: "وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ"[ آل عمران:125]، ثم أخبر عن الكلام الذي صدَر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: "هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيءٍ"[ آل عمران:154] وقولهم : "لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا"[ آل عمران:154] فليس مقصودُهم بالكلمةِ الأولى والثانية إثباتَ القدر، ورد الأمرِ كُلِّه إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى، لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُنَ الردُّ عليه بقوله: "قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ"[ آل عمران:154] ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظَنَّ الجاهلية، ولهذا قال غيرُ واحد من المفسِّرين: إن ظنَّهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمرَ لو كان إليهم، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه تبعاً لهم يسمعُون منهم، لما أصابهم القتلُ، ولكان النصرُ والظفرُ لهم، فأكذبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ في هذا الظنِّ الباطل الذي هو ظنُّ الجاهلية، وهو الظنُّ المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذِ القضاء والقدر الذي لم يكن بُدٌ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمرَ لو كان إليهم، لما نفذ القضاءُ، فأكذَبَهُم اللهُ بقوله: "قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ"[ آل عمران:154]، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به عِلمه وكتابه السابق، وما شاء اللهُ كان ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أم أبَوْا، وما لم يَشَأ لم يكن، شاءه الناسُ أم لم يَشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمةِ والقتل، فبأمره الكوني الذي لا سبيلَ إلى دفعه، سواء أكان لكم من الأمر شيء، أو لم يكن لكم، وأنَّكُم لو كنتم في بيوتكم، وقد كُتِبَ القتلُ على بعضكم لخرج الذين كُتِب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بُد، سواء أكان لهم من الأمر شيء، أو لم يكن، وهذا مِن أظهر الأشياء إبطالاً لقول القَدَرِيَّةِ النفاة، الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤُه اللهُ، وأن يشاء ما لا يقع.

   ثم أخبر سبحانه عن حِكمة أُخرى في هذا التقديرِ، هي ابتلاءُ ما في صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمانِ والنفاق، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافقُ ومَن في قلبه مرضٌ، لا بد أن أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه.

   ثم ذكر حِكمة أُخرى: وهو تمحيصُ ما في قلوب المؤمنين، وهو تخليصهُ وتنقيتُه وتهذيبه، فإن القلوبَ يُخالطها بِغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكمِ العادة، وتزيينِ الشيطانِ، واستيلاءِ الغفلة ما يُضادُّ ما أُودعَ فيها من الإيمانِ والإسلام والبر والتقوى، فلو تُرِكت في عافية دائمة مستمرة، لم تَتخَلَّص من هذه المخالطة، ولم تتمحَّص منه، فاقتضت حِكمةُ العزيزِ أن قَيَّض لها مِن المِحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خِيف عليه منه الفسادُ والهلاكُ، فكانت نعمتُه سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل مَن قُتِل منهم، تُعادِلُ نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمةُ التامةُ في هذا وهذا.

   ثم أخبر سبحانه وتعالى عن توَلِّى مَنْ تَولَّى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاسْتَزَلَّهُمُ الشيطان بتلك الأعمال حتى تولَّوْا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، ازداد بها عدوُّهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجندٌ عليه، ولا بُدَّ فللعبد كلَّ وقت سَرِيَّةٌ مِن نفسه تَهْزِمُه، أو تنصره، فهو يمُدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يُقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمالُ العبد تسوقُهُ قسراً إلى مقتضاها مِن الخير والشر، والعبدُ لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرارُ الإنسان من عدوه، وهو يُطيقه إنما هو بجُند مِن عمله، بعثه له الشيطان واستزلَّه به.

   ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرارَ لم يكن عن نفاق ولا شكٍ، وإنما كان عارضاً، عفا الله عنه، فعادت شجاعةُ الإيمانِ وثباتُه إلى مركزها ونصابِها.

   ثم كرَّر عليهم سُبحانه: أن هذا الذي أصابهم إنما أُتوا فيه مِن قِبَل أنفسهم، وَبِسبب أعمالهم، فقال: "أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قَلْتُمْ أَنَّى هَذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" [آل عمران:165] وذكر هذا بعينه فيما هو أعمُّ من ذلك في السور المكِّية فقال : "وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ" [الشورى:30] وقال: "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ"[ النساء: 79] فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبةُ، فالنعمةُ مِن الله ِ مَنَّ بها عليك، والمصيبةُ إنما نشأت مِن قِبَل نفسِك وعملِك، فالأول فضلُه، والثاني عدلُه، والعبد يتقلَّب بين فضلِه وعدله، جارٍ عليه فضلُهُ، ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه.

   وختم الآية الأولى بقوله: "إنّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" بعد قوله: "قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادلٌ قادر، وفي ذلك إثباتُ القدرِ والسببِ، فذكر السببَ، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عمومَ القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجَبْرَ، والثاني ينفي القولَ بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: "لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [التكوير:28-29].

   وفي ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهى أن هذا الأمر بيده وتحت قدرتِهِ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبُوا كشفَ أمثاله من غيره، ولا تتَّكِلُوا على سواه، وَكَشَفَ هذا المعنى وأوضَحَه كُلَّ الإيضاح بقوله: "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللهً" [آل عمران:166]. وهو الإذن الكوني القدري، لا الشرعي الديني، كقوله في السحر: "وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللهِ"[البقرة:102]

   ثم أخبر عن حِكمة هذا التقدير، وهى أن يعلَمَ المؤمنين مِن المنافقين عِلمَ عَيان ورؤية يتميز فيه أحدُ الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان مِن حكمة هذا التقديرِ تكلُّمُ المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردَّ اللهِ عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدَّى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يُحرم صاحبُه سعادةَ الدنيا والآخرة، فيعودُ عليه بفساد الدنيا والآخرة.

    فللَّهِ كم من حكمة في ضِمن هذه القِصة بالغةٍ، ونعمة على المؤمنين سابغةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وتخويفٍ وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما.

   ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمن قُتل منهم في سبيله أحسنَ تعزية، وألطفَها وأدعَاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"[آل عمران: 169-170] فجمع لهم إلى الحياة الدائمةِ منزلةَ القُربِ منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى, واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سُرورُهم ونعيمُهم، واستبشارهم بما يُجدِّدُ لهم كُلَّ وقت مِن نعمته وكرامته، وذَكَّرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو مِن أعظمِ مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كُلَّ محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهى مِنَّتُه عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم، يتلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلمهم الكتابَ والحِكمة، ويُنقذُهم مِن الضلال الذي كانُوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظُّلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكُلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنالُ العبد بعد حصول هذا الخيرِ العظيم له أمرٌ يسيرٌ جداً في جنب الخير الكثير، كما ينالُ الناس بأذى المطرِ في جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره لِيوحِّدوا ويتَّكِلُوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها مِن الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدراً، وأعظمُ خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالُوه من ثوابه وكرامته، لينافِسوهم فيه، ولا يحزنُوا عليهم، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعزِّ جلاله. ومما قلت قديمًا:

أيا مبتغي الفردوسِ عَجِّلْ بصارمٍ    ...   وَكُن صَادقَ الإقبالِ عند التَّلاقيا

فإن تَحْيَ عِشْتَ العزّ في كلِّ لحظةٍ   ...    وإن كانت الأخرى ستَلْقَى المراقيا

فلِلعبد إن يَصدُقْ ويُمسي مُجَندلاً    ...    شهيداً فقد فاحت دماءٌ زواكيا

لئن نَثَرَ الكفّار كلَّ سهامهم    ...   فما ينصر الإسلامَ غير إلهيا

فلَندْعُوَنَّ اللهَ ليلاً وبكرةَ   ...    ولَيَصدقنَّ اللهَ في الحربِ لاقيا

ومن صَدَقَ الجبّارَ يجبرُ كسرَهُ   ...   ومن نَصَرَ المولى له النصرُ ساعيا

فيا قومِ قوموا فاصدُقوا في لقا العِدا   ...  فمن كَذَبَ الرحمنَ فالقصمُ ماحيا

ويا فارسَ التوحيدِ مالَكَ لا تُرى؟!    ...   فبادِرْ وكُنْ للدين حصناً وحامياً

وأبشرْ أخا الإيمان فالفتحُ قادمٌ    ...   وإن أجلبَ الشيطانُ كلَّ النَّواديا

أيا طولَ يومي ثمّ يا طولَ ليلتي   ...    إذا هيْعَةٌ ثارتْ وما كُنتُ راميا

فيا ربِّ يا ذا الجُود والطَوْل والنّدَى    ...   ويا رَبَّ أملاكاً عِظاماً ثمانيا

ويا كاملَ الأوصاف: هَبْ لي شهادةً   ...    وختِّم حياتي بالسرورِ المُواتيا

فأسألُ ربّي أن تكونَ منيّتي   ...   بعيداً عن الأوطان للشّركِ غازيا

فَخُذْ من دمائي يا سميعاً لدعوتي   ...   فما أطيبَ الآلام إن كنتَ راضيا

ويا ربِّ قَطِّعْنِي وفرّق مفاصلي    ...   بجوفِ طيورٍ أو بُطُونِ العَوَافِيا

أسوقُ لحرْقِ الكفرِ نيرانَ مدفَعِي   ...    وأزرعُ ألغاماً لنسفِ الأعاديا

فهمِّي رِضَى ربِّي بقتلي لكافرٍ   ...    برميِ رصاصِ الحقِّ جمراً غواشياً

لَئِنْ قَرَّبَ العُبّاد كبشــاً وأنعُماً    ...   وَضَحَّوْا لمولاهم بعيراً فَما ليا؟

فيا ربِّ فاقْبَـلْهَا قرابينَ راحَتِي   ...   فِئاماً من الكفِّارِ أضحتْ بَوَاليا

يظُنُّ بيَ المغرورُ ظنَّ سفاهةٍ    ...   ولا عجباً فالكنز في القلبِ خافيا

سيعلمُ من قَدْ فازَ فوزاً ورِفعةً   ...   إذا جُندَلَ المخذولُ تحت السّوافيا

وقد ماتَ سيفُ الله بالأمسِ خالدٌ    ...   وقد خاضَ زحفاً بل حروباً ضواريا

وقد قال قولاً يقدحُ النور في النُّهَى   ...    فلا نامَ من أمسى جباناً وساليا!

فيا ليت شـِعْري أين ميتة من ثوى   ...    قتيلاً كليلاً من قتال البواغيا

ومن ماتَ مثلَ الكلب من شِبْعِ بطنهِ   ...   وقد مات خوّاراً جباناً ولاهيا؟!

فمن ذا يبيع المُستَهَامَ جنانَهُ   ...     فقد نادتِ الفردوسُ من كان ساميا

لَئِنْ قَرَّبَ الرّحمنُ عبداً وأنت لا   ...    فأعظِمْ بِهِ خُسْراً شديداً وكاويا!

أترضى قعوداً يا جبانُ مع النساء   ...    وقد صاح صوتٌ في الرّجال مناديا؟!

تذكَّرْ هداكَ اللهُ يومَ قيامةٍ   ...   به النارُ تُذْكَى من لحومِ الطَّواغِيا

أَمَا عرفَ المسكينُ شِدَّةَ حرّها؟    ...   فيا ويحَ واخُسْراً لمن كان عاصيا!

لئن عَزَّ ديني واسْتُبِيحَتْ جوارحي    ...   فأين مقام العِزِّ إلا مقاميا؟

لك الحمد يا ربًّا عظيماً نوالهُ   ...   بِبَعْثِكَ جُنداً في زمان التَّهاويا

أَيا سامعاً فافهم هُديتَ مقالَتي  ...    وأَرْعِ لها سمعاً من القلب صاغيا

لقد هبّت الأرواح نصراً ونجدةً   ...   فحيَّ هَلاً بالحرب زادت شعاعيا!

فَئِيهٍ حُماةَ الدّين جاءَ عدوُّكمْ   ...    يريدُ بكم كيداً عظيم الدّواهيا

فإن تستجيبوا للكفورِ فخبتمُ    ...   ألا حَبّذَا قَرْمًا عن الدّين حاميا

أيا أمّة الإسلام جِدُّوا وأَدْلجوا  ...   فإن عَرِينَ الليثِ قد بات خاليا

لئن كان للإسلامِ قومٌ ودولةٌ   ...   فهذا أوانٌ للنُّهوض بدا لِيَا

وصلّ إلهَ الناسِ ما مات مسلمٌ    ...   على خيرِ من أرسلتَ للكفر ماحيا

عليهِ سلامُ الله في كلّ ليلةٍ    ...   وفي كلّ يومٍ من جديدِ الزّمانيا

تَمَّتْ وأدعو الله يرحم غُربتي    ...   إذا كان تُرْبَ القبرِ قَسْراً وِسَاديا

إبراهيم الدميجي

3/ 6/ 1434


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق