إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الخميس، 9 نوفمبر 2017

أسباب معينة على الصبر على البلاء


أسباب معينة على الصبر على البلاء
 قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
"أحدها: شهود جزائها وثوابها.
 الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
 الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يُخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
 الرابع: شهوده حقِّ الله عليه في تلك البلوى، وواجبُه فيها الصبرُ بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
 الخامس: شهود ترتّبها عليه بذنبه كما قال الله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغلُه شهودُ هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة، قال علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة.
 السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبوديةَ تقتضي رضاه بما رضي له به سيدُه ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم.
 السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا.
 الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره، قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقال الله تعالى: (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) وفي مثل هذا القائل:
 لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
 التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليَه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا، فإن ثبت اصطفاهُ واجتباه، وخلع عليه خِلَعً الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعله من أولياءه وحزبه.
 وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرد وصُفع قفاه وأُقصي، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأنّ المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا عديدة.
 وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيعُ القلب في تلك الساعة، والمصيبةُ لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
 العاشر: أن يعلم أن الله يُربّي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرجُ منه عبوديتَه في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
 وأما عبدُ السراء والعافية الذي يعبدُ الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
 فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الأيمان النافعُ وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمانٌ يثبُت على البلاء والعافية، فالابتلاء كَيْرُ العبد، ومحكّ إيمانه، فإما أن يخرج تبرًا أحمرَ وإما أن يخرج زَغَلًا محضًا، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبيةُ ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يُخرج المادةَ النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبًا خالصًا.
 فلو علم العبد أن نعمةَ الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية؛ لشغلَ قلبَه ولسانه بشكره، ولقال: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (1).
وكيف لا يشكر من قيّض له ما يستخرج خبثَه ونحاسه وصيّره تِبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظرِ إليه في داره.
 فهذه الأسباب ونحوُها تثمر الصبرَ على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، وألا يفضحنا بابتلائه، بمنه وكرمه"(2).
 1- رواه أبو داود ( 1522 ) والنسائي 3/53 بسند صحيح.
 2- طريق الهجرتين (1 / 502)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق