إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 6 ديسمبر 2013

على ضِفَافِ فولتير


على ضِفَافِ فولتير

   هنا يرقد فولتير. هذا ما كُتب على شاهد قبره في المدفن المخصص لعظماء الأمة في باريس.
   فولتير (1694 - 1778) هذا الاسم البركاني الرنان, واللقب الأدبي المحلّق, الذي استطاع أن يهز أركان أوروبا الفكرية والاجتماعية والسياسية في القرن الثامن عشر؛ حقيق بأن نقف على ضفافه ولو على عجل, ونذكر بعض الفوائد الإنسانية والعبر التاريخية من حياته, وقد قص الله في القرآن قصص الغابرين "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" وأفاد العلامة السعدي رحمه الله من كتاب كارنيجي "دع القلق" ولخص منه في "الوسائل المفيدة"
   إن النظر لمثل هذا الرجل يثري الفكر, شريطة الحصانة بالعلم الدافع للشُّبه التي لا ينفك عنها أمثاله, فإن كان وإلا فالعافية لا يعدلها شيء, وهذا من المُلَحِ النادرة لا العوائد المستمرة, والنافذة قد يأتي منها نسيم عليل, وقد يخالطه الأذى. وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله عن مثل هؤلاء: "كتب المنطق سبب في نفاق من لم يكن خبيرًا بعلوم الأنبياء".
ذكره ديورانت في قصة الحضارة في نحو خمسمئة موضع, بل ولقّب ما يسمى بعصر التنوير عصر فولتير, فجعله على رأس هرم الفكر الأوروبي إذ ذاك. وقال عنه: "ربما كان فولتير أعظم المفكرين حيوية ونشاطًا في كلّ التاريخ!" وقال عنه هيجوك: "لقد كان اسمه يصف القرن الثامن عشر كله, لقد كان لإيطاليا نهضة, ولألمانيا إصلاح، لكن فرنسا كان لها فولتير".
   ولد مريضًا هزيلًا مما حدا ممرضته أن تقول: "إنه لن يعيش أكثر من يوم" فطال عمره فمات عن أربعة وثمانين عامًا, بعدما كتب مئة كتاب إلا كتاب, وملأ زمانه جلجلة فكريّة! وإن غلبه برود المنطق وجفاف الفلسفة على حرارة الروح وطراوة المشاعر.
   قال عنه والده بعد إياسه من تفوّقه في التعليم والعمل: إن ابني لا يصلح لشيء, ولا يرجى منه خير. ولم يعلم أن نصف ملوك وعظماء ومفكري أوروبا سيلقون له أَزِمَّةَ عقولهم وأعنّة تقديرهم! كفردريك الكبير, وكاترين إمبراطورة روسيا, وكتب له كريستيان الرابع ملك الدنمارك معتذرًا عن تأخره في الإصلاحات التي تبنّاها.. وفي مرّة غضب على أحد الباعة فلكمه على أذنه فما كان من سكرتيره إلا أن قال للبائع مواسيًا – وتأمّل -: يا سيدي لقد تلقيت لكمة من أعظم رجل في العالم! وشيّع رفاته عند نقله نحو سبعمئة ألف.
   وقد انتبهت "نينو دي" لملامح النبوغ في هذا الصبي فوهبته ألفي فرنك ليشتري كتبه التي كانت نواة تحصيله الفكري.. وفي هذه لفته لتلمُّحِ الموهوبين بين شبابنا, وإفساح المجال لتفجير عيون الإبداع والابتكار والتميز لديهم, فالنباهة لا تكفي وحدها في التفوق ما لم يصاحبها بيئة صالحة ومحضن لائق.
      نبّه الناس لنبوغه النقدي الساخر في ميعة شبابة بإلقائه الحجر الذي حرّك الراكد المجتمعي, فحينما باع الوصي على عرش فرنسا نصف خيول الاصطبلات الملكية صاح بقلمه الهادر بين الجماهير: كان من الأفضل إطلاق نصف الحمير التي ملأت البلاط الملكي! فانتقم الرجل بإلقائه خلف أسوار الباستيل.. ومن هناك ولد فولتير الجديد, وتحدّد المسار الحادّ المتفجّر لمن بدأ فتل الحبل الذي شنقت به الجماهير لاحقًا الملكية والباباوية, وهزِّه العنيف للباب السامق للسجن الثلاثي "الاستبداد والإقطاع والخرافة" في العصر الأوروبي الوسيط. فابتدأ ذلك الشاب في زنزانته بتبني اسم جديد هو فولتير أما اسمه الحقيقي فكان "فرانسوا أريت".. وفي هذا معتَبَرٌ أن تهذيب الفكر الاجتهادي إنما هو بنقده وتعريته لا بتغطيته, إلا إن كان سامٌّا مخاتلًا, فتُدرأ فتنته, لا سيما القطعيات فالقلوب ضعيفة والشبه خطافة.
   وإني لأعتب أشد العتب على من نظروا للإسلام فقاسوه بالبابوية في العصور المظلمة التي ثار عليها فلاسفة التنوير كفولتير وأصحابه, فشتّان بين هُدى الإسلام وخرافة الكنيسة! قال فولتير: "إن لديّ مئتي مجلد في اللاهوت المسيحي, والأدهى من ذلك أنى قرأتها كلها, فكنت كأنما أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية!" ولئن كان سبينوزا قد شرّح البيبل؛ ففولتير قد دفنه خارج أسوار أذهان الفلاسفة.
لقد كان فولتير واسع الاطلاع, شجاعًا صريحًا, يطعن بحرْبَةِ الهزل أشد ما يكون الجد!
    كان رجلًا يقف دون مبادئه, وليس مجرد منظّر عاجز كسول, ولما قال عبارته الشهيرة: "قد أخالفك القول, ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله" أثبتها في هجومه الشديد على السلطة السويسرية لمنعها وإحراقها كتاب روسو مع اختلافه الجذري مع ذلك الكتاب, بل كان يرى – بسخريته اللاذعة - أن نسبة روسو للفسلفة كنسبة القرد للإنسان!
    كان فولتير لا يرى بأسًا من تديّن الناس بل قد يراه صالحًا - ولو كان خرافة – لأن الإيمان بجزاءٍ غيبي يمنع من كثير من المظالم, ولكن كانت حوادث تولوز, وبشاعة تصرفات الكنيسة الكاثوليكية حيال البروتستانت بتعذيبهم وقتلهم, هي الشرارة التي أوقدت لهيبه, ونفخت نار تنّينه القلميّ, فحمل على الكنيسة أشدّ الحملات, ورماها بالسهام المصمية, وصرخ بشعاره الفولتيري: اسحقوا العار! فصادفت عند الناس سهلًا ومرحبًا.
     ثم ثنّى بالحرب على الملكية والإقطاع, وتفرّس تفرسًا يدعو للإعجاب حين قال: "كل شيء أراه يُنبئ عن ثورة مقبلة, ولن أُمتّع برؤيتها". نعم, فإيقاد النار تحت القِدْر لا يكفي لفورانه ما لم يساعده عامل الزمن, وعُمرُ الدول أطول من عمر الأفراد.
    والعجيب أنه بعد أن كفر بكل الأديان, بنى كنيسة قال عنها: إنها الكنيسة الوحيدة التي بنيت في أوروبا لعبادة الله. وكتب إنه مؤمن بالله, لكن ليس كإيمان الطوائف المختلفة, بل مؤمن بوجود الله, وهو الإله القوي الخالق الذي يجزي بالحسنة ويأخذ بالسيئة.. وفي هذا بيانُ إلحاحِ طَرْقِ الفطرة المستمرّ على جدران قلب الإنسان بالغًا ما بلغ من الإلحاد والتجديف! ففي كل نفس حاجة واضطرار لإله تألهه وتسكن إليه. ولا بد من ظهور جوعةِ التديّنِ صريحةً في نفوس أعتى المادّيين, وبخاصة عند دنو شمس مغيبهم, وهكذا فعل فولتير, فأظهر عبادته قبيل رحيله، بعد أن أنقضت ظهره كآبات الفلسفة.. وهكذا تبخّرت دعاوى المادية!
    لقد مرّ فولتير – القارئ النهم والناقد اللسن – بمراحل ألقت كل مرحلة بظلالها على مكتوباته, فمن ذلك أن تصوّره لنبينا صلوات الله وسلامه عليه كان مشوشًا في البداية, بسبب تلقّفه ما كتبه عنه المتعصّبة, فوافقهم في ذلك, وكتب ما يسوء وجه الحقيقة, لكنه لم يلبث أن تراجع عن كثير مما قال بعد أن طالع كتاب "سيرة حياة محمد" لبولونفيرس, فألف كتابه "بحث في العادات" مدح به الإسلام وأشاد بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم, وكتب بشيء من الإنصاف والإجلال, وإن لم يصل لمستوى جوته وتيولستوي إنصافًا ومحبة وشوقًا.
    لقد كان فولتير – مع تسجيلنا لضلاله - فيلسوفًا أديبًا, إذ جمع سلاسة البيان وإشراق الأسلوب كأنما استعار قلم جوته وبرنارد شو مع عمق التركيز في الفكرة, وحسن تصوير مشهد النفس الداخلي بتناقضاتها كدوستويفسكي وشكسبير, مع قدرة مدهشة على الخيال المُجَنِّحِ, كما في روايته "ميكر وميجاس" واستحداثه زوّارًا من نجم كلب الجبار وحديثهم مع البشر.. ثم نراه يختلس ذهن القارئ بخفة تبز يد الجراح فيحقن المشهد بفحوى تصوّره عن متعة الحياة, وأنها في الفكر والتأمل فحسب, فهو لا يقصد الإمتاع السردي والحبك القصصي بقصد ما كان يستبطن القصص بمادة فكرية جدلية, كروايته الشهيرة "كنديد" مثلًا.. فتلتقط النفس الباطنة المضامين التي تبقى بعد زوال متعة القراءة!
   إذن فكلّ هذه العتاد للأديب المتفوق قد جمعه فولتير, مع تميّزه بأهم صفة طرّزت أدبه, ألا وهي قدرته العجيبة على صبّ المضامين الفكرية في القوالب الأدبية, سواء كانت شعرًا أو قصة أو مسرحية أو نثرًا.. فالعبقرية الفكرية في حاجة لنواقل أدبية, تُبلّل جفافها, وتفرّق سأمها على متون الإمتاع.
   وهذه المَلَكَةُ الفنيّة لا زالت عزيزة المنال عند غير قليل من أدبائنا وروائيينا من ذوي المنزع الخُلُقي الطيب والمنبت الفكري النظيف, أما من سواهم فيا ليت أنّهم يكسرون أقلامهم التي لا تشي سوى بتسطيح الأفكار, أو هدم القيم, أو تحريك كوامن غريزية لدى فئات مُعَذَّبَة, فيؤْذَوْنَ أو يُؤذُون..
   ولئن قلّبت مدوناتهم الأدبية؛ ألفيت كثيرَهَا مجرد تصويرٍ مكرور, أو دوران في حلقة ضيقة, أو سرد قليل العُقَدِ, أو حتى سرقات أدبيّة, والأدهى من ذلك فقرها للفنّ الرِّسالي! فالفنُّ رسالةٌ ومبدأ.
 والأديب المحترف قادر على التسلل داخل حدود الشعور واللا شعور, فيتسلل برفق لمنطقة محظورة على غيره, فيقف على صحيفة القلب والعقل, فيكتب فيها مُنشئًا ومُغيّرًا لتصوّراتٍ وأفكار, ومقويّا أو مضعفًا لنوازع وغرائز.. وهنا مكمن الخطر بطرفيه! بيد أن ذلك الدخول لا يتأتى إلا لمن ملك مفاتيح الولوج للخزانة العقلية عبر بوابة المشاعر الأدبية.. فهي حِمَى مستباحٌ له!
    وهذا سرُّ نفوذ الأدب في الناس, فغالبهم يُصغون لمشاعرهم أكثر من عقولهم, فحرّك إذن بيراعتك تلك المشاعر, ثم يَمّمْها حيث شئت, أمّا إن استطعت حَقن تلك المشاعر والصور والأخيلة بحجج وأفكار بطريق خفيّ يوحي بأنّ المتلقّي هو من اكتشفه؛ فإنك ههنا تكون قد تربّعت على عرش الأدب الموجِّه, وملكت أزمّة مشاعر الجمهور..

إطلالة: المثاليةُ شاقّةٌ في عالمٍ فوضوي!
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق