تعلّمْ أن تُحِبَّ النّاس
الحمد لله وبعد: فما هو الشيء الذي يسعى لتحصيله كل الناس ويبذلون
لأجله أغلى ما عندهم ثم في النهاية لا يحصّله على التمام إلا الأقلون؟
إنه السعادة, وهي ذلك المزيج الشعوري الجميل بإدراك المُنى, وتعظم
السعادة حينما تكون الأمنية عظيمة وإدراكها تامًّا, فكلما قويت الرغبة ازدادت نشوة
الحبور عند إدراكها, وتأمل أعظم نعيم الجنة بلذة النظر إلى وجه الجميل سبحانه!
فاللهم نسألك من فضلك العظيم.
في هذه الدنيا لا يخرج الإنسان عن ثلاثة أحوال – مع تعاقبها عليه –
فإما أن يزيد زمان سعادته على عدمها, أو العكس, أو استواء الطرفين. وكل إنسان يسعى
لتكميل نقص أسبابه لتحصيل رغيبته العاجلة أو الآجلة. وهل أنعم من الراحة والعافية!
تريد راحة نفسك إذن فلا تُعلّقها بما لا بد لها من فراقه من حطام
الفانية أو سُكّانها. فعلى قدر زهد قلبك تفوز براحة روحك, فنعيم الدنيا مُنغَّصٌ
مهما استدارت بك ألطافه, وأكدارها زائلة مهما لوّعتك خطوبها, بل لا شيء لأجلها
يستحق الكراهية.
تريد نعيمًا لا كدَّ فيه ولا كدر معه, ابشر به فهو في متناولك, إنه حب
الخير للناس. وإنه ليسير على من يسره الله عليه, وإن الموفق المحظوظ هو من أكرمه
الله به. فهو جَنَّةٌ قبل الجَنَّةِ, وراحةٌ قبل الراحة, وسرورٌ يستتبع سرور.
أّولا يكفيك يا صاحبي: "حتى يحب لأخيه"؟ وإن لنَيْلِهِ طرائق وأسبابًا منها عشر أُراها
مفيدة:
1- أحبب نفسك أولًا:
فتعلّم أن تحب نفسك وأنّى لك ذلك إلا إن أحسنت التعرّف إليها فهي بعيدة
على قربها وعميقة على قرب تناولها, وصعبة على يسرها. تذكر عيوبك المستورة
والمنظورة, واكشف نوازع نفسك, وكن صريحًا في تفتيشها, واحذر خداعها وتلونها, فعقلك
قد يخدعك من حيث لا تشعر.
جِماعُ ذلك أن تكون كما أنت
بلا تكلّف ولا تصنّع, أرسل نفسك على سجيتها, فكن بطبيعتك ولا تدّعي لنفسك زكاءً
أصفى, ولا ذكاءً أحدّ, ولا علمًا أغزر, ولا مالًا أكثر, ولا مقامًا ليس لك.
فأول درجةٍ في سلم الراحة أن تكشف نفسك كما هي, فلا تُعليها ولا تُدنيها
إلا تواضعًا, وليس الإزراء بأشدّ من الاستعلاء, ومن تواضع لله رفعه. وليس معنى ذلك
أن تسوطها بسياط الكبت والهضم لما لها فيه سبب فلاح ولطيفةُ فرحٍ, والقصدَ القصدَ
تبلغوا.
2- الحياة أقصر من إضاعتها في الأحقاد والكراهية:
لو رحلت لنزهة قصيرة مع من تحب وقد تعبت في إعدادها فهل ستسمح بسرقة
سويعات من وقتك الباهي وزمنك الزاهي في خصومات تكدّر صفو سعادتك في تلك السياحة؟
قطعًا لن تفعل وسيقول حالك: في باقي الزمان متسع للنكد فَلِمَ العجلة؟! فأقول لك
يا محب: فالدنيا بأسرها كذلك لمن يحسن حساب الزمن, وما هي إلا سنوات وترحل عنها
بعمرك الذي اضمحل في تضاعيف أحداثها, وتنسى كما نُسى سابقوك, فابتهج واسعَدْ
وأَسْعِدْ, لا تحبس نفسك في تراث حقدك, وانطلق ففي الحياة متّسع, انتزع رمح الحقد
القاتل من قلبك, فلا تسمح لكدر الحقد إن وصل قلبك أن يطيل مكثه أكثر من سحابة قيض
نجديِّة! وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا.
3- استخرج أحسن ما عند الناس:
وستراها أكثر مما تطيق إحصاءها, فما من البشر أحدٌ إلا وهو يمتاز
بمحامد, فانظر لها نظر المحب الحامد, لا الغيور الحسود, فالروح الجميلة يطربها
جمال الأخلاق, وتهزُّها مكارم الشّيم حيثما كانت, وتأمّل إيجابيات خصمك وحسناته مهما
كشف عن وجهه برقع الحياء, وحاول – بكرمك – أن ترفع محامده حتى تفوق وتعلو ما بلغك
عنه أو منه من سوء, وانظر لنصف الكأس الممتلئ فيه. ولقد تأملت في الناس فرأيت أن
الحسد يستتر خلف كثير مما يسمّونه أسباب كراهية, فجُز ناديهم بطهارة قلبك وبياض
فؤادك, وإن البرَّ يا صاحبي أسلافٌ.
4- صارح من بلغتك إساءته وعاتبه, ولا تقبل فيه قالَةً
ما لم تخرج منه بعذر وإعذار:
وكم من لفظةٍ خاطئة خرجتْ فلفظَتْهَا نفوسُ الأخيار فأماتوها في
مهدها, ثم شكرهم في قابل الأيام من رَمَوها, وكم كلمةً بريئة من قلب مؤمن غافل
تلقّفتها حمّالة حطب النميمة وأركبتها قلائص الغيبة والبهتان ففرقت بين المحبين فطارت
بهم إذ لم يتبيّنوا, وأثارت نقع الأحقاد بين المؤمنين بعد أن غاب حليمهم وحضر طائشهم
وعجولهم, ومن قرأ التاريخ شيّبتْ قذالَهُ عجائِبُهُ!
5- تأمل خصمك بعد
رحيله عن دنياك أو رحيلك:
اقفز بمخيلتك وارحمهم بعد أن ترحم نفسك, تذكر رحيلك عنهم وتركهم خلفك
في ذي الفانية أو رحيلهم لمصيرهم وما فيه من أهوال, نعم يا صاحبي فقد يمتن الله
عليك ببصيرة وعلم ويقين بالآخرة وأهوالها, فاجعلها مرآة تعكس تعاملك مع الناس
أحبابًا وأخصامًا. واعرف قدر الدنيا.
وما أدنى هِمَّةَ من ينازع على جناح البعوضة! أولم يكفك أن تعلم أن
عاجل نصرك هو علمك بخذلان من رام ظُلمَك من جهة ضلاله أولًا ثم ببغيهِ آخرًا,
فتذكرها دومًا ففيها للمظلومين سلوىً وعزاء.
6- تأمل ضعفهم وقلّتهم وفقرهم وحاجتهم:
ولئن تدثروا بالغرور, وتلفعوا بالستور, فلقد علمتَ أنهم مثلك ضعفاء
مهما استقووا, وفقراء مهما استغنوا, وقِلّةٌ مهما تكاثروا, ومحتاجون مهما صمدوا
بدعواهم! فارحم وأشفق, واسمُ وارتفع فالقاع يا هذا مزدحم.
7- تذكر حبهم لله
وعبادتهم له ومودّتهم لصغارهم وأهلهم.
فهناك جامع للإنسانية, ومهما ابتعد الإنسان عنك بفعله أو تصوّره أو
عدائه فيبقى جانب ولو قليل يستحق منك نظرة وتأمّلاً, فتذكر مشتركاتك معهم مهما دقّت,
فمن كان منهم حنيفٌ فأحببه لإيمانه, فهو يعبد الإله الحق الذي تعبده, ويتطهر له
ويسلم وجهه له, ومن كان غير ذلك فأشفق عليه وارحمه من شقوته, واسع في هدايته
ورشده.
حتى البهائم والنبات والجمادات تلك المخلوقات المُسبّحة بحمد ربك يتلمّسْنَ
من فؤادك المفعم بالطهر خفقة مودّة ودفقة اعتراف بجمالهن المكنون والمنظور, وما
أجمل قلبك إذ يعجُّ بالعنادلِ المغرّدة, ولن تخسر يا صاحبي شيئًا بهذا الحب
الجميل.
8- ادع لهم واستغفر لهم بظهر الغيب:
تذكّر فضل العفو والصفح والمسامحة, ولا تحسبنّك بالعفو تخسر, كلّا
وربّي! ليكن حسن الظن رائدك, وتلمس جوانب العتبى والعذر لمن آلمَ ذاكرتَك أو جَرَحَ
فؤادَك أو اكفهرت لأجله روحُك. سِرْ رويدًا في فلاة الطهر وأخمد جمر الانتقام بصب
ماء العفو, ولا تلتفت لأصوات الغضب بين جوانحك وأغلق مراجلها بهتافك لها:
"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" فهلّا تذوّقتَ
ليلةً أن تدعو صادقًا لعدوّك في سجودك؟! كن من الثلة السابقة بحمل أثقال الأخلاق,
ولكلِّ سلعةٍ ثمنها "ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين"
9- تأمل سيرة خيرة خلق الله, ثم عظماء النبلاء ممن آتاهم
الله رشدهم:
ومن تأمل سيرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وثباته على حبه الخير مع اختلاف الأحوال والأهوال عليه
رجع بيقين نبوّته وصدق رسالته.
10- تذكّر أنك الكاسب الرابح والغانم الفالح:
فكم ستشتري سعادتك وانشراحك بمحبتك ورحابة صدرك وسعة عقلك. أقول: تذوق
ذلك واعلم انه بلسمك الدائم, ألا ما أجمله وأبهاه وألذّهُ وأصفاه!
تلك عشرة كاملة, وفيها لمبتغ الخير مغنىً ولخاطب السعادة مقنع.
ومضة: ليس كل صمت حكمة, فبعضه عيٌّ وعجز.
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق