الحمد لله وبعد؛ فإنّ أمرًا هذا خطرُه، وهذا شأنه؛ حريّ
بأن يُجلبَ عليه العدو الرجيم بخيله ويركض برجِله في سبيل إغواء أولاد الكريم على
ربه آدم عليه السلام.
ولما علم أن الأبوين استعاذا بالله منه، واعترفا بذنبهما،
وتوسلا إلى مغفرة ربهما بإظهار افتقارهما؛ فقد شدّ حيلَه ومدّ حولَه ليغوي من
اسطاع عن ذلك المرتع المخصب والربيع الهنيّ والكنز المرجح، لذا أمسى وأصبح يلقي
وساوسه في روع ابن آدم بأنه غنيّ عن ربه، وبأنه مكتفٍ بقوّته وحوله وغناه عن كل ما
سواه، ولو بصيده في لحظات الغفلات التي لا يلبث أكثرهم أن يثوبوا من عمياء الضلال
وحمأة الفجور لنور البصائر واستقامة السلوك.
فههنا آفات ألقاها الشيطان في طريق السُلّاك إلى ربهم في
صراط الافتقار، فمنها:
أولًا: العوائد المانعة والعلائق الجاذبة:
فالنفس تنجذب لثقلة طينها، وما تضمنه ذلك من رؤية الأسباب
دون مسببها، والتعلق بها دون خالقها، وما يتبع ذلك من الإخلاد للفانية والغفلة عن
الباقية. «هذا، وإن الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق،
فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع([1]) التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من
الشرع، فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح
الشرع!
وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها
تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه([2])، وهي ثلاثة أمور: شرك، وبدعة، ومعصية. فيزول عائق الشرك
بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه
العوائق لا تتبين للعبد إلا إذا أخذ في أهبة السفر وتحقق بالسير إلى الله
والدار والآخرة، فحينئذ تظهر له هذه العوائق، ويحسّ بتعويقها له بحسب قوة سيره
وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعدًا فلا تظهر له كوامنها وقواطعها([3]).
وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله
من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياستها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع
هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلّق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه
بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب
إليها منه، وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا
بالعكس، والتعلق بالمطلوب: هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله
على ما سواه.
ولمّا كمّل الرسول ﷺ مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج
الخلائق كلهم إليه في الدنيا والآخرة، أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم
إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم، وأما حاجتهم إليه في الآخرة
فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم، فكلهم يتأخر عن
الشفاعة، فيشفع لهم، وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة ﷺ»([4]).
ثانيًا: التخبط في السير على غير هدى من الله.
فلا بد للسائر للدار الآخرة على بصيرة أن يكون له منهج
سليم واضح لا لبس فيه، وأن يكون جادًّا في مسيره وليس متوانيًا كسولًا، كما أن
عليه أن يحاسب نفسه الأمارة ويخطمها بزمام القوّة والشفقة، فلئن غفلت ينبغي
لنُهيته أن تنتبه، ولئن غابت فعلى عقله أن يحضر، قبل ألا تحين ساعة مناص مما لا
خلاص منه! «وثّمَّ عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص
فيه ولا اقتداء، ومال لا يُنفق منه، فلا يستمتع به جامعة في الدنيا ولا يقدمه
أمامه إلى الآخرة، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطّل من
طاعته، ومحبة لا تتقيد برضى المحبوب وامتثال أوامره، ووقت معطل عن استدراك فارِطه،
أو اغتنام بر وقربه، وفكر يجول فيما لا ينفع، وخدمةُ من لا تقربك خدمته إلى الله،
ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، وهو أسير في قبضته،
ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة:
إضاعة القلب، وإضاعة الوقت. فإضاعة القلب من إيثار الدنيا
على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل. فاجتمع الفساد كله في اتّباع الهوى وطول
الأمل. والصلاح كله في اتّباع الهدى والاستعداد للقاء، والله المستعان.
العَجَب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى
الله ليقضيها له، ولا يتصدّى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض، وشفائه من
داء الشهوات والشبهات، ولكن اذا مات القلب لم يشعر بمعصيته([5]).
واعلم أن الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب
أثمر العمل الصالح. وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمعا
أثمر إجابة الدعاء. والخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمر امتثال الأوامر واجتناب
النواهي. والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين، قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا
مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ
بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤﴾ [السجدة: 24]
وصحة الاقتداء بالرسول ﷺ لقاح الإخلاص، فإذا اجتمعا أثمر
قبول العمل والاعتداد به. والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة،
وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئًا. والحلم لقاح العلم([6])، فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة، وحصل الانتفاع
بعلم العالِم، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع. والعزيمة لقاح
البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة، وبلغت به همته من العلياء
كل مكان، فتخلُّفُ الكمالات: إما من عدم البصيرة، وإما من عدم العزيمة. وحسن القصد
لقاح لصحة الذهن، فإذا فقدا فقد الخير كله، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات. وصحة
الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن قعدا فالخذلان والخيبة،
وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب.
والصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما،
قال الحسن: «إذا شئت أن ترى بصيرًا لا صبر له رأيتَه، وإذا شئت أن ترى صابرًا لا
بصيرة له رأيتَه، فإذا رأيت صابرًا بصيرًا فذاك»([7]) والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوي العقل
واستنار. والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا انتجا الزهد في الدنيا
والرغبة في الآخرة. والتقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب. ولقاح الهمة
العالية النية الصحيحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد.
هذا وللعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في
الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هوّن عليه الموقف
الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفّه حقّه شدّد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ
لَيۡلٗا طَوِيلًا ٢٦ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ
وَرَآءَهُمۡ يَوۡمٗا ثَقِيلٗا ٢٧﴾ [الإنسان: ٢٦، ٢٧].
وتأمل قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال: ﴿وَٱلۡأَرۡضِ
أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي
بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١﴾ [يوسف: 101] وكيف جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد،
والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون
الوفاة على الإسلام أجلّ غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف
بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء.
وتدبر قول الله تعالى: ﴿وَإِن
مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ
مَّعۡلُومٖ ٢١﴾ [الحجر:
٢١] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن
عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده، ولا
يقدر عليه. وقوله: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ
٤٢﴾ [النجم: ٤٢] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يُرَدْ لأجله
ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي
انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل
مطلوب.
وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا
يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.
فاجتمع ما يُراد منه كلّه في قوله: ﴿وَإِن
مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ
مَّعۡلُومٖ ٢١﴾ [الحجر:
٢١] واجتمع ما يُراد له كله في قوله: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ ٤٢﴾ [النجم: ٤٢] فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها
المنتهى.
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا
يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يُحب ويُراد فمرادٌ
لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى
إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين. فمن كان انتهاء محبته
ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه.
ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته
وسعادته أبد الآباد.
هذا وإن العبد دائمًا متقلب بين أحكام الأوامر
وأحكام النوازل، فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل.
وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل، فإن كمُل القيام بالأوامر
ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا، وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها
ناله اللطف في الظاهر وقلّ نصيبه من اللطف في الباطن.
فإن قلتَ: وما اللطف الباطن؟ فهو ما يحصل للقلب عند
النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيستخذي بين يدي
سيده ذليلًا له مستكينًا ناظرًا إليه بقلبه، ساكنًا إليه بروحه وسره، قد شغلته
مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيّبه عن شهود ذلك معرفته بحسن
اختياره له، وأنه عبد محض يُجري عليه سيدُه أحكامه، رضى أو سخط، فإن رضى نال
الرضا وإن سخط فحظّه السخط.
فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة، يزيد
بزيادتها، وينقص بنقصانها.
والعبد لا يزال منقطعًا عن الله حتى تتصل إرادته
ومحبته بوجه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تُفضي المحبةُ إليه وتتعلق به وحده،
فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يطمس نورها
ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول
بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذ
يتصل الذكر به، ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها،
ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها. فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه.
ويتصل التوكل والحب به، بحيث يصير واثقًا به سبحانه،
مطمئنًّا إليه، راضيًا بحسن تدبيره له، غير متّهم له في حال من الأحوال. ويتصل
فقرُه وفاقته به سبحانه دون سواه، ويتصل خوفُه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به
وحده، فلا يخاف غيره، ولا يرجوه، ولا يفرح به كل الفرح، ولا يسر به غاية السرور،
وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج
والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب
فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق
منه بأن يفرح به.
فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على
مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله
ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.
والمقصود: أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد
وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه، متصل بحظه ونفسه، ملبَّسٌ عليه في معرفته وإرادته
وسلوكه.
وقد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله
أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده، نِعَمَ الطاعات ونِعمَ اللذات، فترغب إليه أن
يلهمك ويوزِعَك شكرها، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ ٥٣﴾ [النحل: ٥٣] وقال: ﴿فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ
لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٦٩﴾ [الأعراف: ٦٩] وقال: ﴿وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ
تَعۡبُدُونَ ١١٤﴾ [النحل: 114]
وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله فذكرها وشكرها لا
يُنال إلا بتوفيقه، والذنوب من خذلانه وتخلّيه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه،
وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له الى كشفه عن نفسه. فإذا هو مضطر إلى التضرع
والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه، وإذا وقعت بحكم المقادير
ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها.
فلا ينفك عن العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول
الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها: الشكر، وطلب العافية، والتوبة النصوح.
ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد
العبد، بل بيد مقلب القلوب ومصرّفها كيف يشاء. فإن وَفَّقَ عبدَه أقبل بقلبه إليه،
وملأه رغبة ورهبة. وإن خذله تركه ونفسه، ولم يأخذ بقلبه إليه، ولم يسأله ذلك، وما
شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن»([8]).
وقال موضحًا وباسطًا معناه
السابق: «قال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لِّيَقُولُوٓاْ
أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنۢ بَيۡنِنَآۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ
بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ ٥٣﴾ [الأنعام: ٥٣]، فهو سبحانه أعلمُ بمواقع الفضل، ومحالِّ التخصيص، ومحالِّ
الحِرمان، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حَرَم، فمن ردَّه المنعُ إلى
الافتقار إليه والتذلُّلِ له، وتملُّقهِ، انقلب المنعُ في حقه عطاءً، ومَن شغله
عطاؤهُ، وقطعه عنه، انقلب العطاءُ في حقِّه منعًا، فكلُّ ما شغل العبدَ عن الله،
فهو مشؤوم عليه، وكلُّ ما ردَّه إليه فهو رحمة به.
والربُّ تعالى يُريد من عبده أن يفعل، ولا يقع الفعلُ حتى
يُريد سبحانَه مِن نفسه أن يُعينَه، فهو سُبحانه أراد منَّا الاستقامةَ دائمًا،
واتخاذَ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المرادَ لا يقع حتى يُريد من نفسه إعانَتنا
عليها ومشيئته لنا.
فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل، وإرادة من نفسه أن
يُعينه، ولا سبيلَ له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة، ولا يملِك منها شيئًا، كما قال
تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٩﴾ [التكوير: ٢٩] فإن كان مع العبد روح أخرى، نِسبتُها إلى روحه،
كنسبة روحِه إلى بدنه يستدعى بها إرادَةَ الله من نفسه أن يفعلَ به ما يكون به
العبدُ فاعلًا، وإلا فمحلُّه غير قابلٍ للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاءُ،
فمَن جاء بغير إناءٍ، رجع بالحِرمَانِ، ولا يلومنَّ إلا نفسه.
والنبي ﷺ استعاذ مِن الهمِّ والحَزَنِ([9])، وهما قرينانِ، ومِنَ العَجزِ والكَسَلِ، وهما قرينان،
فإنَّ تَخلُّفَ كمالُ العبد وصلاحُهِ عنه، فهو إما أن يكون لِعدم قدرته عليه،
فهو عجز، أو يكونَ قادرًا عليه، لكن لا يُريدُ فهو كسل. وينشأ عن هاتين الصفتين
فواتُ كُلِّ خير، وحصولُ كلِّ شر، ومن ذلك الشر تعطيلُه عن النفع ببدنه، وهو
الجبن، وعن النفع بماله، وهو البخل.
ثم ينشأ عليه بذلك غلبتان: غلبة بحق، وهى غلبة الدَّيْن،
وغلبة بباطل، وهى غلبةُ الرِّجال. وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل»([10]).
ثالثًا: ومن الآفات: سؤال المخلوق والافتقار إليه.
وقد أشرنا لشيء من هذا قريبًا، ونزيد القول بأن محور
الافتقار هو الشعور أولًا ثم الطلب ثانيًا، فمن صح شعوره وتحقق صدق افتقاره الوحيد
للرب الواحد فلا تسل عن غناه، وعلى قدر ذلك يحصّل المؤمل بغيته، والعكس صحيح فإذا
اضطرب الشعور أو التصور أو ضعف أو غشيته سحابةُ غينٍ فالنقص يدبُّ لا محالة. لذا
فمن سأل للدنيا مخلوقًا ــ حتى فيما يجوز ــ فليتفقّد كمال يقينه وافتقاره
وتوحيده!
قال شيخ الإسلام: «فكل ما يفعله المسلم من القُرَب
الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله
ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمورٌ بأن يفعله خالصًا لله رب
العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن
يطلب عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غيره.
وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب، بل ولا يستحب إلا في
بعض المواضع، ويكون المسئول مأمورًا بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا
مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك ﷺ، فإنه أجل قدرًا وأغنى بالله من
غيره.
فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك.
ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق.
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم النفس.
فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله
عن ذلك كله. وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به كما
يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضًا ينتفع
بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة.
فإنه ثبت عنه في الصحيح([11]) أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور
من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا». ومحمد ﷺ هو الداعي إلى ما تفعله
أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من
أجورهم شيئًا.
ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال،
لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيئًا. وليس كذلك
الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثلُ أجره، وإنما ينتفع الوالد
بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب، كما قال في الحديث الصحيح([12]): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة
جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» فالنبي ﷺ ــ فيما يطلبه من أمته من
الدعاء ــ طلبُه طلبُ أمر وترغيب ليس بطلب سؤال. فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام
عليه، فهذا قد أمر الله به في القرآن بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾ [الأحزاب: ٥٦] والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة. ومن هذا الباب
قول القائل([13]): إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما
شئت» قال: الربع؟ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك» قال: النصف؟ قال: «ما
شئت وإن زدت فهو خير لك» قال: الثلثين؟ قال: «ما شئت، وإذا زدت فهو خير لك»
قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذًا تُكفى همك ويُغفر لك ذنبك» رواه أحمد([14]) في مسنده والترمذي([15]) فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه
الصلاة على النبي ﷺ كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كما صلى عليه مرة
صلى الله عليه عشرًا، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: «آمين، ولك
بمثلٍ»([16]) فدعاؤه للنبي ﷺ أولى بذلك.
وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب بل ولا
مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من
سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر
بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة بل إمّا أن يكون مفسدة
محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع.
فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن
يعبدوا الله لا يشركوا به شيئًا. ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله
سبحانه به كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه
فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون
بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو بهم، لا يقصدون السلام
عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين، وكانوا
مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم. فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة.
فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح
للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك
وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد. فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته
والإحسان إلى عباده كما قال تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ
شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ
وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ
ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ
مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٣٦﴾ [النساء:
٣٦] وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق
ويكره سفسافها.
وقد روي عنه ﷺ أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق» رواه الحاكم في صحيحه([17]) وهذا ثابت عنه في الصحيح. فأين الإحسان إلى عباد الله من
إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم؟ وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له
والتوكل عليه والحب له من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه
وأن يحب كما يحب الله؟
وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار
إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟»([18]).
رابعًا: الشُّبه التي تعتري قلب المفتقر لجهله فيظن
الباطل حقًّا.
فالافتقار عبادة، والعبادة لا بد أن تكون على السنة،
ولإبليس مداخل خفية على المتعبدين، فيلقي البهرج في طريقهم ليلهيهم عن الثمين،
ويشغلهم ببنيات الطريق حتى يفوتهم الحقّ في نهاية الطريق.
قال ابن القيم: «وقد أجمعت هذه الطائفة([19]) على أنه لا وصول إلى الله إلا من طريق الفقر ولا دخول
عليه إلا من بابه.
وقال: وإن لترك طلب الدنيا آفات، ولطلبها آفات. والفقر
سلامة القلب من آفات الطلب والترك، بحيث لا يحجبه عن ربه بوجه من الوجوه الظاهرة
والباطنة لا في طلبها وأخذها ولا في تركها والرغبة عنها. فان قلت: عرفت الآفة في
أخذها وطلبها، فما وجه الآفة في تركها والرغبة عنها؟ قلت: من وجوه شتى أحدها: أنه
إذا تركها وهو بشر لا ملك؛ تعلق قلبه بما يقيمه ويقيته ويعيشه وما هو محتاج إليه،
فيبقى في مجاهدة شديدة مع نفسه لترك معلومها وحظها من الدنيا، وهذه قلة فقه في
الطريق، بل الفقيه يردها عنه بلقمة، كما يرد الكلب إذا نبح عليه بكسرة، ولا يقطع
زمانه بمجاهدته ومدافعته، بل أعطاها حظها وطالبها بما عليها من الحق. وهذه طريقة
الرسل وهي طريقة العارفين من أرباب السلوك كما قال النبي ﷺ: «إن لنفسك عليك
حقًّا، ولربك عليك حقّا، ولزوجك عليك حقّا، ولضيفك عليك حقّا، فأعط كل ذي حق حقّه»([20]).
والعارف البصير يجعل عوض مجاهدته لنفسه في ترك شهوة
مباحة؛ مجاهدته لأعداء الله من شياطين الإنس والجن وقطاع الطريق على القلوب، كأهل
البدع، ويستفرغ قواه في حربهم ومجاهدتهم، ويتقوى على حربهم بإعطاء النفس حقها من
المباح، ولا يشتغل به.
ومن آفات الترك: تطلعه إلى ما في أيدي الناس إذا مسته
الحاجة إلى ما تركه، فاستدامتها كان أنفع له من هذا الترك.
ومن آفات تركها وعدم أخذها: ما يداخله من الكبر والعجب
والزهو، وهذا يقابل الزهد فيها وتركها، كما أن كسرة الآخذ وذلته وتواضعه يقابل
الآخذ التارك. ففي الأخذ آفات، وفي الترك آفات.
فالفقر الصحيح: السلامة من آفات الأخذ والترك، وهذا لا
يحصل الا بفقه في الفقر»([21]). وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.
إبراهيم الدميجي
([1]) كالهيئات والأحوال والأوراد ونحو ذلك مما لم تأت
به الشريعة، كذلك بعض العادات والتقاليد والسلوم التي جعلها الناس مضاهية للشريعة،
بل مقدمة عليها عند التنازع.
([3]) لأن الكسل والإخلاد إلى الدنيا أو الضلال يجثم
على القلب فيحول بين صاحبه ورؤية هذه الحتوف الخطيرة، حتى إذا شعّ نور التوحيد
وسطع طريق السنة وأشرقت شمس التوبة انقشعت بإذن الله عن القلب ظلماته وكدره وغينُه
فطار بأجنحة التوفيق إلى الملأ الأعلى،﴿أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ
وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ
لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ
يَعۡمَلُونَ ١٢٢﴾ [الأنعام: 122]
([5]) فأخطر آثار الذنوب أن يُطبع على القلب أو أن
تُيسر له معاصٍ أخرى وهو لا يعلم أنه مستدرج مفتون، عياذًا بالله تعالى.
([7]) وهذا الفقه الحَسَني ليس بغريب، فقد برهن على
تنظيره بمواقفه المشهودة إبّان فتنة ابن الأشعث وأصحابه، وهي الفتنة التي غلت فيها
مراجل الفتنة بالأمة سنينًا واحترق في أتونها كثيرًا من خيرة القراء وأكابر فحول
العلماء، أما الحسن فكان يزَعُ الناس عنها طاقته، حتى رُمي في تديّنه وأمانته، حتى
إذا انجلت قترة الغُمّة رأوه ناصعًا طيِّبا، فعاد ذامّوه له حامدين، ومعادوه له
شاكرين، فالفتن إذا أقبلت اختلطت ولم يرَ حقيقتها سوى أفذاذ العلماء، فإذا أدبرت
رآها الجميع بعد الفوات ﴿يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ
فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ
٢٦٩﴾ [البقرة: 269]