إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الثلاثاء، 21 مايو 2013

الإلحاح على هدم الثوابت؟!..قراءة للمشهد الكلّي, وعودة للأمر من أوله.


الإلحاح على هدم الثوابت؟!..قراءة للمشهد الكلّي, وعودة للأمر من أوله.
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه, أما بعد:
فالمشهد الحالي مثاله كسَدٍّ عظيم, يُراد هدمه وإسقاطه, وإغراق القرى من بعده بالطوفان الذي خلفه, ولهذا السد حرس قريبون, وأهل قرى أشداء يتداعون للنفير عند الخطر, كما أن مادة بناء هذا السد قوية اللبنات, شديدة التماسك. فأتى الماكرون لهدم السد مرة واحدة بآلة عظيمة فما هو إلا أن ضربوه ضربة أو ضربتين؛ إلا وتناولتنهم سيوف الحرس, وتناوشتهم حراب ذوي البأس من أهل القرى.. فنكصوا يدبرون أمرهم, حتى أشار عليهم أبو مرّة (الشيطان) بخطة ذات ثلاث محاور:
المحور الأول: شراء ذمة الحرس تارة, وإرهابهم بالغيلة أخرى. والثاني: إغراق أهل القرى بالملهيات, وإفساد ذات بينهم. والثالث: استبدال لبنات السدّ القاسية الشديدة, بأخرى لينة هشّة, فإن لم يطيقوا فلا أقل من خلخلتها عن بعضها, عن طريق ضرب المعاول الدؤوب المستمر _دون الديناميت المفزع الذي يبطل كيدهم بتنبيه أهل القرى للخطر فيتداعى رجالها للفزع_ وقد أثمر هذا الضرب المتكرر مع كرِّ الجديدين أمرين:
الأول: تعوّد أهل القرى على صوت دقِّ المعاول, فلم تعد تفزعهم, أو تغضبهم, فأمنوا جانبهم.
الثاني: أحدثوا خروقًا عميقة في جدار السدّ مكّنتهم من استبدال بعض اللبنات الأصيلة بأُخَرَ مزيّفة, وإعماق الشقوق في بنية السدّ من أساسه, حتى تأتي ساعة الحسم الموعودة, فإن لم يستفق أهل القرى, ويرمّموا سدهم, وإلا تفرقوا أيدي سبأ!
هذا باختصار هو المشهد الرمزي لحال الأمة مع أمم الكفر والطغيان والاستكبار العالمي, وبخاصة مع الند التقليدي الصلف العنيد (الغرب الصليبي).
دعونا نعد للمشهد الكلي من أوله, فالنظر للأمور كلما كان أعم وأشمل كانت النتيجة أقرب للصواب, طردًا وعكسًا. وسنوغل في التاريخ السحيق, فنبدأ من أول نقطة وصلها العلم البشري على الإطلاق, ثم ننطلق منها عائدين نطوي القرون تلو القرون باختصار واقتصار واقتضاب. علمًا بأن التاريخ الغابر السحيق محكوم بسحابة الغيب, التي لا يكشفها لنا سوى الوحي المنزل من خالق الكون وباريه لمن شاء من أنبيائه ورسله, وبما أن الأنبياء _ عدا خاتمهم محمد صلى الله عليهم وسلم _  قد زالت علومهم أو حُرّفت من الذاكرة البشرية, إما بانقراض العصور, وفناء الأجيال, وإما بالتبديل والتصرّف والتحريف, فلم يبق سوى الوحي المعصوم من خطأ أو نسيان "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" وقد بقي لنا بشقّيه القرآن والسنة. وتكفّل الله سبحانه بحفظ وحيه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" والسنة من جنس الذكر, قال جل ذكره: "وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى"  كما روى أبو داود من حديث المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" فالسنة الصحيحة وحي محفوظ في الصدور والسطور كما القرآن العظيم. ويصل إلى حق يقينيةِ ذلك من ارتاض ميادين الصحاح والمسانيد والتخريج والعلل.
هذا وإن الحد الزماني والنقطة الابتدائية لبداية التاريخ المشهود, والمدى المحدود للمعرفة الأزلية للذاكرة الإنسانية هي ما رواه الإمام البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنهما – وقبله حديث ابن عمرو الآتي في القدر - قال: إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال" "اقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا, فدخل ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن, إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا, جئناك لنتفقه في الدين, ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله, وكان عرشه على الماء, ثم خلق السموات والأرض, وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل فقال: يا عمران, أدرك ناقتك فقد ذهبت, فانطلقتُ أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها, وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم. (1)
فأهل اليمن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العالم المشهود بسماواته وأرضه الذي خلقه الله تعالى في ستة أيام, لا عن جنس مخلوقات الله تعالى, فأجابهم صلى الله عليه وسلم على قدر سؤالهم, وكما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء"
فخلق الله هذا الكون السماوي الأرضي, ثم مرت أحقاب طوال, الله وحده يعلم ما جرى خلالها من أمور وأحداث, ثم خلق آدم, فسُطِر من هناك تاريخنا!
أكرم الله تبارك وتعالى عبده آدم بأن خلقه بيده من تراب _ روي أنه من تراب كوكبنا الأرضي بقبضة من أنحائه مما كان له الأثر في اختلاف أمزجة ذريته_ ثم من طين ثم صار الطين صلصالاً.. ثم نفخ فيه من روحه. أي خلق له روحًا نفخها في جسده. ثم فضّله كذلك بتعليمه أسماء كل شيء, ثم أسجد له ملائكته تحيّة لآدم وطاعة لله, ثم ظهر حين ابتلاء الملائكة فساد إبليس _ وله من اسمه نصيب _ فحسد وتكبّر وأضمر العداوة ثم أشهر التحدّي والاستكبار!
أسكن الله تعالى كريمَهُ آدم جنته, وخلق له من ضلعه زوجًا يؤنسه _فالمرء ذو حنين لشكيله, وميل لأنيسه_ فأزال وحشة الانفراد بعشير مؤنس, وقد كتب ربهما أن سيكون لهما ولذريتهما ملاحم طويلة جدًا وشرسة وخالدة في الابتلاء والاختبار والجهاد والإيمان, والسقوط والرفعة, مع القرين الحسود الكفور الماكر الشيطان الرجيم. فبدأ الامتحان وانطلق الاختبار بالنهي عن الأكل من الشجرة, وأمدّ الله عبده بالعلم والحكمة والإيمان والصفاء والإرادة والملائكة المثبتة, وأمدّ عدوه بالحيلة والمكر والدهاء وطول العمر وكثرة الأتباع, فأعطى كلًّا آلته حتى يكتمل مشهد الصراع بين الحق والباطل, "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" فأقسم الغادر أنه ناصح مصلح "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" فصدّقاه غفلة ونسياناً, فوقع المحذور, وأكل الصالحُ والصالحة من الشجرة, والنفوس مولعة بما نهيت عنه! فعوتبا فتابا وأنابا واعترفا بما اقترفا.. "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" فتنزّلت عليهما الرحمة والمغفرة, وتيب عليهما, وارتفعا قدْرًا عن منزلتهما قبل الابتلاء, ثم أُهبِطا لاستكمال مشهد الابتلاء والامتحان والصراع بين الحق والباطل والظلمات والنور. "قلنا اهبطوا منها جميعًا فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ثم أُعطيا منشور التحذير والبيان لهما ولذريتهما من بعدهما "إن الشيطان لكما عدو مبين" ثم خص ذريتهما بالنصح والبيان والتحذير فقال: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" وقال: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" ذلك أن إبليس لما أيقن بالهلاك السرمدي والعقاب الأبدي أراد لخبثه وشره أن يجرّ معه ما استطاع من بني عدوه آدم, قائلًا بكل فجور لمن خلقه وسوّاه: "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" ولم يقل من فوقهم, لعلمه بمعية ربهم حفظًا ونصرًا إن تعلقوا بحبله الواصل لهم, ومن كان ربه معه فمعه الفئة التي لا تغلب, ومن آوى إليه فقد آوى إلى ركن شديد.
ثم استمرت مسيرة البشر مع عدوهم وذريته, فاستزل أكثرهم, وثبت على الحق أقلّهم, وللحكيم الخبير حكمٌ كثيرة في خلق إبليس, وتسليطه على بني آدم, فقام سوق الجنة والنار على ساق الابتلاء والامتحان والصبر والشكر والمجاهدة والعبادة.
ولا يُعلم بالتحديد وقت الإهباط الآدمي من الملكوت السماوي الأعلى, ولكن زمانه ليس بالبعيد جدًا كما يقوله الجيولوجيون وعلماء المستحاثات, إذ مدوه لمئات الملايين من السنين! وحاولوا إثبات ذلك - وأنّى لهم - فسلّطوا آلاتهم على طبقات الأرض علّهم أن يجدوا بقايا إنسانٍ يتحدث لهم رفاته عبر الكربون المشعّ مخبرًا لهم تاريخه وعمره. وبعضهم قد تسلط عليه الجهل فأراد حفر الماضي الغابر عبر تسليط نظريات التطور والارتقاء الداروينية الملحدة المادية, فرجع بصره وعقله وعلمه خاسئًا حسيرًا. فالأمر قريب, والجنس الآدمي يعود لآدم وحواء مباشرة ومنهما انتشرت ذريتهما في الأرض (2)
واستمرّ مسلسل الإغواء والمجاهدة والسقوط لحمأة الذنب من صيود إبليس وذريته, فمن قائم تائب مرتفع على هواه, ومن قابع منهزم لجيوش الباطل, ولكن الذنب الأكبر لم يقع بعد وهو الشرك والكفر, وبقي الحال عشرة قرون _ أي أجيال _ حتى وقع المحظور العظيم, فتتابعت أرسال الهلكى على شبكات عدوهم الأزلي فكرًا وشبهةً بالشرك والبدع, وضعفًا وشهوة كسائر الموبقات, فابتعث الرحيم الحكيم لهم نوحًا عليه السلام, فكذبوه, فأغرقهم الجبار جل جلاله بالطوفان العظيم الذي أغرق كل نسمة حيّة على ظهر البسيطة! حتى أن الموج قد ارتفع فوق قمم الجبال "وهي تجري بهم في موج كالجبال" ويروى أن الماء علا على رؤوس الجبال قدر أربعين ذراعًا (3) فتخيل الماء قد غطى الأرض, وارتفع على مستوى قمة إفرست عشرين مترًا, فغدى كوكبنا بركة ماء كبيرة, ليس فيها أحياء سوى أهل السفينة, أو من شاء الله من الأسماك _ ولعل هذا يفسر لنا جانبًا من جوانب بقاء كثير من الأحياء البحرية على أشكالها السحيقة بعد الأحافير, كذلك بقاء الكبار جدًا منها كالحوت الأزرق وغيره _.
وهبطت سفينة البشر برّ الأمان, وكتب الله البقاء لنسل نوح فقط – على الصحيح - فهو أبو البشرية الثاني _فيصح أن يقال للبشر لغةً ونسبًا بالنوحيين, قال جل شأنه: "وجعلنا ذريته هم الباقين" فعاش الناس في توحيد وإيمان, وتفرقوا في الأرض, حتى اجتالت الشياطين من قضى الله بخذلانه, ولا زال بنو آدم مع الحق والباطل تترًا, وأرسل الله لهم المرسلين منهم تترًا, وأكثرهم كذب الرسل, فحاق بهم عذاب الله ورجزه, وما من أمة من الأمم قط إلا وقد بعث الله لهم رسولًا "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير"
وأقدم من عُرف من القرون الغابرة بعد الطوفان السومريون, وبحسب كتب أهل الكتاب فزمانهم كان قبل نحو (6000 ق م) وكانوا في شمال العراق, وإليهم تنسب أول حروف الكتابة في التاريخ "الخط المسماري" ولعل هذا هو سبب تخليد اسمهم عبر العصور, ثم تفرقوا من هناك _على المشهور_ فساحوا شرقًا وغربًا وجنوبًا, وبقي أكثرهم في العراق والشام. فبنوا حضارات تليدة متتابعة, كالعاديين والأنباط, ثم خلف السومريين الأكديون (3000 ق م) بفرعيهم الآشوري والكلداني الكنعاني _ أهل بابل _ في العراق, فبعث الله لهم أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام, وظهر الفينيقيون العرب في شرق وشمال حوض البحر المتوسط, ومنهم الكنعانيون الفلسطينيون. وجاورهم فيما بعد أبناء عمومتهم من أسباط بني إسرائيل, الذين لا نعلم أمة أرسل الله لهم الرسل مثلهم, وأشهرهم موسى الكليم وآخرهم عيسى المسيح عليهما الصلاة والسلام.
وتفرق الناس في أرض الله شرقًا إلى أقاصي آسيا, وغربًا وجنوبًا, والذي يهمنا في هذا المقام تتبع الحضارات الناموسية التي هزت الأرض بخيرها أو شرها.
كان الكنعانيين الساميين قد فارقوا حضارتهم السومرية إلى جزيرة العرب أولًا, ثم انتقل كثير منهم إلى حوض المتوسط الشرقي والجنوبي وبعض الغربي وبقي بعضهم في حرّان.
ومع هجرة الساميين إلى جزيرة العرب استوطن بعضهم جنوبها الغربي وبنوا حضارات مشهورة، كذلك فقد وصلوا للسواحل الأفريقية وتوغلوا إلى وسط إثيوبيا.
أما الفينيقيون الساميون فإنهم انتقلوا من شرق جزيرة العرب إلى شرق حوض البحر المتوسط وجنوبه وأسسوا حضارة عريقة وعظيمة, امتدت إلى جزر بعيدة في المحيط الأطلسي، بل وصلت تجارتهم لأمريكا الجنوبية كما وجد من بضائعهم مع حضارات القارة الأمريكية الجنوبية القديمة كالمايا وغيرها التي تحمل شعارات الفينقيين وبعض رسوم آلهتهم الوثنية. وهم مخترعو الأبجدية الأولى, أي كتابة الأحرف الصوتية اللسانية.
وعلى أنقاض الفينيقيين قامت حضارة جديدة - غير ساميّة - وهي حضارة الإغريق (اليونان) الذين خرّجوا الفلاسفة المشاهير كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، وأسسوا المعابد الوثنية خاصة في أثينا وهي الحضارة الهيلينية، ومن أشهر قوادهم وحكامهم الإسكندر المقدوني. وهذه الحضارة تحديدًا هي الأم الحاضنة للفكر الغربي الحديث, فأصوله كلها راجعة إليها, وأفكارها مستقاة منها, ومتحاكمة إليها, حتى ليبراليتها الحديثة متشربة دمها ونخاعها! وبما أنهم أمة فلا بد أن الله تعالى قد بعث فيهم رسلًا, ولا نعلم بالتحديد من رسلهم أو رسولهم, ولكن قد يكون طوي خبره بموته وزوال رسالته ومحو أثره, أو أنه أحد مشاهيرهم وبُدّلَ دينه كما بُدِّل دين المسيح عليه السلام, فنسب له الشرك وهو منه براء. ولسقراط وصايا قيمة وجهود إصلاحية, وقد قتلوه, والمشهور عنه أنه مشرك وثني, والله أعلم بحقيقة الحال.
وبالجملة فقد كان لهذه الحضارة الهيلينية فلسفاتها وأدبياتها وتأملاتها, وللأسف فلم يصلنا منها سوى ثمراتها الفكرية الماديّة الملحدة.
ثم على أنقاض الإغريق قامت حضارة جديدة آتية من سهول أوروبا, وهي الحضارة الرومانية التي عُمّرت طويلًا وهي حضارة عسكر لا فكر, واشتهرت بالطغيان والجبروت, كحال من سبقها من بعض الحضارات الكبرى، وكانوا يلقبون غيرهم من الأجناس بالبرابرة تيهًا وعلوًا! ومن طول عمرها أنها أدركت المسيح عليه السلام وآذته وقتلت أتباعه, فانتقم الله لهم بأن أدركها الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فقرّعها وأتباعه حتى كانت نهايتها في مصر والشام والعراق وآسيا الصغرى على يد الأمة المسلمة، لكنها بقيت بعد ذلك طويلًا في شرق وجنوب وعمق أوروبا, وللأمة المسلمة معهم صولات وجولات عبر العصور, حتى يكون آخرها ملاحم آخر الزمان.
ولم يكن الرومان في الثقافة والفكر والتأمل كأسلافهم اليونان, لذلك فقد أخذوا ثقافتهم بكل ما فيها ولبسوها واعتنقوها, ولا عجب أنهم كانوا يعيشون حيرة كبيرة فعامة الشعب وثنيون إبيقوريون, نسبة إلى الفيلسوف اليوناني إبيقور (341-270 ق م) الذي يصور آلهتهم السماوية الكثيرة المتشاكسة في غيبةٍ عنهم، ويصوّر الآلهة المزعومة مشغولة بصراعاتها عن البشر الذين لا يعنونها في شيء، ومن ذلك قوله: «إن جوبيتر يرسل الصواعق على معبده فهلا سحق أبيقور الذي يجدف به؟!» وكان من مبادئ الديانة الرومانية التثليث (جوبيتر، مارس، كورنيوس) وكانوا يؤلهون الحاكم وكان هذا يعد تقليدًا هلنستيا (الهلنستية هي الإغريقية الحديثة) ثم نشأت فلسفة مضادة للفلسفة الإباحية الأبيقورية وهي الفلسفة الرواقية والتي كان من أهم مبادئها الانقطاع عن الدنيا وإنكار الذات, ومن ثمراتها بولس الرسول! مؤسس النصرانية الحقيقي (شاؤول الطرطوسي) (4)
وشاء الله تعالى أن لا تهتدي أمة الروم لنور الإنجيل العظيم, بل ابتلاهم الله بمن سطا عليه وحرّفه, وصيّره منظّرًا لديانة أوثان الرومان, لذا فقد دخل الرومان في الدين البولسي أفواجًا يتقدمهم قسطنطين. فقامت الكنائس النصرانية على ذلك, وعلى حرب من تبقى من الموحدين الحنفاء من أتباع المسيح, حتى لم تبق لهم باقية مشهورة. وتابعتهم شعوب أوروبا المغلوبة حينها كالجرمان والأنجلوساكسون والقوط وغيرهم على ذلك الضلال, كالأعمى يقود الأكمه, فهل له من نكاية أو اختيار؟!
ثم شاء الحكيم الرحيم الخبير أن يقترب زمان النهاية للدنيا؛ فقرع الخافقين ببعث سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه, فختم به الرسل وبكتابه الكتب. فقامت الحرب بين حزب الرحمن وحزب الشيطان على ساق, وعلم إبليس أن الأمر قد اقترب, فصال وجال في نفوس البشر, فسقط كثيرهم صرعى في ميدان النزال معه, وثبّت الله فئامًا مخلصين صادقين "ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم" "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين"
فثارت الحروب الفكرية والجسدية بين الفئتين, والله يبتلي المؤمنين, ويصطفي الشهداء, ويملي للأعداء, ويخزيهم, ثم ولّى الروم لقارتهم العجوز, وأغلقوا عليهم الأبواب, وانكفؤوا على أنفسهم, إلا من جيوش يرسلونها لاستعادة أرض اللبن والخمير والعسل, - ورفع شعارات مهد المسيح - أما النور الهدى فهم عنه راغبون!
ثم تجللتهم القرون المظلمة _ بحسب تسميتهم لها _ حتى شابهوا الحيوان البهيم في بعض أمورهم, ووصل انحطاط الإنسان فكرًا وخُلقًا إلى دركات من السفول والانحطاط والظلم والبغي واحتقار الإنسان, حتى ربما باع الرجل زوجته مع بهائمه! وتسلّطت عليهم الكهنوتية الجاهلة, كالذئاب بمسوح الغنم, وكل من تلمّح نورًا قُمع وأُحرق بالنار, وصدر ضده صك الحرمان!
ومع احتكاكهم بحضارة الإسلام في الحروب الصليبية في المشرق, ثم المراكز العلمية الأندلسية في المغرب, وجزر البحر المتوسط من الجنوب, ثم دخول البلقان في الإسلام بفتوح العثمانيين.. هناك كانت المواجهة المحتومة بين الدجل والظلام والكبت والقهر من لدن (الكنيسة والنبلاء والملوك) وبين الشعوب التي ملّت وكلّت ذلك التجهيل والظلم. وقد كانت بدايات تلك التحولات الفكرية المنتفضة في ما يسمى بعصر النهضة _ من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر, أو قبل ذلك بقليل _ فابتدأوا بالآداب الإنسانية الصرفة, دون نقد للحال الديني والسياسي, وترجموا آثار اليونان, وكتبوا أدبياتهم على ضوئها مع تجديدات لهم فيها, ومن رواد تلك المرحلة بترارك – أبو الحركة الإنسانية (ومعنى الإنسانية أي ضد اللاهوتية)- وشكسبير, ودانتي, ومعاصره الرسام جيوتو, وعاد الإغريق الجدد بالكوميديا الإلهية من جديد! وأقاموا الأبيقورية الملحدة الإباحية من رفاتها, فانتشر الانحلال براحلة الأدب! ثم قرعت طبول التغيير بالثورة اللوثرية _حركات الإصلاح الديني, وهو ما أفرز المذهب البروتستانتي الجديد_ وأبرز روادها مارتن لوثر, وزونجلي, وكالفن, وهزّ الفكر الأوروبي الهولندي سبينوزا بنقده الجريء كتابهم المقدس المحرف, ثم تحركت المياة الراكدة فكثرت بحوث مرحلة الفكر التجريبي كبحوث كوبرنيق, وجاليلو, ونيوتن, ثم قعّد لذلك النهج الأوروبي الجديد فرانسيس بيكون. وفي القرن السابع عشر ظهر الإنجليزي الجلد جان لوك أبو الليبرالية الكلاسيكية. واكتشفوا بعد قرون عديدة عقم المنطق الأرسطي, الذي قد نحره ابن تيمية قبل ذلك بقرون. ثم صرخ في أوروبا بعنف بالصيحات المنادية بالحريّة والعقلانية والفردية...والكفر بالغيب مطلقًا, نكايةً بأذرع التلسط الثلاثية: الكنيسة والسادة والملكية, ولكل واحد من هذه الأذرع إفرازه المضاد؛ فأفرزت الكنيسة ضدها الوجودية الملحدة, وأفرزت طبقية النبلاء والسادة ضدها بشقيه الشيوعي والليبرالي. وأفرزت الملكية ضدها الديمقراطي.
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي سموها بعصور التنوير برزت مشاريعهم الفكرية على السطح ومن رواد تلك المرحلة اليهودي الألماني الشهير نيتشه, صاحب المقولة الملحدة: (مات الإله!) –تعالى الله- والتي صاغها عنه فيما بعد سارتر في مذهبه الوجودي الإلحادي بأساليب أدبية حتى نفذت لأفئدة الناس ونسبت له, حتى سمّمهم اليهودي النمساوي فرويد بعقدتي فرويد وإليكترا, ومنهم المتقلّب الفرنسي فولتير, والفرنسيون بيلي, ولاندي, ومونتسكيو, والإنجليزي جون ستيوارت ملْ, وصاحب نظرية التطور الإنجليزي دارون, والنفعي الإنجليزي بنثام, وبيركلي, وهيوم, والألماني إيمانويل كانت, والأمريكي توماس بين, والإنجليزي الأمريكي بنجامين فرانكلين ورئيس أمريكا جون آدمز كذلك توماس جيفرسن, وقد سبقهم في القرن السابع عشر أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت صاحب مذهب الشكّ ورسول الأزمنة الحديثة عند إمام متأخريهم قاطبة الألماني هيجل. ثم جاء أبو الرأسمالية الحالية آدم سميث ففتح للبرجوازيين (التجار والأغنياء) باب أكل أموال الناس بالباطل بقوّة القانون وتضليل الفكر.
ثم فار غليان القِدْر الأوروبي الحائر بأفكار غاية ما تكون في التناقض, فكان أحدهم يعتنق اليوم ما كان يكفر به بالأمس, وكان يُقتل على مقصلة باريس من كان أمس يقتل خصوم الحرية عليها! فعاشوا حيرة واضطرابًا كأنهم شياه هجّها الذئب في ليلة شاتية مطيرة, فهي تركض في عماء على غير هدى! "ومن يضلل فما له من هاد"
وكثر ترديد الناس لشعارات الثورة الفرنسية - وهي التنور الذي أنضج الفكر الأوروبي الحديث وسلّطه على النظم السابقة- ومن شعاراتهم: ثلاثية الماسون (حرية, إخاء, مساواة) والجمل الرشيقة الشهيرة: "دعه يعمل" في الاقتصاد "دعه يمرّ" في الحريات السياسية والأخلاقية والاجتماعية, وغذّاها اليهود لمكاسبهم منها مالًا وسياسة, فأمسكوا بعدها بمفاصل الاقتصاد العالم الربوي الجشع, وأجروا الناس خلفهم في تيارات شديدة التناقض فتارة يسارية ماركسية شيوعية, وتارة وجودية فردية ليبرالية, غير أن الخيط الناظم لها جميعًا هو الكفر بالله واليوم الآخر, وعبودية النفس وشهواتها.
ومع اختلاط ذلك كله ظهرت الليبرالية بصورتها الفاقعة (الكلاسيكيون المحافظون) وهي في ظاهرها بادي الرأي مغرية للطبقات الكادحة المسكينة, والمستضعفين بكل ألوان الاستضعاف, ولكنها تخفي في باطنها وحشية لا تطاق, وبهيمية لا تُتصور, هذا إن طبّقت كما هي. وقد مرّت بمراحل متقلبة بين الكلاسيكية الصرفة, ثم بالكينزية الاجتماعية, ثم عادت أخيرًا إلى حالها الأول المتوحش.
وبعد تأملها نقول: إن الليبرالية هي: ضد العبودية لغير النفس وشهواتها. وبتقسيمها: هي علمانية في الفكر, رأسمالية في الاقتصاد, ديمقراطية في النظم والسياسة, وجودية في الحياة. كافرة بالله واليوم الآخر.
وبالجملة فقد عصفت بالغرب الصليبي – من موسكو لواشنطن مروراً بأوروبا - عواصف فكرية ممتدة لقرون خلت, حتى استقر فلكها في الليبرالية منذ توهجها في القرن التاسع عشر والعشرين ثم دخل القرن الميلادي الجديد وكان فيه المنعطف التاريخي الذي له ما بعده على كل المستويات والاتجاهات حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001م (بغض النظر عن حبكتها المخابراتية بامتياز) ولكن كم من سحر انقلب على ساحره!
إنها الليبرالية الجديدة التي قال عنها المتأمرك فوكوياما – وما أكثر أشباهه الانهزاميين -: إن الحضارة الأمريكية الحالية هي النموذج الكامل للجنس البشري! لذلك فلا تعجب عزيزي حينما ترى كِبَرَ حرب الإسلام قد حملت رايته هذه الآثمة, التي جمعت الميكافيلية التبريرية, والبراجماتية النفعية, والإنسانية الوجودية الملحدة, والفردية الأنانية, والرأسمالية الجشعة, وحرب المؤمنين بالله واليوم الآخر! تلك هي الليبرالية التي بها يتغنّون, وإليها يظعنون, وبحمدها يسبحون!
لقد طالت يدا القارة الأوروبية جوانب العالم بما سموه بحركة كشوفهم الجغرافية, فنزلت أساطيل هولندا الشرق الآسيوي وكثيًرا من جزر البحر الهندي والمحيط الأطلنطي, ثم تبعتها إنجلترا بإمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس, ثم قامت الحرب العالمية الأولى بسبب تسيّد الفكرة الليبرالية الأوروبية هرم السياسة والاقتصاد, فكانت النتيجة الدمار والخراب, ولكنهم كانوا حاضرين عند اقتسام أسلاب الرجل المريض وغيره من ضعاف الدول, فبضّعّوا أشلاءه بمباضع سايكس بيكو, فاغتصبوها بما سموه استعماراً, ولكن كانت الكُلفة شديدة بسبب إمدادات الجيوش, وضربات المجاهدين, فرحلوا بعد أن نصّبوا من يخلفهم تحت إشرافهم وطوعهم. ودرّبوا على أيديهم وفي بلادهم أجيالاً تحمل ثقافتهم وفكرهم وأخلاقهم بأسماء وسلالات إسلامية! وربطوا تلك الدول بسياسة المراكز والأطراف.. ثم كان الحال إلى ثورات العرب ولا ندري ما الله صانع فيها, ولكن نسلط الضوء على أمرين مثيرين للريبة في وقت مناداتهم بدعم العصرانيين الإسلاميين, أو ما يسمّى بالإسلام الليبرالي:
الأولى: كتاب صدر قبل ربع قرن للأمريكي ليونارد بايندر بعنوان "الليبرالية الإسلامية" خلص فيه إلى توصية لموجهي السياسة الخارجية الأمريكية بدعم هذا التيار. والثانية: تقرير مؤسسة راند, عن الإسلام الديمقراطي, وهو تقرير مشهور نشر عام 2003م يتلخص في توصية كتاب بايندر الآنف, ومؤداه أن الشعوب العربية قد وصلت لحالة قريبة من الانفجار فلا بد من تنفيس لهم بديمقراطية شكلية تقرّب المعتدلين الإسلاميين دون الراديكاليين المتشددين – ويقصد بهم أهل السنة والجماعة - الذين سيتسيّدون المشهد إن لم يتدارك أولئك بدعم حقيقي, أما العلمانيون فدعْمُهم جهارًا يفشل المشروع لأن القبول غير حليف لهم عند شعوبهم. وقد نشرت مجلّة البيان اللندنية حلقات عن ذلك إبان صدور التقرير.
ومن المعالم البارزة في هذه المرحلة المتأخرة تلوّع الغرب بضربات المجاهدين, فصار الجهاد بعبعًا مرعبًا لهم في سائر العالم, وإن كانت مخابراتهم قد نجحت في تجنيد بعض عملائها فيهم, بل قد لا نبعد إن قلنا بتبنيها في الحقيقة لكثير مما ينسب إليهم, وأنها قد أحسنت ضخ الصور وحقن الأفكار في ذهنية الرأي العام العالمي, إما بترديد الأمر, أو بتلوينه, أو بتكميم ضده, أو بشراء المطبلين له.. إلى سائر تلك الخدع الإعلامية المخابراتية, مع وقوع بعض فصائل الجهاديين في أخطاء ومزالق لا تقبل بحال, وكان المستفيد الأول أرباب الكفر الغربي.
شاهد المقال برمّته: أن لدول المركز محاولات دؤوبة ووحي شيطاني لمنع أي خروج عن دائرة خططهم ومكرهم, بالترغيب والترهيب بكافة صورهما, فلا بد لهم من إمساك خيوط الأمر قدر المستطاع عبر آليات ملوّنة لأفكار الأمة وبخاصة شبابها بألوان وخلفيات ومناهج ومشارب لا تمت لدينهم الأصيل بصلة, وجندوا لذلك جيوشًا إعلامية وخطوطًا أمامية, وما نراه من إلحاح بضرب مسلمات الديانة بمعاول الاستهزاء أو الفجور أو التسلّط فما هو إلا نموذج لذلك المكر العالمي من دول المركز  والمكر المُركّز, وبخاصة مكتب واشنطن!
ثم إن الكثير ممن أحسن ظنه بالليبرالية بكافة أطيافها يعيش بحق أزمة فصام, فالباطل الذي ثار عليه ثوار التنوير والنهضة في أوروبا ليس هنا, بل هنا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, فلا كهنوت, ولا صكوك غفران وحرمان, ولا أسرار كنسية مقدسة, ولا عصمة لأحد دون الأنبياء, ولا رد للعلوم التجريبية وغير ذلك مما ثار عليه أولئك, فولتير وديدرو وروسو ومن تبعهم فصاحوا صيحتهم الشهيرة: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس! فحرروا الباستيل, وحرروا قبله قلوبهم وعقولهم من احتكار الكهنة الكذبة..  ولكن الخشية من تطبيقات ظالمة, ونظرات خاطئة للدين, تؤخذ عليه وهو منها براء, وغربة بين الشباب للإسلام الأصيل النقي بخلقه الزكي وتكامله التام وتطبيقه الفذ, فيرجع البصر ويكر النظر لدعايات الحريات الغربية وهتافات الوجودية والفردية, وماهي إلا خمرة مسمومة لو كانوا يعلمون! فلا بد من الأخذ على أيديهم برفق وحكمة, فأكثرهم أُتي من جهله لا شهوته.
أما من عاند واستكبر وضرب مسلمات الديانة بكفر ونفاق ورام طعن الأمة في أعز ما تملك من مسلمات دينها فلا بد من تحكيم شرع الله فيه, وإقامة حده فيه. وكما قال الأول: صبرت على بصقةٍ فتبعتها لطمة! ولو قطعت اليد ما امتدّت لوجهي!
كذلك فلا بد للأمة من هبّة احتسابية مؤسسية منظمة, على كل الاتجاهات المادية والمعنوية, لرد صيال أولئك الزنادقة, عبر الوسائل المتاحة, وما أكثرها لو بحثنا وصدقنا مع الله تعالى. "إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا".
إبراهيم الدميجي
11/ 7/ 1434
aldumaiji@gmail.com
.....................
(1): رواه البخاري: 7418 (9 / 124) وروي الحديث بلفظ: "ولم يكن شيء معه" وبلفظ "غيره" والمجلس كان واحدًا, فلزم الترجيح, ولفظُ "القَبْل" ثبت في غير هذا الحديث, كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء" واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر فتبين أنهما رويا بالمعنى, وأن المحفوظ لفظ "قبله" وانظر: الصفدية لشيخ الإسلام: (1/ 17, 2/224) ونقض التأسيس (1/ 579) وشرح الطحاوية لابن أبي العز (89_92) ومسألة التسلسل والقول بحوادث لا أول لها لها اتصال مباشر بهذا الحديث, وهي من أحلك المعضلات عند الفلاسفة الإسلاميين, حيث أنها تجرّ الخائض فيها لإلزامات ومحالات ومحارات, وقد قيض لها العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية فحل معضلتها, وكشف وجهها الصحيح بعد أن ألقى عليها المتهوكون شبههم وأشراكهم, فاستقام العقل الصريح مع النقل الصحيح. ومن أَمْثَلِ من كتب فيها من المعاصرين الشيخ الدكتور الحوالي في شرحه للطحاوية.
(2): وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويلة وفيه قال: وجَعلنا نلتفت إِلى الشمس. هل بقي من النهار شيء ؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : أَلا وإنه لم يَبْقَ مِن الدنيا فيما مضى منها إِلا كما بَقِيَ من يومكم هذا فيما مضى منه». أخرجه الترمذي وغيره وقال حديث حسن صحيح. وضعفه الألباني عدا بعض فقراته. قال ابن رجب:
ويشهد لذلك من الأحاديث الصحيحة : قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى. خرجاه في الصحيحين من حديث أنس، وخرجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد رضي الله عنهم. فتح الباري لابن رجب (3 / 146)
قلت: فإن صح الحديث فالنسبة الزمانية – والعلم عند الله – من 12 أو 24 أو قريبًا من ذينك العددين, بدون بعد عن هذا المحور الزمني لعمر البشرية, لذلك فإن قال أحد بتقريبها لخمسين ألف سنة أو شطر ذلك فربما لا يبعُد, وليس ذلك رجمًا بغيب, إنما قصاراه أن يكون تلمّحًا وتلمسًا لظواهر النصوص, وهو على كل حال من مُلَحِ العلم لا متينه, فلا يحسن الإيغال في بحثه دون المهمات, ونحن متعبدون بهذه الديانة الخاتمة, بتصورها الشامل للكون والخليقة والدنيا والآخرة.
(3): انظر تفسير البغوي. سورة هود آية (42)
(4): وانظر (تاريخ العالم) هاملتون 3/589، (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) كرسون ص87.
قال الدكتور علي سامي النشار في كتابه (هيراقليطس فيلسوف التغيير): «ظهر الأثر الهيراقليطي واضحًا في فيلون السكندري (20 ق.م ــ 50م) (فيلسوف يهودي عاصر المسيح عليه السلام ويوحنا وبولس) فقد أخذ بفكرة اللوغوس كما وضعها هيراقليطس ليثبت هذا الأخذ كيف سيطر هيراقليطس وأتباعه الرواقيين على القديس يوحنا وإنجيله الذي كتبه على ضوء آراء هيراقليطس، وابتدأ إنجيله بعبارة: «في البدء كانت الكلمة» أي اللوغوس) أ.هـ باختصار.
ويرى بعض الباحثين المحققين أن المذاهب الرواقية (أتباع الفيلسوف زينون الرواقي) هي تمهيد للإنجيل ـ أي إنجيل يوحنا ـ.
وظهر كتاب بالألمانية وقرر أن الفلسفة الرواقية هي أصل المسيحية وجعل هذه  العبارة بنفسها عنوانًا لكتابه. هذا والفلسفة الرواقية إنما هي ردة فعل على الفلسفة الأبيقورية الإباحية.
ومن المشهور لدى الباحثين أن رسائل بولس ـ الملقب بالرسول ـ هي في لهجتها ومضمونها قريبة الشبه برسائل «سنكا» ومقالات «أبكتيتوس» وتعليل ذلك أن بولس قد نشأ في طرسوس، في وسطٍ شاعت فيه الأفكار الرواقية. وانظر كتاب: الفلسفة الرواقية، د. عثمان أمين، ص286ـ 293


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق