إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 15 مارس 2024

الاعتصام بالله في زمن غربة الإسلام


الاعتصام بالله في زمن غربة الإسلام


اعلم ــ رحمني الله وإياك ــ أنه كلما ابتعد الزمن عن عصر النبوة كلما اشتد الضلال، واسودّ الظلام، وعلا القَتَرُ، واستحكمت غربة الإسلام، ولكن الله تعالى بلطفه ورحمته وإحسانه لا يزال يستخلص ويصطفي فئامًا وأفرادًا من أمة نبيه الخاتم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، يقيم بهم دعائم الملة، ويحفظ بجهادهم ــ علمًا وعملًا ــ أركانه ومبانيه، ويستخلص منهم الأولياء والشهداء، قال رسول اللّه ﷺ: «بُدِىءَ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بُدِىءَ فطُوبى للغُرَباءِ»، قيل: ومن الغرباء يا رسول اللّه؟ قال: «الذين يُصْلِحُون عند فساد الناس»([1]).

قال الشاطبي ؒ: «وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره، وذلك أن رسول اللّه ﷺ بعثه اللّه تعالى على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسلافها، من الآراءِ المنحرفة، والنحل المخترعة، والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم ﷺ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، ونسبوا إليه كل محال، ورموه بأَنواع البهتان، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق، وآونة يتهمونه بالسحر، وكرة يقولون: إنه مجنون، كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم، لأنه خرج عن معتادهم، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم.

فأَبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق، والمحافظة على خالص الصواب؛ وأنزل اللّه: {قُلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ ما تعْبُدُونَ} [الكافرون: ١ - ٢] إلى آخر السورة، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة، ورموه بسهام القطيعة، وصار أَهل السلم كلهم حرباً عليه، عاد الوليُّ الحميم عليه كالعذاب الأَليم، فأَقربهم إليه نسباً كان أَبعد الناس عن موالاته، كأَبي لهب وغيره، وأَلصقهم به رحماً؛ كانوا أَقسى قلوباً عليه، فأَيُّ غربة توازي هذه الغربة؟!

ومع ذلك فلم يكله اللّه إلى نفسه، ولا سلطهم على النَّيْل مِن أَذاه، بل حفظه وعصمه، وتولاه بالرعاية والكلاءَة، حتى بلغ رسالة ربه.

 ثم ما زالت الشريعة في أَثناءِ نزولها، وعلى توالي تقريرها، تبعد بين أَهلها وبين غيرهم، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا، وما زال عليه الصلاة والسلام يدعو لها، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد، خوفاً من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام.

ثم استمرَّ تزيُّدُ الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي ﷺ ومن بعد موته؛ وأَكثر قرن الصحابة ╚، إلى أَن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأَصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: «يقتلون أَهل الإسلام، ويدعون أَهل الأَوثان، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم» يعني لا يتفقهون فيه، بل يأْخذونه على الظاهر: كما بينه حديث ابن عمر، وهذا كله في آخر عهد الصحابة.

ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق ﷺ في قوله: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة»([2]) وفي الحديث الآخر: «لتتبعُن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم» قلنا: يا رسول اللّه اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟!»([3]) وهذا أَعمّ من الأول، فإن الأَوّل عند كثير من أَهل العلم خاص بأَهل الأَهواءِ، وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: «حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم».

وكل صاحب مخالفة فمن شأْنه أَن يدعو غيره إليها، ويحض سؤاله بل سواه عليها، إذ التأَسي في الأَفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلّة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأُ العداوة والبغضاء للمختلفين.

كان الإسلام في أوله وجِدَّتِه مقاوماً بل ظاهراً، وأهله غالبون، وسوادهم أعظم الأسودة، فخلا مِن وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياءِ الناصرين، فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها، ولا قوة يضعف دونها حزب اللّه المفلحون، فصار على استقامة، وجرى على اجتماع واتساق، فالشاذ مقهور مضطهد، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود؛ وقوته إلى الضعف المنتظر، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده، واقتضى سرَّ التأسّي المطالبة بالموافقة، ولا شك أن الغالب أغلب، فتكالبت على سواد ألسِنةِ البدع والأهواء، فتفرق أكثرهم شيعاً. وهذه سنة اللّه في الخلق: إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى : {وما أكْثر النَّاسِ ولوْ حَرصتْ بمُؤمِنِين}، وقوله تعالى: {وقلِيلٌ مِنْ عِبَادي الشَّكُورُ} [سبأ: ١٣] ولينجز الله ما وعد به نبيه ﷺ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف؛ كما كان أولاً يقام على أهل البدعة، طمعاً من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال، ويأْبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها ــ على كثرتها ــ على مخالفة السنة عادة وسمعاً، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأْتي أمر الله، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة، وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم، لا يزالوان في جهاد ونزاع، ومدافعة وقِراع؛ آناءَ الليل والنهار، وبذلك يضاعف اللّه لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم.

فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطئ المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية»([4])، وبالله تعالى وحدَهُ الاعتصام.

 

     إبراهيم بن عبد الرحمن الدميجي

aldumaiji@gmail.com

 



([1])  الآجري في الغرباء (5)، والداني في السنن الواردة في الفتن (882) وانظر السلسلة الصحيحة (3721).

([2])  أبو داود (6954) والترمذي (462) وابن ماجه (1993) وقد تقدم.

([3])  البخاري (3456) ومسلم (2669).

([4])  مختصر كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي (11 - 15) اختصار الشيخ علوي السقاف، وقد استفدت من تخريجه وفقه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق