لا
تُذمّ الدنيا بإطلاق
الحمد لله، وبعد؛
فما ألهى من الدنيا عن الآخرة، وقسّى القلب، وأبعد عن الله تعالى فهو مذموم، أما ما
سواه فلا، ولن تنال رضوان الله وجنته إلا بعد عبور الدنيا بعافية وسلام وعمل صالح،
فالدنيا لا تذمّ بكليتها فهي ظرف زمان ومكان لابتلاء العبد فيها وامتحانه بها: أيصلح
معدنه للجنة أم النار؟ وهي الميدان الذي يجري فيه مضمار السُّبّاق إلى مراضي ربهم عز
وجل، وهي المستودع الذي تودع فيه أعمال الصالحين، والمزرعة التي فيها يزرعون ما يصلحهم
غدًا عند لقاء الله تعالى، والسفينة التي يعبرون بها لساحل الآخرة، فمن زرعها وقطعها
بخير فهو إلى خير، ومن عمل سوءًا وقدّم شرًّا فلا يلم الدنيا بل نفسه الملوم، فعلام
يذمّ دارًا مشى فيها الصالح والطالح، ليس لها إرادة ولا حضّ، إنما هي وعاء للعمل، وتنور
للتكليف، ومرقاة للآخرة، فيذم منها ما ألهى عن اله والدار الآخرة، ويحمد منها ما قرّب
إلى الله تعالى وأرضاه، والله المستعان.
وإنّ مِن أعظم نعيم المؤمن في دنياه الرضا
بتدبير مولاه، أمّا سبُّ الدنيا وشتمها لأجل ما فات من حظوظها فليس ينفعه، بل هو من
علامات ضيق العَطَنِ، وضعف اليقين، ورقّة الدين، واختلال البصيرة، وقبض الخيبة.
وإنّما يُذمّ من الدنيا ما أبعد عن الله تعالى،
أما ما قرّب منه وأزلف إليه وأرضاه فحيهلًا به مهما كان شكله وحاله وأَلَمُه، فطبع
دار الامتحان الشدة التي يعقبها الفرج، والعسرة التي يتلوها الخير العظيم والفوز المقيم
برضوان الله في جنات النعيم.
وإنّ المؤمن يصبح ويمسي وهو يردّد ثلاثًا:
رضيتُ بالله ربًًّا. فيا من رضيت به ربًّا؛ ارض بتدبيره وتقديره، واعلم علم اليقين
أن تدبيره كله خير ورحمة ورفق وحكمة، وأنه خير لك في العاقبة مهما خفيت عليك الغاية
والحكمة، وأن أمر المؤمن كله خير، وتدبّر قوله الأعلى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ
وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ
وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ
لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦﴾ [البقرة: 216]. وقد بسطت هذه الأمور في كتاب الرضا بالله تعالى.
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق