الإلهام
والكشف والرؤيا لدى ابن تيمية رحمه الله تعالى
الحمد لله وبعد؛ فقد نُقلت أشياء من الإلهام
والكشف والرؤيا ونحوها عن كثير من الصالحين، وهو غير ممتنع شرعًا ولا عقلًا، ولكن
لا بد من عرضها على الوحي حتى تستقيم. والله تعالى يكرم من شاء من عباده بما شاء من
كراماته وهباته وألطافه، وأكثرها منامات، وبعضها يقظة تراها الأرواح، وقد فصلها شيخ
الإسلام، وهي من عواجل بشائر المؤمنين المحسني الظن بمن لا يأتي الخير إلا منه، وإن
كانت لا تغرّهم، بل تزيدهم في العبادة والتقوى والإيمان، ولا تومّنهم مكر الجبار جل
جلاله، فما هي إلا محض رحمة الله وفضله وإحسانه، أما من غرّته وصدته عن التقوى وأبعدته
عن الله تعالى؛ فهو استدراج عياذًا بالله تعالى.
وسأورد نقولًا نافعة عن شيخ الإسلام في ذلك؛
قال رحمه الله تعالى في شأن الفتح بالإلهام والكشف والرؤيا ونحو ذلك لما تكلّم عن الحسنات:
«فإنّ ما يلقيه الله في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة هي من وحي الله،
وكذلك ما يريهم إياه في المنام. قال عبادة بن الصامت: «رؤيا المؤمن كلام يكلّم به الرب
عبده في منامه». وقال عمر: «اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم
يتجلّى لهم أمور صادقة». وقد قال تعالى: ﴿وَإِذۡ
أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة: 111] ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ
إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ﴾ [القصص: 7] ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ
إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ١٥﴾ [يوسف: 15]» مجموع الفتاوى ١٥/٩٨ وقال:
«إنّ المنام تارة يكون من الله، وتارة يكون من النفس، وتارة يكون من الشيطان، وهكذا
ما يلقى في اليقظة. والأنبياء معصومون في اليقظة والمنام. ولهذا كانت رؤيا الأنبياء
وحيًا كما قال ذلك ابن عباس وعبيد بن عمير، وقرأ قوله:
﴿إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ﴾ [الصافات: 102].
وليس كل من رأى رؤيا كانت وحيًا، فكذلك ليس
كل من أُلقي في قلبه شيء يكون وحيًا. والإنسان قد تكون نفسه في يقظته أكمل منها في
نومه، كالمصلي الذي يناجي ربه، فإذا جاز أن يُوحَى إليه في حال النوم؛ فلماذا لا يوحى
إليه في حال اليقظة، كما أوحى إلى أم موسى والحواريين وإلى النحل؟ لكن ليس لأحد أن
يطلق القول على ما يقع في نفسه أنه وحي لا في يقظة ولا في المنام إلا بدليل يدل على
ذلك، فإن الوسواس غالب على الناس. والله أعلم». مجموع الفتاوى ١٧/٥٣٢ وقال: «إنّ رؤيا
الأنبياء وحي، ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما ثبت ذلك عن
النبي ﷺ في الصحاح، وقال عبادة بن الصامت - ويروى مرفوعًا -: «رؤيا المؤمن كلام يكلم
به الرب عبده في المنام». وكذلك في اليقظة. فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال:
«قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي فعمر». وفي رواية في الصحيح:
«مُكلَّمون». وقد قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى
ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة: 111] ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ
إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ﴾ [القصص: 7].. فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء،
ويكون يقظة ومنامًا.
وقد يكون بصوتُ هاتفٍ، يكون الصوت في نفس
الإنسان ليس خارجًا عن نفسه يقظة ومنامًا، كما قد يكون النور الذي يراه أيضًا في نفسه.
فهذه الدرجة من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملَك في أدنى المراتب وآخرها،
وهي أولها باعتبار السالك". مجموع الفتاوى ١٢/٣٩٨ وقال في شأن الرؤى والإلهامات
والمكاشفات: «وكذلك في الباطن: إما أن يسمع في المنام أو في اليقظة نفس كلام المتكلم،
مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عينَ ما يُكشف له في المنام واليقظة.
وإما أن يسمع مثالَ كلامه في نفسه كما يرى
مِثاله في نفسه، بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرُها عينَ ما رأى.
وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلامٍ مسموعٍ
يحتاج إلى تعبير، كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير. وهذا
غالب ما يُرى ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة والأمثال
المضروبة. فهذا هذا. والله أعلم». مجموع الفتاوى ١١/٦٣٧ وقال مبيّنا الحال الثالث
للرؤيا بعدما ذكر حالَيْ رؤيا الحقيقة ورؤيا المثال كالصورة في المرآة: «وللقلب حال ثالث كما للعين نظر في المنام:
وهي التي تقع لغالب الخلق. أن يرى الرؤيا مثلًا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة
بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه. ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، وعبارة الرؤيا هو العبور
من الشيء إلى مثاله ونظيره، وهو حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشيء بالقياس
والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شيء على البديهة من غير مثال معروف
". مجموع الفتاوى ١١/٦٣٨ وقال: «فما كان من الخوارق من «باب العلم» فتارة بأن
يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن
يعلم ما لا يعلم غيره وحيًا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويُسمّى
كشفًا ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات؛ فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة،
ويسمى ذلك كله كشفًا ومكاشفة أي كُشِفَ له عنه». مجموع الفتاوى ١١/٣١٣
وقال فيما هو أعظم من هذا كله مبيّنًا جواز
رؤية الله تعالى في المنام بمثال يخلقه الله تعالى في قلب الرائي ليس كصورته الحقيقية
تبارك وتعالى: «وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه؛
فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه
إيمانه. ورؤيا المنام لها حُكْمٌ غيرُ رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما
فيها من الأمثال المضروبة للحقائق.
وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضًا من الرؤيا
نظير ما يحصل للنائم في المنام؛ فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلّى له من الحقائق
ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.
وربما غَلَبَ أحدَهُم ما يشهدُه قلبُه وتجمعه
حواسّه، فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام
أنه منام. فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلُبُ عليه حتى تفنيه عن الشعور
بحواسه فيظنها رؤية بعينه، وهو غالط في ذلك. وكل من قال من العبّاد المتقدمين أو المتأخرين
أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان. نعم رؤية الله
بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة؛ كما تواترت الأحاديث
عن النبي ﷺ» مجموع الفتاوى ٣/٣٩٠
وقال في بيان أن العبرة بالوحي لا غير، وأن
على المؤمن عرض ما ظنه من إلهام على الوحي، فالوحي هو الميزان الذين لا يخطئ: «كل من
كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام
بالكتاب والسنة تبعًا لما جاء به الرسول ﷺ، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لما وَرَدَ
عليه» مجموع الفتاوى ١٣/٧٤ وصلى الله وسلم وبارك على محمد
وآله.
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق