الحمد لله، وبعد، فقد
يدبُّ المرض إلى القلب في غفلة من حارسه، فإذا انتبه أقلع وآب وأناب، وربه يحوطه
بعنايته ولطفه وعفوه ومغفرته، فالعبد بين حسنة يرجو ثوابها، وسيئة يخشى حوبتها، لكنه
يعلم أن له ربًّا يأخذ بالذنب ويعفو ويصفح، وأن رحمته غلبت غضبه، وعفوه سبق
مؤاخذته، فله الحمد كثيرًا كثيرًا.
فمهما كان حال دينك
ودنياك فإنّ من غلالة حزن الفؤاد لإشراقة بهجة المحيا ثمّة ألطاف ربانية حقيقة
بالشكر لمسديها والحمد لباريها، فوكّل كل أمرك لمولاك البر الرحيم، ﴿وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦﴾ [البقرة: 216]. ولا بد من تعاهد التوبات في
كل حين، فإن الحارس إذا غفل انتهب اللصوص أمانته، وأعظم الأمانات فاعلم هي أمانة
الدين، قال ربنا الأعلى: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٧٢﴾ [الأحزاب: 72]. قال ابن الجوزي ♫: «وأعظم المعاقبة ألا يحس المعاقبُ
بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن
من الذنوب، ومن هذه حالة، لا يفوز بطاعة.
وإني تدبرت أحوال
أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسُّون بها، ومعظمها من قِبَل
طلبهم للرياسة، فالعالم منهم يغضب إن رد عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد
منافق أو مراء. فأول عقوباتهم؛ إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق، ومن خفيِّ عقوباتهم،
سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبُّد، إلا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم
الأرض، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهممهم عند الثريا
بل أعلى، إن عُرِفوا تنكروا، وإن رُئيت لهم كرامة أنكروا، فالناس في غفلاتهم، وهم
في قطع فلواتهم، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم أملاك السماء»([1]).
إذن فالقلوب أنواع،
والقلب الواحد له صفات وربما اختلطت فيه بعض المتناقضات فصارت الغلبة لأقواها
نفوذًا إلى سويدائه.
فالقلب له حياة
وموت، وصحة وسقم، وسلامة ومرض، ووصول وانقطاع، وقسوة ولين، وطهارة وخبث، ونور
وظلمة، وسعة وضيق، وقوة وضعف.
قال شيخ الإسلام في تعليقه على قول الله تعالى: ﴿لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ ٥٣ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٤﴾ [الحج: 53- 54]: «جعل الله القلوب
ثلاثة أقسام:
قاسية، وذات مرض،
ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا،
وإذعانًا، أو لا تكون يابسة جامدة.
فالأول: هو القاسي
وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه
العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلاً لينًا قابلاً.
والثاني: لا يخلو
إما أن يكون الحق ثابتًا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف
وانحلال. فالثاني فيه مرض، والأول هو القوي اللين.
وذلك أن القلب
بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلاً، فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو
تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها، فذلك
مثل القلب الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم،
فبالرحمة خرج عن القسوة، وبالعلم خرج عن المرض، فإن المرض من الشكوك والشبهات.
ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات، وفي قوله
تعالى: ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ
فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ
إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٤﴾ [الحج: 54] دليل على أن العلم
يدل على الإيمان، ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان، بل معهم العلم
والإيمان، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِۖ﴾ [الروم: 56]([2]).
وكما أن للقلب
لينًا وقسوة فله نور وظلمة، قال شيخ الإسلام ♫: «إن الله تعالى ضرب مثل إيمان
المؤمنين بالنور، ومثل أعمال الكفار بالظُلمة، ولغض البصر اختصاص بالنور. وقد روى
أبو هريرة ◙ عن النبي ﷺ أنه قال: «إن
العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد
زيد فيها حتى يعلو قلبه، فذلك «الران» الذي ذكر الله ﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٤﴾ [المطففين: 14]»([3]). وفي الصحيح أنه
قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة»([4])، والغين حجاب رقيق
أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر الله استغفارًا يزيل الغين عن القلب فلا يصير نكتة
سوداء، كما أن النكتة السوداء إذا أزيلت لا تصير رينًا.
وقال حذيفة: «إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء، فكلما ازداد العبد
إيمانًا ازداد قلبه بياضًا، فلو كشفتم عن قلب المؤمن لرأيتموه أبيض مشرقًا، وإن
النفاق يبدو منه لمظة سوداء، فكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد قلبه سوادًا، فلو
كشفتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود مربدًا».
وقال ﷺ: «إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح» قيل: فهل
لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى
دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله»([5]).
قلت ـــ أي شيخ الإسلام ــــ: وقد قرن الله تعالى في كتابه في
غير موضع بين أهل الهدى والضلال، وبين أهل الطاعة والمعصية بما يشبه هذا، كقوله
تعالى: ﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ ١٩ وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ ٢٠ وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ ٢١ وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾ [فاطر: 19ــ 22]، وقال: ﴿مَثَلُ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِۚ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٢٤﴾ [هود: 24]، وقال في
المنافقين:﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا﴾ الآية [البقرة: 17]، وقال: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ
أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ
أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧﴾ [البقرة: 257]. وقال: ﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ١﴾ [إبراهيم: 1] والآيات في هذا
كثيرة.
وهذا النور الذي
يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده يظهر في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ﴾ [التحريم: 8] فذكر النور هنا
عقيب أمره بالتوبة، كما ذكره في سورة النور عقيب أمره بغض البصر»([6]).
كذلك فللقلب سعته
وضيقه، قال ابن القيم ♫: «شبه الله تعالى
الوحي الذي أنزله بحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة
له بالأودية الحاملة للسيل، فقال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ ١٧﴾ [الرعد: 17] فقلب كبير يسع
علمًا عظيمًا كوادٍ كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير كوادٍ صغير يسع علمًا قليلاً،
فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.
ولما كانت الأودية
ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل فيطفو على وجه
الماء زبدًا عاليًا، يمر عليه متراكبًا، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة
الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جَنْبَتَيْه حتى لا يبقى منه شيء، ويبقى الماء
الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض، فيُحيي به البلاد والعباد، والشجر
والدواب، والغثاء يذهب جُفاءً يُجْفَى، ويُطرح على شفير الوادي.
فكذلك العلم
والإيمان الذي أنزله من السماء في القلوب، فاحتملته، فأثار منها بسبب مخالطته لها
ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة، فطفا في أعلاها، واستقر العلم
والإيمان والهدى في جَذْرِ القلب، وهو أصله ومستقره، كما قال النبي ﷺ: «نزل الإيمان في جذر قلوب الرجال»([7]).
فلا يزال ذلك
الغثاء والزبد يذهب جفاءً، ويزول شيئًا فشيئًا، حتى يزول كله، ويبقى العلم النافع
والإيمان الخالص في جذر القلب، يَرِدُهُ الناس فيشربون ويسقون ويزرعون([8]).
والقلب له صلاح
وفساد وقوة وضعف، قال شيخ الإسلام ♫: «والقلب له
قوتان: العلم والقصد، كما أن للبدن الحس والحركة الإرادية، فكما أنه متى خرجت قوى
الحس والحركة عن الحال الفطري الطبيعي فسدت، فإذا خرج القلب عن الحال الفطرية التي
يولد عليها كل مولود وهي أن يكون مقرًا لربه مريدًا له فيكون هو منتهى قصده
وإرادته، وذلك هو العبادة؛ إذ العبادة: كمال الحب بكمال الذل، فمتى لم تكن حركة
القلب ووجهه وإرادته لله تعالى كان فاسدًا؛ إما بأن يكون معرضًا عن الله تعالى وعن
ذكره غافلاً عن ذلك مع تكذيب أو بدون تكذيب، أو بأن يكون له فكر وشعور ولكن قصده
وإرادته غيره، لكون الذكر ضعيفًا لم يجتذب القلب إلى إرادة الله ومحبته وعبادته.
وإلا فمتى قوي علم القلب وذكره أوجب قصده وعلمه، قال تعالى: ﴿فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ٢٩ ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱهۡتَدَىٰ ٣٠﴾ [النجم: 29، 30] فأمر نبيه بأن
يعرض عمن كان معرضًا عن ذكر الله، ولم يكن له مراد إلا ما يكون في الدنيا.
وهذه حال من فسد
قلبه، ولم يذكر ربه، ولم يُنب إليه، فيريد وجهه ويخلص له الدين. ثم قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ﴾ فأخبر أنهم لم
يحصل لهم علم فوق ما يكون في الدنيا؛ فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم، وأما المؤمن
فأكبر همه هو الله وإليه انتهى علمه وذكره، وهذا باب واسع عظيم»([9]). وبالله التوفيق،
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.
إبراهيم بن
عبدالرحمن الدميجي
IIII
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق