إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 14 ديسمبر 2025

علامات صحة القلب وسعادته

 

علامات صحة القلب وسعادته

الحمد لله كثيرًا، أما بعد: فلقد حلق شيخ الإسلام الثاني ابن القيم الرباني رحمنا الله تعالى وإياه أيما تحليق وتحقيق في إغاثته فقال في شأن سعادة القلب: «لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا، ولو نال كل حظ من حظ الدنيا وملذاتها ومشتهياتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأُنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليًا من ذلك؛ عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولابد، فيصير معذبًا بنفس ما كان مُنعّمًا به من جهتين: من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله وأخلص العبادة له ولابد، ولم يؤثر عليه شيئًا من المحبوبات وجد الراحة الكبرى والسعادة الدائمة. فأنفع الأغذية لصحة القلب: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء.

ومن علامات صحته أيضًا أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها، حتى يبقى كأنه من أبنائها وأهلها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ منها حاجته ويعدو إلى وطنه، كما قال النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور»([1]).

فحي على جنات عدن فإنها
ولكننا سبي العدو فهل ترى

 

منازلك الأولى وفيها المخيّم
نرد إلى أوطاننا وننعم

وكلما صح القلب من مرضه؛ ترحّل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها.

ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكره قُوْتُه وغذاؤه، ومحبته والشوق إلى حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خُلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو يكن له جزاءً إلا نفس وجوده لكفى به جزاءً، وكفى بفوته حسرة وعقوبة .كما قيل:

ومن صَدَّ عَنّا حظّه البعدُ والقِلَى

 

ومَن فيه يكفيه أنّي أَفُوتُهُ

قال بعض العبّاد: «مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته».

وقال آخر: «إنه ليمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيش طيب».

وقال آخر: «والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته».

وقال أبو الحسين الوراق: «حياة القلب: في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني في الحياة مع الله تعالى، لا غير».

لهذا كان الفوت عند العالمين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟!

وقال آخر: «من قرت عينه بالله تعالى، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله،  تقطع قلبه على الدنيا حسرات».

وقال يحيى بن معاذ: «من سُرَّ بخدمة الله سُرَّت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرّت عينه بالله قرّت عيون كل أحد بالنظر إليه».

ومن علامات صحة القلب: ألا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يَدُلُّهُ عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.

ومن علامات صحته: أنه إذا فات وِرْدُهُ وجد لفواته ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله النفيس.

ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همّه وغمّه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرّت عينه وسرور قلبه.

قال شيخ الإسلام : ما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من العبادات كما عرفه أهل القلوب الحية والهمم العالية([2]).

ومن علامات صحة القلب: أن يكون هَمُّهُ واحدًا، وأن يكون في الله.

ومن علامات صحته: أن يكون أشحّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله.

ومن علامات صحته: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه، والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنَّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله تعالى.

فهذه ستة مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم.

وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همّه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابّه.

الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخُلطةُ أحب إليه وأرضى له، قُرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتًا إلى غيره؛ تلا عليها: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨﴾ [الفجر: 27- 28]، فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه، فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصفة العبودية، فتصير العبودية صفة وذوقًا لا تكلفًا، فيأتي بها تودّدًا وتحبّبًا وتقرّبًا، كما يأتي المحب المتيّم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله مع الفارق العظيم.

فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي، أحس من قلبه ناطقًا ينطق: لبيك وسعديك إني سامع مطيع ممتثل، ولك علي المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك.

وإذا أصابه قَدَرٌ، وجد من قلبه ناطقًا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تُصبِّرني، ولا قوة لي إن لم تُحملِّني وتقوّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مُذهب لي عنك.

فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليّته عليه، فإن أصابه ما يكره قال: رحمةٌ أُهديت إلي، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرٌّ صُرف عني.

وكم رُمْتُ أمرًا خِرْت لي في انصرافه

 

وما زِلْتَ بي منّي أبرَّ وأرحما

فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى به طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:

ما مسني قدرٌ بكُرهٍ أو رضًا
أمْضِ القضاء على الرّضا مني به

 

إلا اهتديتُ به إليك طريقًا
إني وجدتك في البلاء رفيقًا

ولله هاتيك القلوب، وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أُودعته من الكنوز والذخائر، ولله طِيبُ أسرارها، ولا سيّما يوم تبلى السرائر.

سيبدو لك طيبٌ ونورٌ وبهجةٌ

 

وحسنُ ثناءٍ يوم تُبلى السرائرُ

تالله لقد رُفع لها علم عظيم؛ فشمرت إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى؛ فلم تستجب له، واختارته على ما سواه، وآثرت ما لديه»([3]). وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.

إبراهيم بن عبدالرحمن الدميجي

 

IIII

 



([1])   ابن ماجه (4114)، وصححه الألباني عدا قوله: (وعد نفسك...). الروض النضير. (574)، وانظر: صحيح الجامع (4579).

([2])   مجموع الفتاوى (16/ 512).

([3])   إغاثة اللهفان (1/ 139ــ 149) بطوله لنفاسته وجلالته مع تصرف يسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق