إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 2 نوفمبر 2025

الفناء الصوفي

 

الفناء الصوفي

 

الحمد لله وبعد؛ فإن الالتزام بألقاب الشرع أمان من الزلل بإذن الله تعالى، ومن أتى بمعان محدثة ألبسها ما يليق بها إما على الحقيقة أو التدليس. ومن ذلك مصطلح الفناء، وهو لفظ مجمل حمال أوجه. ويعنون إجمالًا بالفناء: الغياب بالفناء عن الشهود. وسيمرّ بك كثيرًا عند وقوفك على كثير من آثار أهل التصوف أو من تأثّر بهم، والفناء مصطلح لم يأت في الشرع على محاملهم الاصطلاحية، بل الفناء في القرآن إنما هو بمعنى الهلاك، قال سبحانه: ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٖ ٢٦ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ٢٧﴾ [الرحمن: 26-27].

والفناء: مسمّى حادث بعد القرون المفضّلة، ويحتمل معان ثلاثة؛ فمنها ما هو صحيح فاضل واجب بلا حاجة لهذا التلقُّب؛ وهو التوحيد، وهو بمعنى: ترك عبادة ما سوى الله تعالى وعبادة الله وحده، فيفنى بمحبة الله تعالى وطاعته عن عبادة ما سواه سبحانه وتعالى.

ومنها: ما هو نقص وزيغ؛ وهو بمعنى الاستغراق في توحيد الربوبية عن الأوامر الشرعية، فيتأمل قدرة الله تعالى وبديع صنعه وعظمة سلطانه وعظيم محبته وكرمه ولطفه، ويستغرق بكُلّيته عن ذلك ويمشي بقلبه وبصيرته مع القدر، فيكون مع القدر سائرًا دون الأمر، حتى ينسى ويغفل عن توحيد الألوهية وطاعة الله تعالى واتباع أمره والانتهاء عن نهيه وزجره، بل ربما استساغ المعصية من هذه الحيثية بلا قصد، وهذا منتهى كثير من المتصوفة وغاية آمالهم.

ومنها: ما هو كفر شنيع؛ وهو أن يعتقد أنه لا موجود إلا الله، وأن المخلوق هو عين الخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في بيان ذلك، وتصحيح مفهوم ما هنالك، وتحرير الاشتباه لدى أولئك: «والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام: فناء عن عبادة السِّوَى، وفناء عن شهود السِّوى، وفناء عن وجود السِّوى.

فالأول: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه. وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق لا إله إلا الله. فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله.

والثاني: أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمْع ونحو ذلك، وهذا فيه فضيلة من جهةِ إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر بطاعته، وطاعة رسله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقًا وأمرًا، كان أتمّ معرفة وشهودًا وإيمانًا وتحقيقًا مِن أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق، لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا؛ كان معذورًا للعجز، لا محمودًا على النقص والجهل.

والثالث: الفناء عن وجود السِّوَى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة، كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثَمَّ غيرٌ ولا سوَى في نفس الأمر، فهؤلاء قولهم أعظم كفرًا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام». مجموع الفتاوى٢/‏٢٦٨ - ٢٧٠، وانظر: مدارج السالكين١/‏١٥٤ - ١٥٥، ٣/‏٣٧٨ - ٣٨٠. وبالله التوفيق.

إبراهيم الدميجي

الكشف الصوفي

 

الكشف الصوفي

 

الحمد لله وبعد؛ فيراد بالكشف: إظهار المستور عن الغير، ويُسمّى كشفًا ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات؛ فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفًا ومكاشفة ونحو ذلك. وقد الكشف يكون كرامة من الله تعالى لوليه عند حاجته العارضة، فيأتيه الكشف على صورة رؤيا منام، أو إلهام، أو تحديث، ونحو ذلك من الفتوح الربانية على قلبه المستقيم على الشرع والسنة. وقد يكون استدراجًا ومكرًا، وقد يكون باستخدام الجن والشياطين واستمتاعهم، وقد يدّعيه من يكذب فيه ليزوّر الحال على الجهلة الطغام.

ولمّا كان المتصوّفة من أهل العناية بالرياضة الروحية عن طريق طول الصيام والجوع والتأمل في الوساوس والخطرات، وغير ذلك مما زادوه على الشريعة الكاملة، فقد أتوا بما أسموه الكشف الصوفي الذي هو عبارة عن فتح الأبواب الموصدة عن الأدعياء، والكذبة والشياطين والمبدّلين. 

وإنّ من أصول الإسلام أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٦٥﴾ [النمل: 65]، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم فإنه لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًا مرسلًا ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا ٢٧ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا ٢٨﴾ [الجن: 26-28].

فجاء المتصوفة ببدعة الكشف الصوفى، ويعنون بها: رفع الحجب عن قلب الصوفي وسمعه وبصره، ليرى ويسمع ويعلم بعد ذلك علم بعض العلوم الكونية الغيبية، وكذلك علم بعض العلوم الشرعية بلا دراسة، بل بمحض فتح الكشف، وإلقاء العلم اللّدُنِّي في القلب، بدعوى أنّ الصوفي المختار يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والشريعة لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سمّوهم علماء الورق والظاهر والقراطيس؛ لأنهم ـــ أي علماء الشريعة ـــ إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة، فيقولون: إنّ أولئك يأخذون علمهم عن ميت عن ميت، أما نحن فنأخذها من الحي الذي لا يموت. ويقولون: إذا أتونا بعلم الوَرَق (أي: الشرع) أتيناهم بعلم الخِرَق، أي بالعلوم الكشفية الخاصة بالمتصوفة، ويعنون بالخِرق: الخِرقة الصوفية، وهي قطعة قماش تعطى بطقس معين من شيخ واصل ـ لديهم ـ لمريد من الطريقة بعد أن يثبت استحقاقه لها.

وهكذا استجرتهم الشياطين لعقائد وفتاوى ليست من الإسلام في شيء، إنما هي أفكار فاه بها من ظنّ أنه قد أُوحي إليه بما أسماه الكشف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فمذهب أهل السنة والجماعة: أن وليَّ الله تعالى قد يُكشف له شيء من العلم لحاجته إلهامًا أو رؤية منام، كرامةً من الله له بخصوصه، لكن ليس بهذا القدر من التخريف والبناء العقائدي والشرعي عليه.  وهي ليست من شروط الطريق، ولا من علامات تأكيد الاستقامة، فأكثر الصحابة لم يذكر عنهم شيء من ذلك وهم أكرم الأمة على الله تعالى وأفضلها وأزكاها وأعلمها وأسبقها، كما أنّها لأهل الاستقامة كرامة، ولغيرهم استدراج ومكر. وبالله التوفيق.

إبراهيم الدميجي