إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 10 نوفمبر 2025

هل القلب هو محل العقل؟

هل القلب هو محل العقل؟

الحمد لله تعالى، وبعد؛ فقد قال الإمام القرطبي: « القلب هو محل العقل عند الأكثرين»([1])، فالمسألة مطروقة قديمًا، واختلف الناس فيها على أقوال ثلاثة:

القول الأول:

أن محل العقل هو الدماغ فقط، وما القلب إلا آلة لضخ الدم في جسم الآدمي، لذا فالإنسان يعتبر ميتًا بموت الدماغ، حتى ولو كان القلب ينبض بمساعدة الآلات ونحوها، وهذا هو قول المعتزلة وبعض من تبعهم من الفقهاء، وبه يقول الفلاسفة وغالب الأطباء([2])، ونقل ذلك عن الإمام أحمد([3]). وقد وجّه قوله شيخ الإسلام بأن هذا القول على أن القلب هو باطن الإنسان مطلقًا([4]).

القول الثاني:

وبه قال كثير من العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول كثير من المفسرين، ووافقهم بعض الأطباء: أن محل العقل هو القلب.

ومن أدلتهم: قول الله تعالى:﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ﴾  [ق: 37]، وقوله:﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ﴾ [الحج: 46]، وقوله في ذات الآية: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ ٤٦﴾ [الحج: 46]، فنسب العمى إلى القلوب، وأوضح أن القلوب في الصدور.

ومن السنة: حديث رسول الله : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»([5]) فسماها مضغة، والمضغة هي قطعة من اللحم، وفيه إشارة واضحة إلى القلب الذي في الصدر.

كذلك حديث أنس ◙ في دعاء النبي : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([6])، وحديث حذيفة ◙ مرفوعًا: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا...»([7]). وكحادثة شق صدره ([8])، ونحوها من الأحاديث([9]).

القول الثالث:

أن العقل له تعلق بالقلب والدماغ جميعًا، فمبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب، وبه قال شيخ الإسلام ، قال: «وأما قوله: أين مسكن العقل فيه؟

فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ﴾ [الحج: 46]. وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: «بلسان سؤول وقلب عقول»([10]). لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي قال: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد».

وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سُمّي القليب قليبًا لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإن أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.

والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب.

والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح»([11]).

وقال أيضًا : «ما يعلمه الإنسان من حق وباطل فإنه يقوم بقلبه ويحل بروحه المنفوخة فيه، المتصلة بالقلب الذي هو المضغة الصنوبرية الشكل، وقد قيل: إنه يقوم بجميع الجسد، وليس لبعض ذلك مكان من الجسد يتميز به عن مكان آخر باتفاق الناس؛ وإنما الروح هي التي يعبر عن محلها الأول بالقلب تارة، وتسميها الفلاسفة النفس الناطقة، وهي الحاملة لجميع الاعتقادات، فتنور قلوب المؤمنين وأرواحهم بالمعارف الإلهية، وتظلم قلوب الكافرين بالعقائد الفاسدة، كما ضرب الله مثل المؤمن والكافر في سورة النور»([12]).

إبراهيم بن عبدالرحمن الدميجي

IIII

 



([1])   تفسير القرطبي (1/ 189).

([2])   عبادة القلب، د. عبد الرحمن المحمود (ص5).

([3])   المنطق من مجموع الفتاوى (9/ 303).

([4])   المنطق من مجموع الفتاوى (9/ 303).

([5])   متفق عليه. البخاري (52) و مسلم (1599).

([6])   رواه الترمذي (2141)، وابن ماجه (3834) وهو صحيح.

([7])   رواه مسلم (144).

([8])   رواه مسلم (74) من حديث أنس بن مالك ◙.

([9])   وانظر رسالة: عبادة القلب للمحمود (ص9).

([10])      المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (330)، ورويت عن علي رضي الله عنه وعن دغفل النسابة. (المعجم الكبير للطبراني 4201).

([11])      المنطق من مجموع الفتاوى (9/ 303).

([12])      المستدرك على مجموع الفتاوى (1/190، 191).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق